الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
إقبال الجند
قال الإمام الواقدي رحمه الله تعالى آمين: حدثني أبو بكر
بن الحسن بن سفيان بن نوفل بن محمد بن ابراهيم التيمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري
وأبو سعيد مولى هشام ومالك بن أبي الحسن وإسماعيل مولى الزبير ومازن بن عوف من بني
النجار كل حدث عن فتوح الشام بما كان قالوا جميعا: إنه لما توفي رسول الله ﷺ واستخلف
بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتل في خلافته مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة
وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعته العرب فعزم أن يبعث جيشه إلى الشام وصرف وجهه
لقتال الروم فجمع أصحاب رسول الله ﷺ في المسجد وقام فيهم خطيبا فحمد الله عز وجل
وقال: يا أيها الناس رحمكم الله تعالى اعلموا أن الله فضلكم بالإسلام وجعلكم من
أمة محمد عليه الصلاة والسلام وزادكم ايمانا ويقينا ونصركم نصرا مبينا وقال فيكم:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] واعلموا أن رسول الله ﷺ كان
عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه واختار له ما لديه إلا وإني عازم أن
اوجه ابطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم فإن رسول الله ﷺ أنبأني بذلك قبل موته
وقال: "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي
منها" فما قولكم في ذلك فقالوا: يا خليفة رسول الله مرنا بأمرك ووجهنا حيث
شئت فإن الله تعالى فرض علينا طاعتك فقال تعالى: {يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ منكم}
[النساء: 5] ففرح أبو بكر رضي الله عليه ونزل عن المنبر وكتب الكتب إلى ملوك اليمن
وأهل مكة وكانت الكتب فيها نسخة واحدة. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليكم.
أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على
نبيه محمد ﷺ وقد عزمت أن أوجهكم إلى بلاد الشام لتأخذوها من أيدي الكفار والطغاة
فمن عول منكم على الجهاد والصدام فليبادر إلى طاعة الملك العلام ثم كتب:
{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 4] الآية ثم بعث الكتب إليهم وأقام ينتظر جوابهم
وقدومهم وكان الذي بعثه بالكتب إلى اليمن أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ قال: فما
مرت الأيام حتى قدم أنس رضي الله عنه يبشره بقدوم أهل اليمن وقال: يا خليفة رسول
الله وحقك على الله ما قرأت كتابك على أحد إلا وبادر إلى طاعة الله ورسوله وأجاب
دعوتك وقد تجهزوا في العدد والعديد والزرد النضيد وقد أقبلت إليك يا خليفة رسول
الله مبشرا بقدوم الرجال وأي رجال وقد أجابوك شعثا غبرا وهم أبطال اليمن وشجعانها
وقد ساروا إليك بالذراري والأموال والنساء والأطفال وكأنك بهم وقد أشرفوا عليك
ووصلوا إليك فتأهب إلى لقائهم قال فسر أبو بكر رضي الله عنه بقوله سرورا عظيما
وأقام يومه ذلك حتى إذا كان من الغد اقبلوا إلى الصديق رضي الله عنه وقد لاحت غبرة
القوم لأهل المدينة قال فاخبروه فركب المسلمون من أهل المدينة وغيرهم واظهروا
زينتهم وعددهم ونشروا الأعلام الإسلامية ورفعوا الألوية المحمدية فما كان إلا قليل
حتى أشرفت الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قوم في أثر قوم وقبيلة في أثر قبيلة
فكان أول قبيلة ظهرت من قبائل اليمن حمير وهم بالدروع الداودية والبض العادية
والسيوق الهندية وأمامهم ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه فلما قرب من الصديق رضي
الله عنه أحب أن يعرفه بمكانه وقومه وأشار بالسلام وجعل ينشد ويقول:
أتتك حمير بالأهلين والولد
...
أهل السوابق والعالون بالرتب
أسد غطارفة شوس عمالقة
...
يردوا الكماء غدا في الحرب بالقضب
الحرب عادتنا والضرب همتنا
...
وذو الكلاع دعا في الأهل والنسب
دمشق لي دوت كل الناس اجمعهم
...
وساكنيها سأهويهم إلى العطب
قال: فتبسم أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله ثم قال لعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه: يا أبا الحسن أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا أقبلت حمير
ومعها نساؤها تحمل أولادها فأبشر بنصر الله على أهل الشرك أجمعين" فقال
الإمام علي صدقت وأنا سمعته من رسول الله ﷺ. قال أنس رضي الله عنه وسارت حمير بكتائبها
وأموالها وأقبلت من بعدها كتائب مذحج أهل الخير العتاق والرماح الدقاق وأمامهم.
سيدهم قيس بن هبيرة المرادي رضي الله عنه فلما وصل إلى
الصديق رضي الله عنه جعل يقول: صلوا على طه الرسول:
أتتك كتائب منا سرعا
...
ذوو التيجان أعني من مراد
فقدمنا أمامك كي ترانا
...
نبيد القوم بالسيف النجادى
قال: فجزاه أبو بكر رضي الله عنه خيرا وتقدم بكتائبه ومواليه وتقدمت
من بعده قبائل طيىء يقدمها حارث بن مسعد الطائي رضي الله عنه فلما وصل هم أن يترجل
فأقسم عليه أبو بكر رضي الله عنه بالله تعالى أن لا تفعل فدنا منه فصافحه وسلم
عليه وأقبلت الأزد في جموع كثيرة يقدمها جندب بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ثم جاءت
من بعدهم بنو عبس يقدمهم الأمير ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه وأقبلت من
بعدهم بنو كنانة يقدمهم غيثم بن اسلم الكناني وتتابعت قبائل اليمن يتلو بعضها بعضا
ومعهم نساؤهم وأموالهم فلما نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى نصرتهم سر بذلك وشكر
الله تعالى وانزل القوم حول المدينة كل قبيلة متفرقة عن صاحبتها واستمروا فأضر بهم
المقام من قلة الزاد وعلف الخيل وجدوبة الأرض فاجتمع أكابرهم عند الصديق رضي الله
عنه وقالوا: يا خليفة رسول الله إنك أمرتنا بأمر فأسرعنا لله ولك رغبة في الجهاد
وقد تكامل جيشنا وفرغنا من أهبتنا والمقام قد أضر بنا لأن بلدك ليست بلد جيش ولا
حافر ولا عيش والعسكر نازل فإن كنت قد بدلت فيما عزمت عليه فأمرنا بالرجوع إلى
بلدنا وأقبل الجميع وخاطبوه بذلك فلما فرغوا من كلامهم قال أبو بكر رضي الله عنه:
يا أهل اليمن ومن حضر من غيرهم أما والله ما أريد لكم الأضرار وإنما أردنا تكاملكم
قالوا: إنه لم يبق من ورائنا أحد فاعزم على بركة الله تعالى.
وصية أبي بكر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: لقد بلغني أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من الأصحاب منهم عمر
وعثمان وعلي رضي الله عنه وخرجوا إلى ظاهر المدينة ووقع النداء في الناس وكبروا
بأجمعهم فرحا لخروجهم وأجابتهم الجبال لدوي أصواتهم وعلا أبو بكر على دابته حتى
أشرف على الجيش فنظر إليهم قد ملئوا الأرض فتهلل وجهه وقال: اللهم انزل عليهم
الصبر وأيدهم ولا تسلمهم إلى عدوهم:
{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 2] وكان
أول من دعاه أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وعقد له راية وأمره على ألف فارس من سائر
الناس ودعا بعده رجلا من بني عامر بن لؤي يقال له ربيعة بن عامر وكان فارسا مشهورا
في الحجاز فعقد له راية وأمره على ألف فارس ثم أقبل أبو بكر على يزيد بن أبي سفيان
وقال له: هذا.
ربيعة بن عامر من ذوي العلا والفاخر قد علمت صولته وقد
ضممته إليك وأمرتك عليه فاجعله في مقدمتك وشاوره في أمرك ولا تخالفه فقال يزيد حبا
وكرامة وأسرعت الفرسان إلى لبس السلاح واجتمع الجند وركب يزيد بن أبي سفيان وربيعة
بن عامر وأقبلا بقومهما إلى أبي بكر رضي الله عنه فأقبل يمشي مع القوم فقال يزيد:
يا خليفة رسول الله الناجي من غضب الله من رضيت عنه لا نكون على ظهور خيولنا وأنت
تمشي فأما أن تركب وأما أن ننزل فقال: ما أنا براكب وما أنتم بنازلين وسار إلى أن
وصل إلى ثنية الوداع فوقف هناك فتقدم إليه يزيد فقال: يا خليفة رسول الله أوصنا
فقال: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك ولا تغضب على قومك ولا
على أصحابك وشاورهم في الأمر واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور فإنه لا افلح
قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا
تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا
مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 1] وإذا نصرتم
على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولا تعقروا بهيمة المأكول
ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا
يزعمون إنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم وستجدون قوما آخرين من حزب
الشيطان وعبدة الصلبان قد حلقوا أوساط رؤوسهم حتى كأنها مناحيض العظام فاعلوهم بسيوفكم
حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد استودعتكم الله ثم
عانقه وصافحه وصافح ربيعة بن عامر وقال: يا عامر اظهر شجاعتك على بني الأصفر بلغكم
الله آمالكم وغفر لنا ولكم قال: وسار القوم ورجع أبو بكر رضي الله عنه بمن معه إلى
المدينة قال فجد القوم في السير فقال ربيعة بن عامر ما هذا السير يا يزيد وقد أمرك
أبو بكر أن ترفق بالناس في سيرك فقال يزيد: يا عامر أنا أبا بكر رضي الله عنه
سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن اسبق الناس إلى الشام فلعلنا أن نفتح فتحا قبل
تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال رضاء الله عز وجل ورضاء خليفتنا وغنيمة
تأخذها فقال ربيعة فسر الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال فأخذ القوم
في السير على وادي القرى ليخرجوا على تبوك ثم على الجابية إلى دمشق قال: واتصل
الخبر للملك هرقل من قوم من عرب اليمن المنتصرة كانوا في المدينة فلما صح عند
الملك ذلك جمع بطارقته في عسكره وقال لهم: يابني الأصفر أن دولتكم قد عزمت على
الانهزام ولقد كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتقيمون الصلاة وتؤثرون
الزكاة التي أمركم بها الآباء والأجداد والقسس والرهبان وتقيمون حدود الله التي
أمركم بها في الإنجيل لا جرم إنكم ما قصدكم ملك من ملوك الوشاة ونازعكم على الشام
إلا وقهرتموه ولقد قصدكم كسرى بجنود فارس فانكسروا على أعقابهم والان قد بدلتم.
