اللهم استجب

سبحان الله وبحمده لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولا حول ولا قوة الا بالله وأنت ربي لا إله الا انت خلقتني وأنا عبدك وأنا علي عهدك ووعدك ما إستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فا غفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفره اللهم اعفوَ عني وعافني وارحمني اللهم واكفني كل همي وفرج كل كربي واكشف البأساء والضراء عني وأعتقني من كل سوء أو شرٍ في الدارين واغفرلي ذنبي وتولني وتول أمري واغفر لوالدي ولأهلي جميعا أبدا ما دامت السماوات والأرضين يا ربي اللهم آمين. 

رابط تحميل المصحف

 تحميل المصحف الشريف

وعن أَبي هريرة ، عن النبيِّ قَالَ: 1.مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبةً منْ كُرب الدُّنْيا نفَّس اللَّه عنْه كُرْبةً منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، 2.ومَنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْهِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ، 3.ومَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، 4.واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ، 5.ومَنْ سَلَكَ طَريقًا يلْتَمسُ فيهِ عِلْمًا سهَّل اللَّه لهُ به طَريقًا إِلَى الجنَّة. 6.وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بيْتٍ منْ بُيُوتِ اللَّه تعالَى، يتْلُون كِتَابَ اللَّه، ويَتَدارسُونهُ بيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمةُ، وحفَّتْهُمُ الملائكَةُ، وذكَرهُمُ اللَّه فيمَنْ عِندَهُ. 7.ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَملُهُ لَمْ يُسرعْ به نَسَبُهُ رواه مسلم.

Translate

الأحد، 1 سبتمبر 2024

3الكامل في اللغة/{{الجزء السابع والثامن}}- ج7 وج8.

 

ج7.وج8.

 اولا جزء 7.. ثم بعده ج8. .وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول: نزلنا في نبي سعد بـن زيد وفي عك وعامر عوبثـان وفي لخم وفي أدد بن عمرو وفي بكر وحي بني العدان ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده ، فانتمى له من الأزد. وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام.



رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله: يا ضربة من تقي ما أراد بـهـا إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حيناً فـأحـسـبـه أوفى البرية عند اللـه مـيزانـا فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه. فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها: يا روح كم من أخي مثوى نزلت بـه قد ظن ظنك نم لـخـم وغـسـان حتى إذا جفته فـارقـت مـنـزلـه من بعد ما قيل عمران بن حـطـان قد كنت جارك حولاً ما تـروعـنـي فيه روائع من إنـس ومـن جـان حتى أردت بي العظمى فأدركـنـي ما أدرك الناس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنـبـاع فـإن لـه في النائبات خطـوبـاً ذات ألـوان يومـاً يمـان إذا لاقـيت ذا يمــن وإن لقيت مـعـدياً فـعـدنـانـي وكنت مستغفـراً يومـاً لـطـاغـية كنت المقدم في سـري وإعـلانـي لكـن أبـت لـي آيات مـطـهـرة عند الولاية فـي طـه وعـمـران ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أزدياً مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك ، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها: إن التي أصبحت يعيا بها زفـر أعيت عياء على روح بن زنباع قال أبو العباس: أنشدن الرياشي: أعيا عياها على روح بن زنباع وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور: ما زال يسألنـي حـولاً لأخـبـره والناس من بين مخـدوع وخـداع حتى إذا انقعطت عنـي وسـائلـه كف السؤال ولم يولع بإهـلاعـي فاكفف كما كف عني إننـي رجـل إما صميم وإما فـقـعة الـقـاع واكفف لسانك عن لومي ومسألتـي ماذا تـريد إلـى شــيخ لأوزاع! أما الصلاة فإني لست تـاركـهـا كل امرئ للذي يعنـي بـه سـاع أكرم بروح بن زنبـاع وأسـرتـه قوم دعا أولـيهـم لـلـعـلا داع جاوزتهم سـنة فـيمـا أسـر بـه عرضي صحيح ونومي غير تهجاع فاعمل فإنك مـنـعـي بـواحـدة حسب اللبيب بهذا الشيب من نـاع ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول: نزلنا بحمد الله في خـير مـنـزل نسر بما فيه من الإنس والخـفـر نزلنا بقوم يجمع للـه شـمـلـهـم وليس لهم عود سوى المجد يعتصر من الأزد إن الأزد أكـرم أسـرة يمانية قربوا إذا نسب الـبـشـر فأصبحت فيهم آمناً لا كمـعـشـر أتوني فقالوا من ربيعة أو مضـر أم الحي قحطان? فتلكم سـفـاهة كما قال روح لي وصاحبه زفـر

وما منهما إلا يسر بنـسـبة تقربني منه وإن كان ذا نفر فنحن بنو الإسلام والله واحـد وأولى عباد الله بالله من شكر قوله: يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة ، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: " أكرمي مثواه " " يوسف: 21 "، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ: طال الثواء على رسم بيمؤود أودى وكل جديد مرة مودي وقوله: فيه روائع من إنس ومن جان الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: " فلما ذهب عن إبراهيم الروع " " هود: 74 ". ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: " يكاد سنا برقه يذهب الأبصار " " النور: 43 "، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب. وقوله: يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدنانـي يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً: أفي السلم أعياراً جـفـاء وغـلـظة وفي الحرب أمصال النساء العوارك ! العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله: أفي الولائم أولاداً لـواحـدة وفي المحافل أولاداً لعلات! قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ. وقوله: لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله ﷺ: " تقتلك الفئة الباغية ". وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: " ما لكم من ولايتهم من شيء " " الأنفال: 72 ". والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال :آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية. وقوله: حتى إذا ما انقضت مني وسائله وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج: والناس إن فصلتهم فصائلا كل إلينا يبتغي الوسـائلا وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل : " إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا " " المعارج: 19 - 21 ". وقل الشاعر: ولي قلب سقيم ليس يصحو ونفس ما تفيق من الهلاع وقوله: إما صميم وإما فقعة القاع الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك: وتنزل من أمية حيث تلـقـى شؤون الرأس مجتمع الصميم

وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر: قوم إذا نسبوا يكون أبـوهـم عند المناسب فقعة في قرقر وقال بعض القرشيين: إذا ما كنت متخذاً خـلـيلاً فلا تجعل خليلك من تمـيم بلوت صميمهم والعبد منهـم فما أدنى العبيد من الصميم! وقوله: نسر بما فيه من الإنس والخفر فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت به زينب في نسـوة خـفـرات وقوله: من الأزد إن الأزد أكرم أسرة يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره. وينشد: يمانية قربوا إذا نسب البشر يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل : فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله وقال آخر: عجبت لمولود وليس له أب وذي ولد لم يلـده أبـوان ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة. وقوله: أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر? يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثـمـان يريد: أبسبع? وقال التميمي: لعمرك ما أدري وإن كنـت دارياً شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر! الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أ ذا أم ذا? والأملح في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?. ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً فقالت صفية: كيف رأيت زبرا أأقطاً أو تمـرا أم قرشياً صقرا لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان محالاً على هذا الوجه. وقوله: وما منهما إلا يسر بنسبة معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " " النساء: 159 "، أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر : وما الدهر إلا تارتان فمنـهـمـا أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح يريج فمنهما تارة. وقوله: فنحن بنو الإسلام والله واحـد وأولى عباد الله بالله من شكر يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: " إنما المؤمنون إخوة " " الحجرات: 10 "، وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " " هود: 46 " وقال نهار بن توسعة اليشكري: دعي القوم ينصر مدعـيه ليلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تمـيم أول من حكم من الخوارج ويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي. أول سيف سل من سيوفهم

فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل? ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل. وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب? فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه? فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره? فقال: أأطنب أم أختصر? فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط. مناظرة علي بن أبي طالب لهم وكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم ، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته ، فقال تبارك وتعالى: " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " " النساء: 35 "، وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم ، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " " المائدة: 95 "? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك أنم تقول في كتابك: " هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين " محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله ﷺ أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: " هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو " فقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك ، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: " محمد بن عبد الله "، فقال لي: " يا علي امح رسول الله "، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: " فقفني عليه " فمحاه بيده ﷺ، ثم قال: " اكتب محمد بن عبد الله "، ثم تبسم إلي فقال: " يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي ". فرجع معه منهم ألفان من حروراء ، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء. والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل :الحروري. للصلتان العبدي وقال الصلتان العبدي في كلمة له: أرى أمة شهـرت سـيفـهـا وقد زيد في سوطها الأصبحي بنـجـــدية وحـــرورية وأزرق يدعو إلـى أزرقـي فملتنا أننـا الـمـسـلـمـون على دين صديقنا والـنـبـي وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير مر الغداة وكر العـشـي أذا ليلة عرمـت يومـهـا أتى بعد ذلـك يوم فـتـي نروح ونغدو لحاجـاتـنـا وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجـاتـه وتبقى له حاجة ما بـقـي قوله: وقد زيد في سوطها الأصبحي

فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه. والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم. للراعي في عبد الملك بن مروان قال الراعي يخاطب عبد الملك: إني حلفت على يمـين بـرة لا أكذب اليوم الخلـيفة قـيلا ما إن أتيت أبا خبـيب وافـداً يوماً أريد ببيعتـي تـبـديلا ولا أتيت نجيدة بن عـويمـر أبغي الهدى فيزيدني تضلـيلا من نعمة الرحمن لا من حيلتي إني أعد له علـي فـضـولا وفي هذه القصيدة: أخذوا العريف فقطعوا حيزومه بالأصبحية قائماً مـغـلـولا قوله: وأزرق يدعو إلى أزرقي يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله. وقوله: على دين صديقنا والنبي فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره ، قال الله عز اسمه: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " " التغابن: 2 "، وقال: " يا معشر الجن والإنس " " الرحمن: 33 "، وقال: " واسجدي واركعي مع الراكعين " " آل عمران: 43 ". وقال حسان بن ثابت: بهاليل منهم جعفر وابن أمه علي ومنهم أحمد المتخير يعني بني هاشم ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد . وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة ، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم. قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه: سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر وماذا الذي يبقى على عقب الدهر ! ولو كنـت فـيه إذ أبـيح حـريمـه لمت كريماً أو صدرت على عـذر أبيح فلم أملـك لـه غـير عـبـرة تهيب بها أن حاردت لوعة الصـدر ونحن رددنا أهلـهـا إذ تـرحـلـوا وقد نظمت خيل الأزرق بالجـسـر ومن يخش أطراف المنـايا فـإنـنـا لسنا لهن السابغات من الـصـبـر فإن كريه المـوت عـذب مـذاقـه إذا ما مزجناه بطيب مـن الـذكـر وما رزق الإنسـان مـثـل مـنـية أراحت من الدنيا ولم تخز في القبـر وفي هذا الشعر: ليشكو بنو العباس نعمى تـجـددت فقد وعد الله المزيد على الشكـر لقد جنبتكم أسـرة حـسـدتـكـم فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر وقد نغصتهم جولة بـعـد جـولة يبيتون فيها المسلمين على ذعـر وقال عبد الله بن قيس الرقيات: ألا طرقت من أهل بثنة طارقـه على أنها معشوقة الدل عاشقـه تبيت وأرض السوس بيني وبينهـا وسولاف رستاق حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنـا عـصـابة حرورية أضحت من الدين مارقه من أخبارهم يوم النهروان وكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول: أقتلهم ولا أرى علـيا ولو بدا أوجره الخطيا

فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية. وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ. وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان: ما كان أغنى اليشكري عن التي تصلى بها جمراً من النار حاميا غداة ينادي والرماح تـنـوشـه خلعت علياً بـادياً ومـعـاويا وجاء في الحديث، أن علياً رضي الله عنه تلي بحضرته: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " " الكهف: 13 - 14 "، فقال علي: أهل حروراء منهم. وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته. من شعر علي بن أبي طالب ومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله ﷺ والرفقة في الدين أرجع كافراً!: يا شاهد الله علي فـاشـهـد أني على دين النبي أحـمـد من شك في الله فإني مهتدي ويروى: أني توليت ولي أحمد في تقسيم غنائم خيبر ويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صلى الله عليه وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله ﷺ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله ﷺ حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: لا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ. وفي حديث آخر أن رسول الله ﷺ قال له: " ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل "? ثم قال لأبي بكر : " اقتله " فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: " اقتله ". فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله: " لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله ".

قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله ﷺ بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله ﷺ حتى تورد خداه، ثم قل: " أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? "! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال ﷺ: " إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق " . قوله ﷺ: " من ضئضئ هذا " أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق ، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة: أقبلن من ثهـلان أو وادي حـيم على قلاص مثل خيطان السلـم إذا قطعن عـلـمـاً بـدا عـلـم حتى أنخناها إلى باب الـحـكـم خليفة الحجاج غير الـمـتـهـم في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي: وقد أختلس الضرب ة لا يدمى لها نصلي فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع. من أخبار واصل بن عطاء وذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي: برئت من الخوارج لست منهم من الـــــــغـــــــزال مـــــــنـــــــهـــــــم وابـــــــن بـــــــــــاب ومـــــــن قـــــــوم إذا ذكـــــــــــروا عـــــــــــــــلـــــــــــــــيا يردون الـــــــســـــــلام عـــــــلـــــــى الـــــــســـــــحــــــــــاب ولـــكــــنـــــــي أحـــــــب بـــــــكـــــــل قـــــــلـــــــبـــــــي وأعـــــــلـــــــم أن ذاك مـــــــــن الـــــــــــــــصـــــــــــــــواب رســـــــول الـــــــلـــــــه والـــــــصـــــــديق حـــــــبــــــــــــاً به أرجـــــــو غـــــــداً حـــــــســـــــن الــــــــــثـــــــــــــــواب فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!. وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء: ماذا منيت بغزال له عـنـق كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكـم تكفرون رجالاً أكفروا رجلا! ويروى: لا بل ، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له: الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار فهذا ما يرويه المتكلمون. وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي، فذكرت قرابتهم من رسول الله ﷺ فأمسكت عنهم ، إلا أني قلت: دينار آل سليمان ودرهمـهـم كبابليين حفاً بالـعـفـاريت لا يرجيان ولا يرجى نوالهمـا كما سمعت بهاروت وماروت وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه: عليم بإبدال الحروف وقامـع لكل خطيب يغلب الحق باطله وقال آخر: ويجعل البر قمحاً في تصرفـه وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يطق مطراً والقول يعجله فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر ومما حكي عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لو لا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً. فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم. واجتناب الحروف شديد. وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست قال: والله لو لا الخطبة والنساء ما حفلت بها. قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين الحروف وحسن مخارج الكلام. فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك: صحت مخارجها وتم حروفها فله بذاك مزية ولا تنـكـر المزية: الفضيلة. وأما قوله: ابن باب فهو عمرو بن عبيد بن باب، وهو مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما. فقال: ومن قوم إذا ذكروا عـلـياً أشاروا بالسلام على السحاب ويروى: يردون السلام على السحاب مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نرجع إلى ذكر الخوارج. قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها ، وفي ذلك يقول : ثلاثة آلاف وعـبـد وقـــينة وضرب علي بالحسام المصمـم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة. فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له ! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن.

ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه ، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد. ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه. ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه: أريد حباءه ويريد قـتـلـي عذيرك من خليلك من مراد فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي. فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له،وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي ، وإن أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم. ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين مضاضين ، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله. ويروى أن علياً رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه: اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكـا ولا تجزع من الموت إذا حـل بـواديكـا والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول: حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد. قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً: لسعد بن الضبـاب إذا غـدا أحب إلينا منك فا فرس حمر وإنما الشعر:

لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته ، وكان معاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين. ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم الناس. وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج خارجة ، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة . لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب وقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: إن الكرام على ما كان من خلق رهط امرئ خاره للدين مختار طب بصير بأضغان الرجال ولم يعدل بخبر رسول الله أخـبـار وقطرة قطرت إذ حان موعدها وكل شي له وقـت ومـقـدار حتى تنصلها في مسجد طـهـر على إمام هدى إن معشر جاروا حمت ليدخل جنات أبو حـسـن وأوجبت بعده للقاتـل الـنـار قوله خاره يعني : اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه. وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: " فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم " " محمد: 37 ". والخبر: العالم. ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك . وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها. وقوله: حمت، معناه قدرت. للكميت في رثائه قال الكميت: والوصي الذي أمال التجوب ي به عرش أمة لانهـدام قتلوا يوم ذاك إذ قـتـلـوه حكماً لا كغابر الحـكـام الإمام الزكي والفارس المع لم تحت العجاج غير الكهام راعياً كان مسجحاً ففقدنـا ه وفقد المسيم هلك السوام قوله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات: نحن منا النبي أحمد الصدي ق منا التقي والحكـمـاء وعلي وجعفر ذو الجناحي ن هناك الوصي والشهداء وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم: تخبـر مـن لاقـيت أنـك عـائذ بل العائذ المحبوس في سجن عارم وصي النبي المصطفى وابن عمه وفكاك أعناق وقاضي مـغـارم أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر: صبحن من كاظمة الخص الخرب يحملن عباس بن عبد المطـلـب يريد ابن عباس رضي الله عنه. وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك: ورثتم ثياب المجد فهي لبوسـكـم عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم يريد ابني عبد مناف. لأبي الأسود الدؤلي في آل البيت وقال أبو الأسود: أحـب مـحـمـداً حـــبـــاً شـــديداً وعـبـاسـاً وحـمــزة والـــوصـــيا أحبهم لحب الله حتى أجيء إذا بعثت على هويا هوى أعطيته منذ استدارت رحـى الإسـلام لــم يعـــدل ســـويا يقـول الأرذلـون بـنــو قـــشـــير: طوال الـدهـر مـا تـنـسـى عـلـــيا! بنـو عـم الـنــبـــي وأقـــربـــوه أحـب الـنـاس كـلـــهـــم إلـــيا فإن يك حـبـهـم رشــدا أصـــبـــه ولـيس بـمـخـطـئ إن كــان غـــيا وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له : ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني. قال: وكان نقش خاتمه:

يا غالبي حسبك من غالب إرحم علي بن أبي طالب وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله: راعياً كان مسجداً فقـدنـا ه وفقد المسيم هلك السوام فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم. قال ابن قيس الرقيات: أيها المشتهي فنـاء قـريش بيد الله عمرها والـفـنـاء إن تودع من البـلاد قـريش لا يكن بعدهم لحي بـقـاء لو تقفى ويترك الناس كانـوا غنم الذئب غاب عنها الرعاء وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه: كان المسيم ولم يكن إلا لمن لزم الطريقة واستقام مسيما ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة. ورووا أن علياً عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة فهذا غلط، لأن وقفه هذين الموضعين لسنتين من خلافته. وقف عين أبي نيزر حدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله ﷺ فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة ، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة ، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقاً . فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم فالثالث كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما. قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء. كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم وتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك كتابي هذا فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق.

فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه. حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله.

قال: ويروى أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع ، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة لطول السجود، وأيدياً كثفنات الإبل ، وعليهم قمص مرحضة ، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من عند صهر رسول الله ﷺ وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل علمتم أ، رسول الله ﷺ أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله ﷺ اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان ، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن. خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم له قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم. ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له : إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال : ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل ". قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم ، وأشد توقياً على دينه، وأبعد بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها. ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة.

وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?. غيلان بن خرشة ونيله منهم ومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة. مرداس بن أدية وزياد ومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص ، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " " النجم: 37 - 41 " وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم. والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك. آراء الفقهاء في مذهب الخوارج وهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً ، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس. ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر . فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق! قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة يقول: رب العباد مالنا ومالـكـا قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبالكا فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة وأشهد أن الخلق جميعاً عباده. وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه: أبني عقيل لا أبا لأبيكـم أيي وأي بني كلام أكرم وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري: يا قرط قرط حيي لا أبـالـكـم يا قرط إني عليكم خائف حـذر أأن روى مرقس واصطاف أعنزه من التلاع التي قد جادها المطر قلتم له اهج تميمـاً لا أبـالـكـم في كف عبدكم عن ذاكم قصـر فإن بيت تميم ذو سمـعـت بـه فيه تنمت وأرست عزها مضـر قوله: يا قرط قرط حيي نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا قرط حيي فأقحموا قرطاً توكيداً، وكذلك لجرير : يا تيم تيم عدي لا أبالكـم لا يلقينكم في سوءة عمر ومثله لعمر بن لجا : يا زيد زيد اليعملات الذبل تطاول الليل عليك فانزل


فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: يا زيد زيد اليعملات ويا تيم تيم عدي، كما تقول: يا زيد أخا عمرو على النعت. ومثل الأول في التوكيد يا بؤس للحرب فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء لا أبالك ولا أبا لزيد ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت لا أباك كما قال الشاعر: أبالموت الذي لا بد أني ملاقي لا أباك تخوفيني وقال آخر: وقد مات شماخ ومات مزرد وأي كريم لا أباك يخـلـد! وقوله: أأن روى مرقس رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة ، وأصغرهن الطبع : وقوله: واصطاف أعنزه، يريد افتعلت، من الصيف، أي أصابت البقل فيه. والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع. وقوله: ذو سمعت به يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى الذي، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال: إني أرى في عامر ذو ترون وقال عارق الطائي: فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه يريد الذي. ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه. قال الحسن بن هانئ الحكمي: حب المدامة ذو سمعت به لم يبق في لغيرها فضلا وقال حبيب بن أوس الطائي: أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة فأنا المقيم قـيامة الـعـذال وقال الحسن بن وهب الحارثي: عللاني بذكرها عـلـلانـي واسقياني أو لا فمن تسقـيان أنا ذو لم يزل يهون على الند مان إن عز جانب الندمـان ويكون العزيز في ساعة الرو ع بصدق الطعان يوم الطعان ثم نرجع إلى ذكر الخوارج : قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: " وعجلت إليك رب لترضى " " طه: 84 ". ويروى عن النبي ﷺ أنه لما وصفهم قال: " سيماهم التحليق يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد " . وفي حديث عبد الله بن عمرو: " رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة "، أو " الخنيصرة ". وروي عن النبي ﷺ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: " ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي ﷺ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: " ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله ﷺ: لو قتل لكان أول فتنة وآخرها ". حديث المخدج ويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها. من أخبار نافع بن الأزرق ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم. قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله. حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: " والليل وما وسق " " الإنشقاق: 17 "، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز: إن لنا قلائصاً حـقـائقـا مستوسقات لو يجدن سائقا هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير. قوله: حقائقا إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على فعلية مثل حقيقة ولذلك جمعها على حقائق ويقال: استوسق القوم، إذا اجتمعوا. وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سريا " " مريم: 24 " فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده: سلماً ترى الدالج منها أزورا إذا يعج في السري هرهرا السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال: لها مرفقان أفتلان كأنما أمرا بسلمى دالج متشدد والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: تر الدالي منه أزورا وهذا خطأ لا وجه له. وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: " عتل بعد ذلك زنيم " " القلم: 13": ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت: زنـيم تـداعـاه الـرجـال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة ، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك. قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه. ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: " والتفت الساق بالساق " " القيامة: 29 "، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرتعن ساقها الحـرب شـمـرا قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه: أقول لها من ليلة ليس طـولـهـا كطول الليالي ليت صبحـك نـورا أخاف على نفس ابـن أحـوز إنـه جلا حمماً فوق الوجوه فأسـفـرا جعلت لقبر لـلـخـيار ومـالـك وقبر عدي في المقابـر أقـبـرا وأطفأت نيران المزون وأهـلـهـا وقد حاولوها فتـنة أن تـسـعـرا فلم تبق منهم راية يعـرفـونـهـا ولم تبق من آل المهلب عسـكـرا ألا رب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت: فأما الأزد أزد أبي سعيد فأكره أن أسميها المزونا وقال آخر يعني الحرب: فإن شمرت لك عن ساقها فويهاً حذيف ولا تسـأم ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما ﷺ، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء ، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر. ومما سأله عنه: " الم ذلك الكتاب " " البقرة: 1 - 2 "، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن. هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: ذلك الكتاب أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: " فلا جاءهم ما عرفوا كفروا به " " البقرة: 89 "؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " " البقرة: 146 "، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل ، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة: وإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت هالكا وقفت له علوى وقد خام صحبتي لأبني مجداً أو لأثأر هـالـكـا أقول له والرمح يأطر متـنـه تأمل خفافاً إننـي أنـا ذلـكـا يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا. وقوله: يأطر متنه أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه. ومما سأله عنه قوله عز وجل: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 "، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول: وترى خلفهن من سرعة الرج ع منينـاً كـأنـه إهـبـاء قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها. والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد: يا ريها إن سلمت يميني وسلم الساقي الذي يليني ولم تخني عقد المنـين يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله فعيلا من المنة، والمعروف هو الأول. وقال غير ابن عباس: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 " لا يمن عليهم فيكدر عندهم. ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده: أمن آل نعم أنت غـاد فـمـبـكـر غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر! بحاجة نفس لم تقل فـي جـوابـهـا فتبلغ عذراً والـمـقـالة تـعـذر تهيم إلى نعم فلا الشـمـل جـامـع ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر

ولا قرب نعم إن دنت لـك نـافـع ولا نأيها يسلي ولا أنت تصـبـر وأخرى أتت من دون نعم ومثلـهـا ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر إذا زرت نعمـاً لـم يزل ذ قـرابة لها كلـمـا لاقـيتـه يتـنـمـر عزيز عليه أن أمـر بـبـابـهـا مسر لي الشحناء والبغض مظهر ألكني إليهـا بـالـسـلام فـإنـه يشهر إلمامـي بـهـا وينـكـر بآية ما قالـت غـداة لـقـيتـهـا بمدفع أكنان أهذا الـمـشـهـر! قفي فانظري يا أسم هل تعرفينـه أهذا المغيري الذي كـان يذكـر! فقالت: نعم، لا شك غـير لـونـه سرى الليل يحيي نصه والتهجـر لئن كان إياه لقـد حـل بـعـدنـا عن العهد، والإنسان قـد يتـغـير رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فـيخـسـر فقال: ما هكذا قال، إنما قال فيضحى وأما بالعشي فيخصر قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها . وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن ، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: " وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى " " طه: 119 "، والضح: الشمس، وليس من: ضحيت، يقال: جاء فلان بالضح والريح يراد به الكثرة، قال علقمة: أغر أبرزه للضح راقـبـه مقلد قضب الريحان مفغوم له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله ﷺ: " كن أبا خيثمة "، فكانه. وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول. الحجاج وامرأة من الخوارج وذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي. والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه. عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارج وذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً ، فرغب فيه، فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول ، والله لأقتلنك إن لم تطع. فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان.

قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي ؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة الله ، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك. ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع. وفود رجل من أهل الكتاب على معاوية وتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال ، ويصطنع الرجال، ويجنب الخيول، ويبيح حرمة الرسول ، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه ظاهراً، ويكون له قرين مبير لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قل: شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض ،قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت. فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته. وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: " هذا فراق بيني وبينك " " الكهف: 78 ". صديق عبد الملك بن مروان قال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله ﷺ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان. حديث ابن جعدبة للمنصور قال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، قال : فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة ? قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها? قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله? قلت : التفتى المعروق الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة ، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد? قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء. قتال أهل النخيلة قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله ﷺ أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، فرأى تعطيل إحداهما طعناً على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه، ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " " النساء: 95 "، فكل أجاب وبايع. فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، " إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " " هود: 56 "، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً. وفيهم يقول عمران بن حطان: إني أدين بما دان الـشـراة بـه يوم النخيلة عند الجوسق الخرب وقال الحميري يعارض هذا المذهب: إني أدين بما دان الوصـي بـه يوم النخيلة من قتل المحلـينـا وبالذي دان يوم النهر دنت بـه وشاركت كفه كفي بصفـينـا تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ومثلها فاسقني آمـين آمـينـا مناظرة أهل النخيلة لابن عباس وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً. المستورد التيمي وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه. كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة. وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك. وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب. وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك. وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد. وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت. الخوارج ومعاوية قال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار. فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً أكثره أهل الكوفة ثم قال لأبيه، فأداره فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر ، فقال: يا أبا حوثرة، عتا هذا جداً!. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!. فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول: أكرر على هذي الجموع حوثره فعن قليل ما تنال المغـفـرة فحمل عليه رجل من طيئ فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً. وأنا أحسب أن قول القائل: وأجرأ من رأيت بظهر عـيب على عيب الرجال ذوو العيوب إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه. وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره: تعتبت تطلب ما استحـق بها لهجر منك ولا تقـدر وماذا يضيرك من شهرتي إذا كان سرك لا يشهـر أمني تخاف انتشار الحديث وحظي في ستره أوفـر ولو لم تكن في بقيا عليك نظرت لنفسي كما تنظر من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله ﷺ، فقال لعلي: " يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: " أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه " - ووضع يده على لحيته - من هذا، ووضع يده على قرنه. ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه. ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا!. ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لو لا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله ﷺ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن :ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت. وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال :أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان: وكنا قبل مهلكـه زمـانـاً نرى نجوى رسول الله فينا قتلتم خير من ركب المطايا وأكرمهم ومن ركب السفينا ألا أبلغ معاوية بن حـرب فلا قرت عيون الشامتينـا ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور! وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا مفرداً لهم، ولكنا نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة. الخوارج وزياد خرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي: لا شيء للقوم سوى السهام مشحوذة في غلس الظلام فعرد عنهم الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم. ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لو لا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً . وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره. وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا. قتل مصعب لامرأة المختار ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله ﷺ في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: إن من أعظم الكبائر عنـدي قتل حسناء غادة عطـبـول قتلت باطلاً عل غـير ذنـب إن لله درها مـن قـتـيل! كتب القتل والقتال عـلـينـا وعلى المحصنات جر الذيول قال: وكان الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم. ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغوا مروا كراما" " الفرقان: 72 "، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " " الإسراء: 36 ". عبد الله بن زياد والخوارج عاد الحديث إلى أمر الخوارج. وكانت من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " " التحريم: 12 " وقال جل ثناؤه: " إلا عجوزاً في الغابرين " " الشعراء: 171 " - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس. ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم . لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع . فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?! من أخبار مرداس أبي بلال ويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ بعيراً له، فهرج البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً! وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل . والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي ، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم. ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله: أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتـقـى ومن خاض ف تلك الحروب المهالكا أحـب بـقـاء أو أرجـي سـلامة وقد قتلوا زيد بن حصن ومالـكـا?! فيا رب سلم نـيتـي وبـصـيرتـي وهب لي التقى حتى ألاقي أولـئكـا قوله: وقد قتلوا ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل : هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مـصـروم لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له. وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى. ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً! وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللات بن ثعلبة، في كلمة له: فلما أصبحوا صلوا وقاموا إلى الجرد العتاق مسومينا فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونـا بقية يومهم حتـى أتـاهـم سواد الليل فيه يراوغونـا يقول بصيرهم لما أتـاهـم بأن القوم ولوا هاربـينـا أألفا مؤمن فيما زعمـتـم ولكن الخوارج مؤمنونـا هم الفئة القليلة غير شـك على الفئة الكثيرة ينصرونا ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!. وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول: أقاتلهم وليس علـي بـعـث نشاطاً ليس هذا بالـنـشـاط أكر على الحروريين مهـري لأحملهم على وضح الصراط فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال. وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال : فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف. فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله. فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً. فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي. وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لو لا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي: ألا في الله لا في الناس شالت بداود وإخوتـه الـجـذوع مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلبـاً تحوم عليهم طـير وقـوع إذا ما الليل أظلـم كـابـدوه فيسفر عنهم وهـم ركـوع أطار الخوف نومهم فقامـوا وأهل الأمن في الدنيا هجوع وقال عمران بن حطان: يا عين بكي لمرداس ومصرعـه يا رب مرداس اجعلني كمرداس تركتني هائماً أبكي لمـرزئتـي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفـه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بـكـأس دار أولـهـا على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عـجـلاً منها بأنفاس ورد بعـد أنـفـاس عباد بن أخضر المازني قال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك . فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق: لقد أدرك الأوتـار غـير ذمـيمة إذا ذم طلاب التراث الأخاضـر هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر فنالوا التي ما فوقها نـال ثـائر أفادوا به أسداً لها في اقتحامـهـا إذا برزت نحو الحروب بصـائر ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه: كفعل كليب إذ أخلت بجارهـا وصر اللئيم معتم وهو حاضر وما لكليب حين تـذكـر أول وما لكليب حين تذكر آخـر وقال معبد بن أخضر: سأحمي دماء الأخـضـريين إنـه أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا عروة بن أدبة وكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من الحبس منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر ! وكان مع هذا ألكن يرتضخ لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو في سرب العلاء بن سوية. ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ. فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره . وأصحه عندنا أنه قال: لقد جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد مضى ذكره. قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي: ولقد قالت لجـارات لـهـا وتعرت ذات يوم تبـتـرد أكما ينعتني تبصـرنـنـي عمركن الله أم لا يقتصـد! فتهانفن وقد قـلـن لـهـا حسن في كل عين من تود حسد حملنه من أجـلـهـا وقديماً كان في الناس الحسد أمر زياد مع الخوارج وكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه. فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي . قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون. وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة ، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم ، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات. الرهين المرادي وشعره وقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم. وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي: يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي لا تأمنن لصرف الدهر تنقـيصـا إني لبائع مـا يفـنـى لـبـاقـية إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا وأسأل الله بيع النفس محتـسـبـاً حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية. وابن المنيح ومرداساً وإخـوتـه إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم. وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به. فأما قول جرير: ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع. وقوله: ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد. وأما قول ابن الرقيات: والذي نغص ابن دومة ما تـو حي الشياطين والسيوف ظماء فأباح العراق يضربهم بالسيف صلتاً وفي الضـراب غـلاء فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره. وقوله: ما توحي الشياطين، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل. فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة. وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً. المختار بن عبيد وبعض أخباره ويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير: تخبـر مـن لاقـيت أنـك عـائذ بل العائذ المظلوم في سجن عـارم ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى من الناس يعلم أنه غـير ظـالـم سمي النبي المصطفى وابن عمـه وفكاك أغلال وقاضـي مـغـارم وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً: بلد تأمن الحـمـامة فـيه حيث عاذ الخليفة المظلوم وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير: ألا من لقلب معنى غزل بذكر المحلة أخت المحل وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده ، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل . فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك ، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد ﷺ. فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب. فلما صار ابن الأشتر بخازر وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول. قال أبو الحسن: السكوني أكثر ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام. فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج . وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم. قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي وملاءة، وهو متوشح السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً. فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا. فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد. وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين . وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر : وليس بمنقذ لك منه إلا براكاء القتال أو الفرار وهذا باب اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم. وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا . فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس. والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر: يا للرجال ليوم الأربعـاء أمـا ينفك يبعث لي بعد النهى طربا وقال آخر: تكنفني الوشاة فأعجونـي فيا للناس للواشي المطاع وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!. وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت: يا لعنة الله والأقـوام كـلـهـم والصالحين على سمعان من جار فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم. وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت. والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم. فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في عمرو وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في زيد لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله. ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من زيداً? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً. ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر: يبكيك ناء بعيد الدار مغترب يا للكهول وللشبان للعجب! فقد أحكمت كل ما في هذا الباب. ثم نعود إلى ذكر الخوارج خالد بن عباد السدوسي قال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم ، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الزينبي. فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً ، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح ، يتتبعها فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران ، فلقيه بالمربد وهو يسأل عن لقحة صفي ، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال:ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي: آليت لا أغدو إلى رب لقحة أساومه حتى يعود المثلـم ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة. تفرق الخوارج ومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب. الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض. والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم.. ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس . ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي. وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته الخوارج بامتناعه من قتال علي. الخوارج وابن الزبير فكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك. فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع: لسانك لا ينكى بـه الـقـوم إنـمـا تنال بكفيك النجـاة مـن الـكـرب فجاهد أناساً حاربوا اله واصطـبـر عسى الله أن يخزي غوي بني حرب ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة. فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير. ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا . فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: " فقولا ل قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " " طه: 44 "، وقال رسول الله ﷺ: " لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى " فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله ﷺ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا " " لقمان: 15 " وقال جل ثناؤه: " وقولوا للناس حسناً " " البقرة: 83 "، وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله. فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ﷺ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله ﷺ، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله ﷺ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله ﷺ: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ". فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله ﷺ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: " سبقته إلى الجنة "، وقال: " أوجب طلحة ". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: " لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " " الفتح: 18 "، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم ﷺ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " " الأحزاب: 6 ". فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه. وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة: يا صاحبي ارتجلا ثم املسـا لا تحسبا لدى الحصين محبسا إن لدى الأركان ناسناً بؤسا - قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا -: وبارقات يختلسن الأنفسا إذا الفتى حكم يوماً كلسا قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد. ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام ، من رهط الفرزدق: يا ابن الزبير أتهوى عصـبة قـتـلـوا ظلماً أباك ولمـا تـنـزع الـشـكـك ضحوا بعثمان يوم النـحـر ضـاحـية ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا! فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها. الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر: ومدججاً يسعى بشكته محمرة عيناه كالكلب فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج ، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً. خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهواز ويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس. وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس: سيكفيك عبس أخو كهمس مواقفة الأزد بالمـربـد وتكفيك عمرو على رسلها لكيز بن أقصى وما عددوا - لكيز هو عبد القيس -: وتكفيك بكراً إذا أقبلـت بضرب يسيب له الأمرد فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء. خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهما ولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك ، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، " وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً أو كفاراً " " نوح: 26 - 27 "، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: " إذا فرق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " " النساء: 77 "، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " " المائدة: 54 ". فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: " إلا أن مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه " " غافر: 28 "، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً " " النساء: 95 ". ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان. فلما تتابع نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة والعرمة كالسكر ، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد: " فأرسلنا عليهم سيل العرم " " سبأ: 16 "، وقل النابغة الجعدي: من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " " التوبة: 91 ". ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: " ما على المحسنين من سبيل " " التوبة: 91 ". ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله ﷺ عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " " الأنعام: 164 " وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " " النساء: 95 "، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: " لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " " لقمان: 33 "، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام. فكتب إليه نافع: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله. أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله ﷺ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: " كنا مستضعفين في الأرض " " النساء: 97 "، فقيل لهم: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " " النساء: 97 "، وقال: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " " التوبة: 81 "، وقال: " وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم " " التوبة: 90 "، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " " التوبة: 90 ". فانظر إلى أسمائهم وسماتهم. وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " " إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " " نوح: 26، 27 "، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر " " القمر: 43 "، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام. وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق ، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به. كتاب نافع إلى ابن الزبير وكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره: أما بعد، فإني أحذرك من الله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه " " آل عمران: 30 "، فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " " آل عمران: 28 "، وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " " المائدة: 51 ". كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة: " بسم الله الرحمن الرحيم "، أما بعد، فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: " وقاتلوا المشركين كافة " " التوبة: 36 "، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: " انفروا خفافاً وثقالاً " " التوبة: 41 "! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين، فقال: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " " النساء: 95 "؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة ، وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه ؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " " البقرة: 197 "، والسلام على من اتبع الهدى. فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله ﷺ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم ، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته. وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله ﷺ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم: سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً: فارقت نجدت والذين تزرقوا وابن الزبير وشيعة الكذاب والصفرة الأذان الذين تخيروا ديناً بلا ثقة ولا بـكـتـاب - خفف الهمزة من الآذان ولو لا ذلك لانكسر الشعر -. وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج. إلى ههنا انتهت المقالة. مقتل نافع بالأهواز وتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد ، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار ، ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى ، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق. وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً. وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد ، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن ، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه: اللـه أيد عـمـرانـاً وطـهـره وكان عمران يدعو الله في السحر يدعوه سراً وإعـلانـاً لـيرزقـه شهادة بـيدي مـلـحـادة غـدر ولى صحابته عن حر مـلـحـمة وشد عمران كالضرغامة الهصر قول الربيع: استشلتني، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها، قال رؤبة: إن سليمان اشتلانا ابن علي وقول الناس: اشليت كلبي أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته. وقولها: بيدي ملحادة مفعال من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة. وغدر فعل من الغدر، ولفعل باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة. والضرغامة: من أسماء الأسد. والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمـحـت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب فعل. لقطري في يوم دولاب قال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري: لعمرك إني في الـحـياة لـزاهـد وفي العيش ما لم ألـق أم حـكـيم من الخفرات البيض لم ير مثلـهـا شفـاء لـذي بـث ولا لـسـقـيم لعمرك إني يوم ألطـم وجـهـهـا على نائبـات الـدهـر جـد لـئيم ولو شهدتني يوم دولاب أبـصـرت طعان فتى في الحرب غير ذمـيم غداة طفت علماء بـكـر بـن وائل وعجنا صدور الخيل نحـو تـمـيم وكان لعبـد الـقـيس أول جـدهـا وأحلافها من يحـصـب وسـلـيم وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى تعوم وظلنا في الـجـلاد نـعـوم فلم أر يوماً كان أكثر مـقـعـصـاً يمـج دمـاً مـن فـائظ وكـلـيم وضاربة خدا كريماً علـى فـتـى أغر نـجـيب الأمـهـات كـريم أصيب بدولاب ولم تـك مـوطـنـاً له أرض دولاب ودير حـمـــيم فلو شهـدتـنـا يوم ذاك وخـلـنـا تبيح من الـكـفـار كـل حـريم رأت فتية باعوا الإله نـفـوسـهـم بجنـات عـدن عـنـده ونـعـيم قوله: ولو شهدتنا يوم دولاب فلم ينصرف دولاب فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب، فوعال مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب. وقوله: غداة طفت علماء بكر بن وائل وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون علماء بنو فلان كما قال الفرزدق: وما سبق القيسي من ضعف حيلة ولكن طفت علماء قلفة خـالـد وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم. وقال آخر نم الخوارج: يرى من جاء ينظر من دجيل شيوخ الأزد طافية لحاهـا وقال رجل منهم: شمت ابن بدر والحوادث جمة والحائرون بنافع بن الأزرق والموت حتم لا محالة واقـع من لا يصبحه نهاراً يطـرق فلئن أمير المؤمنين أصـابـه ريب المنون فمن يصبه يغلق نصب بعد إن لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفساً أهلكتـه وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي وقال ذو الرمة: إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى. هذا باب فعل اعلم أن كل اسم على مثال فعل مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال: قد لفها الليل بسواق حطم وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: " أهلكت مالاً لبدا " " البلد: 6 ". فإن كان الاسم على فعل معدولاً عن فاعل لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث. وإنما قالت: بيدي ملحادة غدر في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به ملحادة كما قال الحطيئة: أجول ما أجول ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها غدر بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة فعل في المذكر، ولو سميت رجلاً حطماً لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة صرد في الأسماء. هذا باب النسب إلى المضاف النسب إلى العلم المضاف اعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري. قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي. النسب إلى المضاف غير العلم فإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي. النسب إلى الجماعة فأما قولهم: صفري فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا صفراً اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة. فأما قولهم: الأزارقة، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة. ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك. وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " " الصافات: 130 "، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال: قدني من نصر الخبيبيين قد يريد أبا خبيب ومن معه. وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: الخبيبان لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره. عاد القول في الخوارج قال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة. الأزارقة وولاة البصرة ويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً. وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته ، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب ، وفيه يقول رجل من قومه : ألم تر أن حارثة بـن بـدر يصلي وهو أكفر من حمار ألم تر أن للفتـيان حـظـاً وحظك في البغايا والقمار فكتب إليه القباع: تكفيني حربهم إن شاء الله. فقام حارثة يدافعهم. فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر: مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز وأعقبنا هذا الحجازي عـثـمـان فأرعد من قبل اللقاء ابن معـمـر وأبرق والبرق اليمـانـي خـوان فضحت قريشاً غثها وسمـينـهـا وقيل بنو تيم بـن مـرة عـزلان فلولا ابن بدر لعراقـين لـم يقـم بما قام فيه للعـراقـين إنـسـان إذا قيل من حام الحقـيقة أومـأت إليه معد بالأنـوف وقـحـطـان قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله: أرعد وأبـرق يا يزيد فما وعيدك لي بضائر وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله: أنبضوا معجس القسي وأبرق نا كما ترعد الفحول الفحولا وأنه لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وهو يرعد ويبرق وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر: فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد وروى غير الأصمعي أرعد وأبرق على ضعف. وقوله: والبرق اليماني خوان، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن يمني ويجوز يمان بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز يماني فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب: ضربناهم ضرب الأحامس غدوة بكل يماني إذا هز صـمـمـا تولية المهلب لقتال الخوارج وأخباره معهم ثم إن حارثة تفرق الناس عنه أقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب وأصحابه يركض، حتى أتى دجيلاً، فجلس في سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه، فكانوا معه، وأتاه رجل من بني تميم وعليه سلاحه، والخوارج وراءه وقد توسط حارثة، فصاح به: يا حارث؛ ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف، ولا فرضة هناك . فطفر بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعاً. وأقام ابن الماحوز يجبي كور الأهواز ثلاثة أشهر، ثم وجه الزبير بن علي نحو البصرة، فضج الناس إلى الأحنف، فأتى القباع فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزلاً، قال: فسموا رجلاً، فقال الأحنف: الرأي لا يخيل ، ما أرى لها إلا المهلب بن أبي صفرة، فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة! اجتمعوا إلي في غد. وجاء الزبير حتى نزل الفرات، وعقد الجسر ليعبر إلى ناحية البصرة، فخرج أكثر أهل البصرة إليه. وقد اجتمع للخوارج أهل الأهواز وكورها، رغبة ورهبة، فأتاه البصريون في السفن وعلى الدواب ورجالة. فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما رآهم: أبى قومنا إلا كفراً، فقطع الجسر، وأقام الخوارج بالفرات بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً، وكانوا ثلاث فرق، فسمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، فصرفهم، ثم اختبر ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن ذلك ، وعاد إليه من أشار بهما وقالوا: قد رجعنا عن رأينا، ما نرى لها إلا المهلب، فوجه الحارث إليه فأتاه، فقال له: يا أبا سعيد، قد ترى ما رهقنا من هذا العدو، وقد اجتمع أهل مصرك عليك، وقال الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك بها ولكنا لم نر من يقوم مقامك. فقال الحارث - وأومأ إلى الأحنف - إن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثاراً للدين، وكل من في مصرك ماد عينه إليك، راج أن يكشف الله عز وجل هذه الغمة بك، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبياً ما دعوتم إليه، على شروط أشترطها. قال الأحنف: قل، قال: على أن أنتخب من أحببت، قال: ذاك لك، قال: ولي إمرة كل بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال: ولي فيء كل بلد أظفر به. قال الأحنف: ليس ذاك لك ولا لنا، إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم، ولكن لك أن تعطي أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت، وتنفق منه ما شئت على محاربة عدوك، فما فضل عنكم كان للمسلمين. فقال المهلب: فمن لي بذلك? قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك، قال: قد قبلت. فكتبوا بذلك كتاباً ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، وانتخب المهلب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته اثني عشر ألفاً، ونظروا ما في بيت المال، فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت، فبعث المهلب إلى التجار: إن تجارتكم مذ حول قد كسدت، عليكم بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلم بايعوني واخرجوا معي أوفكم إن شاء الله حقوقكم، فتاجروه، فأخذ من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوة بالصوف. ثم نهض وأكثر أصحابه رجالة، حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأحضرت وأصلحت، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها، ثم أمر الناس بالعبور إلى الفرات، وأمر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس، فلما قاربوا الشاطئ خاضت إليهم الخوارج، فحاربهم المغيرة ونضحهم بالسهام حتى تنحوا، فصار هو وأصحابه على الشاطئ، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم، حتى عقد المهلب الجسر، وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن اتباعهم. ففي ذلك يقول شاعر من الأزد: إن العراق وأهلـه لـم يخـروا مثل المهلب في الحروب فسلموا أمضى وأيمن في اللقاء نـقـيبة وأقل تهليلاً إذا ما أحـجـمـوا التهليل: التكذيب والانهزام. وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، وكان من فرسان بني تميم وشجعانهم، فقال عطية: يدعى رجال للعطاء وإنمـا يدعى عطية للطعان الأجرد وقال الشاعر: وما فارس إلا عـطـية فـوقـه إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما به هزم اللـه الأزارق بـعـدمـا أباحوا من المصرين حلاً ومحرما فأقام المهلب أربعين يوماً يجبي الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلب التجار وأعطى أصحابه، فأسرع إليه الناس رغبة في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم، وللتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رياح ومعاوية بن قرة المربي - وكان يقول - يعني معاوية -: لو جاء الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية - وأبو عمران الجوني، وكان يقول: كان كعب يقول: قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أنوار. ثم نهض المهلب إليهم إلى نهر تيرى، فتنحوا عنه إلى الأهواز، وأقام المهلب يجبي مال حواليه من الكور، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج، فإأتوه بأخبارهم ومن في عسكرهم، فإذا حشوة ؛ ما بين قصار وصباغ وداعر وحداد. فخطب المهلب الناس، فذكر من هناك، وقال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم! فلم يزل مقيماً حتى فهمهم وأحكم أمره، وقوى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتام إليه زهاء عشرين ألفاً. ثم مضى يؤم سوق الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، وفي مقدمته المغيرة بن المهلب، حتى قاربهم المغيرة، فناوشوه، فانكشف عنه بعض أصحابه، وثبت المغيرة بقية يومه وليلته، يوقد النيران، ثم غاداهم القتال، فإذا القوم قد أوقدوا النيران في ثقلة متاعهم، وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة، وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز، وكتب بذلك إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كتاباً يقول فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد: فإنا منذ خرجنا نؤم هذا العدو في نعم من الله متصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين، الذي من عنده النصر، وهو العزيز الحكيم. فكتب إليه الحارث: هنيئاً لك أخا الأزد، الشرف في الدنيا، والذخر في الآخرة، إن شاء الله! فقال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز! أما ترونه عرف اسمي واسم أبي وكنيتي! وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن، كما يبثهم في الخوف، ويذكي العيون في الأمصار، كما يذكيها في الصحارى، ويأمر أصحابه بالتحرز، ويخوفهم البيات ، وإن بعد منهم العدو، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا: هزمنا وغلبنا، فإن القوم خائفون وجعون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيباً فقال: يا أيها الناس؛ إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم. فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله، والمعصي المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعاً وقتلوا، فالقوهم بجد وحد، فإنما هم مهنتكم وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطأوا حريمكم. ثم سار يريدهم، وهم بمناذر الصغرى، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلاً، فيهم صالح بن مخراق، إلى نهر تيرى، وبها المعارك بن أبي صفرة، فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيرى وقد خرج واقد منها، فاستنزله ودفنه، وسكن الناس، واستخلف بها، ورجع إلى أبيه وقد حل بسولاف ، والخوارج بها، فواقعهم، وجعل على بني تميم الحريش بن هلال، فخرج رجل من أصحاب المهلب، يقال له عبد الرحمن الإسكاف، فجعل يحض الناس وهو على فرس له صفراء، فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب، فيحض الناس ويهون أمر الخوارج، ويختال بين الصفين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحية? فحمل جماعة منهم على الإسكاف، فقاتلهم وحده فارساً، ثم كبا به فرسه ، فقاتلهم راجلاً، قائماً وباركاً، ثم كثرت به الجراحات، فذبب بسيفه، وجعل يحثو التراب في وجوههم، والمهلب غير حاضر، ثم قتل رحمه الله، وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وعطية العنبري: أأسلمتما سيد أهل العسكر، لم تعيناه ولم تستنقذاه، حسداً له، لأنه رجل من الموالي! ووبخهما، وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه وقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتلوا سبعين رجلاً، وثبت المهلب، وأبلى المغيرة يومئذ وعرف مكانه، ويقال: حاص المهلب يومئذ حيصة . وتقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أبارهم، فقال رجل من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعد بن مناة بن تميم: بسولاف أضعت دماء قومي وطرت على مواشكة درور قوله: مواشكة يريد سريعة، ويقال: نحن على وشك رحيل. ويقال: ذميل مواشك، إذا كان سريعاً، قال ذو الرمة: إذا ما رمينا رمية في مفازة عراقيبها بالشيظمي المواشك ودرور، فعول من در الشيء، إذا تتابع. وقال رجل من بني تميم آخر: تبعنا الأعور الكذاب طوعـاً يزجي كل أربعة حـمـارا فيا ندمى على تركي عطائي معاينة وأطلبـه ضـمـارا إذا الرحمن يسر لي قـفـولاً فحرق في قرى سولاف نارا قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب، ويقال: غارت عينه بسهم كان أصابها. وقال: الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله ﷺ من قوله: " كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد ". وجاء عنه ﷺ: " إنما أنت رجل، فخذل عنا، فإنما الحرب خدعة ". وقال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وهما سيدا الحيين، الخزرج والأوس: " إيتيا بني قريظة، فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحناً أعرفه. ولا تفتا في أعضاد المسلمين. فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقرة. قال: فقال رسول الله ﷺ: " أبشروا فإن الأمر ما تحبون ": قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما: عضل والقارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله ﷺ. فأرادا في الانحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين. قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج. فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم: أنت الفتى كل الفـتـى لو كنت تصدق ما تقول فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصار في أربعة آلاف. فخطب أصحابه فقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن الضعف والطمع والطبع، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. فسيروا إلى عدوكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك! فإن بالقوم جراحاً وقد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه ومضى المهلب في عشرة، فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منهم أحداً يتحرك فقال الحريش: ارتحل عن هذا الموضع، فارتحل، فعبر دجيلاً، وصار إلى عاقول لا يؤتى إلا من وجه واحد. فأقام به وستراح الناس ثلاثاً، وقال ابن قيس الرقيات: ألا طرقت من آل بثنة طـارقـه على أنها معشوقة الدل عاشقـه تبيت وأرض السوس بيني وبينهـا وسولاف رستاف حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنـا عـصـابة حرورية أضحت من الدين مارقه أجازت إلينا العسكرين كليهـمـا فباتت لنا دون اللحاف معانـقـه وقد ذكرنا الضمار ومعناه الغائب. وأصله من قولك: أضمرت الشيء أي أخفيته عنك، ويقال: مال عين، للحاضر. ومال ضمار، للغائب. قال الأعشى: ومن تـضـيع لـه ذمة فيجعلها بعد عين ضمارا وقال أيضاً: أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم تـرم أرانا إذا أضمرتك البـلا د تجفي وتقطع منا الرحم والفعل من هذا أضمر يضمر، والمفعول به مضمر، والفاعل مضمر، والضمار، اسم للفعل في معنى الإضمار. وأسماء الأفعال تشرك المصادر في معانيها، تقول أعطيته عطاء، فيشر كالعطاء الإعطاء في معناه، ويسمى به المفعول. وتقول: كلمته تكليماً وكلاماً في معناه. والمصدر ينعت به الفاعل في قولك: رجل عدل، ورجل كرم، ورجل نوم، ويوم غم وغيم، وينعت به المفعول في قولك: رجل رضحاً، وهذا درهم ضرب الأمير، وجاءني الخلق، تعني المخلوقين. وقال رجل من الخوارج في ذلك اليوم: وكائن تركنا يوم سلاف مـنـهـم أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها قوله: وكائن معناه كم وأصله كاف التشبيه دخلت على أي فصارتا بمنزلة كم، ونظير ذلك له كذا وكذا درهماً، إنما هي ذا دخلت عليها الكاف. والمعنى له كهذا العدد من الدراهم. فإذا قال له كذا كذا درهماً، فهو كناية عن أحد عشر درهماً إلى تسعة عشر، لأنه ضم العددين. فإذا قال: كذا وكذا، فهو كناية عن أحد وعشرين إلى ما جاز فيه العطف بعده. لكن كثرت كأي فخففت، والتثقيل الأصل، قال الله تعالى: " وكأين من قريت أمليت لها وهي ظالمة " " الحج: 48 ". " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " " آل عمران: 146 ". وقد قرئ بالتخفيف. كما قال الشاعر: وكائن رددنا عنكم من مـدجـج يجيء أمامك الألف يردي مقنعاً وقال آخر: وكائن ترى يوم الغميصاء من فتى أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا قال أبو العباس: وهذا أكثر على ألسنتهم، لطلب التخفيف، وذلك الأصل، وبعض العرب يقلب فيقول: كيئ يا فتى. فيؤخر الهمزة لكثرة الاستعمال. قال الشاعر: وكيئ في بني دودان منهم غداة الروع معروفاً كمي قال أبو العباس: فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى وسلبرى. قال الأخفش: سلى وسلبرى بفتح السين فيهما: موضعان بالأهواز، وسلى بكسر السين موضع بالبادية. وكذا ينشد هذا البيت: كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق في بلد قفـار فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدهم? فقال له وافد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة. فإن أصبتهم لم يكن ظفراً هنيئاً. لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا. فإن غلبوا ذهب الدين، فقال أصحابه، نافق وافد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم. فإنه إنما قال هذا نظراً لكم، ثم توجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم، فأتاهم في مائتين. فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس. حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبية صحيحة، فالتقوا بسلى وسلبرى فتصافوا. فخرج من الخوارج مائة فارس، فركزوا رماحهم بين الصفين واتكأوا عليها. وأخرج إليهم المهلب عدادهم، ففعلوا مثل ما فعلوا، لا يريمون إلا لصلاة حتى أمسوا، فرجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هذا ثلاثة أيام. ثم إن الخوارج تطاردو لهم في اليوم الثالث، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة. ثم إن رجلاً من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه، فحمل الخوارج بأجمعهم، كما صنعوا يوم سولاف، فضعضعوا الناس، وفقد المهلب. وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم المهلب في مائة فارس، وقد انغمست كفاه في الدماء، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر ، محشوة قزاً، وقد تمزقت. وإن حشوها ليتطاير. وهو يلهث. وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحارهم إلى الليل. حتى كثر القتل في الفريقين. فلما كان الغد غاداهم، وقد كان وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم بن الأزد يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده. فقال: إن الأمير أذن لي، فبعث إلى المهلب فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف، وقد تفرق أكثر الناس، فغاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلة، أيعجز أحدكم أن يرمي رمحه ثم يتقدم فيأخذه، ففعل لك رجل من كندة يقال له عياش، وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة. وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس وتصرع الراجل، ففعلوا. ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه. يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو. ففعل، حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا المهلب بسيدهم. وهو معاوية بن عمرو، فجعل يركله برجله وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير! أعفني من أم كيسان والركبة تسميها الأزد أم كيسان. ثم حمل المهلب وحملوا. فاقتتلوا قتالاً شديداً. فجهد الخوارج، فنادى مناديهم: ألا إن المهلب قد قتل! فركب المهلب برذوناً قصيراً أشهب، وأقبل يركض بن الصفين، وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر بها، وهو يصيح: أنا المهلب! فسكن الناس مع العصر، فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم، ففعل، وصاح بذكوان مولاه، قدم رايتك، ففعل. فقال له رجل من ولده: إنك تغرر بنفسك. فذمره ثم صاح: يا بني تميم، أآمركم فتعصونني! فتقدم وتقدم الناس، واجتلدوا أشد جلاد. حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز. وانصرف الخوارج، ولم يشعر المهلب بقتله. فقال لأصحابه: ابغوني رجلاً جلداً يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا: إنا لم نر رجلاً قط أشد منه، قطوف ومعه النيرا، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال: كافر ورب الكعبة! فأجهز عليه، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله. وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان نصف الليل وجه رجلاً من اليحمد قال الأخفش: اليحمد من الأزد، والخليل من بطن منهم، يقال لهم الفراهيد. والفرهود في الأصل الحمل. فإن نسبت إلى الحي قلت: فراهيدي، وإن نسبت إلى الحملان قلت: فرهودي لا غير. في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج. فإذا القوم قد تحملوا إلى أرجان. فرجع إلى المهلب فأعلمه. فقال: أنا لهم الساعة أشد خوفاً، فاحذروا البيات. قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوماً: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات. فإن كان ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون. فإن رسول الله ﷺ كان يأمر بها ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما أصبح المهلب غدا على القتلى، فأصاب ابن الماحوز فيهم. ففي ذلك يقول رجل من الخوارج: بسلى وسلبرى مصارع فـتـية كرام وجرحى لم توسد خدودها وقال آخر: بسلى وسلبرى مصـارع فـتـية كرام وعقرى من كميت ومن ورد وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت بحجر واحد ثلاثة. رميت به رجلاً فأصبت أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر فضربت به آخر على هامته فصرعته، ثم صرعت به ثالثاً. وقال رجل من الخوارج: أتانا بأحجار لـيقـتـلـنـا بـهـا وهل تقتل الأبطال ويحك، بالحجر! وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز: ويوم سلى وسلبرى أحاط بهـم منا صواعق ما تبقي ولا تذرد حتى تركنا عبيد الله منـجـدلاً كما تجدل جذع مال منقعـر قال أبو العباس: تقول العرب: صاعقة وصواعق. وهو مذهب أهل الحجاز، وبه نزل القرآن، وبنو تميم يقولون: صاقعة وصواقع. والمنقعر: المنقلع من أصله. قال الله أصدق القائلين: " كأنهم أعجاز نحل منقعر " " القمر: 20". ويورى أن رجلاً من الخوراج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله بمثلك المسلمين! فضحك الخارجي وقال: أمك خير لك مني صاحبا تسقيك محضاً وتعل رائبا وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس سرجه، وحمل من تحتها فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، حتى تخرمت الميمنة من أجله. وكان أشد ما تكون الحرب أشد ما يكون تبسماً، فكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشر في وجهه. فإن تلك قتلى يوم سلى تتابعت فكم غادرت أسيافنا من قماقم! غداة نكر المشرفـية فـيهـم بسولاف يوم المأزق المتلاحم المأزق: هو يوم تضايق الحرب. والمتلاحم: نعت له. والمشرفية: السيوف. نسبت إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب موته الذي قتل به جعفر بن أبي طالب وأصحابه. قال الأخفش: كان المبرد لا يهمز مؤتة. ولم أسمعها من علمائنا إلا بالهمز. قال أبو العباس: فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإنا لقينا لأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر، بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد. فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة رماحنا، وضرائب سيوفنا . وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، ارجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام. وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام، وقولوا له: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف. فلما لم يره قال لأصحابه: أما كتب إلينا? فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه. فقال: هذه أحب إلي من هذه الكتب. واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بني سليط بن يربوع. من رهط ابن الماحوز. فرأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً. فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ﷺ، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف. وقد أصبتم فيهم مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر. وأشجيتم المهلب. وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس " " آل عمران: 140 "، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين. ثم تحمل لمحاربة المهلب، فنفحهم المهلب نفحة، فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض ، يقرب من عسكره، مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوماً يطوف بعسكره ويتفقد سواده، فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كميناً. فبعث عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة. فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا، وكسفت الشمس، فصاحوا بهم: يا أعداء الله! لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعاً إلى أرجان، وقد جمع جموعاً. وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعاً، فلا ترهبوهم فتخبث قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان فألفوه مستعداً آخذاً بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهوراً بيناً. ففي ذلك يقول رجل من بني تميم، أحسبه من بني رياح بن يربوع: سقى الله المهلب كل غـيث من الوسمي ينتحر انتحارا فما وهن المهلب يوم جاءت عوابس خيلهم تبغي الغوارا وقال المهلب يومئذ: ما وقعت في أمر ضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق . وكانوا صبروا معه في غير موطن. وقال رجل من بني تميم، من بني عبشمس بن سعد: ألا يا من لصب مسـتـحـن قريح القلب قد صحب المزونا لهان على المهلب ما لقـينـا إذا ما راح مسروراً بطـينـا يجر السابري ونحن شـعـث كأن جلودنا كسيت طحـينـا المزون: عمان. وهو اسم من أسمائها، قال الكميت: فأما الأزد أزد أبي سعيد فأكره أن أسميها المزونا وقال جرير: واطفأت نيران المزن وأهلها وقد حاولوها فتنة أن تسعرا وحمل يومئذ الحريش بن هلال على قيس الإكاف، وكان قيس من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدق صلبه. وقال: قيس الإكاف غداة الروع يعلمني ثبت المقام إذا لاقيت أقرانـي وقد كان فل المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة. ذكروا أن المهلب أصيب، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره. فأقام الناس، وتراجع من كان ذهب منهم. فعند ذلك يقول الأحنف بن قيس: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يقال له فلان بن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: رأيت رجلاً من الخوارج وقد مكن رمحه من صلبه. فقدم المنعي، فقيل له ذلك. فقال: صدق ابن أرقم، لما أحسسن برمحه بين كتفي صحت: البقية! فرفعه عني، وتلا: " بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " " هود: 86 ". ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأي عبيد الله بن بشير بن الماحو إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع. فلما صار بكريج دينار لقيه حبيب وعبد الملك وعلي، بنو بشير بن الماحوز، فقالوا له: ما الخبر? ولا يعرفهم. فقال: قتل الله المارق ابن الماحوز، وهذا رأسه معي. فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا الرأس، فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا? فخبر فقتله. ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول، وكانت زين بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها. توليه مصعب بن الزبير على البصرة واستقدامه للمهلب فلم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع، حتى عزل الحارث وولي مصعب بن الزبير، فكتب إليه أن أقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، ففعل، فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبراً وتبجيلاً، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صواباً قط إلاسبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب. وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته. وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليتك، فشمر واتزر وجد واجتهد. ثم شخص المصعب إلى المذار فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد. وقال للمهلب: أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك فقال: أذكر لك واحداً من ثلاثة: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي. أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي. أو داود بن قحذم. فقال: أو تكفيني? قال: أكفيك إن شاء الله. فولاه الموصل. فشخص المهلب إليها. مشاورة مصعب الناس فيمن يكفيه أمر الخوارج وصار مصعب إلى البصرة، فسأل: من يستكفي أمر الخوارج وفد إلى أخيه? فشاور الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم. وبلغت المشورة الخوارج. فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره؛ وإن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه لا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فولى عليهم عمر بن عبيد الله. وولاه فارس، والخوارج بأرجان، وعليهم الزبير بن علي السليطي. فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعباً ولى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها. فجمعوا له وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور، فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ. فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت? قال: قد سلم الله عز وجل، ولم يكونوا يطمعون من المهلب مثلها. فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا لعدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيراً. ثم زحف الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرة. فكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها، ثم عبروا، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل فقال قطري: لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور. ولم يعلم عمر بقتل ابنه؛ حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد، فصاح به: يا نعما، أين ابني? فقال: احسبه أيها الأمير فقد استشهد رحمه الله صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها. وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً من الخوارج، فلما استقروا قال لهم قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف! فجعلوه وجوههم حتى خرجوا من فارس. وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره، وأراد قتله، فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له: وشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي إلى قطري ذي الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم وحججتهـم وما دينهم غير الهوى والتخلق ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا. قال الأخفش: تكانفوا: أعان بعضهم بعضاً واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض. وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر، وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة. فرزق الله عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة. ورزقنا عليهم الظفر. فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة، فيممتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل. فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعيد، فالتقوا، فألح عليهم حتى أخرجهم. وانفرد عمر من أصحابه. فعمد له أربعة عشر رجلاً منهم، من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلاً منهم ضرة إلا صرعه. فركض إليه قطري على فرس طمرة وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة! إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري عن قربوسه. فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط عنه جلده ونجا. ارتحل القوم إلى أصبهان فأقاموا بها برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر، فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعاً، فقال له : كم جبيت? قال: تسعمائة ألف. فقال: هي لك. فقال يزيد بن الحكم الثقفي لمجاعة: ودعاك دعوة مرهق فأجبتـه عمر وقد نسي الحياة وضاعا فرججت عادية الكتيبة عن فتى قد كاد يترك لحمـه أوزاعـا وعزل مصعب بن الزبير وولي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجه المهلب إليهم، فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم رد مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك شيئاً يجبون القرى. ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يحاربك! والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك، وخرج مصعب من البصرة يريدهم. وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم. فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا المدائن، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، ففي ذلك يقول الشاعر: تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ بساباط لم يعطف عليه خليل ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها، وواليها الحارث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخروج وكان جباناً. فذمره إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر: إن القباع سار سيراً نكرا يسير يوماً ويقيم شهـرا وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج. والخوارج يفشون ، حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها. وكانت جميلة، ثما أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها، ثم قربوا أخرى، وهم بحذاء القباع والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع، وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقول : علام تقتلونني? فوالله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت! والناس يتفلتون إلى الخوارج، والقباع يمنعهم، فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر، فأقام بين دباها ودبيرى خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غداً فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح، ثم السلة، فثكلت رجلاً أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل? وقال الراجز: إن القباع سار سيرا ملسا بين دباها ودبيرى خمساً فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وصاروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء. وإنما سمي الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة القباع، لأنه ولي البصرة فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرآة العين وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه، يقال: انقبع الرجل، إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع، وذلك أنه يخنس رأسه. قال أبو العباس: وأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا منه بكبير، فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها. وشاور مصعب الناس فيهم ، فاجتمع رأيهم على المهلب، فبلغ الخوارج مشاورته ، فقال لهم القطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء اللازم، والمكروه الدائم. وعزم المصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك، فلما أحس به الزبير بن علي خرج إلى الري، وبها يزيد بن الحارث بن رؤيم، فحاربه ثم حصره، فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن رؤيم، ونادى يومئذ ابنه حوشباً ففر عنه وعن أمه لطيفة، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رؤيم يعود ابنه يزيد، فقال له: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ. وفي ذلك يقول الشاعر: مواقـفـنـا فـي كــل يوم كـــريهة أسر وأشفى مـن مـواقـف حـوشـب دعـاه يزيد والـرمـــاح شـــوارع فلم يستجب بـل راغ تـرواغ ثـعـلـب ولو كان شهم الـنـفـس أو ذا حـفـيظة رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى. وقال آخر: نجى حليلته وأسلـم شـيخـه نضب الأسنة حوشب بن يزيد وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف ابن عمر: يا ابن حوراء. فقال بلال وكان جلداً: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة. وزعم الكلبي أن بلالاً كان جلداً حين ابتلي قال الكلبي: ويعجبني أن أرى الأسير جلداً قال وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف بن عمر: الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للعصبية فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن علي: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب. وإنما جرى إلى هذا، لأنه يقال إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وإنهم أشابة دخلت في بني منقر من الروم.