وغيرتم فظلمتم وجرتم وقد بعث إليكم ربكم قوما لم يكن في
الأمم أضعف منهم عندنا وقد رمتهم شدة الجوع إلينا وأتى بهم إلى بلادنا وبعثهم صاحب
نبيهم ليأخذوا ملكنا من أيدينا ويخرجونا من بلادنا ثم إنه حدثهم بالذي سمعه من
طرسيسه.
فقالوا:
أيها الملك نردهم عن مرادهم ونصل إلى مدينتهم ونخرب
كعبتهم قال فلما سمع مقالتهم وتبين اغتياظهم جرد منهم ثمانية آلاف من أشجع فرسانهم
وأمر عليهم خمسة من بطارقتهم وهم البطاليق وأخوه جرجيس وصاحب شرطته ولوقا بن سمعان
وصليب بن حنا صاحب غزة وكانت هذه الخمسة البطارقة يضرب بهم المثل في الشجاعة
والبراعة ثم تدرعوا واظهروا زينتهم وصلت عليهم الأمية صلاة العصر فقالوا: اللهم
انصر من كان منا على الحق وبخروهم ببخور الكنائس ثم رشوا عليهم من ماء العمودية
وودعوا الملك وساروا وأمامهم العرب المنتصرة يدلونهم على الطريق قال حدثني رفاعة
عن ياسر بن الحصين قال بلغني أن أول من وصل إلى تبوك كان يزيد بن سفيان وربيعة بن
عامر ومن معهما من المسلمين قبل وصول الروم بثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع
والمسلمون قد عموا بالرحيل إلى الشام إذ أقبل جيش الروم فلما رآه المسلمون أخذوا
على أنفسهم وكمن ربيعة بأصحابه الألف وأقبل يزيد بأصحابه الألف ووعظهم وذكر الله
تعالى وقال لهم:
اعلموا أن الله وعدكم بالنصر وأيديكم بالملائكة وقال الله
تعالى في كتابه العزيز: كم من: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 24] وقد قال ﷺ:
"الجنة تحت ظلال السيوف" وأنتم أول جند دخل الشام وتوجه لقتال بني
الأصفر فكأنكم بجنود الشام وإياكم أن تطمعوا تطعموا العدو فيكم وانصروا الله
ينصركم فبينما يزيد يعظ الناس وإذا بطلائع الروم قد اقبلت وجيوشها قد ظهرت فلما
رأوا قلة العرب طمعوا فيهم وظنوا إنه ليس ورائهم أحد فبربر بعضهم على بعض بالرومية
وقالوا: دونكم من يريد أخذ بلادكم واستنصروا بالصليب فإنه ينصركم ثم حملوا وتلقاهم
أصحاب رسول الله ﷺ بهمم عالية وقلوب غير دانية ودار القتال بينهم وتكاثرت الروم
عليهم وظنوا إنهم في قبضتهم إذ خرج عليهم ربيعة بن عامر رضي الله عنه بالكمين وقد
اعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحملوا على الروم حملة صادقة
فلما عاينت الروم من خرج عليهم إنكسروا والقى الله الرعب في قلوبهم فتقهقروا إلى ورائهم
ونظر ربيعة بن عامر إلى البطاليق وهو يحرض قومه على القتال فعلم إنه طاغية الروم
فحمل عليه وطعنه طعنة صادقة فوقعت في خاصرته وطلعت من الناحية الأخرى فلما نظر
الروم إلى ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ونزل النصر على طائفة محمد المختار
حدثنا سعد بن أوس عن السرية التي انفدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع يزيد بن.
أبي سفيان وربيعة بن عامر قال قد اجتمعا بعساكر الروم في
ارض تبوك مع البطاليق وهزمهم الله تعالى على أيدينا وكان جملة من قتل منهم الفا
ومائتين ومن قتل من المسلمين مائة وعشرين رجلا قال: وأن القوم لما انهزموا قال لهم
جرجيس: وهو أخو المقتول: يا ويلكم بأي وجه ترجعون إلى الملك وقد عملوا فينا عملا
ذريعا وملئوا الأرض من قتلانا ولا ارجع حتى أخذ بثأر أخي أو الحق به قال: واجتمع القوم
وسمعوا منه ذلك ورجع بعضهم إلى بعض وعادوا إلى القتال فلما استقروا في خيامهم
بعثوا رجلا من العرب المنتصرة اسمه القداح وقالوا له: امضي إلى بني عمك وقل لهم
يبعثوا لنا رجلا من كبارهم وعقلائهم حتى ننظر ما يريدون منا قال فركب القداح جواده
واقبل نحو جيش المسلمين فلما رأوه مقبلا إليهم استقبله رجال من الأوس وقالوا له:
ماذا تريد قال لهم: أن البطارقة يريدون رجالا من عقلائكم ليخاطبوهم فيما يريد الله
من صلاح شأن الجمعين قال فأخبروا يزيد بن ربيعة بما قال المتنصر فقال ربيعة بن
عامر أنا أسير إلى القوم.
فقال يزيد: يا ربيعة أنا أخاف عليك من القوم لانك قد
قتلت كبيرهم بالأمس فقال ربيعة {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:5] وإني
أوصيك والمسلمين أن تكون همتكم عندي فإذا رأيتم القوم غدروا بي فاحملوا عليهم ثم
ركب جواده وسار حتى أتى جيش الروم وقرب من سرداق أميرهم فقال القداح عظم جيش الملك
وانزل عن جوادك فقال ربيعة رضي الله عنه ما كنت بالذي انتقل من العز إلى الذل ولست
أسلم جوادي لغيري وما أنا بنازل إلا على باب السرداق وإلا رجعت من حيث جئت لاننا
ما بعثنا إليكم بل انتم بعثتم إلينا قال فأعلم القداح الروم بما تكلم به ربيعة بن
عامر فقال بعضهم لبعض صدق العربي في قوله دعوه ينزل حيث أراد قال فنزل ربيعة على
باب السرداق وجثا على ركبته وأمسك عنان جواده بيده وسلاحه فقال له جرجيس: يا أخا
العرب لم تكن أمة أضعف منكم عندنا وما كنا نحدث أنفسنا إنكم تغزوننا وما الذي
تريدون منا فقال ربيعة نريد منكم أن تدخلوا في ديننا وأن تقولوا بقولنا وأن أبيتم
تعطونا الجزية عن يد وانتم صاغرون وإلا فالسيف بيننا وبينكم فقال جرجيس فما منعكم
أن تقصدوا الفرس وتدعون الصداقة بيننا وبينكم فقال ربيعة بدأنا بكم لانكم اقرب
إلينا من الفرس وأن الله تعالى أمرنا في كتابه بذلك قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 12] قال جرجيس فهل لك أن تعقد الصلح بيننا وبينكم وأن
نعطي كل رجل منكم دينارا من ذهب وعشرة أوسق من الطعام وتكتبوا بيننا وبينكم كتاب
الصلح لا تغزون إلينا ولا نغزوا إليكم قال ربيعة لا سبيل إلى ذلك وما بيننا وبينكم
إلا السيف أو اداء الجزية أو الإسلام قال جرجيس أما ما ذكرت من دخولنا في دينكم
فلا.
سبيل إلى ذلك ولو نهلك عن آخرنا لاننا لا نرى لديننا
بدلا واما اعطاء الجزية فإن القتل عندنا أيسر من ذلك وما انتم بأشهى منا إلى
القتال والحرب والنزال لأن فينا البطارقة وأولاد الملوك ورجال الحرب وارباب الطعن
والضرب قال جرجيس لأصحابه علي بأنفس صقالبة حتى يناظروا هذا البدوي في كلامه قال:
وكان الملك هرقل قد بعث معهم قسيسا عظيما عارفا بدينهم مجادلا عن شرعهم قال فأتى
الحاجب به فلما استقر به الجلوس قال له جرجيس: يا أبانا استخبر من هذا الرجل عن
شريعتهم وعن دينهم فقال القسيس يا اخي العربي أنا نجد في عملنا أن الله تعالى يبعث
من الحجاز نبيا عربيا هاشميا قرشيا علامته أن الله تعالى يسري به إلى السماء أكان
ذلك أم لا قال: نعم اسري به وقد ذكره ربنا في كتابه العزيز بقوله تعالى: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الاسراء: 1]
قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن ربنا يفرض على هذا النبي وأمته شهرا يصومونه يقال
له: شهر رمضان قال ربيعة: نعم وقد قرأنا في القرآن العظيم شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فقال القسيس أنا وجدنا في كتابنا أن من
أحسن حسنة تكتب بعشرة قال ربيعة: نعم قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:16] قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن الله يأمر
أمته بالصلاة عليه قال ربيعة: نعم وقد قال الله في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}
[الأحزاب:5] قال فعجب القسيس من كلامه وقال للبطارقة أن
الحق مع هؤلاء القوم فقال بعض الحجاب أن هذا هو الذي قتل أخاك فلما سمع ذلك ازورت
عيناه وغضب غضبا شديدا وهم أن يثب على ربيعة ففهم ربيعة ذلك منه فوثب من مكانه اسرع
من البرق وضرب بيده إلى قائم سيفه وعاجل جرجيس بضربة فجندله صريعا قتيلا ووثب على
فرسه فركبها فاسرعت البطارقة إليه وهو راكب فحمل فيهم ونظر يزيد بن أبي سفيان إلى
ذلك فقال للمسلمين أن اعداء الله قد غدروا بصاحب رسول الله ﷺ فدونكم وإياهم فحمل
المسلمون على المشركين واختلط الجيش بالجيش وصبرت الروم لقتال العرب فبينما هم في
القتال إذ أشرفت جيوش المسلمين مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ فلما نظر
المسلمون إلى أخوانهم في القتال حملوا على القوم حملة صادقة وحكمت سيوفهم في قمم
الروم.
قال الواقدي: لقد بلغني أن الثمانية آلاف المذكورة من
الروم لم ينج منهم أحد لأن العرب التقطوهم بسبق الخيل وبعد الشام من تبوك ثم أن
المسلمين أخذوا أموالهم وخيامهم ثم سلموا على شرحبيل ومن معه وجمعوا المال
والغنائم فقالوا: نبعث.
الجميع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فرضوا بذلك وبعثوا
الجميع إلا العدة والسلاح وبعثوا مع الغنائم والأموال شداد بن أوس رضي الله عنه في
خمسمائة فارس ولما وصل بالمال إلى المدينة المنورة وعاين المسلمون أموال المشركين
رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير محمد ﷺ وسمع الصديق
بقدوم شداد بن أوس رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ففرح بذلك فرحا شديدا ثم
اقبلوا إلى الصديق واعلموه بالفتح بعد أن سلموا عليه فسجد لله عز وجل ثم كتب كتابا
إلى أهل مكة يستدعيهم للجهاد مضمونه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أهل
مكة وسائر المؤمنين فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ.
أما بعد فاني قد استنفرت المسلمين إلى الجهاد وفتح بلاد
الشام وقد كتبت إليكم والى المسلمين أن تسرعوا إلى ما أمركم به ربكم تبارك الله
وتعالى إذ يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أن
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:4] وهذه الآية فيكم وانتم أحق بها وأهلها وأول من
صدق وقام بحكمها من ينصر دين الله فالله ناصره ومن بخل استغنى الله عنه والله غني
حميد فسارعوا إلى جنة عالية قطوفها دانية أعدها الله للمهاجرين والأنصار فمن اتبع
سبيلهم كتب من الأولياء الأخيار وحسبنا الله ونعم الوكيل قال: وختم الكتاب ودفعه
إلى عبد الله بن حذافة فأخذه وسار حتى وصل مكة وصرخ في أهلها فاجتمعوا إليه فدفع
إليهم الكتاب فقرأوه على أصحاب رسول الله ﷺ فلما سمعوه قال سهل ابن عمرو والحرث بن
هشام وعكرمة بن أبي جهل وقالوا:
اجبنا داعي الله وصدقنا قول نبيه محمد ﷺ فأما عكرمة فإنه
قال إلى متى نبسط لأنفسنا وقد سبقنا القوم إلى المواطن وقد فاز من فاز بالصدق وأن
كنا تأخرنا عن السبق فاللحاق بالسابقين يجعلنا من الفائزين ثم خرج عكرمة بن أبي
جهل في بني مخزوم وخرج الحرث بن هشام معهم وتلاحق أهل مكة خمسمائة رجل وكتب أبو بكر
للطائف فخرجوا في أربعمائة رجل.
قال الواقدي: خرج بهم سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص
وكان غلاما نجيبا وذلك أن سعيد بن خالد أتى إلى الصديق رضي الله عنه فقال: يا
خليفة رسول الله ﷺ إنك أردت أن تعقد لأبي خالد راية ويكون قائدا من قواد جيشك
فتكلم فيه المتكلمون فعزلته حين رجع من بعثك وقد حبس نفسه في سبيل الله عز وجل ولم
أزل مجيبا دعوتك في بعثك فهل لك أن تقدمني على هذا الجيش فوالله لا يراني الله
وانيا ابدا ولا عاجزا عن الحرب قال: وكان سعيد بن خالد نجيبا انجب من ابيه وأفرس
فعقد له أبو بكر راية ودفعها إليه وأمره على الفين من العرب قال فلما سمع عمر بن
الخطاب.
كلام سعيد بن خالد وانه خير من أن يكون أميرا كره لك ذلك
وأقبل على الصديق رضي الله عنه يا خليفة رسول الله عقدت هذه الراية لسعيد بن خالد
على من هو خير منه ولقد سمعته يقول عندما عقدتها على رغم الأعادي والله لتعلم إنه
ما يريد بالقول غيري والله ما تكلمت في أبيه.
قال الواقدي: فثقل ذلك على أبي بكر وكره أن لا يعقد له
وكره ايضا أن يخالف عمر لمحبته له ونصحه ومنزلته عند النبي ﷺ ووثب قائما ودخل على
عائشة رضي الله عنها واخبرها بخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من كلامه
فقالت عائشة: قد علمت أن عمر ينصر الدين ويريد النصر لرب العالمين وما في قلب عمر
بغض للمسلمين قال فقبل قول عائشة رضي الله عنها ثم دعا بأزد الدوسي وقال له: امض
إلى سعيد بن خالد وقل له رد علينا رأيتك قال فردها وقال: والله لاقتلن تحت راية
أبي بكر حيث كان فاني قد حبست نفسي في سبيل الله.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن الصديق حال تفكره فيمن يقدم
طليعة الجيش قال فتقدم إليه سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وهشام بن الحرث وقالوا:
اشهدوا اننا قد حبسنا أنفسنا في سبيل الله فلا نرجع عن القتال ابدا فقال أبو بكر
اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون ثم أن أبا بكر دعا عمرو بن العاص فسلم إليه الرايه
وقال قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوران وبني كلاب فانصرف إلى
ارض فلسطين وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك ولا تقطع أمرا إلا بمشورته أمض بارك
الله فيك وفيهم قال فأقبل عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له:
يا أبا حفص أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب فلو كلمت الخليفة أن يجعلني
أميرا على أبي عبيدة وقد رأيت منزلتي عند رسول الله ﷺ وإني أرجو أن يفتح الله على
يدي البلاد ويهلك الأعداء قال عمر رضي الله عنه ما كنت بالذي اكذبك وما كنت بالذي
اكلمه في ذلك فإنه ليس على أبي عبيدة أمير ولأبي عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم
سابقة منك والنبي ﷺ قال فيه أبو عبيدة أمين الأمة قال عمرو ما ينقص من منزلته إذا
كنت واليا عليه قال عمر بن الخطاب: ويلك يا عمرو إنك ما تطلب بقولك هذا إلا
الرياسة والشرف فاتق الله ولا تطلب إلا شرف الاخرة ووجه الله تعالى فقال عمرو بن
العاص أن الأمر كما ذكرت ثم أمر الناس بالمسير تحت رأيته فساروا وتقدم أهل مكة وتبعهم
بنو كلاب وطيء وهوزان وثقيف وتخلف المهاجرون والأنصار ليسيروا مع أبي عبيدة بن
الجراح.