========

ج8. ثم انحط الزبير بن علي على أصبهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن. فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون? والله ما تؤتون من قلة، وإنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد، صلى بهم الصبح، ثم خرج بهم إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوا بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقاً كثيراً وقتلوا الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر: ويوم بجـي تـلافـيتـه ولولاك لاصطلم العسكر - قال أبو العباس: نفسر قول: ولولاك في آخر هذا الخبر إن شاء الله - وقال رجل من بني ضبة في تلك الوقعة: خرجت من المدينة مستميتاً ولم أك في كتيبة ياسمينـا أليس من الفضائل أن قومي عدوا مستلمين مجاهدينـا وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة لغير حرب ، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن علي: يا ابن أبي الماحور والأشرار كيف ترون يا كلاب النـار! شد أبي هـريرة الـهـرار يهركم باللـيل والـنـهـار ألم تروا جياً على المضمـار تمسي من الرحمن في جوار فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا توافقوا نادوهم: ما فعل الهرار? فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأساً! فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية، في النار الحامية. قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح. من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جياً ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار. أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالإبتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي: وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منـهـوي النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه. فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفاً? وإن كان هذا جائزاً فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: " لولا أنتم لكنا مؤمنين " " سبأ: 31 ". ومن خالفنا فهو لا بد يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده. وأما جي فالأجود فيها أن تقول: ألم تروا جي على المضمار


فلا تنون، لأنها مدينة، والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف ينصرف إذا كان مؤنثاً، وإن كان أوسطه سكاناً، نحو جور وحمص وماه وما كن مثل ذلك، ولو كان اسماً لمذكر لانصرف، فإن صرفته جعلته اسماً لبلد، وإن لم تصرفه جعلته اسماً لبلدة أو لمدينة، ألا ترى أنك تصرف نوحاً ولوطاً، وهما أعجميان? وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدماً لو سميت بها رجلاً، فالأعجمي بمنزلة المؤنث، لأن امتناعها واحد.


وأما قوله: يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف وكان متعدياً، فإن المضارع منه على يفعل، نحو شده يشده، وزره يزره، ورده يرده، وحله يحله وجاء منه حرفان على يفعل، ويفعل، فيهما جيد: هره يهره، إذا كرهه، يهره أجود، وعله بالحناء يعله، ويعله أجود. ومن قال: حبته قال: يحبه لا غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي: " فاتبعوني يحببكم الله " " آل عمران: 31 ". وذلك أن بني تميم تدغم في موضع الجزم، وتحرك أواخره لالتقاء الساكنين . ولاية قطري بن الفجاءة على الخوارج ومبايعتهم له رجع الحديث: قال أبو العباس: ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم، فأرادوا تولية عبيد بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير مني! من يطاعن في قبل، ويحمي في دبر، عليكم قطري بن الفجاءة المازني. فبايعوه، فوقف بهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمض بنا إلى فارس، فقال: إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر، لكن نصير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب بن الزبير من البصرة دخلناها. فأوا الأهواز، ثم ترفعوا عنها إلى إيذج وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا ، فقال لأصحابه: إن قطرياً قد أطل علينا، وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به القطري، يمم كرمان، فأقام المهلب بالأهواز، ثم كر قطري عليه وقد استعد، فكان الخوارج في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجنن، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز. وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة هو الذي تولى قتله وحاص إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان: إن المكارم أكملت أسبـابـهـا لابن الليوث الغر من قحطـان لفارس الحامي الحقيقة معلمـاً زاد الرفاق إلى قرى نجـران الحارث بن عميرة الليث الـذي يحمي العراق إلى قرى كرمان ود الأزارق لو يصاب بطعـنة ويموت من فرسانهم مـائتـان وتأويله: أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما قال جرير وأراد ابن له سفراً، وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زودني فقال جرير: أزاداً سوى يحيى تريد وصاحـبـاً ألا إن يحيى نعم زاد المسـافـر فما تنكر الكوماء ضربة سـيفـه إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر وقوله: ويموت من فرسانهم يكون على وجهين: مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على العطف، ويدخل في التمني. والنصب على الشرط والخروج من العطف، وفي مصحف ابن مسعود: " ودوا لو تدهن فيدهنون " والقراءة " فيدهنون " " القلم: 9 " على العطف. وفي الكلام: ود لو تأتيه فتحدثه، وإن شئت نصبت الثاني. قال أبو العباس: وخرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب? قالوا: إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشأم فاجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب? قالوا: لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله! بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا، عليكم لعنة الله! وولي خالد بن عبد الله بن أسيد، فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب، فأشير عليه بألا يفعل، وقيل له: إنما أمن أهل هذا المصر، بأن المهلب بالأهواز، وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة من الأزارقة فأبى إلا عزله، فقدم المهلب البصرة، وخرج خالد إلى الأهواز، فأشخصه، فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله، وحاربه ثلاثين يوماً. ثم أقام قطري بإزائه، وخندق على نفسه، فقال المهلب: إن قطريا ً ليس بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلاً إلى شق نهر تيرى، واتبعه قطري، فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها وخندق عليها، فقال المهلب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا آمن عليك البيات، فقال: يا أبا سعيد، الأمر أعجل من ذلك، فقال المهلب لبعض ولده: إني أرى أمراً ضائعاً، ثم قال لزياد بن عمرو: خندق علينا، فخندق المهلب وأمر بسفنه ففرغت، وأبى خالد أن يفرغ سفنه، فقال المهلب لفيروز حصين: صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، الحزم ما تقول، غير أني أكره أن أفارق أصحابي. قال: فكن بقربنا، قال: أما هذه فنعم. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً بجيش كثيف، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن، فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوماً، فقال المهلب لمولى لأبي عيينة: انتبذ إلى ذلك الناووس فبت عليه في كل ليلة، فمتى أحسست خبراً من الخوارج أو حركة أو صهيل خيل فاعجل إلينا. فجاء ليلة فقال: قد تحرك القوم. فجلس المهلب بباب الخندق، وأعد قطري سفناً فيها حطب فأشعلها ناراً، وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم. فجعل لا يمر برجل إلى قتله، ولا بدابة إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه. فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس، فقاتل وأبلى يومئذ، وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأبلى بلاء حسناً؛ وخرج فيروز حصين في مواليه، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، فصرع يزيد بن المهلب يومئذ، وصرع عبد الرحمن، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز حصين في الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه، فوهب له فيروز حصين عشرة آلاف درهم، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو صريعاً، فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدن نفتضح، فقال خندق على نفسك، فإلا تفعل عادوا إليك؛ فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس ، فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم. وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر، لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم، فقال أعشى همدان لابن الأشعث في كلمة طويلة: ويوم أهوازك لا تنسـه ليس الثنا والذكر بالداثر وقد ذكرنا ف قصر المدود، من أن مد المقصور لا يجوز، ما يغني عن إعادته. فيروز حصين وبعض أخباره ونذكر فيروز حصين لما مر من ذكره: وكان فيروز حصين رجلاً جيد البيت في العجم، كريم المحتد، مشهر الآباء، فلما أسلم والي حصيناً، وهو حصين بن عبد الله العنبري، من بني العنبر بن تميم بن مر، ثم من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز حصين شجاعاً جواداً، نبيل الصورة، جهير الصوت، وتروي الرواة أن رجلاً من العرب كانت أمه فتاة، فقاول بني عم له. فسبوه بالعجمية، ومر فيروز حصين، فقال: هذا خالي، فمن منكم له خال مثله? وظن الفتى أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى، فاشترى له منزلاً وجارية، ووهب له عشرة آلاف درهم. ومن مآثره المعروفة أن الحجاج بن يوسف لما واقف ابن الأشعث برستقاباذ نادى منادي الحجاج: من أتى برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم. ففصل فيروز من الصف، فصاح بالناس: من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي، من أتى برأس الحجاج فله مائة ألف، فقال الحجاج، فوالله لقد تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتى به الحجاج فقال له: أأنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم ? قال: قد فعلت، فقال: والله لأمهدنك ثم لأحملنك؛ أين المال? قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل? قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرق علي! ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحل الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه، وتصدق بماله، ثم رد إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشد في القصب الفارسي، ثم سل حتى شرح، ثم نضح بالخل والملح، فما تأوه حتى مات. قال أبو العباس: ومضى قطري إلى كرمان، فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهراً، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلاً، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة، فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفاً، والخوارج بدراب جرد، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب، فسيعلمون! قال صعب بن زيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس حاجب المهلب فقال: أجب الأمير، فجئت إلى المهلب وهو في سطح وعليه ثياب هروية، فقال: يا صعب، أنا ضائع، كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً م قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً به إلي، فوجهت رجلاً يقال له عمران بن فلان، فقلت: اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إلي بخبر يوم يوم، أورده على المهلب. فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا يوم صالح، فينبغي أن تنزل - أيها الأمير - حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب، فنزل الناس على غير أمره، فلم يستتم النزول حتى ورد عليهم سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود. فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة، فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم. والناس ينهونه، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي، الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع القيسي وعلى شرطته رجلاً من بني ضبيعة بن نزار، فنزلوا عن العقبة ونزل خلفهم، وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين. وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق فقتل، وقتل مقاتل بن مسمع، وقتل الضبعي صاحب الشرطة، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج على فرسخين يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد خرج معه بأم حفص ابنة المنذر بن الجارود امرأته. فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه. وقال رجل حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بأسيافهم وما تحيك في جنته . يقال ما أحاك فيه السف، وما يحيك فيه، وما حك ذا الأمر في صدري، وما حكى في صدري، وما احتكى في صدري. ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك؛ إذا تبختر. ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً، وذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج، ففرض لكل واحد منهم خمسمائة، فكاد يأخذها، فشق ذلك على قطري وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً، إن هذه لفتنة ، فوثب إليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتي به قطري فقال له : يا أبا الحديد، مهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين قد تزايدوا في هذه المشركة، فخشيت عليهم الفتنة. فقال قطري: قد أصبت وأحسنت! فقال رجل من الخوارج: كفانا فتنة عـظـمـت وجـلـت بحمد الله سـيف أبـي الـحـديد أهاب المسلمون بـهـا وقـالـوا على فرط الهوى: هل من مزيد? فزاد أبو الحديد بنـصـل سـيف رقيق الحد فعل فـتـى رشـيد قوله: أهاب يريد أعلن، يقال أهبت به، إذا دعوته، مثل صوت، قال الشاعر: أهاب بأحزان الفؤاد مهـيب وماتت نفوس للهوى وقلوب وقوله: مهيم حرف استفهام ، معناه: ما الخبر وما الأمر، فهو دال على ذلك محذوف الخبر، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ رأى بعبد الرحمن بن عوف ردع خلوق فقال: مهيم! فقال: تزوجت يا رسول الله، فقال: أولم ولو بشاة، وكان تزوج على نواة، وأصحاب الحديث يروونه على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم. وهذا خطأ وغلط. العرب تقول نواة فتعني بها خمسة دراهم، كما تقول: النش لعشرين درهماً، والأوقية لأربعين درهماً، فإنما هو اسم لهذا المعنى. وكان العلاء بن مطرف السعدي ابن عمر عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في تلك الحروب مبارزة، فلحقه عمرو القنا وهو منهزم، فضحك عمرو وقال متمثلاً: تمناني لـيلـقـانـي لـقـيط أعام لك ابن صعصعة بن سعد ثم صاح به: انج أبا المصدى! وكان عمرو القنا يكنى أيضاً أبا المصدى. وهذا البيت الذي تمثل به عمرو ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، يقوله يعني لقيط بن زرارة، وكان يطلبه. وقوله: أعام لك يريد يا عامر، فرخم، وإنما يريد الحي تعجباً، أي لكم أعجب من تمنيه للقائي! فدعا بني عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ياقل إن عامر بن صعصعة هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، لا ابن معاوية، وإنهم ناقلة في قيس، ولذلك امتنعت بنو سعد من محاربتهم مع بني تميم يوم جبلة، ولذلك أنذرهم كرب بن صفوان. وهذا البيت وضعه سيبويه في باب النداء الذي معناه معنى التعجب، وشبيه به قول الصلتان العبدي: فيا شاعرا ًلا شاعر اليوم مثله جرير ولكن كليب تواضـع على معنى قوله: فلله دره شاعراً! وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين له، إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، وهي فلانة بنت عقيل، فطلق الضبية وتخلص بهما يومئذ، وحمل الضبية أولاً. ففي ذلك يقول: ألست كريماً إذ أقول لـفـتـيتـي قفوا فاحملوها قبل بنت عـقـيل ولو لم يكن عودي نضاراً لأصبحت تجر على المتـنـين أم جـمـيل قال الصعب بن يزيد: بعثني المهلب لآتيه بالخبر، فضربت إلى قنطرة أربك على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم، فلم أحسس خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت، فلما أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم ، فقلت: ما وراءك? فقال: الشر، فقلت: فأين عبد العزيز? قال: أمامك، فلما كان من آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارساً معهم لواء، فقلت، لواء من هذا? فقالوا: هذا لواء عبد العزيز؛ فتقدمت إليه، فسلمت وقلت: أصلح الله الأمير! لا يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه. قال لي: أو كنت معنا? قلت: لا، ولكن كأني شاهد أمرك، قال: كأنك كنت معنا، قلت: أرسلني المهلب لآتيه بخبرك. ثم تركته وأقبلت إلى المهلب، فقال لي: ما وراءك? قلت ما يسرك، قد هزم عبد العزيز وقل جيشه. فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وقل جيش المسلمين! قلت: قد كان ساءك أو سرك، فوجه رجلاً إلى خالد يخبره. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً قال: كذبت ولؤمت. ودخل رجل من قريش فكذبني. وقال لي خالد: والله لهممت أن أضرب عنقك. قلت: أصلح الله الأمير! إن كنت كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً مطرف هذا المتكلف. فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل بعض الفل. وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على خالد، واستخلف ابنه حبيباً، وقال له: تحسس عن الأخبار، فإن أحسست بخبر الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى، فلما دخلها أعلم خالد، فغضب عليه، واستتر حبيب في بني هلال بن عامر بن صعصعة. فتزوج هناك في استتاره الهلالية أم عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه، أي يخطئه: بعثت غلاماً من قريش فـروقة وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت قواه وقد ساس الأمور وجربـا وقال الحارث بن خالد المخزومي: فر عبد العزيز لما رأى الأب طال بالسفح نازلوا قطـريا ويروى:

فر عبد العزيز إذ راء عيسى وابن داود نـازلاً قـطـريا عاهد الله إن نجا ملـمـنـايا ليعودن بعـدهـا حـرمـيا يسكن الخل والصفاح فمـرا ن وسلعا وتـارة نـجـديا حيث لا يشهد القتال ولا يس مع يوماً لكـر خـيل دويا قوله: إذ راء عيسى، الأصل رأى ولكنه قلب فقدم الألف وأخر الهمزة، كما قال كثير: وكل خليل راءني فهـو قـائل من اجلك هذا هامة اليوم أو غد والقلب كثير في كلام العرب، وسنذكر منه شيئاً في موضعه إن شاء الله. وقوله: ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام، فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما، ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة، فيقولون في بني الحارث وبني العنبر وما أشبه ذلك: بلحارث وبلعنبر وبلهجيم كما يقولون: علماء بنو فلان فحذفون إحدى اللامين. وقوله: ليعودن بعدها حرميا العرب تنسب إلى الحرم فيقولون حرمي وحرمي على قولهم حرمة البيت وحرمة البيت، وقال النابغة الذبياني: من قول حرمية قالت وقد رحلوا هل في مخفيكم من يشتري أدما والخل: ها هنا موضع، وأصله الطريق في الرمل. وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى عبد الملك صانعاً بي? قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي? قال: نعم، قد أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين، وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس! قال أبو العباس: فكتب عبد الملك إلى خالد : أما بعد، فإني كنت حددت لك حداً في أمر المهلب، فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي واستبددت برأيك، فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك حرب الأزارقة، فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الحروب للحرب ، وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب تشغله بالجباية،! أما لو كافأتك على قدر ذبنك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه، ولكن تذكرت رحمك فلفتني عنك، وقد جعلت عقوبتك عزلك. وولى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالداً لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية، فانظر المهلب بن أبي صفرة، فوله حرب الأزارقة، فإنه سيد بطل مجرب، فأمدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل. فشق عليه ما أمره به في المهلب، وقال: والله لأقتلنه، فقاله له موسى بن نصير: أيها الأمير ، إن للمهلب حفاظاً وبلاء ووفاء. وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى وعكرمة إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به. فتلقاه المهلب على بغل، فسلم عليه في خمار الناس، فلما جلس بشر مجلسه قال: ما فعل أميركم المهلب? قالوا: قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك. فهم بشر أو يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله، فقال أسماء بن خارجة: إنما ولاك أمير المؤمنين لنرى رأيك. فقال له عكرمة ابن ربعي: اكتب إلى أمير المؤمنين وأعلمه علة المهلب. فكتب إليه يعلمه علة المهلب وأن بالبصرة من يغني غناءه، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكم المجاشعي، فلما قرأ الكتاب خلا بعبد الله بن حكيم فقال: إن لك ديناً ورأياً وحزماً، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة? قال: المهلب. قال: إنه عليل. قال: ليست علته بمانعة ، فقال عبد الملك: أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد. فكتب إلى بشر يعزم عليه أن يولي المهلب، فوجه إليه. قال المهلب: أنا عليل ولا يمكنني الإختلاف، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فاعترض بشر عله، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم ألا يقيم بعد ثالثة، وقد أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم وصاروا بالفرات، فخرج إليهم المهلب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بني تميم، فقال: أصلح الله الأمير! إن سني ما ترى، فهبني لعيالي قال: على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد، كيف تحثنا على الجهاد وأنت تحبس أشرافنا وأهل النجدة منا? ففعل الشيخ ذلك، فقال بشر: وما أنت وذاك? قال: لا شيء، وأعطى المهلب رجلاً ألف درهم على أن يأتي بشراً فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرط والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك، فقال له بشر: ما أنت وذاك? قال نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين، ولا أعود إلى مثلها، فأمده بالشرطة والمقاتلة. وكتب بشر إلى خليفته بالكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين، ويوجه به مدداً إلى المهلب، فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فعقد له، واختار له من كل ربع ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير البجلي، وعلى ربع تميم وهمدان عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وعلى ربع كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث الكندي، وعلى مذحج وأسد حر بن قيس المذاحجي، فقدموا على بشر، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف، فقال له: قد عرفت رأي فيك وثقتي بك، فكن عند ظني، انظر هذا المزوني فخالفه في أمره، وأفسد عليه رأيه، فخرج عبد الرحمن بن مخنف وهو يقول: ما أعجب ما طمع مني فيه هذا الغلام! يأمرني أن أصغر شيخاً من مشايخ أهلي وسيداً من ساداتهم! فلحق بالمهلب. فلما أحس الأزارقة بدنوه منهم انكشفوا من الفرات، فاتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز، فنفاهم عنها، ثم اتبعهم إلى رام هرمز فهزمهم منها، فدخلوا فارس وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديداً ، تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فلما صار القوم بفارس وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صبح: أيها الأمير! إنه ليس برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم وكل بهم، فقال: ليس هذا من الوفاء. فلم يلبث برام هرمز إلا شهراً حتى أتاهم موت بشر، فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجه إلى محمد بن إسحاق بن الأشعث ابن زحر واستحلفهما ألا يبرحا، فحلفا له ولم يقيا، ف-جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا بسوق الأهواز، وأراد أهل الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة، إنما تبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم فأقام منهم قوم وتسلل منهم ناس كثير. وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز، يحلف فيه بالله مجتهداً، لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد منهم إلا قتله فجاء مولاه، فجعل يقرأ الكتاب عليهم ولا يرى في وجههم قبوله، فقال: إني لأرى وجوهاً ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب وانصرف إلى صاحبك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا، وجعلوا يستحثونه بقراءته ، ثم قصدوا قصداً الكوفة، فنزلوا النخيلة، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في الدخول فأبى، فدخلوها بغير إذن. ولاية الحجاج العراق وأمره مع المهلب والخوارج فلم يزل المهلب ومن معه من قواده ابن مخنف في عدد قليل، فلم ينشبوا أن ولي الحجاج العراق، فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم وتهددهم، وقد ذكرنا الخطبة متقدماً. ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة? فقالوا: كانت تضرب وتحبس، فقال الحجاج: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو ولا جبي فيء، ولا عز دين. ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجلتكم ثلاثاً، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها ولا من أهل الثغور إلا قتلته، ثم قال لصاحب حرسه وصاحب شرطه: إذا مضت ثلاثة أيام فاتخذا سيوفكما عصياً، فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا أنف لكم مني، وهو أشد بني تميم أيداً، وأجمعهم سلاحاً، وأربطهم جأشاً، وأنا شيخ كبير عليل، واستشهد جساءه، فقال له الحجاج: إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبين ولكني أكره أن يجترئ بك الناس علي. وبعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان، ثم أمر به فقتل، فاحتمل الناس، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول ابن الزبير الأسدي: أقول لعبد الـلـه يوم لـقـيتـه أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا تخير فإما أن تزور ابن ضابـئ عميراً وإما أن تزور المهلـبـا هما خطتا خسف نجاؤك منهمـا ركوبك حوليا من الثلج أشهبـا فما إن أرى الحجاج يغمد سيفـه يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا فأضحى ولو كانت خراسان دونه رآها مكان السوق أو هي أقربا وهرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج وقال: أقاتلي الحجاج إن لم أزر له دراب وأترك عند هند فؤاديا وقد مرت هذه الأبيات. وخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة، فكان عليهم أشد إلحاحاً وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمل الناس قبل قدومه، فأتاه رجل م بني يشكر، وكن شيخاً كبيراً أعور، وكان يجعل على عينه العوراء صوفة، فكان يلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير! إن بي فتقاً، وقد عذرني بشر، وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب، الأشقري أو الفرزدق: لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة تقرقر منها بطن كـل غـريف ويروى عن ابن ميرة قال: إنا لنتغدى معه يوماً إذ جاء رجل من بني سليم برجل قوده، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً، وإني لحائك أخذت من تحت الحف ، فقال: اضربوا عنقه، فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل ، فأقبل علينا الحجاج فقال: مالي أراكم صفرت أيديكم واصفرت وجوهكم وحد نظركم من قتل رجل واحد! إن العاصي يجم خلالاً: يخل بمركزه، ويعصي أميره، ويغر المسلمين وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل وإن شاء عفا. ثم كتب الحجاج إلى المهلب: أما بعد؛ فإن بشراً رحمه الله استكره نفسه عليك، وأراك غناءه عنك، وأنا أريك حاجتي إليك، فأرني الجد في قتال عدوك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله، فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي من ولي من هرب عنك فأعلمني مكانه، فإني أرى أن آخذ الولي بالولي، والسمي بالسمي. فكتب إليه المهلب: ليس قبلي إلا مطيع، وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذب، وإذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك، فهب لي هؤلاء الذي سميتهم عصاة، فإنما هم فريقان أبطال، أرجو أن يقتل الله بهم لعدو ونادم على ذنبه. فلما رأى المهلب كثرة الناس عليه قال: اليوم قوتل هذا العدو، ولما رأى ذلك قطري قال: انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها، فقال عبيدة بن هلال: أو نأتي سابور، وخرج المهلب في آثارهم، فأتى أرجان، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن، وليست بمدينة، ولكن جبال محدقة منيعة، فلم يصب بها أحداً، فخرج نحوهم فعسكر بكازرون، واستعدوا لقتاله، وخندق على نفسه، ثم وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف: خندق على نفسك، فوجه إليه: خنادقنا سيوفنا، فوجه إليه المهلب: إني لا آمن عليك البيات، فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل! فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال: لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة، فلما أصبح القوم غادوه الحرب، فبعث إلى ابن مخنف يستمده، فأمده بجماعة، وجعل عليهم ابنه جعفراً، فجاؤوا وعيهم أقبية بيض جدد، فقاتلوا يومئذ حتى عرف مكانهم، وحاربهم المهلب، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد، ثم نظر إلى رئيس منهم يقال له صالح بن مخراق، وهو ينتخب قوماً من جلة العسكر، حتى بلغوا أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما يعد هؤلاء إلا للبيات. وانكشف الخوارج والأمر للمهلب عليهم، وقد كثر فيهم القتل والجراح. وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجه الرجال، فكان يحسبهم نهاراً، ويفتح الحبس ليلاً، فينسل الناس إلى ناحية المهلب، وكأن الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثل: إن لها لسائقاً عشنزرا إذا ونين ونية تغشمرا العشنزر: الصلب، والغشمرة : ركوب الرأس. والمتغشمر: الجاد على ما خيلت. وكتب إلى المهلب من قبل الوقعة: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشي وعباد بن حصين الحبطي. واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح. فشاور بنيه فقالوا: إنه أمير، فلا تغلظ عليه في الجواب. فكتب إليه المهلب: ورد علي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن حصين الحبطي، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغنائهما وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شراً من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل، لم تستقر في واحدة منهن. وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا، في مكان كذا، أشرعت إلي صدر الرمح، فلو فعلت لقبلت إليك ظهر المجن، والسلام. ثم كانت الواقعة. فلما انصرف الخوارج قال المهلب لابنه الميغرة: إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم. فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا? قال له فليبت آمناً، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخارق في القوم الذي أعدهم إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: إني لمذك للشـراة نـارهـا ومانع ممن أتاهـا دارهـا وغاسل بالطعن عنها عارها فوجد بني تميم أيقاظاً متحارسين، فخرج إليهم الحريش بن هلال وهو يقول: لقد وجدتم وقراً أنجـادا لا كشفاً ميلاً ولا أوغادا هيهات لا تلفوننا رقـادا لا بل إذا صيح بنا آسادا ثم حمل على القوم فرجعوا عنه، فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين كلاب النار! فقالوا: إنما أعدت النار لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار إن دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان. قوله: وجدتم وقراً جمع وقر. والنجد: ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل فيه قولان: قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: هو الذي لا سيف معه. والأكشف: الذي لا ترس معه. والأجم: الذي لا رمح معه. والحاسر: الذي لا درع عليه. والأعزل: الذي لا يتقوم على ظهر الدابة. والوغد: الضعيف. ثم قال بعضهم لبعض: نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليهم، وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلب، وقد زعموا أنا أهون علهم من ضرطة جمل، فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه بهم إلا وقد خالطوهم في عسكرهم. وكان ابن مخنف شريفاً. يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل: تروح وتغدو كل يوم معظماً كأنك فينا مخنف وابن مخنف فترجل عبد الرحمن بن مخنف فجالدهم فقتل، وقتل معه سبعون من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ونفر من أصحاب ابن مسعود، وبلغ الخبر المهلب، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب، فجاءهم مغيثاً فقاتلهم حتى ارتث وصرع، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً فكشفهم، ثم جاء المهلب حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه رحمهم الله، وصار جنده في جند المهلب، فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، فقال رجل لجعفر بن عبد الرحمن: تركت أصحابنا تدمى نحورهـم وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل قوله: خضفة الجمل يريد ضرطة الجمل، يقال: خضف البعير. وأنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلاً اتخذ وليماً: إنا وجدنا خلفاً بئس الخـلـف أغلق عنا بـابـه م حـلـف لا يدخل البواب إلا من عرف عبداً إذا ما ناء بالجمل خضف يقال: ناء بحمله، إذا حمله في ثقل وتكلف، وفي القرآن: " ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة " " القصص: 76 ".، والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح. وقد مضى تفسير هذا. فلامهم المهلب، وقال: بئسما قلتم! والله ما فروا ولا جبنوا، ولكنهم خالفا أميرهم، أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب، وفراركم بدارس عن عثمان، وفراركم عني! ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه إليهم، فخرج إليهم من الخوارج جمع، فاقتتلوا إلى الليل، فقال لهم الخوارج: ويلكم أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، قالوا: فمن أنتم? قالوا: تميم، قالت الخوارج: ونحن بنو تميم، فلما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب وخرج إليهم عشرة من الخوارج، فاحتفر كل واحد حفيرة وأثبت قدمه فيها، فكلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام مكانه، حتى أعتموا ، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، فقالوا إلى الحجاج، فقال له: مه! قال: رأيت قوماً لا يعين عليهم إلا الله. وكتب إليه المهلب: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مضر، أو اختلاف من أهوائهم. وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد، كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين بولده وبمن يحل محلهم في الثقة عنده. وقال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب: عدمتك يا مهلب مـن أمـير أما تندى يمينك للـفـقـير! بدولاب أضعت دماء قومـي وطرت على مواشكة درور فقال المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت، قال: ويحك! وهل عنه محيص? قال: لا، ولكنا نكره التعجيل، وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: أما سمعت قول هبيرة الكلحبة اليربوعي: فقلت لكأس ألجميها فـإنـمـا نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا قال: بلى والله قد سمعته، ولكن قولي أحب إلي منه، وهو : فلما وقفـتـم غـدوة وعـدوكـم إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحف مقالة عـاجـز يساقي المنايا بالرجينية السـمـر فقال له المهلب :بئس حشو الكتيبة والله أنت! فإن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك، فقال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه: يرى حتماً عليه أبو سـعـيد جلاد القوم في أولى النفـير إذا نادى الشراة أبـا سـعـيد مشى في رفل محكمة القتير الرفل: الذيل. وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول، فأنا آمن أن يعتقل، فلو كان مكانه ألف شجاع قلت: إنهم ينشامون حين يحتاج إليهم . ومطرت السماء مطراً شديداً وهم بسابور، وبين المهلب وبين الشراة عقبة، فقال المهلب: من يكفينا هذه العقبة الليلة? فلم يقم أحد، فلبس المهلب سلاحه وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه يقال له عبد الله: دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ في ذلك لنا فلم نطعه، فلبس سلاحه واتبعه جماعة من أهل العسكر فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة لا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير، فنحن نكفيك إن شاء الله، فلما أصبحوا إذا بالشراة على العقبة، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فارس، فجعل يحمل وفرسه يزلق، وتلقاه مدرك بن المهلب في جماعة حتى ردهم.


فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس، إذا الشراة قد تألبوا، فقال المهلب: سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة أكفنيهم، فخرج إليهم المغيرة بن المهلب وأمامه سعد بن نجد القردوسي، وكان سعد شجاعاً متقدماً في شجاعته، وكان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا - وقردوس من الأزد. فخرج أمام المغيرة، وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلب، فالتقوا، وأما الخوارج غلام جامع السلاح، مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة، صحيح الفروسية، فأقبل يحمل على الناس وهو يقول: نحن صبحناكم غداة النحـر بالخيل أمثال الوشيج تجري فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد، ثم تجاولا ساعة، فطعنه سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع يومئذ المغيرة، فحامى عليه سعد بن نجد وذبيان السختياني وجماعة من الفرسان حتى ركب، وانكشف الناس عند سقطة المغيرة، حتى صاروا إلى أبيه المهلب، فقالوا: قتل المغيرة، ثم أتاه ذبيان السختياني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان بحضرته. ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكنك اتخذت أكلاً ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام. فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت جيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصر وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره! ثم ناهضهم ثلاثة أيام، يغاديهم القتال، ولا يزالوا كذلك إلى العصر، وينصرف أصحابه وبهم قرح، وبالخوارج قرح وقتل، فقال له الجراح : قد أعذرت. فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظن بي معصية ولا جبناً، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي، فاسأل الجراح، والسلام. فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك? قال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قط ولا ظننت أن أحداً يبقى على مثل ما هو عليه. ولقد شهدت أصحابه أياماً ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئاً، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال: الحجاج: لشد ما مدحته أبا عقبة! قال: الحق أولى. وكانت ركب الناس قديماً من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فيتقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي: ضربوا الدراهم في إمارتهم وضربت للحدثان والحرب حلقاً ترى منها مرافقـهـم كمناكب الجمالة الحـرب وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وهو والي إصبهان، يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف، فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلداً فتحه لأهل الكوفة فأنت أمير الجماعة فيه ، والمهلب على أهل البصرة فقد عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب، وهو بسابور، وهي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس، وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج في أيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي. فوجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه مناجزة القوم، أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن، من بني عامر بن صعصعة، والآخر من آل أبي عقيل جد الحجاج، فضم زياداً إلى ابنه حبيب، وضم الثقفي إلى يزيد ابنه، وقال لهما: خذا يزيد وحبيباً بالمناجزة، فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن، وفقد الثقفي، ثم باكروهم في اليوم الثاني وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب ودعا بالغداء، فجعل النبل يعق قريباً منهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي: ألا يا أصبحاني قبل عوق العـوائق وقبل اختراط القوم مثل العقـائق غداة حبيب في الـحـديد يقـودنـا نخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها وهاج عجاج الحرب فوق البوارق فمن مبلغ الحـجـاج أن أمـينـه زياداً أطاحـتـه رمـاح الأزارق قوله: وقبل اختراط القوم مثل العقائق يعني السيوف، والعقائق: جمع عقيقة، يقال: سيف كأنه عقيقة برق، أي كأنه لمعة برق، ويقال انعق البرق إذا تبسم. وللعقيقة مواضع: يقال فلان بعقيقة الصبي ، أي بالشعر الذي ولد به لم يحلقه، ويقال: عققت الشيء أي قطعته، ومن ذا فلان يعق أبويه، وكذا عققت عن الصبي، إذا ذبحت عنه، قوال أعرابي: ألم تعلمي يا دار بلجاء أنـنـي إذا أجدبت أو كان خصباً جنابها أحب بلاد الله ما بين مشـرف إلي أن يصوب سـحـابـهـا بلاد بها عق الشباب تميمـتـي وأول أرض مس جلدي ترابها فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر، حتى ظهر شبيب، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب يأمره بأن يرزق الجند، فرق المهلب أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جباناً. وكان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلاً، فقال له المهلب: يا ابن اللخنا! فقال له عتاب: لكنك معم مخول ، فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب ابن تيم بن هبيرة بن أبي مصقلة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً للحلف، فلما رأى نصرهة بكر بن وائل سره الحلف واغتبط به، ولم يزل يؤكده فغضبت تميم البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب. فلما رأى ذلك المغيرة بن المهلب مشى بين أبيه وبين عتاب، فقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير لك إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، فأجابه، فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب، وقال عتاب: إني لأعرف فضله على أبيه، وقال رجل من الأزد من بني إياد بن سود: ألا أبلغ أبا ورقـاء عـنـا فلولا أننا كنا غـضـابـا على الشيخ المهلب إذ جفانا للاقت خيلكم منا ضرابـا وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوهم بقتال حتى يبدأوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم. فشخص عتاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب، فقتله شبيب، وأقام المهلب على حربهم، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهراً اختلفوا. وكان سبب اختلافهم أن رجلاً حداداً من الأزارقة كان يعمل نصالاً مسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلب، فرفع ذلك إلى المهلب فقال: أنا قطري فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطري واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم ، فاقبضها وزدنا من هذه النصال، فوقع الكتاب والدراهم إلى قطري. فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب? قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم? قال: ما أعلم علماها، فأمر به فقتل، فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً إلى غير ثقة ولا تبين! فقال له: ما حال هذه الدراهم! قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً، فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه، فتنكر له عبد ربه في جماعة معه ، ولم يفارقوه. فبلغ ذلك الملهب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني، فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك، فقال له رجل من الخوارج قد عبدك من دون الله، وتلا: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " " الأنبياء: 98 "، فقال قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئاً، فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة فبلغ ذلك المهلب، فوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه، فأتاهم الرجل فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم، فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما? فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها. وقال قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيزا المحنة، فكثر الاختلاف. فخرج قطري إلى حدود إصطخر، فأقام شهراً والقوم في اختلافهم، ثم أقبل، فقال لهم صالح بن مخراق: يا قوم، إنكم قد قررتم أعين عدوكم وأطعمتوهم لكم، لما ظهر من اختلافكم، فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة. وخرج عمرو القنا فنادى: يا أيها المحلون ، هل لكم في الطراد، فقد طال العهد به! ثم قال: ألم تر أنا مـذ ثـلاثـون لـيلة قريب وأعداء الكتاب عل خفض فتهايج القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه، فجعلت السيوف لا تعمل فيه شيئاً، واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: أنا ابن خير قومه هلال شيخ على دين أبي بلال وذاك ديني آخر الليالي فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه، أفوكلتم به أغار على السرح، فشق ذلك على المهلب، وقال: كل أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم، فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك، فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله لا يعدل أحدنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فثار بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح ، أي يطرده، وهو يقول: نحن أقمعناكم بشل السرح وقد نكأنا القرح بعد القرح الشل: الطرد: ويقال: نكأت القرحة، مهموز، ونكيت العدو، غير مهموز، من النكاية، ونكأت القرحة نكأ، قال ابن هرمة: ولا أراها تزال ظالـمة تحدث لي قرحة وتنكؤها ولحقه المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود، فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة، فقال المهلب: ممن الرجل? قال: رجل من همدان، قال: إنك لشين همذان، وخلى سبيله. وكان عياش الكندي شجاعاً بئيساً ، فأبلى يومئذ، ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت نفس الجبان بعد عياش! وقال المهلب: ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم! ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين: أحدهما من كلب، والآخر من سليم، يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم الشعر لأوس بن حجر، وقوله: زبنته يقول: دفعته، ولم يترمرم، أي لم يتحرك، يقال: قيل له كذا وكذا فما ترمرم. وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم! وحمل يزيد عليه وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب، وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرس له أدهم، وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني مولى العيتك من لهذين? قال: أنا، فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشني فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطا جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانقه امرأة، فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت! أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال له غلام له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فأستلب مما هناك جاريتين. فقال مولاه: وكيف تمنيت اثنتين? قال: لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب: أخلاج إنك لن تعانـق طـفـلة شرقاً بها الجادي كالتـمـثـال حتى تلاقي في الكتيبة معلـمة عمرو القنا وعبيدة بـن هـلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال أو أن يعلمك المهلـب غـزوة وترى جبالاً قد دنت لـجـبـال قوله: طفلة يقول: ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت: طفلة فهي الصغيرة. والجادي: الزعفران، والكتيبة: الجيش، وإنما سمي الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض. وبهذا سمي الكتاب. ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة إذا خرزت ذلك الموضع منها. وكتبت القربة. والمعلم: الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ، وإما بمشهرة، وإما بغير ذلك. وكان حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه معلماً يوم بدر بريشة نعامة في صدره وكان أبو جدانة - وهو سماك بن خرشة الأنصاري - يوم أحد لم قال رسول الله صلى الله عليه سلم: " من يأخذ سيفي هذا بحقه? " قالوا: وما حقه يا رسول الله? قال: " أن يضرب به في العدو حتى ينحني "، فقال أبو دجانة: أنا، فدفعه إليه، فلبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون لما بلوا منه أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية، ففعل، وخرج يمشي بين الصفين، فقال رسول الله ﷺ: " إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع ". ويروى أن رسول الله ﷺ سمع علياً صلوات الله عليه يقول لفاطمة ورمى إليها بسيف، فقال: هاك حميداً فاغسلي عنه الدم. فقال رسول الله ﷺ: " لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدقه معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ". وفي بعض الحديث " وقيس بن الربيع " وكل هؤلاء من الأنصار. عاد الحديث إلى ذكر الخوارج: وعمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل، والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بني تميم. قال: ولا أدري أعمرو هو أم غيره. والمقعطر من عبد القيس. وقوله: قسطوا أي جاروا، يقال قسط فهو قاسط، إذا جار، قال الله جل ثناؤه: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " " الجن: 15 ". ويقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، قال الله تعالى: " إن الله يحب المقسطين " " الحجرات: 9 ". وكان بدر بن الهذيل شجاعاً، وكان لحانة، فكان إذا أحس بالخوارج نادى يا خيل الله اركبي، وله يقول القائل: وإذا طلبت إلى المهلب حاجة عرضت توابع دونه وعبـيد العبد كردوس وعبد مثـلـه وعلاج باب الأحمرين شديد كردوس: رجل من الأزد، وكان حاجب المهلب. وقوله: " وعلاج باب الأحمرين شديد "، العرب تسمي العجم الحمراء، وقد مر تفسير ذا. وقوله: توابع أراد به الرجال، فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على فاعل فجمعه فاعلون لئلا يلتبس بجمع فاعله التي هي نعت، وقد قلنا في هذا: ولم قالوا: فوارس وهالك في الهوالك. وكان بشر بن المغيرة أبلى يوماً بلاء حسناً عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين بني المهلب جفوة، فقال لهم: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب، وجاوزت شكاة المستعتب ؛ حتى كأني لا موصول ولا محروم، فاجعلوا لي فرجة أعش بها وهبوني امرأ رجوتم نصره، أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوا، وكلموا فيه المهلب فوصله. وولى الحجاج كردماً فارس، فوجهه الحجاج إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب: ولو رآها كردم لـكـردمـا كردمة العير أحس الضيغما الضيغم: الأسد. والكردمة: النفور. فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودراب جرد لأرزاق الجند، ففعل، وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا، فاشتراها منه آزاد مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها، فواقعه المهلب فهزمه، ونفاه إلى كرمان، واتبعه ابنه المغيرة وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلد به، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه، فسر المهلب بذلك وقال: ما يسرني أن أكون كنت قد دفعته إلى غيرك من ولدي، اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل منهم، وأحسبه من بني تميم، في كلمة له: ولو علم ابن يوسف مانلاقـي من الآفات والكرب الشـداد لفاضت عينه جزعاً علـينـا وأصلح ما استطاع من الفساد ألا قل للأمير جزيت خـيراً أرحنا من مغيرة والـرقـاد فما رزقا الجنود بها قـفـيزاً وقد ساست مطامير الحصاد يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس، وداد وأداد، من الدود، وروى أبو زيد: ديد فهو مدود في هذا المعنى. فحاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت، واتبعهم فنزل قرباً منهم، واختلفت كلمتهم. وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكري أتهم بامرأة رجل رأوه مراراً يدخل منزله بغير إذن، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتوني يا أمير المؤمنين، فما ترى? قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم ": " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " " النور: 11 " الآيات. فبكوا وقاموا إليه فاتنقوه، وقالوا: استغفر لنا، ففعل، فقال لهم عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم، فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتاً. وكان قطري قد استعمل رجلاً من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة، فأتوا قطرياً فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم، وبلغ ذلك المهلب، فقال: إن اختلافهم أشد عليهم مني. وقالوا لقطري: ألا تخرج بنا إلى عدونا? فقال: لا، ثم خرج، فقالوا: قد كذب وارتد! فاتبعوه يوماً فأحس بالشر، فدخل داراً مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة، اخرج إلينا، فخرج إليهم، فقال: رجعتم بعدي كفاراً???! فقالوا: أو لست دابة! قال الله عز وجل: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " " هود: 6 "، ولكنك قد كفرت بقولك: إنا قد رجعنا كفاراً، فتب إلى الله عز وجل، فشاور عبيدة، فقال: إن تبت لم يقبلوا منك، ولكن قل: إنما استفهمت فقلت: أرجعتم بعدي كفاراً? فقال ذلك لهم، فقبلوه منه، فرجع إلى منزله، وعزم أن يبايع المقعطر العبدي، فكرهه القوم وأبوه، فقال له صالح بن مخراق عنه وعن القوم: ابغ لنا غير المقعطر، فقال لهم قطري: أرى طول العهد قد غيركم، وأنتم بصدد عدوكم، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدوا للقاء القوم، فقال صالح بن مخراق: إن الناس قبلنا قد ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي ففعل، ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزله، فقال له القوم: إنا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر، وجلهم الموالي والعجم، وكان هناك منهم ثمانية آلاف، وهم القراء، ثم نم صالح بن مخراق، فقال لقطري: هذه نفحة من نفحات الشيطان، فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأجره الرمح فقتله. ومعنى أجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحي وفي البجلي معبلة وقـيع فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا، ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل، فلما كان الغد باكروهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة. وأقام عبد ربه بها، وصار قطري خرجاً من مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق. فخندق على باب المدينة، وجعل يناوشهم. وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه فقال له: أصلح الله الأمير! عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلب: إنهم لن يصطلحوا، ولكن دعهم، فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها، ثم دس رجلاً من أصحابه فقال: إيت عسكر قطري، فقل: إني لم أزل أرى قطرياً يصيب الرأي حتى نزل منزلة هذا فبان خطؤه؛ أنقيم بني المهلب وعبد ربه، يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا! فنمى الكلام إلى قطري، فقال: صدق، تنحوا بنا عن هذا الموضع، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون، فقال له الصلت بن مرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت إنما تريد الله فاقدم على القوم، وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، وأنشأ الصلت يقول: قل للمحلين قـد قـرت عـيونـكـم بفرقة القوم والبغضـاء والـهـرب كنا أناسـا عـلـى دين فـغـيرنـا طول الجدال وخلط الجد باللـعـب ما كان أغنى رجالاً ضل سـعـيهـم عن الجدال وأغناهم عن الخـطـب إني لأهونكم في الأرض مضطربـاً ما لي سوى فرسي والرمح من نشب ثم قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه، فارتحل قطري، وبلغ ذلك المهلب، فقال لهريم بن عدي بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا آمن أن يكون قطري كادنا بترك موضعه، فاذهب فتعرف الخبر، فمضى هريم في إثني عشر فارساً، فلم ير في العسكر إلا عبداً وعلجاً، فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا: مضوا يرتادون غر هذا المنزل، فرجع هريم إلى المهلب فأخبره، فارتحل المهلب حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتلهم أحياناً بالغداة، وأحياناً بالعشي، ففي ذلك يقول رجل من سدوس، يقال له المعنق، وكان فارساً: ليت الحرائر بالعراق شهدننـا ورأيننا بالسفح ذي الأجـيال فنكحن أهل الجزء من فرساننا والضربين جماجم الأبطـال ووجه المهلب يزيد إلى الحجاج يخبره أنه قد نزل منزل قطري، وأنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في إثر قطري رجلاً جلداً في جيش، فسر ذلك الحجاج سروراً أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه مع عبيد بن موهب؛ وفي الكتاب. أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي، فترجع بعذرك، وذل أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، ويجم الناس ، ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم ، ولعمري ما أنت والقوم سواء؛ لأن من ورائك رجالاً وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما معهم. ولا يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فقال المهلب لأصحابه: إن الله عز وجل قد أراحكم من أقران أربعة قطري بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه، في خشار من خشار الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله. فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون، فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون كأنما انصرفوا من مجلس كانوا يتحدثون فيه، فيضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلب: قد بان عذرك، وأنا مخبر الأمير. فكتب المهلب إليه. أما بعد: فإني لم أعط رسلك على قول رسلك على قول الحق أجراً، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقي، ذكرت أني أجم القوم، ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أن في ذلك الجمام ما ينسي القتلى، وتبرأ منه الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، تأبى ذلك قتلى لم تجن، وقروح لم تتقرف ، ونحن القوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذ وقفوا، ونطلب إذا هربوا فإن تركتين والرأي كان القرن مقصوماً، والداء بإذن الله محسوماً، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله، ومقت الناس. ولما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه، وقد أراحكم الله من غلظة قطري، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال، ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا؛ من قتل منكم قتل شهيداً. ومن سلم من القتل فه المحروم. وقدم في هذا الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي، يستحثه بالقتال، ومعه أمينان، فقال له: خالفت وصية الأمير، وآثرت المدافعة والمطاولة، فقال له المهلب: ما تركت جهداً، فلما كان العشي خرج الأزارقة وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا، فقال المهلب لأصحابه: الزموا مصافكم، وأشرعوا رماحكم ، ودعوهم والذهاب، فقال له عبيد: هذا لعمري أيسر عليك، فقال للناس: ردوهم عن وجههم ، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس، وقال لعبيد بن أبي ربيعة: كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ، وقال لأحد الأمينين: كنا مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى عقرت الدواب وصرع الفرسان، وقتلت الرجال فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط رمح برجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يقول: الليل لـيل فـيه ويل ويل وسل بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول فلما عظم الخطب فيه بعث المهلب إلى المغيرة: خل لهم عن الرمح، عليهم لعنة الله ، فخلوا لهم عنه. ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على أربعة فراسخ من جيرفت، ودخلها المهلب، فأمر بجمع ما كان لهم فيها من المتاع، وما خلفوه من دقيق وختم عليه هو والثقفي والأمينان، ثم أتبعهم، فإذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها إلا قوي، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها، فغاداهم القتال. وضم الثقفي إلى يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، واقتتل القوم إلى نصف النهار، فقال المهلب لأبي علقمة العبدي - وكان شجاعاً عاتياً: أمدد بخيل اليحمد، وقل لهم: فليعيرونا جماجمهم ساعة، فقال له: إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وليست أعناقهم كردان فتنبت - قال أبو العباس : تقول العرب لأعذاق النخل: كرادن، وهو فراسي أعرب -. وقال لحبيب بن أوس: كر على القوم، فلم يفعل، وقال:

يقول لي الأمير بغير عـلـم تقدم حين جد به الـمـراس فما لي إن أطعتك مـن حـياة وما لي غير هذا الرأس رأس نصب: غير، لأنه استثناء مقدم، وقد مضى تفسيره. وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني أم مالك بنت المهلب، ففعل، فحمل على القوم فكشفهم، وطعن فيهم، وقال: ليت من يشتري الغداة بمال هلكه اليوم عندنا فيرانـا نصل الكر عند ذاك بطعن إن للموت عندنا ألـوانـا ثم جل الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت عند ذلك المهلب إلى المغيرة فقال: ما فعل الأمين الذي كان معك? قال: قتل، وكان الثقفي قد هرب، وقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة? قال: لم أره منذ كانت الجول، فقال الأمين الآخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي، فلما كان العشي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة: ما زلت يا ثقفي تخطب بينـنـا وتغعمنا بوصـية الـحـجـاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخـراً وسما لنا صرفاً بغـير مـزاج وليت يا ثقفي غير مـنـاظـر تنساب بـين أحـزة وفـجـاج ليست مقارعة الكماة لدى الوغى شرب المدامة في إناء زجـاج قوله: بين أحزة هو جمع حزيز، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلظ، والفجاج: الطرق، واحدها فج. وقال المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما قتلت صاحبي. قال: ذاك إليك، وضحك المهلب، ولم تكن للقوم خنادق، فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهم في زهاء ثلاثين ألفاً، فلما أصبح أشرف على واد، فإذا هو برجل معه رمح مكسور وقد خضبه بالدماء، وهو ينشد: جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي إذ بت أطواء بنـي الأصـاغـر أخادعهم عنه ليغـبـق دونـهـم وأعلم غير الظن أني مـغـاور كأني وأبدان الـسـلاح عـشـية يمر بنا في بطن فيحـان طـائر فدعاه المهلب فقال: أتميمي أنت? قال: نعم، قال: أحنظلي? قال: نعم، قال: أيربوعي? قال: نعم، قال: أثعلبي? قال: نعم، قال: أمن آل نويرة? قال: نعم، أنا من ولد مالك بن نويرة، وسبحان الله أيها الأمير! أيكون مثلي في عسكرك لا تعرفه! قال: عرفتك بالشعر. قوله: ذو الخمار يعني فرساً. وكان ذو الخمار فرس مالك بن نوير. قال جرير يهجو الفرزدق: بيربوع فخـرت وآل سـعـد فلا مجدي بلغت ولا افتخاري بيربـوع فـوارس كـل يوم يواري شمسه رهج الغبـار عتيبة، والأحيمر وابن عمـرو وعتاب، وفارس ذي الخمار قوله: أطواء يقال: رجل طوي البط، أي منطو يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده، فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله: أخادعهم عنه ليغبق دونهم والغبوق شرب آخر النهار، وهذا شيء تفخر به العرب، قال الأشعر الجعفي: لكن قعيدة بيتـنـا مـجـفـوة باد جناجن صدرها ولها غنـى نقفي بعيشه أهـلـهـا وثـابة أو جرشعاً نهد المراكل والشوى قال: فمكثوا أياما على غير خنادق يتحارسون ودوابهم مسرجة، فلم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان، فلم كانت الليلة التي قتل في صبحتها عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين، إن قطرياً وعبيدة هربا طلب البقاء، ولا سبيل إليه، فالقا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم، والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا غادوا المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً، نسي به ما كان قبله، فقال رجل من الأزد من أصحاب المهلب: من يبايعني على الموت? فبايعه أربعون رجلاً من الأزد وغيرهم، فصرع بعضهم وقتل بعض، وجرح بعض. وقال عبد الله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلب، احملوا، فقال: المهلب: أعرابي مجنون! وكان من أهل نجران، فحمل وحده، فاخترق القوم حتى نجم من ناحية أخرى ثم رجع، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس، فترجلت الخوارج وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو وأصحابه من العرب، وكانوا زهاء أربعمائة: موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها فقالوا: إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار. فاقتتلوا، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض، قال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادى الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب، وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالاً شديداً ألى فيه، فقال له أبوه: يا بني إني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. وكسرت الخوارج أجفان سيوفهم، وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقولاً، فهرب عمرو القنا وأصحابه، وأستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجرحى كثر من الخوارج، فأمر المهلب بأن يدفع كل جريح إلى عشيرته، وظفر عسكرهم فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت، فقال: الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا بعيش، ثم نظر إلى قوم في عسكر لم يعرفهم، فقال: ما أشد عادة السلاح! ناولني درعي: فلبسها ثم قال: خذوا هؤلاء، فلما سير بهم إليه قال: ما أنتم? قالوا: نحن قوم جئنا لنطلب غرتك لنفتك بك، فأمر بهم فقتلوا. قال أبو العباس: ووجه المهلب كعب بن معدان الأشقري، ومرة بن تليد الأزدي، من أزد شنوءة، فوفدا على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده: يا حفص إني عداني عنكم السفر وقد سهرت فأودى نومي السهر فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة! قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم ? قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد? قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم? قال: كنا إذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، إذا اجتهدوا واجتهدنا بلغنا فيهم آمالنا بإدراك الفرصة منهم، فقال الحجاج إن العاقبة للمتقين، كيف أفلتكم قطري قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى التي نحب، قال: فهلا اتبعتموه? قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: فيكيف كان لكم المهلب وكنتم له? قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس? قال:فشا فيهم الأمن، وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب? قال: لا يعلم الغيب إلا الله قال: فقال: هكذا تكون والله الرجال! المهلب كان أعلم بك حيث وجهك. وكان كتاب المهلب إلى الحجاج: " بسم الله الرحمن الرحيم ": الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما ساه، الذي وصل المزيد بالشكر، والنعمة بالحمج، وقضى ألا ينقطع المزيد منه حتى ينقطع الشكر من عباده. أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك، وكنا ونحن وعدونا على حالين مختلفين، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة، ونوم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وق إمكانها، وأدنيت السواد من السواد، حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " " الأنعام: 45 ". فكتب إليه الحجاج:

أما بعد، فإن الله عز وجل قد فعل المسلمين خيراً، وأراحهم من حد الجهاد، وكنت أعلم بما قبلك، والحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم في المجاهدين فيئهم، ونفل الناس على قدر بلائهم، وفضل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلاً تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وول الخيل شهماً من ولدك، ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي، وعجل القدوم، إن شاء الله. فولى المهلب ابنه يزيد كرمان، وقال له: يا بني، إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك، فأحسن إلى من معك، وإن أنكرت من إنسان شيئاً فوجهه إلي، وتفضل على قومك إن شاء الله . قال أبو العباس: وقدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه، وأظهر إكرامه وبره، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي: وقـلـدوا أمـركـم لـلـه دركـم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا يطعم النـوع إلا ريث يبـعـثـه هم يكاد حشاه يقصم الـضـلـعـا لا مترفاً إن رخاء العيش سـاعـده ولا إذا عض مكروه به خـشـعـا ما زال يحلب هذا الدهر أشـطـره يكون متبعاً طـوراً ومـتـبـعـا حتى استمرت على شر مـريرتـه مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو يقول: المهلب كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر، فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً. قوله: نفل إي أقسم بينهم، والنفل: العطية التي تفضل، كذا كان الأصل، وإنما فضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريث وعجل وكذا، أي أعيطتك، ثم صار النفل لازماً واجباً. وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل، يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن عل سهولة الأمر عليه. قال الشاعر: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريث وعجل وقال جل جلاله: " يسئلونك عن الأنفال " " الأنفال: 1 "، ويقال: نفلتك كذا وكذا، أي أعطيتك، ثم صار النفل لازماً واجباً. وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل، يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن على سهولة الأمر عليه. قال الشاعر: رحيب الذراع بالتي لا تـشـينـه وإن قيلت العوراء ضاق بها ذرعا وكذلك قوله جل وعز: " يجعل صدره ضيقاً حرجاً " " الأنعام: 125 "، وقوله: مضطلعاً إنما هو مفتعل من الضليع، وهو الشديد، يريد أنه قوي عل أمر الحرب، مستقل بها. وقوله: يكون متبعاً طرواً ومتبعاً أي قد اتبع الناس فعلم ما يصلح به أمر الناس، واتبع فعلم ما يصلح الرئيس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد ألنا وإيل علينا، أي قد أصلحنا أمور الناس، وأصلحت أمورنا. وقوله: على شرز مريرته فهذا مثل، يقال: شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعاً عليه. المريرة: الحبل. والضرع: لصغير الضعيف. والقحم: آخر سن الشيخ، قال العجاج: رأين قحماً شاب وأقلحما طال عليه الدهر فاسلهما والمقلحم مثل القحم، وهو الجاف،ويقال للصبي مقلحم، إذا كان سيء الغذاء، أو ابن هرمين، ويقال: رجل إنقحل وامرأة إنقحلة، إذا أسن حتى ييبس. والمسلهم: الضامر. قال الشاعر: لما رأتني خلقا ًإنقحلا ويقال في معنى: قحم قحر، ويقال: بعير قحارية، في هذا المعنى، وقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم. فريث وعوض ما يضاف إلى الأفعال، وتأويله أنه لا يطعم النوم إلا يسيراً حتى يبعثه الهم، فمعناه مقدار ذلك ومما يضاف إلى الأفعال أسماء الزمان، كقوله عز ذكره: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " " المائدة: 119 "؛ فأسماء الزمان كلها تضاف إلى الفعل، نحو قولك: آتيك يوم يخرج زيد. وجئتك يوم قام عبد الله، وما كان منها في معنى الماضي جاز أن يضاف إلى الابتداء والخبر، فتقول: جئتك يوم زيد أمير، ولا يجوز ذلك في المستقبل، وذلك لأن الماضي في معنى إذ، وأنت تقول: أجيئك إذ زيد أمير، والمستقبل في معنى إذا، فلا يجوز أن تقول: أجئتك إذا زيد أمير، فلذلك لا يجوز: أجيئك يوم زيد أمير. فأما الأفعال في إذا وإذ فهي بمنزلة واحدة، تقول: جئتك إذ قام زيد، وأجيئك إذا قام زيد، فهذا واضح بين، ومما يضاف إلى الفعل ذو في قولك: افعل ذاك بذي تسلم، وافعلاه بذي تسلمان معناه: بالذي يسلمكما، ومن ذلك آية في قوله: بآية تقدمون الخيل شعثاً كأن على سنابكها مداما والنحو يتصل ويكثر، وإنما تركه الاستقصاء لأنه موضع اختصار، وقد أتينا على جمع هذا في الكتاب المقتضب . فقال المهلب: إنا والله ما كنا أشد على عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة، والعاقبة للتقوى، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً مما أحببناه من العجلت. فقال له الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم، فأمر الناس فكتبوا ذلك للحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله. ثم ذكرهم للحجاج على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة، ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً وقال: إنه والله لو قدمهم أحد في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. قال الحجاج: صدقت، وما أنت بأعلم بهم مني وإن حضرت وإبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة بن أبي صفرة والرقاد وأشباههما، فقال الحجاج: أين الرقاد? فدخل رجل طويل أجنأ ، فقال المهلب هذا فارس العرب، فقال الرقاد: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلب، فكنت كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني أسوة نفسه وولده ويجاريني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرساناً؛ فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلب ألفين، وفعل بالرقاد وجماعة شبيهاً بذلك. قال يزيد بن حبناء من الأزارقة: دعي اللوم إن العيش ليس بـدائم لا تعجلي باللوم يا أم عـاصـم فإذ عجلت منك الملامة فاسمعي مقالة مقني بحـقـك عـالـم ولا تعذلينا في الهـدية إنـمـا تكون الهدايا من فضول المغانم فليس بمهد من يكون نـهـاره جلاداً ويمسي ليله غـير نـائم يريد ثواب الله يوماً بـطـعـنة غموس كشدق العنبري بن سالم أبيت وسربالي دلاص حصـينة ومغفرها والسيف فوق الحيازم حلفت برب الواقفـين عـشـية لدى عرفات حلقه غـير آثـم لقد كان في القوم الذين لقيتهـم بسابور شغل عن بروز اللطائم توقـد فـي أيديهـم زاعـبـية ومقهة تقري شؤون الجماجـم قوله: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم يريد يمسي هو في ليله ويكون ه في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: " بل مكر الليل والنهار " " سبأ: 33 "، والمعنى بل مكركم في الليل والنهار، وقال من أهل البحرين من اللصوص: أما النهار ففـي قـيد وسـلـسـلة والليل في جوف منحوت من الساج وقال آخر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بـنـائم ولو قال: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم. فكان جيداً، وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلاداً، كما تقول: إنما أنت سيراً، وإنما أنت ضرباً تريد تسير سيراً، وتضرب ضرباً، فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيراً، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد، على قوله: أنت سير أي أنت جائز كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار وفي القرآن: " قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غوراً " " الملك: 30 " أي غائراً، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح، ولو قال: ويسمي ليله غير نائم لجاز: يصير اسمه في يمسي، ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره على السعة التي ذكرنا. وقوله: غموس يريد واسعة محيطة. والعنبري بن سالم رجل منهم كان يقال له الأشدق. واللطائم: واحدتها: لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البز والعطر. وقوله: توقد في أيديهم زاعبية يعني الرماح، والتوقد للأسنة، والزاعبية منسوبة إلى زاعب، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح. وتفري: تقد، يقال فرى إذا قطع، وأفرى إذا أصلح. وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب: أبا سعيد جزاك اللـه صـالـحة فقد كفيت ولم تعنف على أحـد داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا وكنت كالوالد الحاني على الولد وقال عبيدة بن هلال في هربهم مع قطري: ما زالت الأقدار حتى قذفنني بقومس بين الفرخان وصول ويروى أن قاضي قطري، وهو رجل من بني عبد القيس، سمع قول عبيدة بن هلال: علا فوق عرش فوق سبـع ودونـه سماء ترى الأرواح من دونها تجري فقال له العبدي: كفرت إلا أن تأتي بمخرج، قال: نعم، روح المؤمن تعرج إلى السماء، قال: صدقت. وقال يذكر رجلاً منهم: يطوي وترفعه الرياح كأنـه شلو تنشب في مخالب ضار فثوى صريعاً والرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الأعمار تنوشه: تأخذه وتتناوله، قال الله عز وجل: " وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " " سبأ: 52 " أي التناول. ومثل بيته هذا قول حبيب الطائي: فيم الشماتة إعلاناً بأسد وغـى أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع وقال أيضاً في شبيه بهذا المعنى: إن ينتحل حدثان الموت أنفسـكـم ويسلم الناس بين الحوض والعطن فالماء ليس عجيبـاً أن أعـذبـه يفنى ويمتد عمر الآجـن الأسـن وقالأيضاً: عليك سلام الله وقفاً فـإنـنـي رأيت الكريم الحر ليس له عمر وقال القاسم بن عيسى: أحبك يا جنان فأنت مـنـي مكان الروح من بدن الجبان ولو أني أقول كان روحـي لخفت عليك بادرة الزمـان لإقدامي إذا ما الحرب جاشت وهاب حماتها حر الطعـان وقال معاوية بن أبي سفيان في خلاف هذا المعنى: أكان الجبـان يرى أنـه يدافع عنه الفرار الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ويسلم منها الشجاع البطل رجع الحديث: وقال رجل من عبد القيس من أصحاب المهلب: سائل بنا عمرو القنا وجنوده وأبا نعامة سيد الكـفـار أبو نعامة: قطري. وقال المغيرة بن حبناء الحنظلي من أصحاب المهلب: إني امرؤ كفني ربي وأكرمنـي عن الأمور التي في رعيها وخم وإنما أنا إنسـان أعـيش كـمـا عاشت رجال وعاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا عني بما صنعوا عجز ولا بكـم ولو أردت قفولاً ما تجهمـنـي إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا إن المهلب إن أشتـق لـرؤيتـه أو أمتدحه فإن الناس قد علمـوا أن الأريب الذي ترجى نوافـلـه والمستعان الذي تجلى به الظلـم القائل الفاعل الميمـون طـائره أبو سعيد إذا ما عدت الـنـعـم أزمان أزمان إذ عض الحديد بهم وإذ تمنى رجال أنهم هـزمـوا قال أبو العباس: وهذا الكتاب لم نبتدئه لتتصل فيه أخبار الخوارج ولكن ربما اتصل الشيء بالشيء، والحديث ذو شجون، ويقترح المقترح ما يفسخ به عزم صاحب الكتاب، ويصده عن سننه، ويزيله عن طريقه. ونحن راجعون إن شاء الله إلى ما ابتدأ له هذا الكتاب، فإن مر من أخبار الخوارج شيء مر كما مر غيره ولو نسقناه على ما جرى من ذكرهم لكان الذي يلي هذا خبر نجدة، وأبي فديك، وعمارة الرجل الطويل، وشبيب، ولكان يكون الكتاب للخوارج مخلصاً. ^ الجزء الرابع بسم الله الرحمن الرحيم باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ نبذ من كلام الحكماء في الموعظة قال أبو العباس: كان الحسن يقول: الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره، لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بد لنا منه. يقول: كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر، ولا بد لنا من الرجوع إليه. وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم، وإليه يلجأ الجازع. وقال للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور. وقال الخزيمي: ولو شئت أن أبكي دماً لبكـيتـه عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع وفي هذا الشعر وإن لم يكن من هذا الباب: وأعددته ذخراً لكل ملـمةٍ وسهم المنايا بالذخائر مولع خطبة لأبي طالب وخطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله ﷺ في تزوجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها، فقال؛ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس؛ ثم إن محمد بن عبد الله، ابن أخي، من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي. وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية. وفود النابغة الجعدي على ابن الزبير ومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة، عن أبيه عن جده، قال: أقحت السنة علينا، النابغة الجعدي، فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه يقول: حكيت لنا الصديق حـين ولـيتـنـا وعثمان والفارق فارتاح مـعـدم وسويت بين الناس في العدل فاستووا فعاد صباحاً حالك الليل مـظـلـم أتاك أبو ليلى يشـق بـه الـدجـى دجى الليل جواب الفلاة عثمـثـم لترفع منه جانبـاً ذعـذعـت بـه صروف الليالي والزمان المصمـم فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله ﷺ، وحق بحقك في المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توقر له حباً وتمراً. فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما استرجمت قريش فرحمت وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت، فأنا والنبيون على الحوض فراط لقادمين". قوله: أقحمت السنة يكون على وجهين: يقال: اقتحم إذا دخل قاصداً، وأكثر ما يقال من غير أن يدخل، ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والآخر حسن. والسنة: الجدب، يقال: أصابتهم سنة إذا أصابهم جذب، ومن ذا قوله عز وجل: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" الأعراف: 130، أي بالجدب. وقوله: صفوة، فهي في معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر كقولك: حسن الجلسة والركبة والمشية والنيمة، كأنها خلقة. والعفوة إنما هو ما عفا، أي ما فضل، "خذ العفو" الأعراف 199، قالوا: الفضل، وكذلك قوله جل اسمه: "ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو" البقرة 219. وقوله: عثمثم، يريد الموثق الخلق الشديد. وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرقت حاله. وقوله: راحلة رحيل، أي قوية على الرحلة معودة لها. ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة، وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشاً لأضحي به، أملح، واجعله أقرن فحيلاً. وقوله: فأنا والنبيون على الحوض فراط لقادمين، الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا، ومن ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً. وجاء في الحديث عن النبي ﷺ "أنا فرطكم على الحوض". وكان يقال: يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله ﷺ نسباً، ومن بيت الله بيتاً. ويقال: إن دار أسد ابن عبد العزى كان يقال لها: رضع الكعبة، وذلك أنها تفيء عليها الكعبة صباحاً، وتفيء على الكعبة عشياً، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها إليه، وفي ذلك يقول القائل: لهاشم وزهير فضـل مـكـرمة بحيث حلت نجوم الكبش والأسـد مجاور البيت ذي الأركان بيتهمـا ما دونهم في جوار البيت من أحد وقال آخر: سمين قريش مانع منك لحمه وغث قريش حيث كان سمين وقال آخر: وإذا ما أصبته مـن قـريش هاشمياً أصبت قصد الطريق وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة: أبا مطر هلم إلـى صـلاح فتكنفك الندامى من قـريش وتأمن وسطهم وتعيش فيهـم أبا مطر هديت لخير عـيش وتسكن بلدة عـزت قـديمـاً وتأمن أن يزورك رب جيش صلاح: اسم من أسماء مكة وكانت بلداً لقاحاً، واللقاح: الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيماً لها، حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذ قاتلوا في الحرم. وكانت قريش تعز الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدم. تحريض سديف على بني أمية ودخل سديف مولى أبي العباس السفاح0 على أبي العباس أمير المؤمنين، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها، فلما رأى ذلك سديف أٌبل على أبي العباس، وقال: لا يغرنك ما ترى مـن أنـاس إن تحت الضـلـوع داءً ودوياً فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرهـا أمـوياً فأقبل عليه سليمان فقال: قتلتني أيها الشيخ قتلك الله! وقام أبو العباس فدخل، فإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل. تحريض شبل بن عبد الله على بني أمية ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي، وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سمط الطعام، فمثل بين يديه، فقال: أصبح الملك ثابـت الآسـاس بالبهاليل من بني الـعـبـاس طلبوا وتر هاشم فشـفـوهـا بعد ميل من الـزمـان وياس لا تقلين عبد شمـس عـثـاراً واقطعن كل رقلة وأواسـي ذلها أظهر التـودد مـنـهـا وبها منكم كحز المـواسـي ولقد غاظني وغـاظ سـوائي قربهم من نمارق وكراسـي أنزلوها بحيث أنزلـهـا الـل ه بدار الهـوان والإتـعـاس واذكروا مصرع الحسين وزيداً وقتيلاً بجانب الـمـهـراس والقتيل الذي بحران أضحـى ثاوياً بين غربة وتـنـاسـي نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفـلاس! فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها، ودعا بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً وقال لشبل: لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. قوله: الآساس واحدها أس، وتقديرها فعل وأفعال وقد يقال للواحد: أساس، وجمعه أسس. والبهلول: الضحاك. وقوله: بعد ميل من الزمان ويأس يقال: فيك ميل علينا، وفي الحائط ميل، وكذلك كل منتصب. وقوله: واقطعن كل رقلة، الرقلة: النخلة الطويلة، ويقال إذا وصف الرجل بالطول: كأنه رقلة. والأواسي، ياؤه مشددة في الأصل وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام لجاز في الشعر؛ لأن القافية تقتطعه، وكل مثقل فتخفيفه في القوافي جائز، كقوله: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ومن الحب جنون مستعـر وواحدها أسية وهي أصل البناء بمنزلة الأساس. وقوله: وغاظ سوائي تقول: ما عندي رجل سوى زيد، فتقصر إذا كسرت أوله، فإذا فتحت أوله على هذا المعنى مددت، قال الأعشى:


تجانف عن جو اليمامة، ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا والسواء ممدود في كل موضع وإن اختلفت معانيه، فهذا واحد منه، والسواء: الوسط، ومنه قوله عز وجل: "فرءاه في سواء الجحيم" الصافات 55. يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد والسواء: العدل والاستواء، ومنه قوله عز وجل: "إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" أل عمران 64، ومن ذلك: عمرو وزيد سواء، والسواء: التمام، يقال: هذا درهم سواء، وأصله من الأول، وقوله عز وجل: "في أربعة أيام سواء للسائلين" فصلت 10، معناه تماماً. ومن قرأ: سَواءٍ فإنما وضعه في موضع مستويات. والنمارق، واحدتها نمرقة، وهي الوسائد، قال الفرزدق: وإنا لتجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال نصيب: إذا ما بساط اللهو مد وقربت للذاته أنماطه ونمـارقـه وقوله: مصرع الحسين وزيد يعني زيد بن علي بن الحسين، كان قد خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفي وصلبه بالكناسة عرياناً، هو وجماعة من أصحابه. ويروى الزبيريون أنه كان بين يوسف بن عمر وبين رجل إحنة، فكان يطلب عليه علة، فلما ظفر بزيد بن علي وأصحابه أحسوا بالصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدوا، فصلبوا عراة، وأخذ يوسف عدوه ذلك، فنحله أنه كان من أصحاب زيد فقتله وصلبه، ولم يكن استحد، لأنه كان عند نفسه آمناً، وكان بالكوفة رجل معتوه عقده التشيع، فكان يجيء فيقف على زيد وأصحابه فيقول: صلى الله عليك يا ابن رسول الله، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ودافعت الظالمين؛ ثم يقبل عليهم رجلاً رجلا فيقول: وأنت يا فلان؛ فجزاك الله خيراً، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ونصرت ابن رسول الله ﷺ حتى يقف على عدو يوسف فيقول: فأما أنت يا فلان، فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قرفت به! قال أبو العباس: وقال حبيب بن جدرة - ويقال: ابن جدرة، وهي السلعة - الهلالي. قال الأخفش: الصحيح عندنا ابن خدرة بالخاء وكسرها، وقال المبرد: لم أسمعه إلا جَدَرَةَ ويقال: جُدرةَ. وهو من الخوارج، يعني زيد بن علي: يابا حسين لو شراة عصـابة صحبوك كان لوردهم إصدار يابا حسين والجديد إلى بـلـى أولاد درزة أسلموك وطاروا تقول العرب للسفلة والسقاط: أولاد درزة، وتقول لمن تسبه: ابن فرتنى، وأولاد فرتنى. وتقول للصوص: بنو غبراء، وفي هذا الباب. ويروى أن شاعراً لبني أمية قال معارضاً للشيع في تسميتهم زيداً المهدي والشاعر هو الأعور الكلبي: صلبنا لكم زيداً على جذع نخـلة ولم نر مهدياً على الجذع يصلب ونظر بعد زمين إلى رأس زيد ملقى في دار يوسف وديك ينقره، فقال قائل من الشيعة: اطردوا الديك عن ذؤابة زيد طالما ما كان لا تطاه الدجاج وقوله: وقتيلاً بجانب المهراس يعني حمزة بن عبد المطلب، والمهراس ماء بأحد، ويروى في الحديث أن رسول الله صلى الله علية وسلم عطش يوم أحد، فجاءه علي في درقة بماء من المهراس فعافه فغسل به الدم عن وجهه. وقال ابن الزبعري في يوم أحد: ليت أشياخي ببـدر شـهـدوا جزع الخزرج من وقع الأسل فاسأل المهراس من ساكـنـه بعد أبدان وهام كالـحـجـل وإنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أمية؛ لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد. والقتيل الذي بحران هو إبراهيم بن محمد بن علي، وهو الذي يقال له الإمام. وكان يقال: ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر؛ فيوم كربلاء يوم الحسين بن علي بن أبي طالب وأصحابه، ويوم النقر يوم قتل يزيد بن المهلب وأصحابه. وإنما ذكرنا هذا لتقدم في إكرام مواليها. من أخبار الموالي ولى رسول الله ﷺ جيش موتة زيداً مولاه، وقال: إن قتل فأميركم جعفر. وأمر رسول الله أسامة بن زيد، فبلغه أن قوماً طعنوا في إمارته، وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: "إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله، ولقد كان لها أهلاً، وإن أسامة لها لأهل"، وقالت عائشة: لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره. وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي وأنا وهو سيان? فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك. وأوصى رسول الله ﷺ بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب، فكأنها تكرهته، فتولى منه ذلك رسول الله ﷺ بيده. وقال له يوماً، ولم يكن أسامة من أجمل الناس: "لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك". وفي بعض الحديث أنه قال: "أسامة من أحب الناس إلي". وكان ﷺ أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله ﷺ، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: سلمان منا أهل البيت. ويروى أن أمير المؤمنين المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت والله أن تقول: ومولاي فأنفض والله يدك. فتبسم أمير المؤمنين المهدي. ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب؛ زعم الليثي أنه كانت بين جعفر ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه، ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت عنه، وإن وجه إلي مولى مثل هذا - وأومأ إلى مولاه - مولى مثل هذا، عاضاً لما يكره، فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه الذي تبهى بمثله العرب. وقد قيل: الرجل من أبيه، والمولى من مواليه. وفي بعض الحديث أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله ﷺ تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه، فانتزعها منه رسول الله ﷺ، فقال: "يا أبا عبد الله، إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا". ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن، يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلة الرجال، نازع عمرو بن هداب المازني، وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو، فلما قلع من سطحه سافاً كف عنه، ثم قال يا عمرو! أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة. كان نافع بن جبير، أحد بني نوفل بن عبد مناف، إذا مر عليه بالجنازة سأل عنها، فإن قيل: قرشي قال: وا قوماه! وإن قيل: عربي قال: وا مادتاه! وإن قيل: مولى أو عجمي قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت! ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وزعم الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة? قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ واله رقابنا قبل ذلك. وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره، ولكن الحديث يجر بعضه بعضاً، ويحمل بعضه على لفظ بعض. ثم نعود إلى ما ابتدأناه إن شاء الله، وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ، والزهد في الدنيا المتصل بذلك، وبالله التوفيق. بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو العابس: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا، أنا نذكر فيه خطباً ومواعظ: فمما نذكره في ذلك أمر التعازي والمراثي؛ فإنه باب جامع، وقد قيل إنه لم يقل في شيء قط كما قيل في هذا الباب؛ لأن الناس لا ينفكون من المصائب، ومن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يعدم نفيساً كان هو المعدوم دون النفيس، وحق الإنسان الصبر على النوائب، واستشعار ما صدرناه، إذ كانت الدنيا دار فراق ودار بوار، لا استواء. وعلى فراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد، وإنما يفاضل الناس بصحة الفكر، وحسن العزاء، والرغبة في الآخرة، وجميل الذكر. من مراثي الآباء والإخوة والأبناء فقد قال أبو خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب، يذكر أخاه عروة بن مرة: تقول أراه بعد عروة لاهـياً وذلك رزء لو علمت جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده ولكن صبري يا أميم جميل وقال عمرو بن معدي كرب: كم من أخ لـي حـازم بوأته بـيدي لـحـدا أعرضت عن تذكـاره وخلقت يوم خلقت جلدا وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب فعاجز الرأي. وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك? قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه. وقال إبراهيم بن المهدي يذكر ابنه: وإني وإن قدمت قبلي لعالـم بأني وإن أبطأت عنك قريب وإن صباحاً نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة خبيب وكفى باليأس معزياً، وبانقطاع الطمع زاجراً كما قال الشاعر: أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حـيلة ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر تصبرت مغلوباً وإني لـمـوجـع كما صبر العطشان في البلد القفر وقال بعض المحدثين وليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث، يقوله لرجل رثاه قال أبو الحسن: وهو أبو تمام: عجبت لصبري بعده وهو ميت وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب وحدثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال عز وجل: "كل نفس ذائقة الموت" آل عمران 185، فليعلم ذوو النهي منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله مسألة فاحصة، قال عز وجل: "فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعلمون" الحجر: 92-93، وله يقول القائل: تعز أمير المؤمـنـين فـإنـه لما قد ترى يغذي الصغير ويولد هل ابنـك إلا مـن سـلالة آدم لكل على حوض المنية مـورد وقال رجل من قريش يرثي ابنه قال أبو الحسن: هو العتبي. بأبي وأمي من عبأت حنوطـه بيدي وودعني بماء شبـابـه كيف السلو وكيف صبري بعده وإذا دعيت فإنما أكنـى بـه! وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر: فإن يك حزن أو تجزع غـصة أماراً نجيعاً من دم الجوف منقعا تجرعته في عاصم واحتسـيتـه لأعظم منه ما احتس وتجرعـا وقال أبو سعيد إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبناها، وكان حدباً عليها كلفاً بها: أمست أميمة معموراً بها الرجم لقى صعيد عليها الترب مرتكم يا شقة النفس إن النفس والـهة حرى عليك ودمع العين منسجم قد كنت أخشى عليها أن تقدمني إلى الحمام فيبدي وجهها العدم فالآن نمت فلا هم يؤرقـنـي يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم للموت عند أياد لست أنكـرهـا أحيا سروراً وبي مما أتى ألـم وهذا المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح والحزن المفرط، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع، وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي، والركون إلى التعزي، وقول من كان له واعظ من نفسه، أو مذكر من ربه، ومن غلبت عليه الجساوة، وكان طبعه إلى القساوة، فقد اختلط كل بكل. وقال رجل من المحدثين يرثي أباه: تحل رزيات وتعرو مـصـائب ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر لقد عركتنا للـزمـان مـلـمة أذمت بمحمود الجلادة والصبر فهذا يحسن من قائله أن الرزء كان جليلاً بإجماع، فللقائل أن يتفسح في القول فيه. وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عبد الرحيم من جلة أهله لسناً ونعمة وسناً وولاية، ومات معزولاً عن اليمن في حبس الخليفة. وأم جعفر بن سليمان أم حسن بنت جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم. فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة: بموتك يا عبد الرحيم بن جعـفـر تفاحش صدع الدين عن ألأم الكسر فيا ابن النبي المصطفى وابن بنتـه ويا ابن علي والفواطم والحـبـر ويا ابن اختيار الـلـه مـن آل آدم أباً فأباً طهراً يؤدي إلى طـهـر ويا ابن سليمان الذي كان ملـجـأ لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر ومن ملأ الدنيا سـمـاحـاً ونـائلاً وروى حجيجاً بالملمعة القـفـر لعز بما قد نـالـنـا مـن رزيئة بموتك محبوساً على صاحب القبر فإن تضح في حبس الخليفة ثـاوياً أبياً لما يعطي الذليل على القشـر لكم من عدو للخلـيفة قـد هـوى بكفك أو أعطى المقادة عن صغر فوا حزناً! لو في الوغى كان موته بكينا عليه بالردينـية الـسـمـر وكنا وقيناه القـنـا بـنـحـورنـا وفات كذا في غير هيج ولا نفـر وحدثت أن عمر بن الخطاب لما ولى كعب بن سور الأزدي قضاء البصرة، أقام عاملاً له عليها إلى أن استشهد، على أنه كان قد عزله ثم رده، فلما قام عثمان بن عفان أقره، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له - قالوا ثلاثة، وقالوا أربعة - وفي عنقه مصحف، فقتلوا جميعاً، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت: يا عين جودي بدمع سـرب على فتية من خيار العرب وما لهم غير حين النـفـو س أي أميري قريش غلب! هذه الرواية سرب وقالوا معناه: جار في طريقه، من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمة يختار فيه الفتح: كأنه من كلى مفرية سرب لأنه اسم، والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت موضع المنعوت غير المخصوص. قال أبو الحسن: حق النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدل عليه فيكون خاصاً له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز؛ لأن طويلاً أعم من قولك: إنسان، فلا بدل عليه. فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد: جاءني متكلم جاز؛ لأنك تدل به على الإنسان، فهذا شرح قوله: المخصوص. وقولها: غير حين النفوس نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحاً. والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر والمتمثل به السائر. فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه: قال أبو الحسن: يقال إنه لأبي العتاهية: قلب يا قلب أوجعـك ما تعدى فضعضعـك يا أبي ضمك الثـرى وطوى الموت أجمعك ليتني يوم مـت صـر ت إلى حفرة معـك رحم الله مصـرعـك برد الله مضجـعـك وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة: نأى آخـر الأيام عـنـك حـبــيب فلـلـعـين سـح دائم وغــروب دعته نـوى لا يرتـجـي أوبة لـهـا فقلبـك مـسـلـوب وأنـت كـئيب يؤوب إلـى أوطـانـه كـل غـائب وأحمد فـي الـغـياب لـيس يؤوب تبـدل داراً غـير داري وجـــيرة سواي، وأحداث الـزمـان تـنـوب أقام بها مسـتـوطـنـاً غـير أنـه على طول أيام الـمـقـام غـريب كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى سقاه الندى فاهتـز وهـو رطـيب كأن لم يكن كـالـدر يلـمـع نـوره بأصدافه لـمـا تـشـنـه ثـقـوب كأن لم يكن زين الفناء ومعقـل الـن ساء إذا يوم يكـون عــصـــيب وريحان صدري كان حـين أشـمـه ومؤنس قصري كـان حـين أغـيب وكانت يدي ملأى به ثم أصـبـحـت بحمد إلهي وهـي مـنـه سـلـيب قليلاً مـن الأيام لـم يرو نـاظـري بها منه حتى أغلـقـتـه شـعـوب كظل سحاب لـم يقـم غـير سـاعة إلى أن أطاحته فـطـاح جـنـوب أو الشمس لما من غمام تـحـسـرت مساء وقـد ولـت وحـان غـروب سأبكيك ما أبقت دموعـي والـبـكـا بعـينـي مـاء يا بـنـي يجــيب وما غار نجم أو تغـنـت حـمـامة أو اخضر في فرع الأراك قضـيب حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ثويت وفي قلبي عليك نـدوب وأضمر إن أنفدت دمعي لـوعة عليك لها تحت الضلوع وجيب دعوت أطباء العراق فلم يصب دواءك منهم في البلاد طبـيب ولم يملك الآسون دفعأً لمهـجة عليها لأشراك المنـون رقـيب قصمت جناحي بعد ما هد منكبي أخوك، فرأسي قد علاه مشيب فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة تذاب بنار الحزن فهي تـذوب توليتما في حقبة فتـركـتـمـا صدى يتولـى تـارة ويثـوب فلا مـيت إلا دون رزئك رزؤه ولو فتتت حزناً عليه قـلـوب وإني وإن قدمت قبلي لـعـالـم بأني وإن أبطأت منـك قـريب وإن صباحاً نلتقي في مـسـائه صباح إلى قلبي الغداة حبـيب وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتتابع له بنون: كل لساني عن وصف ما أجـد وذقت ثكـلا مـا ذاقـه أحـد وأوطنت حرقة حشـاي فـقـد ذاب عليها الفـؤاد والـكـبـد ما عالج الحزن والحرارة في ال أحشاء من لم يمـت لـه ولـد فجعت باثنين ليس بـينـهـمـا إلا ليال لـيسـت لـهـا عـدد فكل حزن يبلى على قـدم الـد هر وحـزنـي يجـده الأبـد وذكر بعض الرواة أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى علي، واستخلف على اليمن عمرو بن أركة الثقفي، فوجه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن أرطاة، أحد بني عامر ابن لؤي، فقتل عمرو بن أراكة، فجزع عليه عبد الله أخوه جزعاً شديداً، فقال أبوه: لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الـشـؤون بـأسـره ولو كنت تمهرين من ثبج البحـر لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجـر وقلت لعبد الـلـه إذ حـن بـاكـياً تعز، وماء العين منهمـر يجـري تبين فإن كان البكار رد هـالـكـا على أهله فاشدد بكابك على عمرو ولاتبك ميتاً بـعـد مـيت أجـنـه علي وعبـاس وآل أبـي بـكـر قوله: من ثبج البحر فثبج كل شيء وسطه، ويروى في الحديث: كنت إذا ُفاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن هو مثل، يقال: "مريت الناقة" إذا مسحت ضرعها لتدر، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: "مريت برجلي الأرض"، إذا مسحتها، والأصل ذلك، فإنما أراد: ولو كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر. وكان بسر بن أرطاة ي تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب، هما، طفلان أمهما من بني الحارث بن كعب، فوارتهما الحارثية، فيقال إنه أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثية: ألا من بين الأخـوي ن أمهما هي الثكلى تسائل من رأى ابنيها وتستبغي فما تبغى وفي ذلك تقول أيضاً: يا من أحسن بنـيي الـلـذين هـمـا كالدرتين تشظى عنهمـا الـصـدف يا من أحس بـنـيي الـلـذين هـمـا سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف يا من أحس بـنـيي الـلـذين هـمـا مخ العظام فمخي الـيوم مـزدهـف نبئت بسراً، وما صدقت ما زعـمـوا من قولهم ومن الإفك الذي اقتـرفـوا أنحى على ودجي طفلـي مـرهـفة مشحوذة، وعظـيم الإفـك يقـتـرف من دل والـهة حـرى مـفـجــعة على صبيين غابا إذ مضى السـلـف ويرى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل: إذا سار من خلف امرئ وأمامه وأوحش من أصحابه فهو سائر فلما أتاه موت زياد تمثل: وأفردت سهماً في الكنانة واحـداً سيرمي به أو يكسر السهم كاسر وماتت امرأة للفرزدق بِجُمع ومعنى جمع ولدها في بطنها وإن شئت قلت: جِمعٌ يا فتى، فقال الفرزدق: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه ولم أبعث عليه البواكـيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أنسأته لـيالـيا! وهذا من البغي في الحكم والتقدم. وقال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله بن طاهر أصيبا في يوم واحد وهما طفلان شبيهاً بهذا، ولكنه اعتذر فحسن قوله وصح معناه باعتذاره، وهو الطائي: لهفي على تلك الشواهد فيهما لو أمهلت حتى تكون شمائلا إن الهلال إذا رأيت نـمـوه أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً للفرزدق يرثي حدراء الشيبانية وقال الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية: يقول ابن صفوان بكيت ولم تكـن على امرأة عيني إخال لتدمـعـا يقولون زر حدراء، والترب دونها وكيف بشيء عهده قد تقطـعـا ولست وإن عزت علـي بـزائر تراباً على مرموسة قد تضعضعا وأهون مفقود إذا الموت نـالـه على المرء من أصحابه من تقنعا وما مات عند ابن المراغة مثلهـا ولا تبعته ظـاعـنـاً يوم ودعـا لجرير يرثي امرأته وقال جرير يرثي امرأته: لولا الحياء لهاجني استعبـار ولزرت قبرك والحبيب يزار نعم الخيل وكنت علق مضنة ولدي منك سكـينة ووقـار لن يلبث القرناء أن يتفرقـوا ليل يكر علـيهـم ونـهـار صلى الملائكة الذين تخـيروا والصالحون عليك والأبـرار أفأم حزرة يا فرزدق عبتـم غضب المليك عليكم الجبار لرجل من خزاعة يرثي عمر بن عبد العزيز وقال رجل من خزاعة - وينحله كثير - يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان: قال أبو الحسن: الشعر لقطرب النحوي؛ وهو الذي صح عنه: أما القبور فإنهـن أوانـس بجوار قبرك والديار قبور جلت رزيئته فعم مصابـه فالناس فيه كلهم مأجـور والناس مأتمهم عليه واحـد في كل دار رنة وزفـير ردت صنائعه إليه حياتـه فكأنه من نشرها منشـور يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثنـاء جـدير ومثله قول عمارة يمدح خالد بن يزيد بن مزيد: أرى الناس طراً حامدين لـخـالـد وما كلهم أفضت إليه صـنـائعـه ولن يترك الأقوام أن يمدحوا الفتـى إذا كرمت أخلاقـه وطـبـائعـه فتى أمعنت ضـراؤه فـي عـدوه وخصت وعمت في الصديق منافعه ومن قوله: والناس مأتمهم عليه واحد أخذ الطائي في مرثيته: لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده لعهدي به حياً يحب به الدهر لئن عظمت فيه مصيبة طـيئ لما عريت منها تميم ولا بكر وقال القرشي: قد كنت أبكي على من سلفي=وأهل ودي جميع غير أشتات فاليوم إذ فرقت بيني وبينـهـم نوى بكيت على أهل المروءات وما بقاء امرئ كانت مدامعـه مقسومة بين أحياء وأمـوات! ما تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمة ويروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة رحمها الله: الكل اجتماع من خليلين فرقة وإن الذي دون الفراق قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خـلـيل لعقيل بن علفة يرثي ابنه وقال عقيل بن علفة المري، من غطفان: لعمري لقد جاءت قوافل خبرت بأمر من الدنيا علـي ثـقـيل وقالوا ألا تبكي لمصرع هالـك أصاب سبيل الله خير سبـيل! كأن المنايا تبتغي في خـيارنـا لها ترة أو تهـتـدي بـدلـيل لتأت المنايا حيث شاءت فإنهـا محللة بعد الفتى ابن عـقـيل فتى كان مولاه يحل بنـجـوة فحل الموالي بعده بـمـسـيل ما تمثلت به عائشة على قبر أخيها وتمثلت عائشة رحمها الله عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمم بن نويرة: وكنا كندمانـي جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلـنـا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومـالـكـاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ومات صديق لسلميان بن عبد الملك، يقال له شراحيل، فتمثل عند قبره: وهون وجدي عن شراحيل أننـي إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه لأعرابي وقال أعرابي: ألا لهف الأزامل واليتامـى ولهف الباكيات على قصي! لعمرك ما خشيت على قصي متالف بين حجر والسـلـي ولكني خشيت على قـصـي جريرة رمحه في كل حـي فتى الفتيان محلول مـمـر وأمـار بـإرشـاد وغـي فهذا من أجفى أشعار العرب، ينبئ صاحبه أن تقديره في المرثي أن تكن منيته قتلاً، ويتأسف من موته حتف أنفه، ويقول في مدحه: وأمار بإرشاد وغي خبر عامر بن الطفيل وأربد أخي لبيد وشبيه بهذا قول لبيد في أخيه أربد، لما أصابته الصاعقة وأصابت عامراً الغدة بدعوة رسول الله ﷺ، وكان عامر قد قدم إلى رسول الله ﷺ ومعه أربد، فقال لأربد: أنا أشغله لك واضربه أنت بالسيف من ورائه، فدعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام على أن يجعل له أعنة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم! ولكن إن شئت ذلك المدر ولي الوبر، أو لي المدر ولك الوبر. فأعرض عنه رسول الله ﷺ، فقال: فاجعل لي هذا الأمر بعدك، فأعلمه النبي أن ذلك ليس بكائن، قال: فأبشر بخيل أولها عندك وآخرها عندي، فقال رسول الله ﷺ: "يأبى الله ذلك وابنا قيلة" يعني الأوس والخزرج. ويروى أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، علام يسحب هذا الأعرابي لسانه عليك! دعني أقتله. ويروى أن عامراً قال للنبي عليه السلام: لأغزونك على ألف أشقر وألف شقراء، فلما قال: قال رسول الله ﷺ: "اللهم اكفنيهما". وتروي قيس أنه قال: "اللهم إن لم تهد عامراً فاكفنيه". وقال عامر لأربد: قد شغلته عنك مراراً فألا ضربته! قال: أربد: أردت ذلك مرتين فاعترض لي في إحداهما حائط من حديد، ثم رأيتك الثانية بيني وبينه، أفأقتلك! فلم يصل واحد منهما إلى منزله، أما عامر فغد في ديار بني سلول بن صعصة، فجعل يقول: أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية! وأما أربد فارتفعت له سحابة فرمته بصاعقة فأحرقته، وكان أخا لبيد لأمه، فقال يرثيه: أحشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسـد ما إن تعري المنون من أحـد لا والد مـشـفـق ولا ولـد فجعني الرعد والصواعق بالق ارس يوم الكريهة الـنـجـد يا عين هلا بكـيت أربـد إذ قمنا وقام العدو فـي كـبـد وقال أيضاً: ذهب الذين يعاش في أكنافهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثـون مـخـانة ومـلاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشغـب يا أربد الخير الكـريم جـدوده غادرتني أمشي بقرن أعضب إن الرزيئة لا رزيئة مثلـهـا فقدان كل أخ كضوء الكوكب قوله: في خلف يقال: هو خلف فلان لمن يخلفه من رهطه، وهؤلاء خلف فلان؛ إذا قاموا مقامه من غير أهله، وقلما يستعمل خلف إلا في الشر، وأصله ما ذكرنا. والمخانة: مصدر من الخيانة. والملوذ: الذي لا يصدق في مودته، يقال: رجل ملوذ وملذان، وملاذة مصدره. والأعضب: المقطوع. وفي الحديث: لا يضحى بعضباء. ويروى أن رجلاً قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما من الله به من بقائك، لكنا كما قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجر فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس؛ هلا قلت كما قال نهار بن توسعة: قلدته عرى الأمـور نـزار قبل أن تهلك السراة البحور ثم نرجع إلى ذكر المراثي: لأعرابي وقال أعرابي: لعمري لقـد نـادى بـأرفـع صـوتـه نعـي حـيي أن سـيدكــم هـــوى أجل صادقاً والقـائل الـفـاعـل الـذي إذا قال قولاً أنبط المـاء فـي الـثـرى فتى قبل لم تعـنـس الـسـن وجـهـه سوى وضح في الرأس كالبرق في الدجى أشارت له الحرب العوان فجاءها يقعقع بالأقراب أول مـن أتـى ولم يجنها لكن جـنـاهـا ولـيه فآس وآداه فكان كمـن جـنـى صدار الخنساء ويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الخنساء وعليها صدر من شعر، فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى رسول الله ﷺ عنه! فقالت: زوجي رجلاً متلافاً فأخفق، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخراً فأسأله. فأتيته فشاطرني ماله، فأتلفه زوجي، فعدت له فعاد لي بمثل ذلك، فأتلفه زوجي، فعدت له. فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالت له امرأة: إن هذا المال متلف، فامنحها شرارها، فقال صخر: والله لاأمنحهـا شـرارهـا ولو هلكت خرقت خمارها واتخذت من شعر صدارها فلما هلك اتخذت هذا الصدار؛ وكان صخر أخا الخنساء لأبيها فقط. ويروى عن بعض نساء بني سليم أنها نظرت إليها في صدر وهي تصنع طيباً لابنتها لتنقلها إلى زوجها، فقاولتها في شيء كرهته الخنساء، فقالت لها: اسكتني، فوالله لقد كنت أبسط منك عرفاً، وأطيب منك ورساً، وأحسن منك عرساً، وأرق منك نعلاً، وأكرم منك بعلاً. وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء! فقال: تلك كان لها أربع حصى. لبعض القرشيين يرثي أخاه وقال القرشي وتتابعه له بنون: أسكان بطن الأرض لو يقبل الفـدا فديتم وأعطينا بكم ساكني الظهـر فيا ليت من فيها عليها وليت مـن عليها ثوى فيها مقيماً إلى الحشـر فماتوا كأن لم يعرف الموت غيرهم فثكل على ثكل وقبر على قـبـر قد شمت الأعداء بـي وتـغـيرت عيون أراها بعد موت أبي عمرو تجري علي الدهر لما فـقـدتـه ولو كان حياً لاجترأت على الدهر وقاسمني دهري بني مـشـاطـراً فلما توفى شطره مال في شطري لآخر يرثي أبناءه أيضاً وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: قدم رجل من البادية، فلما صار بجبل سنام مات له بنون، فدفنهم هناك، وقال: دفنت الدافعين الضيم عني برابية مجاورة سنـامـا أقول إذا ذكرت العهد منهم بنفسي تلك أصداء وهاما فلم أر مثلهم ماتوا جميعـاً ولم أر مثل هذا العام عاما قال أبو الحسن الأخفش: وفيها عن غير أبي العباس: فليت حمامهم إذ فارقوني تلقانا فكان لنا حمـامـا للحارث بن عبد الله الباهلي يرثي أبناءه قال أبو العباس: ويورى أن رجلاً كان له بنون سبعة - يروي ذلك أبو الحسن المدائني - قال أبو العباس: فاختلف علي فيهم، فقال قوم: كانوا تحت حائط، وقال قوم آخرون: بل حلب لهم في علبة فمج فيها أفعى فبعث بها إليهم فشربوها فماتوا جميعاً. والرجل يقال له الحارث بن عبد الله الباهلي، وهلكت لجار له شاة فجعل يعلن بالبكاء علهيا، فقال قائل: يا أيها الباكي على شاتـه يبكي جهاراً غير إسرار إن الرزيئات وأمثالـهـا ما بقي الحارث في الدار دعا بني معن وإخوانهـم فكلهم يعدو بمـحـفـار قال أبو العباس: والمصائب، ما عظم منها وما صغر، تقع على ضربين؛ فالحزم التسلي عما لا يغني فيه، والاحتيال لدفع ما يدفع بالحيلة. ومن أحسن القول في هذا المعنى في الإسلام، قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حين مات ابنه فلم ير منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره. وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل. والعرب تقول: الحذر أشد من الوقيعة. وقال رجل من الحكماء: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضا والتسليم. ومن هذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه. يقال: لهيت عن الأمر ألهى؛ إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو، من اللعب. الأوس بن حجر يرثي فضالة بن شريك ومن أقدم ما قيل في هذا المعنى قول أوس بن حجر الأسيدي، من بني أسيد بن عمرو بن تميم، يرثي فضالة بن كلدة، أحد بني أسد بن خزيمة: أيتها النفس أجملي جـزعـا إن الذي تحذرين قد وقعـا إن الذي جمع السماحة وال نجدة والحزم والقوى جمعا أودى فما تنفع الإشاحة مـن شيء لمن قد يحاول البدعا الألمعي الذي يظن بك الـظ ن كأن قد رأى وقد سمعـا المخلف المتلف المرزأ لـم يمتع بضعف ولم يمت طبعا والحافظ الناس في تحوط إذا لم يرسلوا خلف عاتئذ ربعا وعزت الشمأل الرياح وقـد أمس كميع الفتاة ملتفـعـا وشبه الهيدب العبام مـن ال أقوام سقباً ملبسـاً فـرعـا وكانت الكاعب الممنـعة ال حسناء في زاد أهلها سبعـا ليبكك الشرب والمدامة وال فتيان طراً وطامع طمعـا وذات هدم عار نواشـرهـا تصمت بالماء تولباً جدعـا وفيها زيادة. لكنا اخترنا. قوله: الألمعي: الحديد اللسان والقلب، وقد أبانه بقوله: الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا. وقوله المخلف المتلف أراد أنه يتلف ماله كرماً ويخلفه نجدة، كما قال: ناقته ترقل في النقال متلف مال ومفيد مال وقال آخر: فاتلف ذاك متلاف كسوب والمرزأ: الذي تناله الرزيئات في ماله لما يعطي ويسأل. والإمتاع: الإقامة، فيقول: لم يقم وهو ضعيف. والطبع: أسوأ الطمع، وأصله أن القلب يعتاد الخلة الدنيئة فتركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه، وهذا مثل وأصله في السيف وما أشبه، يقال: طبع السيف، إذا ركبه صدأ يستر حديده و"طبع الله على قلوبهم" النحل 108 من ذا. وتحوط وقحوط: اسمان للسنة الجدبة، كما يقال: حجرة وكحل. وقوله: لم يرسلوا خلف عائذ ربعا فالعائذ الحديثة النتاج، والربع: الذي ينتج في الربيع، ومن شأنهم في سنة الجدب أن ينحروا الفصال، لئلا ترضع فتضر بالأمهات. وقوله: وعزت الشمأل الرياح يقول: غلبتها، وتلك علامة الجدب وذهاب الأمطار، ومن ذلك قولهم: من عز بز أي من غلب استلب، وفي القرآن: "وعزني في الخطاب" ص:33، أي غلبني في المخاطبة. وقوله: وقد أمسى كميع الفتاة فالكميع الضجيع، وهو الكمع، قال الشاعر: ومشحوذ الغرار يبيت كمعي يعني السيف، أي يبيت مضاجعي. ملتفعاً، يقال: تلفع في مطرفه وفي كسائه، إذا تلفف وتزمل فيه، فيقول: من شدة الصر يلتفع به دون ضجيعه. والكاعب: التي كعب ثديها، يقول: تصير كالسبع في زاد أهلها بعد أن كانت تعاف طيب الطعام. وقوله: وذات هدم، يعني امرأة ضعيفة، والهدم: الكساء الخلق الرث. وقوله: عار نواشرها، النواشر: عروق الساعد. والتولب: الصغير. والجدع: السيئ الغذاء، وهو الجحن والقتين. لأعرابي وقال أعرابي: خليلي عوجا بارك الله فيكمـا على قبر أهبان سقته الرواعد فذاك الفتى كل الفتى كان بينه وبين المزجى نفنف متباعـد إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن عيياً ولا عبئاً على من يقاعـد لليلى الأخيلية في رثاء توبة وقالت ليلى الأخيلية: دعا قابضاً والمرهفات ينشنه فقبحت مدعواً ولبيك داعيا! فليت عبيد الله كان مكانه=صريعأً ولم أسمع لتوبة ناعيا وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حمير العقيلي ثم الخفاجي، غزا فغنم، ثم انصترف فعرس في طريقه فأمن فقال، فندت فرسه، فأحاط به عدوه، ومعه عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما، فذبب عبيد الله شئياً وانهزما وقتل توبة، ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية: أعيني ألا فابكي على ابن حـمـير بدمع كفيض الجدول المتـفـجـر لتبك عليه من خـفـاجة نـسـوة بماء شؤون العبرة الـمـتـحـدر سمعن بهيجا أزحفت فـذكـرنـه وقد يبعث الأحزان طول التذكـر كأن فتى الفتـيان تـوبة لـم ينـخ بنجد ولم يطلع مع الـمـتـغـور ولم يرد المـاء الـسـادام إذا بـدا سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر ولم يقدع الخصم الألـد ويمـلإ ال جفان سديفاً يوم نكباء صـرصـر ألا رب مكروب أجبـت وخـائف أجرت ومعروف لديك ومنـكـر