وصية الصديق لعمرو بن العاص
وتقدم عمرو بن العاص وسار قال أبو الدرداء كنت مع عمرو
بن العاص في جيشه فسمعت أبا بكر يقول وهو يوصيه: اتق الله في سرك وعلانيتك واستحيه
في خلواتك فإنه يراك في عملك وقد رأيت تقدمتي لك على من هو أقدم منك سابقة واقدم
حرمة فكن من عمال الاخرة وأرد بعملك وجه الله وكن والدا لمن معك وارفق بهم في
السير فإن فيهم أهل ضعف والله ناصر دينه ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإذا
سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وربيعة وشرحبيل بل اسلك طريق
أيليا حتى تنتهي إلى ارض فلسطين وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة فإن كان
ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال من في فلسطين وأن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في
أثر جيش وقدم سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام وسعيد ابن خالد وإياك
أن تكون وانيا عما ندبتك إليه وإياك والوهن أن تقول جعلني ابن أبي قحافة في نحر
العدو ولا قوة لي به وقد رأيت يا عمرو ونحن في مواطن كثيرة ونحن نلاقي ما نلاقي من
جموع المشركين ونحن في قلة من عدونا ثم رأيت يوم حنين ما نصر الله عليهم واعلم يا
عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر فاكرمهم واعرف حقهم ولا تتطأول عليهم
بسلطانك ولا تداخلك نجدة الشيطان فتقول إنما ولاني أبو بكر لاني خيرهم وإياك وخداع
النفس وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك والصلاة ثم الصلاة اذن بها إذا دخل
وقتها ولا تصل صلاة إلا بأذان يسمعه أهل العسكر ثم ابرز وصل بمن رغب في الصلاة معك
فذلك افضل له ومن صلاها وحده أجزأته صلاته واحذر من عدوك وأمر أصحابك بالحرس ولتكن
أنت بعد ذلك مطلعا عليهم وأطل الجلوس بالليل على أصحابك وأقم بينهم وأجلس معهم ولا
تكشف استار الناس واتق الله إذا لاقيت العدو وإذا وعظت أصحابك فأوجز واصلح نفسك
تصلح لك رعيتك فالإمام ينفرد إلى الله تعالى فيما يعلمه وما يفعله في رعيته وإني
قد وليتك على من قد مررت من العرب فاجعل كل قبيلة على حميتها وكن عليهم كالوالد
الشفيق الرفيق وتعاهد عسكرك في سيرك وقدم قبلك طلائعك فيكونوا امامك وخلف على
الناس من ترضاه وإذا رايت عدوك فاصبر ولا تتأخر فيكون ذلك منك فخرا والزم أصحابك
قراءة القرآن وانههم عن ذكر الجاهلية وما كان منها فإن ذلك يورث العداوة بينهم وأعرض
عن زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك وكن من الإئمة الممدوحين في القرآن إذ
يقول الله تعالى: {وجعلناهم آئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام
الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عبدين} قال فكان أبو بكر رضي الله عنه يوصي عمرو
بن العاص وأبو عبيدة حاضر ثم قال سيروا على بركة الله تعالى وقاتلوا اعداء الله
وأوصيكم بتقوى الله فإن الله ناصر من ينصره قال فسلم المسلمون.
عليه وودعوا وساروا في تسعة آلاف مع من ذكرنا يريدون أخذ
فلسطين فلما كان بعدهم بيوم واحد عقد العقود والرايات إلى أبي عبيدة بن الجراح
وأمره بأن يقصد بمن معه ارض الجابية وقال: يا أمين الأمة قد سمعت ما وصيت به عمرو
بن العاص وودعه المسلمون فلما عاد أبو بكر والمسلمون دعا بخالد بن الوليد وعقد له
راية وكانت له راية النبي ﷺ وأمره على لخم وجذام وضم له جيش الزحف وكانوا شجعانا
ما منهم إلا من شهد الوقائع مع رسول الله ﷺ وقال له: يا أبا سليمان قد وليتك على
هذا الجيش فاقصد به ارض العراق وفارس وارجوا الله أن ينصركم ثم إنه ودعه وسار خالد
بمن معه يطلب العراق.
قال حدثني ربيعة بن قيس قال كنت في الجيش الذي وجهه أبو
بكر الصديق مع عمرو بن العاص إلى فلسطين وايليا وكان صاحب رايته سعيد بن خالد قال:
وبعث أبو بكر مع كل جيش اميرا وهو يدعوا لهم بالنصر وأخذه القلق على المسلمين حتى
عرف ذلك في وجهه فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما هذا الغم الذي نزل بك
فقال اغتممت على جيوش المسلمين وارجوا الله أن ينصرهم على عدوهم فقال عثمان والله
ما خرج جيش سررت به إلا هذا الجيش الذي سار إلى الشام وهذا الذي اوصى الله نبيه به
وليس في قوله خلف وأنا سنظهر على الروم وفارس ولكن ما ندري متى يكون أفي هذا البعث
أو غيره ولكنأحسن الظن بالله قال: وبات الصديق فرأى في منامه كأن عمرو بن العاص وجهه
طرمة هو وأصحابه ثم قصد عمرو ارضا خضرة سهلة وفرجة فحمل على فرسه ثم أتبعه أصحابه
فإذا هم في ارض واسعة فنزلوا واستراحوا قال: وانتبه أبو بكر من منامه فرحا بما رأى
فقال عثمان يدل على فتح إلا إنه يوشك أن يلقى عمرو في قتال المشركين مشقة عظيمة ثم
يخلص منها.
قال الواقدي: كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية
والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام فقدم بعض
الساقطة إلى المدينة وابو بكر ينفذ الجيوش وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص وهو
يقول: عليك بفلسطين وايليا قال فساروا بالخبر إلى الملك هرقل فلما سمع ذلك جمع
أرباب دولته وبطارقته واعلمهم بالحديث الذي جرى وقال: يا بني الأصفر هذا الذي كنت حذرتكم
منه قديما وأن أصحاب هذا النبي لا بد أن تملك ما تحت سريري هذا وقد قرب الوعد وأن
خليفة محمد قد انفذ لكم الجيوش وكأنكم بهم وقد أتوكم وقصدوا نحوكم فحذروا أنفسكم
وقاتلوا عن دينكم وعن حريمكم فإن تهاونتم ملكت العرب بلادكم وأموالكم قال: فبكى
القوم فقال لهم: دعوا عنكم البكاء ثم قال له وزيره: أيها الملك قد اشتهينا أن تدعو
بعض من قدم بهذا الخبر عليك فأمر هرقل بعض حجابه أن.
يأتي برجل من المتنصرة ممن قدم عليه بالأخبار برجل منهم
فقال له الملك: كم عهدك قال منذ خمسة وعشرين يوما قال: فمن المتولي عليهم قال له
رجل يقال له أبو بكر الصديق: وجه جيوشه إلى بلدك قال هل رأيت أبا بكر قال: نعم
وانه أخذ مني شملة بأربعة دراهم وجعلها على كتفه وهو كواحد منهم وهو يمشي في ثوبين
ويطوف بالاسواق ويدور على الناس يأخذ الحق من القوي للضعيف قال هرقل: صفه لي قال
هو رجل آدم اللون خفيف العارضين فقال هرقل: وحق ديني هو صاحبأحمد الذي كنا نجد في
كتبنا إنه يقوم بالأمر من بعده ونجد في كتبنا أيضا أن بعد هذا الرجل رجلا آخر
طويلا كالاسد الوثاب يكون على يديه الدمدمة والجلاء قال فشهق المتنصر من قول هرقل
وقال أن هذا الذي وصفته لي رأيته معه لا يفارقه قال هرقل: هذا الأمر والله قد صح
وقد دعوت الروم إلى الرشد والصلاح فأبوا أن يطيعوني وأن ملكي سوف ينهدم ثم عقد صليبا
من الجوهر وأعطاه قائد جيوشه روبيس وقال له: قد وليتك على الجيوش فسيروا لمنع
العرب من فلسطين فإنها بلد خصب كثيرة الخير وهي عزنا وجاهنا وتاجنا فتسلم روبيس
الصليب وسار من يومه إلى أجنادين واتبعه جيش الروم.
عمرو بن العاص في فلسطين
قال الواقدي: لقد بلغني أن عمرو بن العاص توجه إلى ايليا
حتى وصل إلى ارض فلسطين هو ومن معه قال فلما نزل المسلمون بفلسطين جمع عمرو
المسلمين المهاجرين والأنصار وشاورهم في امرهم فبينما هم في المشورة إذ أقبل عليهم
عدي بن عامر وكان من خيار المسلمين وكان كثيرا ما يتوجه إلى بلاد الشام وداس ارضهم
وعرف مساكنها ومسالكها فلما اشرف على المؤمنين داروا به واوقفوه بين يدي عمرو بن
العاص فقال عمرو بن العاص ما الذي وراءك يا ابن عامر قال: ورائي المتنصرة وجنودهم مثل النمل فقال
له عمرو: يا هذا لقد ملأت قلوب المسلمين رعبا وأنا نستعين بالله عليهم فقال له:
فكم حزرت القوم فقال: أيها الأمير إني قد علوت على شرف من الجبال عال فرأيت من
الصلبان والرماح والأعلام ما قد ملأ الأجم وهو اعظم جبل بأرض فلسطين وهم زيادة عن
مائة ألف فارس وهذا ما عندي من الخبر قال فلما سمع عمرو ذلك قال:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أقبل على من
حضر من كبار المسلمين وقال: أيها الناس أنا وإياكم في هذا الأمر بالسواء فاستعينوا بالله
على الأعداء وقاتلوا عن دينكم وشرعكم فمن قتل كان شهيدا ومن عاش كان سعيدا فماذا
أنتم قائلون قال فتكلم كل رجل بما حضر عنده من الرأي فقالت طائفة.