فيا توب للمولى ويا توب للندى ويا توب للمستنبح المتـنـور قولها: لتبك عليه من خفاجة نسوة تعني، خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والهيجاء تمد وتقصر، وقد مر هذا. وقولها: بنجد ولم يطلع مع المتغور فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض، ويقال: ماء سدام ومياه سدم، وهي القديمة المندفقة، قال الشاعر: وعلمي بأسدام المياه فلـم تـزل قلائص تحدى في طريق طلائح وسنا الصبح: ضوؤه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت. والأخضر: الذي ذكرت: الليل، والعرب تسمي الأسود أخضر، وقولها: ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام. والسديف: شقق السنام. والنكباء: الريح بين الريحين الشديدة الهبوب. والصرصر: الشديدة الصوت. والمستنبح: الذي يسري فلا يعرف مقصداً فينبح لتجيبه الكلاب فيقصدها. والمتنور: الذي يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعير جريراً. قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار فيقال إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم؛ منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة. وقال آخر: وإني لأطوي البطن من دون ملئه=لمختبط في آخر الليل نابح وإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء وهو الجسم صـالـح وقالت ليلى الأخيلية: نظرت وركن من بـوانة دونـنـا وأركان حسمى أي نظرة ناظـر! إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيرة لعاقرها فيها عـقـيرة عـاقـر كأن فتى الفتـيان تـوبة لـم ينـخ قلائص يفحصن الحصى بالكراكر ولم يبن أبراداً رقـاقـاً لـفـتـية كرام ويرحل قبل فيء الهواجـر فتى لا تخطاه الـرفـاق ولا يرى لقدر عيالاً دون جـار مـجـاور وكنت إذا مولاك خـاف ظـلامة دعاك ولم يقنع سواك بـنـاصـر قولها: أي نظرة ناظر؛ يصلح فيه الرفع، والنصب على قوله: نظرت أي وتأويله مررت برجل كامل، فأيما في موضع كامل، وتقول: مررت بزيد أيما مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة ناظر فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة هي! كما تقول: سبحان الله، أي رجل زيد! وهذا البيت ينشد على وجهين: فأومأت إيماء خفيا لحبتر وللله عينا حبتر أيما فتى وأيما إن شئت على ما فسرنا. وقولها: إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيره شأوها: طلقهتا: وقولها: لعاقرها فيها عقيرة عاقر أي قد أصابوا عقيرة نفيسة؛ كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون. وهذا نظير قوله: ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر أصابوا به وتراً ينيم ذوي الوتـر يقال: ثأر منيم، إذا أصابه المثئر هدأ واستقر، لأنه أصاب كفؤاً، وهذا خلاف قول الآخر: قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا للؤم أحسابهم أن يقتلوا قـودا وخلاف قول الحارث بن عباد: لا بجير أغنى قتـيلاً ولا ره ط كليب تزاجروا عن ضلال ولكن كما قال دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لـداتـه ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي، من بني تيم اللات بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النابي بن زياد: أن عبيد الله ما دام سـالـمـاً لسار على رغم العدو وغادي ونحن قتلنا ابن الزبير ورأسه حززنا برأس النابي بن زياد كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيات: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطـلـب ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم، فلا علة فيه ولا ضرورة. قال الأخفش: المعروف فيه الهمز، والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبو، فصار مثل رام وقاض وما أشبههما. وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله: فإن تقتلوا منا كريماً فـإنـنـا قتلنا أمير المؤمنين بخـالـد وإن تشغلونا عن ندانا فإنـنـا شغلنا وليداً عن بناء الـولائد تركنا أمير المؤمنين بخـالـد مكباً على خيشومه غير ساجد وقال الخزاعي بعد: قتلنا بالفتى القسري منهم=وليدهم أمير المؤمنينا ومرواناً قتلنـا عـن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا وبابن السمط منا قد قتلنـا محمداً بن هارون الأمينا فمن يك قتله سوقاً فـإنـا جعلنا مقتل الخلفاء دينـا وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر تريد أنه متيقظ ظعان والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامة يحتمل ضروباً، فالمولى ابن العم، وقوله عز وجل: "وإني خفت الموالي من ورآءي" مريم 5؛ يريد بني العم؛ قال الفضل بن العباس: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا ويكون المولى المعتق؛ ويكون المولى من قوله جل ثناؤه: "وأن الكافرين لا مولى لهم" محمد11. ويكون المولى الذي هو أحق وأولى منه قوله: "مأواكم النار هي مولاكم" الحديد15، أي أولى بكم. والمولى: المالك. وقولها: ولم يبن أبراداً تريد الخيام. قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: "أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين" الزخرف18. وقال النبي ﷺ: "إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك إن ترد إقامتها، تكسرها، فدارها تعش بها". فممن ندر من النساء في باب من الأبواب: أم أيوب الأنصارية، أم الدرداء، ورابعة القيسية ومعاذة العدوية، فإن هؤلاء النسوة تقدمن في الفضل والصلاح، على تقدم بعضهن بعضاً. حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفاً من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها. وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ربطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع. من مراثي الخنساء فمما ندر من شعر الخنساء قولها ترثي صخراً: يا صخر وراد ماء قد تـنـاذره أهل المياه وما في ورده عـار مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة له سلاحان: أنياب وأظـفـار وما عجول على بو تحـن لـه لها حنينان: إغـلان وإسـرار ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت فإنمـا هـي إقـبـال وإدبـار يوماً بأوجع مني يوم فارقـنـي صخر، وللعيش إخلاء وإمرار وإن صخراً لوالـينـا وسـيدنـا وإن صخراً إذا نشتو لنـحـار وإن صخراً لتأتم الـهـداة بـه كأنه علـم فـي رأسـه نـار لم تره جارة يمشي بساحتـهـا لريبة حين يخلي بيته الـجـار قولها: يا صخر وراد ماء قد تنـاذره أهل المياه وما في ورده عار تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب. والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر، وأصله في النمر. والعجول: التي فارقها ولدها. والبو، قد مضى تفسيره، وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو. وقولها: إلى هيجاء معضلة تعني الحرب. وقولها: بأنه علم في رأسه نار فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: "وله الجوار المنشئآت في البحر كالأعلام" الرحمن 24، وقال جرير. إذا قطعن علماً بدا علم ومن حسن شعرها قولها: أعيني جوداً ولا تجمـدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجميل=ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع الـعـمـا د ساد عـشـيرتـه أمـردا إذا القـوم مـدوا بـأيديهـم إلى المـجـد مـد إلـيه يدا فنـال الـذي فـوق أيديهـم من المجد ثم مضى مصعدا يكلفه القوم مـا عـالـهـم وإن كان أصغرهم مـولـدا ترى الحمد يهوي إلى بـيتـه يرى أفضل الكسب أن يحمدا


قولها: طويل النجاد، النجاد: حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته، وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير: فإني لأرضي عبد شمس وما قضـت وأرضى الطوال البيض من آل هاشم وقال مروان لأمير المؤمنين المهدي: قصرت حمائله عليه فقلصت ولقد تألق قينها فأطالـهـا وقال رجل من طيئ: جدير أني يقل السيف حتى ينوس إذا تمطى فقي النجاد وقال الكمي أبو نواس: سبط البنان إذا احتبى بنجاده غمر الجماجم والسماط قيام وقال عنترة: بطل كأن ثيابه في سـرحة يحذي نعال السبت ليس بتوأم وقولها: رفيع العماد إنما تريد ذاك، يقال: رجل معمد، أي طويل، ومنه قوله عز وجل: "إرم ذات العماد" الفجر 7، أي الطوال. وقولها: ما عالهم أي ما نابهم ونزل بهم، تقول العرب: ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثير: يا عين بكي للذي عالني منك بدمع مسبل هامل ومن جيد قولها: أبعد ابن عهمرو من آل الشري د حلت به الأرض أثقالـهـا لعمر أبيه لنـعـم الـفـتـى إذا النفس أعجبها مـا لـهـا فإن تـك مـرة أودت بــه فقد كان يكثر تـقـتـالـهـا فخر الشوامـخ مـن فـقـده وزلزلت الأرض زلزالـهـا هممت بنفسي كل الـهـمـوم فأولى لنفسي أولـى لـهـا! لأحمل نفـسـي عـلـى آلة فإما علـيهـا وإمـا لـهـا قولها: حلت به الأرض أثقالها حلت من الحلي، تقول: زينت به الأرض الموتى. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: "وأخرجت الأرض أثقالها" الزلزلة 2، قالوا الموتى. وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها؛ تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد. والشوامخ: الجبال، والشامخ: العالي، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه. وقولها: على آلة أي على حالة وعلى خطة، هي الفصيل، فإما ظفرت وإما هلكت. وقولها: فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له! وإذا أفلت من عظيمة قال: أولى لي! ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات ميت في جواره أو في داره: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسراً. وأنشد لرجل يقتنص، فإذا أفلته الصيد، قال: أولى لك! فكثر ذلك منه فقال: فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ولكن أولى يترك القوم جوعـا وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو - وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها بعيداً، وكان صخر يستحق ذلك منها بأمور: منها أنه كان موصوفاً بالحلم، ومشهوراً بالجود، ومعروفاً بالتقدم في الشجاعة، ومحظوظاً في العشيرة -: أريقي من دموعك واستفيقـي وصبراً إن أطقت، ولن تطيقي وقولي إن خير بنـي سـلـيم وفارسها بصحراء العـقـيق ألا هل ترجعن لنا الـلـيالـي وأيام لنا بلـوى الـشـقـيق وإذ نن الـفـوارس كـل يوم إذا حضروا وفتيان الحقـوق وإذ فينا معاوية بـن عـمـرو على أدماء كالجمل الفـنـيق فبكـيه فـقـد أودى حـمـيداً أمين الرأي محمود الصـديق فلا واله لا تسلاك نـفـسـي لفاحشة أتـيت ولا عـقـوق ولكني رأيت الصـبـر خـيراً من النعلين والرأس الحـلـيق قولها: أريقي من دموعك واستفيقي معناه أن الدمعة تذهب الوعة. ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب، لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله ﷺ على ابنه إبراهيم، وقال "العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا يا إبراهيم لمحزونون" فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التراب، وقال: يا غلام، دابتي، ثم التفت إلى قبره، فقال: وقفت على قبر مقيم بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق رجعنا إلى تفسير قولها: وقولها: وصبراً إن أطقت ولن تطيقي كقول القائل: إن قدرت على هذا فافعل، ثم أبانت عن نفسها فقالت: ولن تطيقي. وقولها: فلا والله لا تسلاك نفسي تريد: لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر، فقالت: ولكني رأيت الصبر خـيراً من النعلين والرأس الحليق تأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفق بهما وجهها وصدرها. قال عبد مناف بن ربع الهذلي: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهمـا لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبـاً من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا إذا تأوب نوح قامـتـا مـعـه ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلـدا قوله: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما يعني أختيه، يقول: ماذا يرد عليهما العويل والسهر! وقوله: كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً أراد لترديد النائحة صوتاً كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، ومقنعة، أراد: وصوت مقنعة، يعني ناقة، ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه. وقال عنترة: بركت على ماء الرداع كأنـمـا بركت على قصب أجش مهضم قال الأصمعي: نرمناي. وقوله: لا رطباً ولا نقداً يقول: ليس برطب لا يبين فيه الصوت ولا بمؤتكل، يقال: نقدت السن، إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن، قال الشاعر: يألم قرناً أرومه نقد وقوله: بسبت يعني النعل المنجردة. ويلعج: يؤثر، واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع آخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل شيء ساكن. وأما قول الفرزدق: خلعن حليهن فهن عطل وبعن به المقابلة التؤاما يعني اشترين النعال، فليس هذا من هذا الباب، وإنما سبين فاشترين نعالاً للخدمة. وكذلك قوله: أجذن حريرات وأبدين مجلـداً ودارت عليهن المنقشة الصفر يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح. وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله. وكان معاوية فارساً شجاعاً، فأغار في جمع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خليهم فنذر به القوم فاحتربوا، فلم يزل يطعن فيهم ويضرب، فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة: دريد، وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الآخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم: قتل معاوية! فقال خفاف بن ندبة: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به! فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة، فطعنه فقتله، وقال: فإن تك خليلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت مالكـا وقفت له علوي وقد خام صحبتي لأبني مجداً أو لأثأر هـالـكـا أقول له والرمح يأطر مـتـنـه تأمل خفافاً إننـي أنـا ذلـكـا فلما دخلت الأشهر الحرم ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي? فقال أحد ابني حرملة للآخر: خبره. فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك، أما إنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه السمى? قالوا: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها، فقيل لصخر: ألا تهجوهم? قال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظن به عي فقال: وعاذلة هبت بليل تـلـومـنـي ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا تقول ألا تهجو فوارس هـاشـم ومالي إذ أهجوهم ثم مـالـيا! أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي وأن ليس إهداء الخنا من شماليا إذا ما امرؤ أهدى لميت تحـية فحياك رب الناس عني معـاويا وهون وجدي أنني لم أقـل لـه كذبت، ولم أبخل عليه بمـالـيا قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريداً زاد فيها: وذي رحم قطعت أرحام بينهم كما تركوني واحداً لا أخا ليا قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله: معاويا: لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بـزه إذا راح فحل الشول أجدب عاريا قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خليه بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السمى، فقيل: كلا! السمى غراءء، وهذه بهيمة، وكان قد حمم غرتهم، فأصاب فيهم، وقتل دريد بن حرملة. وأما هاشم، فإن قيس بن الأسوار الجشمي - من بني جشم بن بكر بن هوازن بن خصفة بن منصور، والخنساء من بني سليم بن منصور - لقيهم منصرفين؛ كل واحد منهم من وجهه، فرآه، وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم، فأرسل عليه سهماً ففلق قحقحه فقتله، فقالت الخنساء: فدى للفارس الجشمي نفسي وأفديه بمن لي من حمـيم فداك الحي حي بني سلـيم بظاعنهم وبالأنس المقـيم كما من هاشم أقررت عيني وكانت لا تنام ولا تـنـيم فأما صخر فسندرك مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخنساء: ألا يا صخر إن أبكيت عينـي لقد أضحكتني دهراً طـويلا بكيتك في نسـاء مـعـولات وكنت أق من أبدى العـويلا دفعت بك الجليل وأنت حـي فمن ذا يدفع الخطب الجليلا! إذا قبح البكاء علـى قـتـيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقالت أيضاً: تعرفني الدهر نهـسـاً وحـزا وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا وأفنى رجالي فبـادوا مـعـاً فأصبح قلبي بهم مسـتـفـزا كأن لم يكونوا حمـى يتـقـى إذ الناس إذ ذاك من عز بـزا وكانوا سراة بـنـي مـالـك فخر العشيرة مجـداً وعـزا وهم في القـديم سـراة الأدي م والكائنون من الخوف حرزا وهم منعوا جارهم والـنـسـا ء يحفز أحشاءها الخوف حفزا عداة لـقـوهـم بـمـلـومة رداح تغادر للأرض ركـزا وخيل تكـدس بـالـدارعـي ن تحت العجاجة يجمزن جمزا ببيض الصفاح وسمر الرمـاح فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا جزرنا نواصي فـرسـانـهـم وكانوا يظـنـون ألا تـجـزا ومن ظن ممن يلاقي الحروب بألا يصاب فقد ظن عـجـزا نعف ونعرف حـق الـقـرى ونتخذ الحمد ذخـراً وكـنـزا ونلبس طوراً ثـياب الـوغـى وطوراً بياضاً وعصباً وخـزا وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحاب صخر عنه. وطعن طعنة في جنبه استقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها، فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم? فقالت: لا ميت فينعى، ولا صحيح فيرجى! فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليه، فقال: أرى أم صخر ما تجف دموعها وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنارة عليك، ومن يغتر بالحـدثـان! أهم بأمر الحزم لو أستطـيعـه وقد حيل بين العير والنـزوان لعمري لقد أنبهت من كان نائماً وأسمعت من كانت لـه أذنـان فأي امرئ ساوى بأم حليلة=فلا عاش إلا في شقي وهوان ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال: أيا جارتا إن الخطـوب قـريب من الناس، كل المخطئين تصيب أيا جارتا إنا غريبان هـا هـنـا وكل غريب للغريب نـسـيب كأني وقد أدنوا إلي شفـارهـم من الأدم مصقول السراة نكيب مرثية ابن مناذر لعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي قال أبو العباس: ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر، فإنه كان رجلاً عالماً مقدماً وشاعراً مفلقاً، وخطيباً مصقعاً، وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته ولا يزال، وقد رمى في شعره بالمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المتسق النبيل، وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي ما اخترنا من نحو ما وصفنا. قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي - وكان به صباً، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة، وكان من أجمل الفتيان وآدبهم وأظرفهم، فذلك حيث يقول ابن مناذر: حين تـمـت آدابـه وتــردى برداء مـن الـشـبـاب جـديد وسقاه ماء الشـبـيبة فـاهـت ز اهتزاز الغصن الندي الأملود وسمت نحوه العـيون ومـا كـا ن عـلـيه لـزائد مـن مـزيد وكأنـي أدعـوه وهـو قـريب حين أدعوه من مكـان بـعـيد فلئن صار لا يجيب لـقـد كـا ن سميعاً هشا إذا هـو نـودي يا فتى كان للمـقـامـات زينـاً لا أراه في المحفل المشـهـود لهف نفسي أما أراك، وما عـن دك لي إن دعوت من مـردود! كان عبد المجـيد سـم الأعـادي ملء عين الصديق رغم الحسود عاد عبد المجيد رزءاً وقـد كـا ن رجاء لريب دهـر كـنـود خنتك الود لم أمت كـمـداً بـع دك إني علـيك حـق جـلـيد لو فدى الحي ميتاً لفـدت نـف سك نفسي بطارفـي وتـلـيدي ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ن عليه لأبلغـن مـجـهـودي لأقيمن مأتماً كنـجـوم الـلـي ل زهراً يلطمن حر الـخـدود موجعات يبكين للـكـبـد الـح رى عليه وللفـؤاد الـسـعـيد ولعـين مـطـروفة أبـداً قـا ل لها الدهر: لا تقري وجـودي كلما عزك البـكـاء فـأنـفـذ ت لعبد المجيد سجلا فـعـودي لفتى يحسن الـبـكـاء عـلـيه وفتى كان لامتداح الـقـصـيد وأول هذا الشعر: كل حي لاقي الحمام فـمـودي ما لحي مؤمـل مـن خـلـود لا تهاب المنون شيئاً ولا ترعـي علـى والـد ولا مـولـــود يقدح الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور مـن هـبـود ولقد تـتـرك الـحـوادث وال أيام وهياً في الصخرة الصيخود وفي هذا الشعر مما استحسنته: أين رب الحصن الحصين بسورا ء ورب القصر المنيف المشـيد شاد أركـانـه وبـوبـه بـــا بي حـديد وحـفـه بـجـنـود كان يجبى إليه ما بين صـنـعـا ء فمصر إلـى قـرى بـيرود وترى خلـفـه زرافـات خـيل جافلات تعدو بمـثـل الأسـود فرمى شخصه فأقصده الـدهـر ر بسهم من الـمـنـايا سـديد ثم لم ينجه من الموت حـصـن دونه خـنـدق وبـابـا حـديد وملوك من قبله عـمـروا الأر ض أعينوا بالنصـر والـتـأييد فلـو أن الأيام أخـلـدن حــياً لعلاء أخلدن عبـد الـمـجـيد ما درى نعشـه ولا حـامـلـوه ما على النعش من عفاف وجود! ويح أيد حـثـت عـلــيه وأيد دفنته، ما غيبت في الصـعـيد! إن عبد الـمـجـيد يوم تـولـى هد ركناً ما كان بـالـمـهـدود وأرانا كالزرع يحـصـده الـده ر فمن بـين قـائم وحـصـيد وكأنا للموت ركـب مـخـبـو ن سراعاً لمـنـهـل مـورود هد ركني عبد المجيد وقد كن ت بركن أنوء مـنـه شـديد فبعبد المجيد تأمور نـفـسـي عثرت بي بعد انتعاش جدودي وبعبد المجيد شلـت يدي الـيم نى وشلت به يمين الـجـود وفي هذا الشعر: فبرغمي كنت المقدم قـبـلـي وبكرهي دليت في الملـحـود كنت لي عصمة وكنت سمـاء بك تحيا أرضي ويخضر عودي مرثية أعشى باهلة للمنتشر بن وهب قال أبو العباس: وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن، وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة، التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وكان أحد رجليي العرب. قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل، وهم السعاة السابقون في سعيهم. وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افتد نفسك. فأبى، فقال: لأقطعنك أنملة أنملة، وعضواً عضواً ما لم تفتد نفسك؛ فجعل يفعل ذلك به حتى قتله، ثم حج من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة - وهو بيت كانت خثعم تحجه، زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين؛ فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة. ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر? قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر، وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا، فلما صار في أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر: إني أتتني لـسـان لا أسـر بـهـا من عل لا عجب منها ولا سخـر فبت مرتفقاً لـلـنـجـم أرقـبـه حيران ذا حذر لو ينفع الـحـذر! فجاشت النفس لما جاء جمـعـهـم وراكب جاء من تثليث معتـمـر يأتي على الناس لا يلوي على أحـد حتى التقينا وكانت دوننا مـضـر ينعى امرأ لا تغب الحي جفنـتـه إذا الكواكب أخطا نوءها المطـر من ليس في خـيره شـر يكـدره على الصديق ولا في صفوة كـدر طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم لـيلة لا مـاء ولا شـجـر لا تنكر البازل الكوماء ضربـتـه بالمشرفي إذا ما اجلوذ الـسـفـر وتفزع الشؤل منه حين تبـصـره حتى تقطع في أعناقها الـجـرر لا يصعب الأمر إلا ريث يركـبـه وكل أمر سوى الفحشاء يأتـمـر تكفيه فلـذة كـبـد إن ألـم بـهـا من الشواء ويكفي شربه الغـمـر لا يتأرى لما في القـدر يرقـبـه ولا تراه أمام الـقـوم يقـتـفـر لا يغمز الساق من أين ولا وصـب ولا يعض على شرسوفه الصفـر مهفهف أهضم الكشحين منخـرق عنه القميص، لسير الليل محتقـر عشنا بذلك دهـراً ثـم فـارقـنـا كذلك الرمح ذو النصلين ينكـسـر فإن جزعنا فقد هدت مصيبـتـنـا وإن صبرنا فإنا معشـر صـبـر إني أشد حزيمـي ثـم يدركـنـي منك البلاء ومـن آلائك الـذكـر لا يأمن الناس ممساه ومصبـحـه من كل أوب وإن لم يأت ينتـظـر إما يصبـك عـدو فـي مـبـاوأة يوماً فقد كنت تستعلي وتنتـصـر لو لم تخنه نـفـيل وهـي خـائنة ألم بالقوم ورد مـنـه أو صـدر وراد حزب شهاب يستـضـاء بـه كما يضيء سواد الطخية القـمـر إما سلكت سبيلاً كنت سالـكـهـا فاذهب فلا يبعدنك الله منـتـشـر من ليس فيه إذا قاولـتـه رهـق وليس فيه إذا عاسرتـه عـسـر قوله: إني أتتني لسان يقال: هو اللسان وهي اللسان. فمن ذكر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار وأحمرة، وفراش وأفرشة، وإزار وآزرة؛ ومن أنث قال: لسان وألسن، كما تقول: ذراع وأذرع، وكراع وأكرع؛ لا تبالي أمضموم الأول كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا كان مؤنثاً، ألا ترى أنك تقول: شمال وأشمل قال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل وقال آخر، أنشدنيه المازني: فظلت تكوس على أكرع ثلاث وكان لها أربـع وأراد باللسان ها هنا الرسالة: وقوله: من عل يقول: من فوق. فإذا كان معرفة مفرداً بني على الضم. كقبل وبعد. وإذا جعلته نكرة نونته وصرفته، كما قال جرير: إني انصببت من السماء علـيكـم حتى اختطفتك يا فرزدق من عل والقوافي مجرورة. وإن شئت رددت ما ذهب منه. وهي ألف منقلبة منن واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز: وهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشاً به تقطع أجـواز الـفـلا وقوله: فبت مرتفقاً وهو المتكئ على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب: إني أرقت فبت الليل مرتفقـاً كأن عيني فيها الصاب مذبوح وقوله: جاشت النفس يقول: خبثت، يكون ذلك من تذكرها للتهوع ومن جزعها منه. ويورى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار، فما يردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري: أبت لي عفتي وأبـي بـلائي وأخذي الحمد بالثمن الربـيح وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشـت مكانك تحمدي أو تستريحـي يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز وتثليث موضع بعينه. وقوله: لا يلوي على أحد يقال: استقام فلان فما لوى على أحد، ويقال: ألوى بالشيء إذا ذهب به. وقوله: إذا الكواكب أخطا نوءها المطر فالنوء عندهم طلوع نجم وسقوط آخر، وليس كل الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقولون هذا في أشياء بعينها؛ ويورى عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا" يعني أمر الأنواء، لم يختلف في ذلك المفسرون، وعنه عليه السلام في غب سماء: "أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى? قال: اصبح عبادي مؤمناً بي وكافراً بالكواكب، وكافراً بي ومؤمناً بالكواكب وأما المؤمن بي الكافر بالكواكب فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا". والنوء، مهموز، و هو من قولك: ناء بجمله، أي استقل به في ثقل، فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر، وكان الأصمعي لا يفسر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء، بل كان لا يسمع ما كان فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسر ما وافق تفسيره بعض ما في القرآن إلا ساهياً. فيما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه وزجر السائل. وقوله: طاوي المصير يقال لواحد المصران مصير. وتقديره: قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان. والعزاء: الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزاء. وكذلك اللأواء، وكذلك الجلى مقصور. فأما العزاء واللأواء فممدودان. وقوله: منصلت، يقال: سيف منصلت، وصلت: إذا جرد من غمده. وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر يريد: القفر، ووقت الصعوبة. وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي. يقول: قد عود الإبل أن ينحرها، ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر. والمشرفي: السيف. وهو منسوب إلى المشارف. وقوله: اجلوذ، امتد، وأنشدني الزيادي لرجل من أهل الحجاز، أحسبه ابن أبي ربيعة: ألا حبذا حبـذا حـبـذا حبيب تحملت منه الأذى ويا حبذا بـرد أنـيابـه إذا أظلم الليل واجلـوذا وقوله: حتى تقطع في أعناقها الجرر يقول: حتى اعتادت أن ينحرها، فهي تفزع منه حتى تقطع حرتها، ومثل هذا قول الخنوت: سأبكي خليلي عنتراً بعد هجعة وسيفي مرداساً قتيل قـنـان قتيلان لا تبكي اللقاح عليهمـا إذا شبعت من قرمل وأفـان يقول: كانا ينحران الإبل، فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان: ضربان من النبت. وشبيه بهذا قوله حيث يقول: فلو كان سيفي باليمين تباشرت ضباب الملا من جمعهم بقتيل يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرت بذلك الضباب واستبشرت. وقوله: لا يتأرى لما في القدر يرقبه يقول: لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري؛ لأنه محبس الدابة. وقوله: ولا تراه أمام القوم يقتفر يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد.


وقوله: ولا يعض على شرسوفه الصفر الشراسيف: أطراف الضلوع، ولاصفر: ها هنا: حية البطن، وله مواضع. وقوله: مهفهف يعني ضامراً، وأهضم الكشحين توكيد له. وقوله: إما يصبك عدو في مباوأة يقول: في وتر، يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل: بؤ بشسع كليب. أي هو ثأر بالشسع. والطُّخيةُ، والطَّخيةُ، والطِّخية، ثلاث لغات: شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثي، ففي ذلك يقول: أصبت في حرم منـا أخـا ثـقة هند بن أسماء لا يهنئ لك الظفر يقال: هنأ له، كما تقول هنياً له، قال الأخطل: إلى إمام تغادينا فواضـلـه أظفره الله فليهنئ له الظفر وقوله: وليس فيه إذا غامرته عسر مدح شريف، مثل قولهم: "إذا عز أخوك فهن"؛ وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله، بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذل، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد. ومدافعته أمدح، كما قال جرير: بشر أبو مروان إن عاسرته عسر، وعند يساره ميسور مراثي متمم بن النويرة في أخيه مالك قال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتاً نختارها، من ذلك قوله: أقول وقد طتار السنـا فـي ربـابـه وغيث يسح المـاء حـتـى تـريعـا سقى الله أرضاً حلها قـبـر مـالـك ذهاب الغوادي المدجنات فـأمـرعـا وأثـر سـيل الــواديين بـــديمة ترشح وسمياً من النـبـت خـروعـا تحـيتـه مـنـي وإن كـان نــائياً وأضحى تراباً فوقه الأرض ومصرعا يذكرن ذا البـث الـحـزين بـبـثـه إذا حنت الأولى سجعن لهـا مـعـا بأوجع مني يوم فـارقـت مـالـكـاً ونادى به الناعي الرفيع فأسـمـعـا وفيها: وكنا كندمانـي جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كـأنـي ومـالـكـاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا وعشنا بخير في الحياة وقبلـنـا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فإن تكن الأيام فرقـن بـينـنـا فقد بان محموداً أخي يوم ودعـا قتول ابنة العمري مالك بعـدمـا أراك حديثاً ناعم البال أفـرعـا فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا وفقد بني أم تفانوا فـلـم أكـن خلافهم أن أستكين وأضـرعـا ولست إذا ما الدهر أحدث نكـبة ورزاء بزوار القرائب أخضعـا ولا فرح إن كنت يوماً بغـبـطة ولا جزع إن ناب دهر فأوجعـا ولكنني أمضي على ذاك مقدماً=إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا فعمرك ألا تسمعـينـي مـلامة ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجـعـا وقصرك إني قد شهدت فلم أجـد بكفي عنه للمـنـية مـدفـعـا فلو أن ما ألقى أصاب متالـعـاً أو الركن من سلمى إذاً لتضعضا وفي هذه القصيدة: لقد كفن المنـهـال تـحـت ردائه فتى غير مبطان العشيات أروعـا ولا برم تهدي النسـاء لـعـرسـه إذا القشع من برد الشتاء تقعقـعـا لبيباً أعان اللب مـنـه سـمـاحة خصيباً إذا ما زائد الجدب أوضعـا تراه كنصل السيف يهتز لـلـنـدى إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا إذا ابتدر القوم الـقـداح وأوقـدت لهم نار أيسار كفي من تضجـعـا بمثنى الأيادي ثم لم تلف مـالـكـاً على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا قوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا: الضوء، وهو مقصور، قال جل وعز: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" النور 43. والسناء، من الحسب ممدود. والرباب: سحاب دون السحاب كالمتعلق بما فوق. قال المازني: كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلـق بـالأرجـل وقوله: يسح معناه يصب، فإذا قلت: يسحو، أو يسحى، فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحابته، ومنه قيل للحديدة التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة، قال عنترة: سحاً وساحية فكـل قـرارة يجري عليها الماء لم يتصرم وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب، يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام؛ لأنه يرجع بفضل. قال مزرد: خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة إلى صاع سمن فـوقـه يتـريع والذهاب: الأمطار اللينة. والمدجنات من السحاب: السود، وهو مأخوذ من الدجن والدجنة. ومعناه إلباس الغيم وظلمته، قال طرفة: وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المـمـدد ويقال: أمرع الوادي، إذا أخصب، من ذلك قول مولاة بن الأجيد عن أوفى بن دلهم. قال أبو العباس: حدثني به ابن المهدي أحمد بن محمد النجوي، يحدث به عن الأصمعي عن أبيه، عن مولاة بن الأجيد عن أوفى، قال: في النساء أربع، فمنهن الصدع، تفرق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن عيث وقع في بلد فأمرع، ومنهن التبع، ترى ولا تسمع. قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرثع، قلت: وما هي? قال: التي تكحل عيناً وتدع الأخرى، وتلبس ثوبها مقلوباً. قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعي، وذكر نحو ذلك. وقوله: وآثر سيل الواديين بديمة زعم الأمعي وغيره من أهل العمل أن الديمة المطر الدائم أياماً برفق. وقوله: ترشح وسمياً أي تهيئه لذلك، يقال: فلان يرشح للخلافة، والوسمي: أول مطر يسم الأرض، والولي: كل مطرة بعد مطرة، فالثانية ولي للأخرى؛ لأنها تليها. والخروع: كل عود ضعيف. وقوله: فما وجد أظآر ثلاث روائم أظآر: جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم، واحدتها رؤوم، ومعنى ترأمه: تشمه. والحوار: ولد الناقة، ويقال له حيث يسقط من أمه سليل، قبل أن تقع عليه الأسماء، فإن كان ذكراً فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة. وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزدي، وكان ملكاً، وهو الذي قتلته الزباء، وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المجانيق للحرب، وله قصص تطول، وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار. ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذلي: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا خليلا صفاء مالك وعقيل والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه، كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب: وكل أخ مفتارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان قال هذا من قبل أن يسلم. وقال إسماعيل بن القاسم: ولم أر ما يدوم له اجتماع سيفترق اجتماع الفرقدين وقوله: أراك حديثاً ناعم البال أفرعا الأفرع: التام شعر الرأس وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان? فقال: بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع، فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر. والأسفع: الأسود، يقال: سفعته النار، أي غيرت وجهه إلى السواد. وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله أي أذكرك الله؛ قال: عمرتك الله إلا ما ذكرت لنـا هل كنت جارتنا أيام ذي سلم! وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في آخر نهاره انتظاراً للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك? فقال: نعم، في قولي: غير مبطان، وكان ذا بطن، ويقال في غير هذا الحديث: إن من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس، فيه طرش. وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً. وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان. والأروع: ذو الروعة والهيئة. والبرم: الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر؛ ولا ينزع إلا نكداً، قال النابغة: هلا سألت بني ذبيان ما حسبـي إذا الدخان تغشى الأسمط البرما وقوله: إذا القشع وهو الجلد اليابس، ويقال لكناسة الحمام القشع، قال أبو هريرة: وكذبت حتى رميت بالقشع. وحدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، في إسناد ذكره، قال: صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه؛ وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة، يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسدي فقتله، وكتان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع، قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية قوسه، ثم قال: نعم القتيل إذا الريح تـنـاوحـت خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور ولنعم حشو الدرع كنت وخاسـراً ولنعم مأوى الطارق المتـنـور أدعوته بـالـلـه ثـم غـررتـه لو هو دعاك بـذمة لـم يغـدر وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال: لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه حلو شمائله عفيف المئزر ثم بكى وانحط على سية قوسه - وكان أعور دميماً - فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك! فقال يا أبا حفص! والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكان زيد بن الخطاب قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر بثول: إني لأهش للصبا؛ لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول؛ لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت أخاك مالكاً! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد. ومن طريف شعره: لعمري وما دهري بتأبين هالـك ولا جزع والموت يذهب بالفتـى لئن مالك خلى علـي مـكـانـه لفي إسوة إن كنت باغية الأسـا كهول ومرد من بني عم مـالـك وأيفاع صدق قد تمليتهـم رضـا سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا كدأب ثمود إذ رغا سقيهم ضحى إذا القوم قالوا: من فتى لمـلـمة فما كلهم يدعى، ولكنه الفـتـى ومثل هذا الشعر قول النهشلي: لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس? خالهم إياه يعنـونـا وأول هذا المعنى لطرفة: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتـبـلـد وقال متمم أيضاً في كلمة له يرثي بها مالكاً: جميل المحيا ضاحك عند ضـيفـه أغر جميع الرأي مشترك الرحـل وقوراً إذا القوم الكرام تـقـاولـوا فحلت حباهم واستطيروا من الجهل وكنت إلى نفـسـي أشـد حـلاوة من الماء بالماذي من عسل النحـل وكل فتى في الناس بعد ابـن أمـه كساقطة إحدى يديه من الخـبـل وبعض الرجال نخلة لا جنى لـهـا ولا ظل إلا أن تعد من الـنـخـل وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجزل؛ فأين كان أخوك منك? فقال: كان والله في الليلة المظلمة ذات الأزير والصراد، يركب الجمل الثفال، ويجنب الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح أهله متبسماً. الجمل الثفال: البطيء الذي لا يكاد ينبعث. والفرس الجرور: الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه، إنما يجر الحبل، والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها. وذكر لنا أن مالكاً كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع: منهم عتيبة والمحل وقعنب والحنتفان ومنهم الردفان فأحد الردفين مالك بن نويرة اليربوعي، والردف الآخر من بني رياح بن يربوع. وللردافة موضعان: أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريف أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس، والوجه الآخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده. باب من أخبار من جزعوا عند الموت قال أبو العباس: لما احتضر إبراهيم النخعي رحمه الله، جزع جزعاً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم من هذا! إنما أتوقع رسولاً يرد على من ربي، إما بالجنة وإما بالنار. ولما احتضر بان سيرين، جعل يقول: نفسي واله أعز الأنفس علي. ولما احتضر حجر بن عدي ليقتل، سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وظهر منه جزع شديد،، فقال له قائل: أتجزع! فقال: وكيف لا أجزع! سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري أيؤديني إلى جنة، أم إلى نار. قال أبو الحسن: ما يقوم بقتل حجر بن عدي شيء! وإني لأعجب من قوله هذا: ولست أدري أيدنيني إلى جنة أو إلى نار، وهو شهيد الشهداء، رحمه الله!. وقد ذكرنا موت عمرو بن العاص وكلامه عند الموت. ممن ظهرت عليهم القسوة عند الموت ومن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاري، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاري، فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبراً حلحل! فقال إي والله: أصبر من ذي ضاغط عركرك ألقى بواني زوره للمـبـرك ثم قال لابن الأسود الكلبي: أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة أسلحته، فعددت النجوم في سلحته. ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان: صبراً سعيد! فقال: إي والله!. أصبر من عود بجنبيه الجلب قد أثر البطان فيه والحقب ومنهم وكيع بن أبي سود، أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول? فقال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه، فقال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج? قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك! قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، قال: ويلي على ابن الخبيثة! والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر. ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق: لقد رزئت بأساً وحزماً وسودداً تميم بن مر يوم مات وكـيع وما كان وقافاً وكيع إذا دنـت سحائب موت وبلهن نـجـيع إذا التقت الأبطال أبصرت لونه مضيئاً وأعناق الكماة خضوع فصبراً تميم إنما الموت منهـل يصير إليه صابـر وجـزوع وقال أيضاً: لتبك وكيعاً خيل لـيل مـغـيرة تساقي المنايا بالردينية السمـر لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعـوة دعوها وكيعاً والجياد بهم تجري ومن الجفاة عند الموت هدبة نب خشرم العذري، وكان قتل زيادة بن زيد العذري، فلما حمل إلى معاوية، تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول? قال: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً? قال: بل شعراً فإنه أمتع، فقال هدبة: فلـمـا رأيت أنـمـا هـي ضـربة من السيف أو إغضاء عين على وتر عمـدت لأمـر لا تـعـير والـدي خزايتـه ولا يسـب بـه قـبـري رمينا فرامينا فـصـاد سـهـمـنـا منية نفس في كـتـاب وفـي قـدر وأنت أمير المؤمنـين فـمـا لـنـا وراءك من معدى ولا عنك من قصر فإن تك في أموالنا لا نضـق بـهـا ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصـبـر فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة! قال: هو ذاك، فقال عبد الرحمن: أقدني، فكره ذاك معاوية وضن بهدبة عن القتل - وكان ابن زيادة صغيراً - فقال له معاوية: أوما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك! ثم وجه به إلى المدينة فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ. وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فمما وقف عليه من قسوته قوله: ولما دخلت السجن يا أم مـالـك ذكرتك والأطراف في حلق سمر وعند سعيد غير أن لـم أبـح بـه ذكرتك إن الأمر يذكر بـالأمـر فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد - وكان سعيد حسن الثغر جداً - وذكرت به ثغرها. ويقال إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا، الحسين بن علي وعبيد الله بن جعفر، عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار، فلما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينية: ما رأيت أقسى قلباً منك! أتنشد الأشعار وأنت يمضى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنه ظبي عطشان تولول! تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبى فقال: ما وجدت وجدي بها أم واحد ولا وجد حبي بابن أم كلاب رأته طويل الساعدين شمردلا كما انتعتت من قوة وشباب فأغلقت حبى الباب في وجهه وسبته. وعرض له عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال له: أعلى هذه الحال! قال: نعم، فأنشده: ولست بمفراح إذا الدهر سـرنـي ولا جازع من صرفه المتقـلـب ولا أتبغى الشر والشـر تـاركـي ولكن متى أحمل على الشر أركب وحربني مولاي حتى غـشـيتـه متى ما يحربك ابن عمك تحـرب فلما قدم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال: فإن يك أنفي بان منه جمـالـه فما حسبي في الصالحين بأجدعا فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننـا أغم القفا والوجه ليس بأنزعـا فقالت: قفوا عنه ساعة، ثم مضت ورجعت وقد اصطلمت أنفها! فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال: أبلياني اليوم صبراً منكمـا إن حزناً منكما اليوم لشـر ما أظن الموت إلا هـينـاً إن بعد الموت دار المستقر ثم قال: أ ذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتـي إلـيك فـقـير وإني وإن قالوا أمير مسـلـط وحجاب أبواب لهن صـرير لأعلم أن الأمر أمرك إن تـدن فرب وإن تغفر فأنت غفـور ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة. وبزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، وآية ذلك أني أضرب برجيل اليسرى بعد القتل ثلاثاً؛ وهو باطل موضوع، ولكن سأل فك قيوده، ففكت، فذلك حيث يقول: فإن تقتلوني في الحديد فإنني قتلت أخاكم مطلقاً لم يقـيد من أخبار من وقفوا على القبور قال أبو العباس: ووقف حبار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل، ولم يكن حضره، فقال: أنعم صباحاً أبا علي! فوالله لقد كنت سريعاً إلى المولى بوعدك، بطيئاً عنه بإيعادك، ولقد كنت أهدى من النجم، وأجرى من السيل. ثم التفت إليهم فقال: كان ينبغي أن تجعلوا قبر أبي علي ميلاً في ميل! وذكر الحرمازي أن الأحنف بن قيس لما مات، وكان موته بالكوفة، مشى المصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سيد العرب، فلما دفن قامت امرأة على قبره - أحسبها من بني منقر - فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن! فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، وفوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنت في الحي مسوداً، وإلى الخليفة موفداً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. قال: فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها. ووقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك لأطنبت، بل لأسهبت. ثم عقر ناقته على قبره، وقال: عقرت على قبر النجاشي ناقتي بأبيض عضب أخلصته صياقله على قبر من لو أنني مت قبله لهانت عليه عند قبري رواحله وروى ابن دأب أن حسان بن ثابت الأنصاري اجتاز بقبر ربيعة بن مكدم فأنشد: لا يبعدن ربـيعة بـن مـكـدم وسقى الغوادي قبره بـذنـوب نفرت قلوصي من حجارة حرة نصبت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق مـنـه فـإنـه شريب خمر مسعر لحـروب لولا السفار وطول قفر مهمـه لتركتها تحبو على العرقـوب نعم الفتى أدى نبـيشة رحـلـه يوم الكديد نبيشة بـن حـبـيب وربيعة بن مكدم - رجل من بني كنانة، وكان قتله أهبان بن غادية الخزاعي، وقيس تقول: قتله نبيشة بن حبيب السلمي، وكان أهبان أخا نبيشة لأمه، وكان أتاه زائراً. وأغار ربيعة بن مكدم على بني سليم، فخرج أهبان مع أخيه، فحمل عليه فقتله، وحمل أخو ربيعة على أهبان فقتله، فلأنه في بني سليم، قال حسان: نفرت قلوصي من حجارة حرة لأن الحرة هناك لبني سليم، وفي تصداق ما تدعيه خزاعة يقول أهبان: ولقد طعنت ربيعة بن مكـدم يوم الكديد فخر غير موسـد في عارض شرق بنات فؤاده منه بأحمر كالنقيع المجسـد ولقد وهبت سلاحه وجـواده لأخي نبيشة قبل لوم الحسـد وقال أخو ربيعة يجيبه: فات ابن غادية المنية بعد ما رفعت أسفل ذيله بالمطرد قل لابن غادية المتاح لقتلنا ما كان يقتلنا الوحيد المفرد يريد أن أهبان مفرد من قومه في أخواله. وقال أيضاً: فإن تذهب سليم بوتر قومي فأسلم من منازلنا قـريب لليلى الأخيلية ترثي توبة وقالت ليلى الأخيلية: آليت أبكي بعد تـوبة هـالـكـاً وأحفل من دارت عليه الـدوائر لعمرك ما بالموت عار على الفتى إذا لم تصبه في الحياة المعـاير فلا يبعدنك اللـه يا تـوب إنـمـا لقاء المنايا دارعاً مثل حـاسـر ويورى: فلا يبعدنك الله يا توب هـالـكـاً أخا الحرب إن دارت عليه الدوائر فكل جديد أو شباب إلـى بـلـى وكل امرئ يوماً إلى الله صـائر وذكر المدائني أن رجلاً عزى رجلاً أفرط عليه الجزع على ابنه فقال: يا هذا، سررت به وهو حزن وفتنة، وجزعت عليه وهو صلاة ورحمة، فسري عنه. ويروى أن رسول الله ﷺ قال: "تعزوا عن مصائبكم بي". وقال رجل لابن عمر: أعظم الله أجرك، فقال: نسأل الله العافية! معناه: أنه لما قال له: "أعظم الله أجرك"، إنما دعا بأن يكثر ما يؤجر عليه، ودل على أنه من باب المصائب تعزيته إياه. وهذا باب طريف من أشعار المحدثين لمطيع بن إياس في يحيى بن زياد قال مطيع بن إياس الليثي يرثي يحيى بن زياد الحارثي وكان صديقه، وكانا مرميين جميعاً بالخروج عن الملة: يا أهل بكوا لقلبـي الـقـرح ولدموع الهوامل الـسـفـح راحوا بيحيى إلى مـغـيبـه في القبر بين التراب والصفح راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال أقدار لم يبتـكـر ولـم يرح يل خير من يحسن البكاء له ال يوم ومن كان أمس للـمـدح وفي يحيى يقول مطيع لنبوة كانت بينهما: كنـت ويحـيى كـيدي واحـد نرمي جميعاً ونرامي مـعـا إن سره الدهر فقـد سـرنـي أو حادث ناب فقد أفـظـعـا أو نام نـامـت أعـين أربـع منا، وإن هب فلن أهجـعـا حتى إذا ما الشيب في عارضي لاح وفي مفرقـه أسـرعـا سعى وشاة طـبـن بـينـنـا فكاد حبل الوصل أن يقطعـا فلم ألم يحيى عـلـى حـادث ولم أقل خـان ولا ضـيعـا لأبي عبد الرحمن العتبي يرثي على بن سهل وقال أبو عبد الرحمن العتبي يرثي علي بن سهل بن الصباح وكان له صديقاً: يا خير إخوانه وأعطـفـهـم عليهم راضياً وغضـبـانـا أمسيت حزناً وصار قربك لي بعداً وصار اللقاء هجرانـا إنا إلى الله راجعـون لـقـد أصبح حزني عليك ألـوانـا حزن اشتياق وحزن مـرزئة إذا انقضى عاد كالذي كانـا قوله: يا خير إخوانه محال وباطل، وذلك أنه لا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو جزء منه. وقال أيضاً: دعوتك يا أخي فلم تجبـنـي فردت دعوتي حزناً عـلـيا بموتك ماتت اللذات مـنـي وكانت حية إذ كنـت حـيا فيا أسفي عليك وطول شوقي إليك لـو أن ذاك يرد شـيا وقوف رجل على قبر عدوه وحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم سهمه من صفحة الظبي، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها: وما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب. مراثي يعقوب بن الربيع في جارية له ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله: لله آنسة فـجـعـت بـهـا ما كان أبعدها من الدنـس! أتت البشارة والنعـي مـعـاً يا قرب مأتمها من العرس! يا ملك نال الدهر فرصـتـه فرمى فؤاداً غير محتـرس كم من دموع لا تجف ومـن نفس عليك طويلة النـفـس أبكيك ما ناحـت مـطـوقة تحت الظلام تنوح في الغلس يا ملك في وفيك معـتـبـر ومواعظ يوحشن ذا الأنـس ما بعد فرقة بـينـنـا أبـداً في لذة درك لمـلـتـمـس وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل: رب مغروس يعاش بـه فقدته كف مغتـرسـه وكذاك الدهر مـأتـمـه أقرب الأشياء من عرسه وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها: أبكيك لا للنـعـيم والأنـس بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت بـه أرملني قبل ليلة الـعـرس يا فارساً بالعراء مطـرحـاً خانته قواده مع الـحـرس من لليتامى إذا هم سغـبـوا وكل عان وكل محتـبـس! أم من لبر أم مـن لـفـائدة أم من لذكر الإله في الغلس! ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله: ليت شعري بأي ذنب لـمـلـك كان هجري لقبرها واجتنابـي! ألذنب حقدتـه كـان مـنـهـا أم لعلمي بشغلها عن عتابـي! أم لامني لسخطهـا رضـاهـا حين واريت وجهها في التراب! ما وفى في العباد حي لـمـيت بعد يأس منه لـه فـي الإياب وفي هذا الشعر: إنما حسرتي إذا مـا تـذكـر ت عنائي بها وطول طلابـي لم أزل في الطلا سبع سنينـي أتأتى لذاك مـن كـل بـاب فاجتمعنا على اتفـاق وقـدر وغنينا عن فرقة باصطحـاب أشهراً ستة صحبتـك فـيهـا كن كالحلم أو كلمع السـراب وأتاني النعي منك مع البـش رى فيا قرب أوبة من ذهاب! ومن مليح شعره قوله يرثيها: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسللت منها محاسن وجههـا وعلا الأنين تحثه بتـنـفـس رجع اليقين مطامعي يأساً كما=رجع اليقين مطامع المتلمس ومن مليح شعره أيضاً قوله: فجعت بملك وقـد أينـعـت وتمت فأعظم بها من مصيبه! فأصبحت مغترباً بـعـدهـا وأمست بحلوان ملك غـريبة أراني غريباً وإن أصبـحـت منازل أهلي منـي قـريبـه فأقبلت أبكي وتبكي ومـعـي بكاء كئيب بحـزن كـئيبـه وحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم سهمه من صفحة الظبي، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها: وما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب. مراثي يعقوب بن الربيع في جارية له ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله: لله آنسة فـجـعـت بـهـا ما كان أبعدها من الدنـس! أتت البشارة والنعـي مـعـاً يا قرب مأتمها من العرس! يا ملك نال الدهر فرصـتـه فرمى فؤاداً غير محتـرس كم من دموع لا تجف ومـن نفس عليك طويلة النـفـس أبكيك ما ناحـت مـطـوقة تحت الظلام تنوح في الغلس يا ملك في وفيك معـتـبـر ومواعظ يوحشن ذا الأنـس ما بعد فرقة بـينـنـا أبـداً في لذة درك لمـلـتـمـس وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل: رب مغروس يعاش بـه فقدته كف مغتـرسـه وكذاك الدهر مـأتـمـه أقرب الأشياء من عرسه وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها: أبكيك لا للنـعـيم والأنـس بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت بـه أرملني قبل ليلة الـعـرس يا فارساً بالعراء مطـرحـاً خانته قواده مع الـحـرس من لليتامى إذا هم سغـبـوا وكل عان وكل محتـبـس! أم من لبر أم مـن لـفـائدة أم من لذكر الإله في الغلس! ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله: ليت شعري بأي ذنب لـمـلـك كان هجري لقبرها واجتنابـي! ألذنب حقدتـه كـان مـنـهـا أم لعلمي بشغلها عن عتابـي! أم لامني لسخطهـا رضـاهـا حين واريت وجهها في التراب! ما وفى في العباد حي لـمـيت بعد يأس منه لـه فـي الإياب وفي هذا الشعر: إنما حسرتي إذا مـا تـذكـر ت عنائي بها وطول طلابـي لم أزل في الطلا سبع سنينـي أتأتى لذاك مـن كـل بـاب فاجتمعنا على اتفـاق وقـدر وغنينا عن فرقة باصطحـاب أشهراً ستة صحبتـك فـيهـا كن كالحلم أو كلمع السـراب وأتاني النعي منك مع البـش رى فيا قرب أوبة من ذهاب! ومن مليح شعره قوله يرثيها: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسللت منها محاسن وجههـا وعلا الأنين تحثه بتـنـفـس رجع اليقين مطامعي يأساً كما=رجع اليقين مطامع المتلمس ومن مليح شعره أيضاً قوله: فجعت بملك وقـد أينـعـت وتمت فأعظم بها من مصيبه! فأصبحت مغترباً بـعـدهـا وأمست بحلوان ملك غـريبة أراني غريباً وإن أصبـحـت منازل أهلي منـي قـريبـه فأقبلت أبكي وتبكي ومـعـي بكاء كئيب بحـزن كـئيبـه