منهم:
أيها الأمير ارجع بنا إلى البرية حتى نكون في بطن
البيداء فانهم لا يقدرون على فراق القرى والحصون فإذا جاءهم الخبر اننا توسطنا
البرية يتفرق جمعهم وبعد ذلك نعطف عليهم وهم على غفلة فنهزمهم أن شاء الله تعالى
فقال سهل بن عمرو أن هذه مشورة رجل عاجز فقال رجل من المهاجرين لقد كنا مع رسول
الله ﷺ نهزم الجمع الكثير بالجمع القليل وقد وعدكم الله النصر وما وعد الصابرين إلا
خيرا وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 12] قال سهل ابن عمرو أما أنا
فلا رجعت عن قتال الكفرة ولا رددت سيفي عنهم فمن شاء فلينهض ومن شاء فليرجع ومن
نكص على عقبيه فأنا وراءه بالمرصاد قال فلما سمع المسلمون إنه وافقه على ذلك عبد
الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالوا: أحسنت يا أبا الفاروق قال ثم أن عمرو
بن العاص عقد راية واعطاها عبد الله بن عمر بن الخطاب وضم إليه ألف فارس فيهم رجال
من الطائف ومن ثقيف وأمرهم بالمسير فسار عبد الله وجعل يجد السير بقية يومه إلى
الصباح وإذا بغبرة القوم قد لاحت فقال عبد الله بن عمر هذه غبرة عسكر واظنها طليعة
القوم ثم وقف ووقف امامه أصحابه فقال قوم من البادية اتركنا نرى ما هذه الغبرة
فقال: لا تتفرقوا من بعضكم حتى نرى ما هي فوقف الناس وإذا بالغبرة قد قربت وانكشفت
عن عشرة آلاف من الروم وقد بعث معهم روبيس بطريقا من أصحابه وكانوا قد ساروا
يكشفون خبر المسلمين فلما نظرهم عبد الله بن عمر قال لأصحابه: لا تمهلوهم لانهم لا
بد لهم منكم والله ينصركم عليهم واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف قال فأعلن القوم
بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما جهروا بها أجابهم الشجر والمدر والدواب
والحجر وكان أول من حمل عكرمة بن أبي جهل وتبعه سهل بن عمرو والضحاك أيضا بالجملة
وصاح في رجاله وحمل المهاجرون والأنصار معهم والتقى الجمعان وعمل السيف في الفريقين
قال عبد الله بن عمر وبينما أنا في الوقعة إذ نظرت من القوم بطريقا عظيم الخلقة
وهو كالحائر البليد وهو يركض يمينا وشمالا فقلت: إن يكن لهذا الجيش عين فهذا عين
الجيش وصاحب الطلائع وهو مرغوب من الحرب فلما حملت عليه ومددت قناتي إليه نفر فرسه
من الرمح فقربت منه واوهمته إني أريد الانهزام ثم عطفت عليه وطعنته فوالله لقد خيل
لي إني ضربت بسيفي حجرا وسمعت طنين السيف حتى حسبت أن سيفي انفصل وإذا هو صريع ثم
عطفت عليه واخذت لامته فلما رأى المشركون صاحبهم مجندلا داخلهم الفزع والهلع
وصدمهم المسلمون في الضرب والقتال فلله در الضحاك والحرث بن هشام لقد قاتلا قتالا
شديدا ما عليه من مزيد فما كان غير قليل حتى انهزم الكفار من بين ايديهم هاربين
قال فرجع المسلمون واجتمع بعضهم على بعض وجمعوا الغنائم والأموال وقال بعضهم لبعض
ما فعل الله بعبد الله بن.
عمر قال قائل منهم الله خبير بحسن زهده وعبادته وقال
اخرون لقد أصبنا بابن عمر فما كان يساوي هذا الفتح شعرة من رأسه.
قال عبد الله بن عمر وأنا مع ذلك أسمع كلامهم خلف الراية
فاعلنت بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وهززت الراية فلما نظر
المسلمون الراية سارعوا إلى وقالوا: أين كنت فقلت: اشتغلت بقتال صاحبهم فقالوا:
أفلح والله وجهك فهذا والله فتح قد رزقنا الله إياه ببركتك قال عبد الله: بوجوهكم
ثم حازوا الأموال والغنائم والخيل وستمائة أسير وقتل من المسلمين سبعة نفر فواروهم
وصلى عليهم ابن عمر وانعطف الجيش إلى عمرو بن العاص وحدثوه بما جرى ففرح وحمد الله
تعالى ثم دعا بالأسرى واستنطق منهم بالعربية فما كان فيهم غير ثلاثة نفر من أنباط
الشام فسألهم عن خبرهم وخبر أصحابهم فقالوا: يا معشر العرب أن هذا روبيس قد أقبل
في مائة ألف فارس وقد امره الملك أن لا يدعأحدا من العرب يصل ايليا وانه بعث بهذا
البطريق طليعة وقد قتل وكأنكم به فقال عمرو أن الله يقتله كما قتل صاحبكم ثم عرض
عليهم الإسلام فماأحد منهم أسلم فقال عمرو للمسلمين كأنكم بصاحبهم وقد أتى يأخذ
ثأرهم وهؤلاء تركهم علينا بلاء ثم أمر بضرب اعناقهم وصاح بالمسلمين استعدوا فاني
أظن أن القوم سائرون فإن أتوا إلينا فهم في شدة وقوة وسنلقي منهم تعبا في القتال
وأن سرنا إليهم نرجو من الله النصر والظفر بهم كما ظفرنا بغيرهم وما عودنا الله إلا
خيرا قال أبو الدرداء بتنا مكاننا فلما جاء الله بالصباح رحلنا فما بعدنا غير قليل
حتى اشرقت علينا عشرة صلبان تحت كل صليب عشرة آلاف فارس فلما أشرف الجيش على الجيش
أقبل عمرو ورتب أصحابه وجعل في الميمنة الضحاك وفي الميسرة سعيدا وأقام على الساقة
أبا الدرداء وثبت عمرو في القلب ومعه أهل مكة وأمر الناس يقرأون القرآن وقال لهم:
اصبروا على قضاء الله وارغبوا في ثواب الله وجنته ثم إنه جعل يصفهم ويعبيهم تعبية
الحرب ونظر روبيس بطريق الروم إلى عسكر المسلمين وقد صفهم عمر بن العاص لا يخرج
سنان عن سنان ولا عنان عن عنان ولا ركان عن ركاب وهم كأنهم بنيان مرصوص وهم يقرأون
القرآن والنور يلمع من نواصي خيولهم فشم منهم رائحة النصر وتبين من نفسه الجزع وعلم
أن كل من معه كذلك فوقف ينظر ما يكون من المسلمين وانكسرت حميته قال: وكان أول من برز
من جيش المسلمين سعيد ابن خالد رضي الله عنه وهو اخو عمرو بن العاص من امه فلما
برز نادى برفيع صوته: ابرزوا يا أهل الشرك ثم حمل على الميمنة فالجأها إلى المسيرة
وحمل على الميسرة فالجأها إلى الميمنة وقتل رجالا وجندل أبطالا ثم اقتحم فيهم
فشوشهم وزعزع جيشهم قال فاجتمعوا عليه فقتلوه رحمة الله عليه قال فحزن المسلمون
على قتله حزنا عظيما واكثرهم عمرو بن العاص وقال: واسعيداه لقد اشترى نفسه من الله
عز.
وجل ثم قال:
يافتيان من يحمل معي هذه الحملة حتى ننظر ما يكون من
امرها وأنظر حال سعيد قال فاسرع بالإجابة ذو الكلاع الحميري وعكرمة بن أبي جهل
والضحاك والحرث بن هشام ومعاذ بن جبل وابو الدرداء وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي
الله عنهم اجمعين قال عبد الله وكنا سبعين رجلا وحملنا حتى دنونا من القوم وهم لا يفكرون
من حملتنا لانهم جبال من حديد.
قال الواقدي: رحمة الله عليه فلما رأى المسلمون ثبات
الروم صاح بعضنا لبعض ابعجوا دوابهم فما هلاكهم غير ذلك قال فبعجنا دوابهم بالاسنة
فتنكسوا فبعد انتكاسهم تفرق بعضهم عن بعض وحملوا علينا وحملنا عليهم وكنا فيهم
كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وكان شعارنا يوم فلسطين لا إله إلا الله
محمد رسول الله يا رب انصر امة محمد ﷺ قال أبو الدرداء: فلقد شغلني الحرب عن
مناشدة الاشعار ولقد كان أحدنا لا يدري أهو يضرب أخاه أو عدوه من كثرة القتام قال
فثبت المسلمون مع قتلهم وفوضوا امرهم إلى الله عز وجل وما كان أحد من المسلمين
يضرب إلا وظهره ناطق بالدعاء يقول: اللهم انصرنا على من يتخذ معك شريكا قال عبد
الله بن عمر بن الخطاب فلم يزل الحرب بيننا إلى وقت الزوال وهبت الرياح والناس في
القتام إذ نظرت إلى السماء وقد انفرج فيها فرج وخرجت منها خيول شهب تحمل رايات
خضرا أسنتها تلمع ومناد ينادي بالنصر ابشروا يا أمة محمد ﷺ فقد أتاكم الله بالنصر
قال فلما كان غير قليل إذ نظرت إلى الروم منهزمين والمسلمون في أعقابهم لأن خيل
العرب أسبق من خيل الروم قال ابن عمر فقتلنا في هذه الواقعة قريبا من خمسة عشر ألف
فارس واكثر ولم نزل في آثارهم إلى الليل وعمرو بن العاص قد فرح بالنصر وقلبه متعلق
بالمسلمين لاسراعهم وراء العدو وقال عمرو بن غياث فنظرت إلى عمرو بن العاص والراية
في يده وقد أوفى القناة على عاتقه وهو يعركها بيده ويقول: من يرد الناس علي رد الله
عليه ضالته إذ نظرت العرب قد عطفت راجعة كعطفة الأم على ولدها فاستقبلهم عمرو وهو
يقول: هنيئا لهذه الوجوه التي تعبت في رضا الله تعالى أما كان لكم كفاية في أن
خولكم الله حتى اتبعتم العدو فقالوا: ما أردنا الغنيمة بل القتال والجهاد قال:
ولما رجع المسلمون لم يكن لهم همة إلا افتقاد بعضهم بعضا ففقد من المسلمين مائة
وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالسعادة منهم سيف بن عبادة ونوفل بن دارم والأهب بن
شداد والباقي من اليمن ووادي المدينة قال فاغتم عمرو لفقدهم ثم راجع نفسه وقال قد
نزل بهم خير وانت يا عمرو تأبى ذلك ثم ندب الناس إلى الصلاة كما أمره أبو بكر
الصديق رضي الله عنه فصلى ما فاته كل صلاة بأذان واقامة قال ابن عمر ما صلى خلفه
إلا قليل بل صلى الناس في رحالهم من تبعهم ولم يجمعوا من الغنائم إلا القليل وبات
الناس فلما أصبح عمرو أذن وصلى بهم وأمر الناس بجمع الغنائم وأن يخرجوا.
2 إخوانهم المؤمنين من الروم فجعلوا يلتقطونهم قال
فاخرجوا مائة وثلاثين رجلا ووجدوا سعيد بن خالد فلما نظر عمرو إلى ما نزل به بكى
وقال رحمك الله فقد نصحت لدين الله وأديت النصيحة ثم جعله في جملة المسلمين وصلى
عليهم وأمر بدفنهم وذلك قبل أن يخمس شيئا من الغنائم ثم بعد ذلك جمعها إليه وكتب
إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه.
كتاب عمرو بن العاص إلى أبي عبيدة
بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى أمين الأمة
أما بعد فإن يأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ وإني قد وصلت
إلى ارض فلسطين ولقينا عساكر الروم مع بطريق يقال له روبيس: في مائة ألف فارس فمن الله
بالنصر وقتل من الروم خمسة عشر ألف فارس وفتح الله على يدي فلسطين بعد أن قتل من
المسلمين مائة وثلاثون رجلا فإن احتجت الي سرت إليك والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته ودفع الكتاب إلى أبي عامر الدوسي وأمره أن يسير إلى أبي عبيدة قال فأسرع
أبو عامر بالكتاب فوجد أبا عبيدة وهو نازل بأرض الشام وجاهر بالدخول إليها غير إنه
امره كما امره أبو بكر قال فلما وصل أبو عامر قال له أبو عبيدة: ما وراءك قال خير
هذا كتاب من عمرو بن العاص يخبرك بما فتح الله على يديه ثم سلم إليه الكتاب فلما
قرأه خر ساجدا فرحا بنصر الله ثم قال: والله قتل من المسلمين رجال أخيار منهم سعيد
بن خالد قال أبو عامر فكان خالد والده جالسا فلما سمع بأن ولده قد قتل قال: وا
ابناه وجعل يبكيه حتى بكى المسلمون لبكائه ثم أن خالدا اسرع إلى فرسه فركبها وعزم
إلى ارض فلسطين لينظر إلى قبر ولده فقال أبو عبيدة: كيف تسير وتدعنا فقال إنما انظر
قبر ولدي وارجو الله أن يلحقني به قال: وكتب أبو عبيدة كتابا لعمرو بن العاص يقول
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إنما أنت مأمور فإن كان أبو بكر امرك أن تكون معنا
فسر إلينا وأن كان امرك بالثبات في موضعك فاثبت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
وطوى الكتاب وسلمه إلى خالد بن سعيد وسار مع أبي عامر إلى أن أتيا إلى جيش عمرو بن
العاص فدفع له الكتاب وهو يبكي فوثب عمرو وصافح خالد ورفع منزلته وعزاه في ولده
سعيد وعزاه المسلمون فقال خالد: يا أيها الناس هل اروى سعيد رمحه وسيفه في الكفار
قالوا: نعم فلقد قاتل وما قصر ولقد جاهد في الدين ونصر فقال اروني قبره قال فأروه
إياه فأقام على القبر وقال: يا ولدي رزقني الله الصبر عليك والحقني بك وأنا لله
وأنا إليه راجعون والله أن مكنني الله لآخذن بثأرك يا ولدي عند الله احتسبتك ثم
قال لعمرو بن العاص إني أريد أن أسري بسرية في طلب القوم فلعل أن أجد فيهم فرصة أو
غنيمة واكون قد أخذت بثأر ولدي فقال عمرو أن الحرب أمامك يا.
ابن الأم فإذا رأيت الروم فلا تبق عليهم فقال خالد:
والله لأسيرن إليهم ثم أخذ اهبته للمسير وعزم أن يسير وحده فركب معه ثلثمائة فارس
من فتيان حمير فساروا يومهم ذلك اجمع وارادوا النزول في الأودية ليعلفوا دوابهم
ويسيروا ليلتهم إذ نظر خالد بن سعيد إلى أشباح على ذروة جبل هناك عال منيع فقال لأصحابه:
إني أرى أشباحا على ذروة هذا الجبل ونحن في هذا الوادي ثم قال كونوا في اماكنكم ثم
نزل عن فرسه وتقلد سيفه والتحف بازاره وقال: اعلموا أن القوم ما علموا بنا ولو
نظروا إلينا ما ثبتوا في اماكنهم فمن منكم يبذل نفسه ويصنع كما أصنع قالوا: كلنا
لك قال فطافوا في الجبل حتى أشرفوا على القوم وهم في أماكنهم فعند ذلك قال خذوهم
بارك الله فيكم فأسرع إليهم المسلمون فقتلوا منهم ثلاثين واسروا أربعة فسألهم خالد
بن سعيد فإذا هم من انباط الشام عن حالهم فقالوا: نحن من أهل هذا البقيع والجامعة
وكفار القرية وقد عظم علينا دخول العرب إلى بلادنا وقد فزعنا منهم فزعا عظيما وقد
هرب أكثرنا إلى الحصون والقلاع وقد اعتصمنا نحن بهذا الجبل لانه ليس في الرستاق أحصن
منه فعلونا عليه وانتم كبستمونا قال خالد: فما بلغكم عن جيش الروم قالوا: بأجنادين
وهذا البطريق أقبل إلينا ليأخذ الميرة والعلوفة وقد جمعوا له الدواب والبغال
والحمير تحمل الميرة وهم مع ذلك خائفون أن تلحقهم خيل العرب وهذا خبر قومنا ولا شك
إنهم رحلوا من يومهم قال فلما سمع خالد بن سعيد مقالتهم قال غنيمة للمسلمين ورب
الكعبة ثم قال: اللهم انصرنا عليهم ثم سأل على أي طريق سار القوم قالوا: على هذه
الطريق التي انتم عليها لانها اوسع الطرق كلها واما الميرة فإنها مجموعة من حول
البلاد فلما سمع خالد كلامهم قال لهم:
أسلموا فقالوا له: ما نعرف إلا دين الصليب ونحن فلاحين
قال فهم خالد بقتلهم فقال رجل من أصحابه دعهم يدلونا على الطريق إلى مسيرة القوم
فأجابوهم إلى ذلك وساروا وهم يدلونهم إلى تل عظيم قال فتوافق القوم وهم يحملون
دوابهم حول التل ومعهم ستمائة لابس من القوم فلما نظر خالد إلى ذلك قال لأصحابه:
اعلموا أن الله قد وعدكم بالنصر على عدوكم وفرض عليكم الجهاد وهذا جيش العدو
امامكم فارغبوا في ثواب الله تعالى واسمعوا ما قال الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ
مَرْصُوصٌ} [الصف:] وها أنا أحمل فاحملوا ولا يخرج أحد عن صاحبه ثم أن خالدا حمل
وحمل أصحابه قال: فلما رأونا استقبلونا وانهزم من كان مع الدواب من الفلاحين وصبرت
الخيل لقتالنا ساعة من النهار قال: فبينما ذو الكلاع الحميري يشجع أصحابه ويقول:
يا أهل حمير ابواب الجنة فتحت والحور العين قد تزخرفت وإذا بصاحب القوم قد لقيه خالد
فعرفه بلامته وحسن زيه قال فاستقبله وصرخ فيه فأرعبه ثم قال: يا لثأر ولدي سعيد
وطعنه طعنة صادقة فجندله صريعا كأنه.
برج من حديد وما بقى أحد إلا قتل من الروم قال: فلما رأى
الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وقتل منهم ثلثمائة وعشرون فارسا وولى
الباقون منهزمين وتركوا الأثقال والبغال والميرة واخذ المسلمون الجميع بعون الله
تعالى قال: واطلق سراح الفلاحين وعاد خالد ومن معه بالغنائم والميرة إلى عمرو بن
العاص ففرح بسلامتهم وشكر فعلهم وكتب كتابا إلى أبي بكر الصديق وذكر له ما جرى مع الروم
وبعث الكتاب مع أبي عامر الدوسي رضي الله عنه واخذه وقدم به المدينة وأعطاه أبا
بكر الصديق رضي الله عنه فلما قرأه على المسلمين فرحوا وضجوا بالتهليل والتكبير
والصلاة على البشير النذير ثم أن أبا بكر استخبر عن أبي عبيدة فقال له عامر: إنه
قد اشرف على أوائل الشام ولم يجسر على الدخول إليها وانه سمع أن جيوش الملك قد
اجتمعت من حول اجنادين وهم أمم لا تحصى وقد خاف على المسلمين أن يتوسط بهم عدوهم.
خالد بن الوليد في الشام
فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة ولا
يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال
الروم واستشار المسلمين في ذلك فقالوا: الرأي ما تراه وكتب كتابا يقول الوليد:
سلام عليك أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد ﷺ وإني
قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل
وقتال اعداء الله وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده ثم كتب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الصف:1] الآية وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه وبعث الكتاب مع نجم بن
مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالدا رضي الله عنه قد اشرف
على فتح القادسية فدفع إليه الكتاب فلما قرأه قال: السمع الطاعة لله ولخليفة رسول
الله ﷺ ثم ارتجل ليلا واخذ طريقه عن اليمين وكتب كتابا إلى أبي عبيدة يخبره بعزله
وبسيره إلى الشام وقد ولأني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى اقدم
عليك والسلام وبعث الكتاب مع عامر بن الطفيل رضي الله عنه وكان أحد أبطال المسلمين
فأخذه وتوجه يطلب الشام.
وأما خالد فلما وصل إلى ارض السماوة قال: أيها الناس أن
هذه الأرض لا تدخلونها إلا بالماء الكثير لانها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم
والماء معكم قليل فكيف يكون الأمر فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه:
أيها الأمير إني أشير عليك بما تصنع فقال: يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله
مولانا جل وعلا للخير قال: فأخذ رافع ثلاثين جملا وعطشها سبعة أيام ثم اوردها
الماء فلما رويت خرم.
أفواهها ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا
كلما نزلوا منزلا أخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في
بطونها فيجعلونه في حياض الأدم فإذا برد سقوه للخيل وأكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك
حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء واشرف خالد ومن معه على الهلاك فقال
خالد لرافع ابن عميرة: يا رافع قد اشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل
فيه.
قال الواقدي: وكان رافع رمدت عيناه فقال: أيها الأمير
أتاني رمد كما ترى ولكن إذا اشرفتم على ارض سهلة فاعلموني قال: فلما اشرفوا عليها
اعلموا رافعا بذلك قال فرفع طرف عمامته عن عينيه وسار على راحلته يضرب يمينا
وشمالا والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون ثم
قال: احفروا هنا قال فحفرت العرب واذ الماء قد طلع كالبحر فنزل الناس عليه وشكروا
الله تعالى واثنوا عليه وعلى رافع خيرا ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وابلهم ثم جدوا
في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء قال فسقوهم فارتجعت قوتهم ثم
لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين
أركة مرحلة واحدة فبينما هم كذلك إذ اشرفوا على حلة عامرة واغنام وابل قد سدت
الفضاء والمستوى فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر والى جانبه رجل من
العرب مشدود قال: فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد قال
فأقبل خالد ابن الوليد مسرعا حتى وقف عليه فلما رآه تبسم وقال: يا ابن الطفيل كيف
كان سبب اسرك قال عامر: أيها الأمير إني اشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد
اصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الراعي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمرا فقلت
له: يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة فقال لي: يا مولاي إنها ليس بخمر وإنما هي
ماء زلال فانزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمرا فافعل ما بدا لك فلما
سمعت كلامه انخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا نا بالعبد
قد طلبنا بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة فانقلبت على جانبي
فأسرع العبد الي وشدني كتافا واوثقني رباطا وقال لي: أظنك من أصحاب محمد بن عبد
الله ولست ادعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك فقلت له: ومن سيدك من العرب فقال
القداح بن وائلة وإني عند هذا العبد كلما شرب الخمر حضرني كما ترى والقى علي فضلة
من كأسه قال فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على
العبد وضربه ضربة هائلة فجندله صريعا ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا
الحلة بما فيها واطلق عامرا وقال له: أين رسالتي يا عامر فقال: يا مولاي هي فى طرف
عمامتي لم يعلم بها العبد فقال خالد: انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى قال
فركب عامر.
وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة
وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها
بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان
يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم فلما رأى المسلمين
وجيشهم انتقع لونه وقال اقترب الوقت وحق ديني فقال أهل اركة وكيف ذلك قال أن عندي ملحمة
فيها ذكر هؤلاء القوم وأن أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك
الروم فانظروا أن كانت رأيتهم سوداء واميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين
المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري فهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون
الفتح.
قال: فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال
حكيمهم قال: واجتمعوا على بطريقهم وقالوا: له: أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق
إلا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا والذي وصفه لنا رأيناه عيانا ونرى من الرأي أن
نعقد بيننا وبين العرب صلحا ونأمن على حريمنا وأنفسنا فلما سمع ذلك بطريقهم قال
أخروني إلى غد لارى من الرأي قال فانصرفوا من عنده وبات البطريق يحدث نفسه ويدبر
امره وكان عارفا عاقلا خبيرا بالأمور وقال أن أنا خالفتهم خفت أن يسلموني للعرب
وقد تحقق أن روبيس سار بجيش عظيم فهزمهم العرب ولم يزل يراود نفسه إلى أن أصبح الصباح
فدعا قومه وقال على ماذا عولتم قالوا: عولنا على اننا نقيم الصلح بيننا وبين العرب
فقا البطريق أنا واحد منكم مهما فعلتم لا أخالفكم قال فخرج مشايخ أركة إلى خالد
وكلموه في الصلح فأجابهم إلى الصلح والان الكلام لهم وتلقاهم بالرحب والسعة ليسمع
بذلك أهل السخنة ويبلغ الخبر لأهل قدمه وكان الوالي عليهم بطريق اسمه كوكب فجمع
رعيته وقال لهم: بلغني عن هؤلاء العرب إنهم فتحوا أركة والسخنة وأن قومنا يتحدثون
بعدلهم وحسن سيرتهم وإنهم لا يطلبون الفساد وهذا حصن مانع لا سبيل لاحد علينا ولكن
نخاف على نخلنا وزرعنا وما يضرنا أن نصالح العرب فإن قومنا هم الغالبين فسخنا
صلحهم وأن كان العرب ظافرين كنا آمنين قال: ففرح قومه بذلك وهيئوا العلوفة
والضيافة حتى خرج خالد رضي الله عنه من اركة ونزل عليهم فخرجوا الهي بالخدمة
وصالحهم على ثلثمائة أوقية من الذهب وكتب لهم كتابا بالصلح ثم ارتحل عنها إلى حوران
وبلغ عامر بن الطفيل كتاب خالد إلى عبيدة فلما قرأه تبسم وقال: السمع والطاعة لله
تعالى ولخليفة رسول الله صلى الله علبه وسلم ثم اعلم المسلمين بعزله وولاية خالد
بن الوليد وكان أبو عبيدة وجه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ إلى بصرى في
أربعة آلاف فارس قال: فسار على فنائها وكان على بصرى بطريق عظيم الشان والقدر عند
الملك وعند الروم اسمه روماس وكان قرأ الكتب.
السالفة والأخبار الماضية وكان يجتمع إليه الروم من اقصى
بلادها ينظرون إلى عظيم خلقته ويسمعون الفاظ حكمته وكانت آهلة بالخلق عامرة بالناس
وكان فيها ألف فارس وكان العرب يقصدونا ببضائعهم وتجارتهم من اقصى اليمين وبلاد
الحجاز فإذا كان في أيام الموسم ينصب لبطريقهم كرسي ليجلس عليه ويجتمع الناس إليه
ويستفيدون من علمه وحكمته فبينما هم قد اجتمعوا إليه وقعت الضجة بقدوم شرحبيل بن
حسنة وعسكره فبادر إلى جواده فركبه وصاح في قومه فأجابوه وقال: لا تتحدثوا حتى
نسمع كلام القوم وما عندهم ثم سار حتى قرب من شرحبيل بن حسنة وجيشه ونادى يا معشر
المسلمين أنا روماس وإني أريد صاحبكم قال فخرج إليه شرحبيل فلما قرب منه قال
البطريق من انتم قال شرحبيل: من أصحاب محمد ﷺ النبي الأمي القرشي الهاشمي المنعوت
في التوراة والإنجيل فقال روماس ما فعل الله به.
فقال شرحبيل: قبضه الله إليه فقال البطريق فمن ولى الأمر
بعده قال عتيق بن أبي قحافة بن بكر بن تيم بن مرة فقال روماس وحق ديني لقد أعلم
بأنكم على الحق ولا بد لكم أن تملكوا الشام والعراق وأنا اشفق عليكم إذا بتم في
جمع يسير ونحن في جمع كثير ولكن ارجعوا إلى بلادكم فأنا لا نتعرض لكم واعلم يا أخا
العرب أن أبا بكر هو صاحبي ورفيقي ولو كان حاضرا ما قاتلني فقال شرحبيل لو كن وله
أو ابن عمه لما عفا عنه إلا أن يكون من أهل ملته وليس له في الأمر شيء لانه مكلف
وقد امره الله أن يجاهدكم ولسنا نبرح عنكم إلا باحدى ثلاث أما أن تدخلوا في ديننا
أو تأدوا الجزية أو السيف فقال روماس وحق ما اعتقده من ديني لو كان الأمر الي ما
أقاتلكم لاني أعلم إنكم على حق وهؤلاء طواغية الروم وقوم مجتمعون وإني أريد أن
ارجع إليهم وانظر ما عندهم فقال شرحبيل ارجع إليهم فلا بد لكم بما ذكرت قال فعاد
روماس إلى قومه وجمعهم وقال: يا أهل دين النصراينة وبني ماء المعمودية أن الذي
كنتم تعتقدونه في كتبكم من الخروج من بلادكم ودياركم ونهب أموالكم قد قرب وهذا
وقته وزمانه ولستم اعظم جيشا من روبيس سار إلى شرذمة من العرب بأرض فلسطين فقتل
وقتل من معه وانهزم الباقون ولقد بلغني أن رجلا منهم قد خرج من ارض السماوة صوب
العراق اسمه خالد بن الوليد وقد فتح أركة والسخنة وتدمر وحوران وهو عن قريب يحضر
إليكم والصواب أن تؤدوا الجزية عن يد إلى هؤلاء العرب وينصرفون عنكم قال فلما سمع
قومه ذلك غضبوا وشوشوا وهموا بقتله فقال روماس يا قوم إنما أردت أن أختبركم وأرى حمية
دينكم والان دونكم والقوم وأنا في اولكم قال: فرجعت الروم إلى عددها وعديدها
وتظاهروا بالدروع البيض وقادوا الجنائب وتهيئوا للحملة فلما رأى شرحبيل بن حسنة
ذلك وعظ أصحابه وقال اعلموا رحمكم الله أن رسول الله ﷺ قال: "الجنة تحت ظلال السيوف وأحب ما
قرب إلى الله قطرة دم في سبيل الله أو دمعة جرت في جوف الليل من خشية الله"
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 10] ثم جمل
وحمل المسلمون على جيش بصرى قال عبد الله بن عدى واجتمع علينا العدو وطمعوا فينا
وحملوا علينا في اثني عشر ألف فارس من الروم ونحن فيهم كالشامة البيضاء في جلد
البعير الأسود وصبرنا لهم صبر الكرام ولم يزل القتال بيننا وبينهم إلى أن توسطت الشمس
في قبة الفلك وقد طمع العدو فينا فرأيت شرحبيل بن حسنة قد رفع يده إلى السماء وهو
يقول: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والأكرام اللهم انصرنا
على القوم الكافرين قال: فوالله ما استم شرحبيل كلامه ودعاءه حتى جاء النصر من عبد
الله العزيز الحكيم وذلك أن القوم داروا بنا فراينا غبرة قد اشرفت علينا من صوب
حوران فلما قربت لنا رأينا تحتها سوابق الخيل فلاحت لنا الأعلام الإسلامية
والرايات المحمدية وقد سبق إلينا فارسان أحدهما ينادي ويزعق يا شرحبيل يا ابن حسنة
ابشر النصر لدين الله أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد أنا خالد ابن الوليد
والأخر يزعق ويقول: أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق واشرفت العساكر من كل جانب
قال: واشرفت راية العقاب يحملها رافع بن عميرة الطائي قال حدثنا سالم بن عدي عن
ورقاء بن حسان العامري عن مسيرة بن مسروق العبسي قال.
والله لقد خمدت اصوات الروم عند زعقة خالد رضي الله عنه
واقبل المسملون يسلم بعضهم على بعض واقبل شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد وسلم
عليه فقال خالد: يا شرحبيل أما علمت أن هذه مينا الشام والعراق وفيها عساكر الروم
وبطارقتهم فكيف غررت بنفسك وبمن معك من المسلمين قال: كله بأمر أبي عبيدة فقال
خالد: أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية وليس عنده غائلة الحرب ولا يعلم بمواقعها
ثم أمر الناس بالراحة فنزلوا وارتاحوا من اتعابهم فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش
بصرى على المسلمين فقال خالد: أن الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا
بارك الله فيكم واحملوا على بركة الله تعالى قال: فركب المسملون واخذوا اهبتهم
للحرب فجعل من الميمنة رافع بن عميرة الطائي وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان
غلاما فاتكا في الحرب وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم قسم جيش
الزحف فجعل على شطره المسيب بن نجيبة الفزاري وعلى الشطر الأخر مذعور بن غانم
الاشعري وأمرهم أن يزفوا الخيل إذا حملت قال: وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس
ويوصيهم وقد عزموا على الحملة وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم
الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت فلما توسط الجمعين نادى
بلسان عربي كأنه بدوي يا معشر.
العرب لا يبرز لي إلا اميركم فأنا صاحب بصرى قال فخرج
إليه خالد رضي الله عنه كالاسد الضرغام وقرب منه فقال له البطريق: أنت أمير القوم
قال: كذلك يزعمون إني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله فإن عصيته فلا إمارة لي
عليهم قال البطريق: إني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وأن الحق لا يخفى عن ذي
بصيرة واعلم إني قرأت الكتب السابقة والأخبار الماضية فوجدت أن الله تعالى يبعث
قرشيا واسمه محمد بن عبد الله قال خالد: والله نبينا قال: انزل عليه الكتاب قال:
نعم القرآن قال روماس البطريق أحرم عليكم فيه الخمر قال خالد: نعم من شربها حددناه
ومن زنى جلدناه وأن كان محصنا رجمناه قال أفرضت عليكم الصلوات قال: نعم خمس صلوات في
اليوم والليلة قال: أفرض عليكم الجهاد قال خالد: لولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم
قال روماس والله إني لاعلم إنكم على الحق وانيأحبكم وحذرت قومي منكم وإني خائف
منكم فأبوا فقال خالد: فقل: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يكون لك
ما لنا وعليك ما علينا فقال: إني أسلمت واخاف أن يعجل هؤلاء بقتلي وسلبي حريمي
ولكن أنا اسير إلى قومي وارغبهم فلعل الله أن يهديهم فقال خالد: وأن رجعت إلى قومك
بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك ولكنأحمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك اطلب
قومك فحمل بعضهم على بعض وأرى خالد الفريقين ابوابا من الحرب حتى أبهر روماس فقال
لخالد: شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فاني خائف عليك من بطريق بعث به الملك
يقال له الديرجان فقال خالد: ينصرنا الله عليه ثم شدد على روماس الحملة حتى إنه
انهزم من بين يديه إلى قومه فلما وصل إلى قومه قالوا: ما الذي رايت من العرب قال
أن العرب اجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم أن يملكوا الشام وما تحت سريري هذا
فادخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل اركة والسخنة قال فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا
قتله وقالوا: له: ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب فانصرف روماس وقال
لعل الله ينصر خالد ثم أن أهل بصرى ولو عليهم الديرجان وقالوا: إذا فرغنا من
المسلمين سرنا معك إلى الملك ونسأله أن ينزع روماس ويوليك علينا قال الديرجان: وما
الذي تريدون قالوا: نحمل ونطلب قتال العرب قال فخرج الديرجان وطلب خالدا.
فقال عبد الرحمن لخالد يا أمير أنا أخرج إليه فقال دونك
يا ابن الصديق فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان فما لبثوا غير ساعة وقد أحس
الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزما وراح إلى قومه فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب
في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق وحمل المسلمون فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقان.
وضجت الرهبان بكلمة كفرهم فقال شرحبيل بن حسنة: اللهم أن
هؤلاء إليك بلا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك إلا ما نصرت هذا الدين على
اعدائك المشركين ثم حملوا حملة واحدة فلم يكن للروم ثبات مع العرب فولى المشركون
الأدبار وركنوا إلى الفرار فلما حطوا داخل المدينة اغلقوا الأبواب وتحصنوا
بالاسوار ورفعوا الصلبان وعولوا أن يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال قال عبد
الله بن رافع فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا اصحبانا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون
فارسا وقتل من الأعيان بدريان قال: وغنم المسلمون الأموال وصلى خالد على الشهداء
وأمر بدفنهم فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن
راشد ومائة من جيش الزحف فبينما هم يدورون حول العسكر وإذا بروماس صاحب بصرى قد
اقبل عليهم وقال لهم: أين خالد بن الوليد فاخبروه واتوا به إلى خالد فلما رآه رحب
به فقال: أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي واقلوا الزم قصرك وإلا قتلناك
فلزمت قصري وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا فلما جن الليل
أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه بابا فأتيتك فارسل معي من تعتمد عليه من أصحابك
تستلمون المدينة فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مائة
من المسلمين ويسيروا مع روماس قال ضرور بن الأزور وكنت ممن دخل المدينة فلما صرنا
في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة اقسام كل جانب
خمسة وعشرون رجلا وقال لنا عبد الرحمن إذا سمعتم التكبير فكبروا فلما سرنا حيث
امرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم.
قال الواقدي: بلغني ممن أثق به من الرواة أن عبد الرحمن
لما فارق أصحابه لبس سلاحه هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان وسار معهم
ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة فقال: لا اهلا ولا مرحبا بك ومن الذي معك قال معي صديق
لك ومشتاق إلى رؤياك قال: ويحك ومن هو يا روماس قال هذا بن أبي بكر الصديق فلما
سمع الديرجان ذلك هم أن يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن وهز سيفه في
وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال:
وكبر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكيبر فكبروا من جوانب بصرى قال:
واجابتهم الأحجار والاشجار قال: وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في
الروم وسمع خالد التكبير فصرخوا وإذا لغلمان روماس واولاده قد فتحوا لهم الأبواب
فعبر خالد ومن معه من المسلمين فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب وقد فتحت بالسيف
قهرا ضجوا بأجمعهم يقولون.
الأمان الأمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ارفعوا
السيف عنهم