وقلت لها مرحباً مـرحـبـاً بوجه الحبيبة أخت الحـبـيبة سأصفيك ودي حفاظاً لـهـا فذاك الوفاء بظهر المغـيبة أراك كملك وإن كمل تـكـن لملك من الناس عندي ضريبه مرثية يزيد المهلبي في المتوكل ومما اخترنا من مرثية يزيد المهلبي للمتوكل على الله قوله: لا حـزن إلا أراه دون مـا أجــد وهل كمن فقدت عيناي مفتـقـد! لا يبعدن هالك كـانـت مـنـيتـه كما هوى عن عطاء الزبية الأسـد لا يدفع الناس ضيماً بعد ليلـتـهـم إذ لا تمد إلى الجانـي عـلـيك يد لو أن سيفي وعقلي حاضـران لـه أبليته الجهـد إذ لـم يبـلـه أحـد جاءت منيتـه الـعـين هـاجـعة هلا أتته المنايا والقـنـا قـصـد! هلا أتـتـه أعـاديه مـجـاهـرة والحرب تسعر والأبطال تجتـلـد فخر فوق سرير الملك مـنـجـدلاً لم يحمه ملكه لما انقضـى الأمـد قد كان أنصاره يحمـون حـوزتـه وللردى دون أرصاد الفتى رصـد وأصبح الناس فوضى يعجبون لـه ليثاً صريعاً تنزى حوله الـنـقـد علتك أسياف مـن لا دونـه أحـد وليس فوقك إلا الواحد الـصـمـد جاؤوا عظيماً لدنيا يسعـدون بـهـا فقد شقوا بالذي جاؤوا وما سعـدوا ضجت نساؤك بعد العز حـين رأت خداً كريماً علـيه قـارت جـسـد أضحى شهيد بني العباس موعـظة لكل ذي عزة فـي رأسـه صـيد حليفة لـم ينـل مـا نـالـه أحـد ولم يضع مثلـه روح ولا جـسـد كم في أديمك من فوهـاء هـادرة من الجوائف يغلي فوقها الـزبـد إذا بكيت فإن الدمـع مـنـهـمـل وإن رثيت فإن القـول مـطـرد قد كنت أسرف في مالي وتخلف لي فعلمتني الليالي كـيف أقـتـصـد لما اعتقدتم أناساً لا حـلـوم لـهـم ضعتم وضيعتم من كان يعـتـقـد ولو جعلتم على الأحرار نعمتـكـم حمتكم السادة المذكورة الـحـشـد قوم هم الجذم والأنساب تجمعـهـم والمجد والدين والأرحام والـبـلـد إذا قريش أرادوا شد مـلـكـهـم بغير قحطان لـم يبـرح بـه أود قد وتر الناس طراً ثم قد صمـتـوا حتى كأن الذي نيلـوا بـه رشـد من الألى وهبوا للمجد أنفـسـهـم فما يبالون ما نالـوا إذا حـمـدوا قال أبو الحسن، قوله: قارت، يقال: قرت الدم يقرت قروتاً. ودم قارت. قد يبس بين الجلد واللحم، ومسك قارت، وهو أخفه وأجوده، قال: يعل بقرات من المسك قاتن وقرات، فعال، وقاتن، مسك قاتن قد قتن قتوناً، أي يابس لا ندوة فيه. باب ذكر الأذواء من اليمن فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع وذي نواس وذي رعين وذي أصبح وذي المناور وذي القرنين: فأما في الإسلام، فمنهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، سماه رسول الله ﷺ وهو أنصاري. ومنهم قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العين. كانت عينه أصيبت فردها رسول الله ﷺ، فكانت أحسن عينيه. وكانت تعتل عينه الصحيحة فلا تعتل المردودة معها. ومنهم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ذو السيفين؛ كان يتقلد سيفين في الحرب. ومنهم حباب بن المنذر بن الجموح ذو الرأي، وهو صاحب المشورة يوم بدر، أخذ برأيه رسول الله ﷺ، وكان له آراء في الجاهلية مشهورة. ومنهم سعد بن صفيح ذو السيال، ومنهم ذو المشهرة، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة، وكانت له مشهرة إذا لبسها وخرج يختال بين الصفين لم يبق ولم يذر وكل هؤلاء من الأنصار. ومن اليمن من غيرهم عبد الله بن الطفيل الأزدي ثم الدوسي ذو النور، أعطاه رسول الله ﷺ نوراً في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هذه مثلة، فجعله رسول الله ﷺ في سوطه، فلما ورد على قومه بالسراة جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة. ومنهم، ثم من خزاعة، ذو اليدين، سماه رسول الله ﷺ ذا اليدين، وكان قبل يدعى ذا الشمالين: وكان رسول الله ﷺ صلى بهم الظهر فسلم في الركعة الثانية، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت? فقال: ما كان ذاك، فقال: بلى يا رسول الله، فالتفت إلى أصحابه فقال: ما يقول ذو اليدين? فقالوا: صدق يا رسول الله، فنهض فأتم، ثم قال: إني لأنسى أو أنسى لأستن. وهذه تسمية من كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية منهم سعد بن معاذ الأنصاري، وهبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وقبض رسول الله ﷺ من رجليه في المشي لئلا يطأ على جناح ملك، واهتز لموته عرش الله جل وعز. وفي ذلك، يقول حسان: وما اهتز عرش اله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عـمـرو وكبر عليه رسول الله ﷺ تسعاً؛ كما كبر على حمزة بن عبد المطلب، وشم من تراب قبره رائحة المسك. ومنهم حسان بن ثابت الأنصاري. قال له رسول الله ﷺ: "اهجهم وروح القدس معك". وقال في حديث آخر: "إن الله مؤيد حساناً بروح القدس ما نافح عن نبيه". وقالت عائشة: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد فينافح عن رسول الله ﷺ. ومنهم حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. غسلته الملائكة، وذاك أنه خرج يوم أحد فأصيب، فقال رسول الله ﷺ: "صاحبكم هذا قد غسلته الملائكة". فسئل عن ذلك، فقالت امرأته: كان معي على ما يكون الرجل مع امرأته. فأعجلته حطمة بلغته في المسلمين فخرج فأصيب، ففي ذلك يقول الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حمي الدبر، وكان خال أبيه: غسلت خالي الـمـلائكة الأب رار ميتاً أكرم به من صريع! وأنا ابن الذي حمت ظهره الدب ر قتيل اللحيان يوم الرجـيع! ومنه حارثة بن النعمان، رأى جبريل ﷺ مرتين، وأقرأه جبريل السلام. ومنهم، ثم من خزاعة عمران بن حصين، كانت تصافحه الملائكة وتعوده، ثم افتقدها. فأتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله؛ إن رجالاً كانوا يأتونني لم أر أحسن مهم وجوهاً، ولا أطيب أرواحاً، ثم قد انقطعوا عني، فقال رسول الله ﷺ: أصابك جرح فكنت تكتمه? فقال: أجل، قال: ثم أظهرته? قال: قد كان ذلك. قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت. ومنهم جرير بن عبد الله البجلي. قال رسول الله ﷺ: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك". ومنهم دحية بن خليفة الكلبي، كان جبريل ﷺ يهبط في صورته، فمن ذلك يوم بني قريظة. لما انصرف رسول الله ﷺ من الخندق وهبط عليه جبيل عليه السلام فقال: يا محمد أقد وضعتم سلاحكم! ما وضعت الملائكة أسلحتها بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، وهأنذا سائر إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله ﷺ الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فجعل يمر بالناس فيقول: أمر بكم أحد? فيقولون: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة عليها قطيفة خز نحو بني قريظة، فيقول: ذلك جبرائيل، ثم مر دحية بعد ذلك، وكان لا يزال عليه السلام في غير هذا اليوم ينزل في صورته، كما ظهر إبليس في صورة الشيخ النجدي. وهذا باب قد تقدم ذكرنا إياه ووعدنا استقصاءه الفرق بين تعريف الحيوان وتنكيره وبين تذكيره وتأنيثه قال أبو العباس: اعلم أن كل شيء من الحيوان؛ كان مما يخبر الناس عنه كما يخبرون عن أنفسهم ومما يقتنونه ويتخذونه، فبهم حاجة إلى الفصل بين معرفته ونكرته ومذكره ومؤنثه، تقول: جاءني رجل إذا لم تدر من هو بعينه، أو دريت فلم ترد أن تبين. ثم تعرفه لصاحبك إذا أردت ذلك إما بألف ولام، وإما باسم معروف، أو إضافة أو غير ذلك. وكذلك يفصل الناس بين الخيل بأسماء أو نعوت يعرفون بها بعضها من بعض، وكذلك الشاء والكلاب والإبل، ولولا تمييز بعضها من بعض لم يستقم الإخبار عنها والاختصاص بما أريد منها؛ فإذا كان الشيء لي مما يتخذونه لم يحتاجوا إلى التمييز بين بعضه وبعض، يقول الرجل: رأيت الأسد؛ فليس يعني أسداً بعينه، ولكن يريد الواحد من الجنس الذي قد عرفت، وكذلك الذئب والعقرب والحية وما أشبه ذلك، ألا ترى أن ابن عرس وسام أبرص وأم حبين وأبا الحارث وأبا الحصين معارف لا على أن تميز بعضها من بعض ولكن تعريف الجنس. وقولك: ابن مخاض وابن لبون، وابن ماء، نكرات، لأن هذا مما يتخذه الناس، وابن ماء إنما هو مضاف إلى الماء الذي يعرف. فإذا أردت التعريف من هذا لهذه النكرات أدخلت فيما أضيفت إليه الألف واللام، أو لقبتها ألقاباً تعرف بها، كزيد وعمرو. واعلم أن كل جمع مؤنث؛ لأنك تريد معنى جماعة. ولا تذكر من ذلك إلا ما كان فعله يجري بالواو والنون في الجمع، وذلك كل ما يعقل، تقول: مسلم ومسلمون؛ كما تقول: قوم يسلمون، وتقول للجمال: هي تسير وهن يسرن. كما تقول للمؤنث، لأن أفعالها على ذلك، وكذلك الموات، قال الله عز وجل في الأصنام: "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" إبراهيم 36، والواحد مذكر. وقال المفسرون في قوله: "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" النساء 117، قالوا: الموات، فكل ما خرج عما يعقل فجمعه بالتانيث وفعله عليه، لا يكون إلا ذلك، إلا ما كان من باب المنقوص. نحو سنين وعزين وليس هذا موضعه. وجملته أنه لا يكون إلا مؤنثاً، فلهذا كان يقع على بعض هذا الضرب الاسم المؤنث، فيجمع الذكر والأنثى، فمن ذلك قولهم: عقرب، فهن اسم مؤنث، إلا أنك إن عرفت الذكر قلت: هذا عقرب، وكذلك الحية، تقول للأنثى: هذه حية، وللذكر هذا حية، قال جرير: إن الحفافيث منكم يا بني لـجـإ يطرقن حيث يصول الحية الذكر قال الأخفش: الحفافيث: ضرب من الحيات يكون صغير الجرم ينتفخ ويعظم وينفخ نفخاً شديداً، لا غائلة له. وتقول: هذا بطة للذكر، وهذه بطة للأنثى، وهذا دجاجة، وهذه دجاجة. قال جرير: لما تذكرت بالديرين أرقـنـي صوت الدجاج وقرع بالنواقيس يريد زقاء الديوك، فالاسم الذي يجمعهما دجاجة للذكر والأنثى. ثم يخص الذكر بأن يقال: ديك. وكذلك تقول: هذا بقرة وهذه بقرة لهما جميعاً. وهذا حباري، ثم يخص الذكر فتقول: ثور. وتقول للذكر من الحباري: خرب، فعلى هذا يجري هذا الباب، وكل ما لم نذكره فهذا سبيله. قال أبو العباس: وقد كنا أرجأنا أشياء ذكرنا أنا سنذكرها في آخر هذا الكتاب، منها خطب ومواعظ ورسائل، ونحن ذاكرون ما تهيأ من ذلك إن شاء الله. خطبة لأعرابي بالبادية قال الأصمعي فيما بلغني: خطبنا أعرابي بالبادية؛ فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه. فبلغ في إيجاز، ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاغ، وإن الآخرة دار قرار، فخذوا من مفركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، في الدنيا كنتم، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والمصلى عليه رسول الله والمدعو له الخليفة، والأمير جعفر بن سليمان. خطبة لعمر بن عبد العزيز وحدثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال: في خطبة له: أيها الناس، إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونور قلبه! أيها الناس، قد علمتم أن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وأن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. ويروى أن رجلاً معروفاً، ذهب اسمه عني، قال: أتيت ابن عمر فقلت: أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات وهو مشرك? فقال: لا، فقلت له: أتجب النار لعامل بالشر كله وهو موحد? قال: عش ولا تغتر. قال: وأتيت ابن عباس، فسألته فأجابني بمثل جوابه سواء، وقال: عش ولا تغتر. قال: وحدثني بهذا الحديث القاضي يعني إسماعيل بن إسحاق. خطبة لعتبة بن أبي سفيان بالموسم وذكر العتبي أحسبه عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعد القصر قال: خطب الناس بالموسم عتبة في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة. فاستفتح ثم قال: أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر وعلى المسيء الوزر. فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم. وإياكم ولو فقد أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم. فأسأل الله أن يعين كلا على كل. فنعق به أعرابي من مؤخر المسجد فقال: أيها الخليفة! فقال: لست به ولم تبعد، قال: فيا أخاه! قال: قد أسمعت فقل، فقال: واله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم فما أحقكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا! رجل من بني عامر يمت إليكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخؤولة، وقد وطئه زمان وكثرة عيال، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك!. خطبة لعتبة أيضاً بمصر وذكر العتبي أن عتبة خطب الناس بمصر عن موجدة، فقال: يا حاملي ألأم آنف ركبت بين أعين، إني إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي لكم. وسألتكم صلاحكم إذ كان فسادكم باقياً عليكم. فأما إذ أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواءكم، وإلا فإن السيف من ورائكم. فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذ جدتم بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى أن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. ثم نزل. خطبة لداود بن علي العباسي وذكر العتبي أو غيره أن داود بن علي بن عبد الله بن العباس خطب الناس في أول موسم ملكه بنو العباس، بمكة. فقال: شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً، ولا لنبني فيكم قصراً، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه! فالآن حيث أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه في أهل بيت النبوة والرحمة. والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا. أمن الأسود والأحمر، لكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله ﷺ، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية - وأومأ بيده إلى الكعبة - لا نهيج منكم أحداً. خطبة لمعاوية بن أبي سفيان قال: وخطب الناس معاوية بن أبي سفيان، فحمد الله وصلى على نبيه ثم قال: يا أيها الناس! إني من زرع قد استحصد. ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما لم يكن قبلي إلا من هو خير مني. ما قاله معاوية عند موته وتعزية الناس ليزيد من بعده وفي غير هذا الخبر أنه قال لبناته عند وفاته: قلبنني، ففعلن. فقال: إنكن لتقلبنه حولاً قلباً إن وقي كبة النار. ثم قال متمثلاً: لا يبعدن ربيعة بن مـكـدم وسقى الغوادي قبره بذنوب وقال لابنة قرظة: ابكيني، فقالت: ألا أبكيه ألا أبكيه ألا كل الفتى فيه فلما مات دخل الناس على يزيد يعزونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة، فجعلوا يقولون، حتى دخل رجل من ثقيف فقال: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. إنك قد فجعت بخير الآباء، وأعطيت جميع الأشياء، فاصبر على الرزية، واحمد الله على حسن العطية، فلا أعطي أحد كما أعطيت، ولا رزيء كما رزيت، فقام ابن همام السلولي فأنشده شعراً كأنما فاوضه الثقفي، فقال: اصبر يزيد فقد فـارقـت ذائقة واشكر بلاء الذي بالملك أصفاكا أصبحت تملك هذا الخلق كلهـم فأنت ترعاهم والـه يرعـاكـا ما إن رزي أحد في الناس نعلمه كما رزئت ولا عقبى كعقباكـا وفي معاوية الباقي لنا خـلـف إذا نعيت ولا نسمع بمنعـاكـا الحول، معناه ذو الحيلة. والقلب: الذي يقلب الأمور ظهراً لبطن. وقوله: إن وقي كبة النار فكبة النار معظمها، وكذلك كبة الحرب، ويقال: لقيته في كبه القوم، ويروى عن بعض الفرسان أنه طعن رجلاً في حرب فقال: طعنته في الكبة، فوضعت رمحي في اللبة، وأخرجته من السبة. والسبة: الدبر. حديث خالد بن صفوان عن الطعام ويروى أن خالد بن صفوان دخل على يزيد بن المهلب وهو يتغدى، فقال: ادن فكل يا أبا صفوان. فقال: أصلح الله الأمير! لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت? قال: أتيت ضيعتي لإبان الغراس وأوان العمارة، فجلت فيها جولة، حتى إذا صخدت الشمس وأزمعت بالركود، ملت إلى غرفة لي هفافة، في حديقة قد فتحت أبوابها، ونضح بالماء جوانبها، وفرشت أرضها بألوان الرياحين، من بين ضيمران نافح وسمسق فائح، وأقحوان زاهر، وورد ناضر، ثم أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وسمك بناني بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، عراض السرر، غلاظ القصر، ودقة وخلول، ومري وبقول، ثم أتيت برطب أصفر، صاف غير أكدر، لم تبتذله الأيدي، ولم يهشمه كيل المكاييل، فأكلت هذا ثم هذا؛ فقال يزيد: يا ابن صفوان؛ لألف جريب من كلامك مزروع خير من ألف جريب مذروع. الرسائل التي دارت بين المنصور وبين محمد بن عبد الله بن الحسن ونحن ذاكرون الرسائل بين أمير المؤمنين المنصور، وبين محمد بن عبد الله بن حسن العلوي كما وعدنا في أول الكتاب، ونختصر ما يجوز ذكره منه، ونمسك عن الباقي، فقد قيل: الراوية أجد الشاتمين، قال: لما خرج محمد بن عبد الله على المنصور كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: "إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم فلي الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" المائدة 33-34، ولك عهد الله وذمته وميثاقه وحق نبيه محمد ﷺ؛ إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وتابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتتبع أحداً منكم بمكروه، فإن شئت أن تتوثق لنفسك، فوجه إلي من يأخذ لك من المثاق والعهد والأمان ما أحببت، والسلام. فكتب إليه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد: أما بعد: "طسم تلك أيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نسآءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهمان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون" القصص 1-6، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني وقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا، ونهضتم فيه بشيعتنا، وخبطتموه بفضلنا، وأن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء! وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا! وإنا بنو أم رسول الله ﷺ فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم. فأنا أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأباً، لم تلدني العجم، ولم تعرق في أمهات الأولاد، وأن اله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيين، أفضلهم محمد ﷺ، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً، وأوسعهم علماً، وأكثرهم جهاداً، علي بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد، أول من آمن بالله وصلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيداً شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله ﷺ ولدني مرتين، من قبل جدي الحسن والحسن، فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذاباً، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته، إلا حدا من حدود الله، أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفي بالعهد منك، وأحرى لقبول الأمان. فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو! أأمان ابن هبيرة? أم أمان عمك عبد الله بن علي? أم أمان أبي مسلم! والسلام. فكتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: فقد أتاني كتابك، وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، ولقد جعل العم أباً، وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام: "واتبعت ملة أباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب" يوسف: 38، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً ﷺ وعمومته أربعة، فأجابه اثنان: أحدهما أبي. وكفر اثنان أحدهما أبوك. فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب، فإن الله لم يهد أحداً من ولدها للإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنة غداً، ولكن الله أبى ذلك فقال: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" القصص: 56. فأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة أم الحسن وأن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين محمد رسول الله ﷺ لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله ، فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال: "ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين" الأحزاب:40، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة من قبلها? ولقد طلب بها أبوك بكل وجه، فأخرجها تخاصم، ومرضها سراً، ودفنها ليلاً، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله ﷺ فأمر بالصلاة غيره، ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً، فلم يأخذوا أباك فيهم، ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها. بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعداً إلى بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة، فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حلة، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأما قولك: إن الله اختار لك في الكفر، فجعل أباك أهون أهل النار عذاباً، فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هين، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفخر بالنار، وسترد فتلعم، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" الشعراء:227. وأما قولك: إنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وأنك أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، وقدمت نفسك على من هو خير من أولاً وآخراً، وأصلاً وفصلاً، فخرت على إبراهيم ابن رسول الله ﷺ وعلى والد ولده، فانظر ويحك أين تكون من الله غداً! وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله ﷺ أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن، ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر، وهو خير منك، ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فاجتمعا على خلعه، ثم خرج عمك الحسين بن علي على ابن مرجانة، فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب بغير أوطية، كالسبي المجلوب، إلى الشأم. ثم خرج منكم غير واحد فقتلتكم بنو أمية، وحرقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم، فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، بعد أن كانوا يعلنون أباك في أدبار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم، وبينا فضله، وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا لما ذكرنا من فضل علي أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء، ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعباس دون إخوته، فنازعنا فيها أبوك إلى عمر، فقضى لنا عمر عليه، وتوفي رسول الله ﷺ وليس من عمومته أحد حياً إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم، فلم ينلها إلا ولده، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله ﷺ خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسا جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار، ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدى عقيلاً يوم بدر. فقد مناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزنا شرف الآباء، وأدركنا من ثأركم ما عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم. والسلام.


رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله القسري قال أبو العباس: وقد ذكرنا رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله، وإنا سنذكرها بتمامها في غير الموضع الذي ابتدأنا وذكرها أولاً فيه، وكان سبب هذه الرسالة إفراط خالد في الدالة على هشام، وأنه أخذ ابن حشان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه آثار الدم، فأدخله أبوه إلى هشام، مع ما قد أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة، واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق، فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلا لما أحب من رب الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك. وكان أمير المؤمنين أحق من استصلح ما فسد عليه منك، فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معالجتك بالعقوبة رأيه. إن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستقل العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته، فإذا نزلت به الغير، وانكشطت عنه عماية الغي والسلطان، ذل منقاداً، وندم حسيراً، وتمكن منه عدوه قادراً عليه قاهراً له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك. وعظيم زللك، حيث تقول لجلسانك: والله ما زادتني ولاية العراق شرفاً، ولا ولاني أمير المؤمنين شيئاً لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله! ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجاج في أهل العراق، في تلك المضايق التي لقي، لعلمت أنك رجل من بجيلة، فقد خرج عليك أربعون رجلاً فغلبوك على بيت مالك وخزائنك، حتى قلت: أطعموني ماء؛ دهشاً وبعلاً وجبناً، فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمتك، منهم رزين وأصحابه. ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك، فحل العقدة، ونفض الصنيعة، وردك إلى منزلة أنت أهلها، كنت لذلك مستحقاً؛ فهذا جدك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفين، وعرض له دينه ودمه، فما اصطنع إلا عنده، ولا ولاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك، وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسان وآل ذي يزن وذي كلاع وذي رعين، في نظرائهم من بيوتات قومهم، كلهم أكرم أولية، وأشرف أسلافاً، من آل عبد الله بن يزيد. ثم أثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحفل والمجامع عند بدأة الأمور وأبواب الخلفاء، ولولا ما أحب أمير المؤمنين من رد غربك؛ لعاجلك بالتي كانت أهلها، وإنها منك لقريب مأخذها، سريع مكروهها. فيها، إن أبقى الله أمير المؤمنين، زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك، فيما ضيعت وارتكبت بالعراق، من استعانتك بالمجوس والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت يا عدي نفسه! وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك، حتى قبحت أمورك عنده، وآيسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة، وحلول الخزي، فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد، ولما عملت أكره، فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكتك، إلا راتباً بين يديه، وعنده من يقررك بها ذنباً ذنباً، ويبكتك بما أتيت أمراً أمراً، فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك فيما عرفك به من التسرع إلى حماقتك في غير واحدة. منها القرشي الذي تناولته بالحجاز ظالماً، فضربك الله بالسوط الذي ضربته به مفتضحاً على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك، فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو! ومن ذلك ذكرك زمزم، وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب وهذا الحي من قريش تسميها أم جعار؛ فلا سقاك الله من حوض رسوله، وجعل شركما لخيركما الفداء، ووالله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على صنف نحائزك وسوء تدبيرك إلا بفسالة دخائلك وبطانتك وعمالك، والغالبة عليك جاريتك الرائفة، بائعة الفهود ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك، فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه اثني عشر ألف ألف درهم. والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين هدايا النيروز والمهرجان، حابساً لأكثره، رافعاً لأقله، مع مخابث مساويك التي قد أخر أمير المؤمنين تقريك بها، ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسان، ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به، وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظن أن الله طالبك بأمور أتيتها، غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك أخاك أسداً إلى خراسان، مظهراً العصبية بها، متحاملاً على هذا الحي من مضر، قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم واحتصاره لهم وركوبه أياهم الثقات، ناسياً لحديث زرنب وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرز، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك، وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك. واعلم أن ما بعد كتاب أمير المؤمنين هذا أشد عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير، في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم، وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك. وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة. وهذا باب من متنخل طريف الشعر وذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون. قال أبو العباس: هذا الكتاب قد وفيناه جميع حقوقه، ووفينا بجميع شروطه، إلا ما أذهل عنه النسيان، فإنه قلما يخلى من ذلك، ونحن خاتموه بأشعار طريفة، وآخر ذلك الذي نختم به آيات من كتاب الله عز وجل، بالتوقيف على معانيها إن شاء الله. مختارات متفرقة من الشعر قال الشاعر: أذكر مجالس من بنـي أسـد بعدوا وحن إليهم الـقـلـب الشرق منزلنا، ومنـزلـهـم غرب، وأتى الشرق والغرب! من كل أبيض جـل زينـتـه مسك أحم وصارم عـضـب وقال آخر: حياة أبي العوام زين لقـومـه لكل امرئ قاس الأمور وجربا ونعتب أحياناً عليه ولو مضـى لكنا على الباقي من الناس أعتبا وقال مسلم: حياتك يا ابن سعدان بن يحيى حياة للمكارم والمعـالـي جلبت لك الثناء فجاء عفـواً ونفس الشكر مطلقة العقال وترجعني إليك، وإن نأت بي دياري عنك، تجربة الرجال وقيل في المثل: المبالغة في النصيحة تقع بك على عظيم الظنة. وأنشدني العباس بن الفرج الرياشي: وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد الظنة المتـنـصـح وأنشدني الرياشي: إذا الأمر أغنى عنك جنوبه فاجتنب معرة أمر أنت عنه بـمـعـزل وقال العتابي: لا ترج رجعة مذنب خلط احتجاجاً باعتذار وقال أيضاً: وفيت كل خليل ودني ثمناً إلا المؤمل دولاتي وأيامي وقيل للعتابي: ما أقرب البلاغة? قال: ألا يؤتى السامع من سوء إفهام القاتل، ولا يؤتى القائل من سوء فهم السامع. وقال ابن يسير: أقدر لرجلك قبل الخطو منزلها فمن علا زلقاً عن غرة زلقا وكان يقال: اصمت لتفهم، واذكر لتعلم، وقل لتذلق. آيات من القرآن الكريم وبيان ما فيها من المجاز ونذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون. قال الله عز وجل: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" آل عمران 175، مجاز الآية أن المفعول الأول محذوف، ومعناه: يخوفكم من أوليائه. وفي القرآن: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" البقرة 185، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهداً بلده في الشهر فليصمه، والتقدير فمن شهد منكم أي فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه، نصب الظروف لا نصب المفعول به. وفي القرآن في مخاطبة فرعون: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك أية" يونس92، فليس معنى ننجيك نخلصك، لكن نلقيك على نجوة من الأرض، ببدنك: بدرعك، يدل على ذلك لتكون لمن خلفك آية. وفي القرآن: "يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم" الممتحنة 1، فالوقف "يخرجون الرسول وإياكم" الممتحنة 1، أي ويخرجونكم لأن تؤمنوا بالله ربكم. هذا آخر الكتاب الكامل، والشكر لله والحمد له، وصلى الله على رسول الله، ونستغفر الله مما قلناه من عمد وقصد وزلل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق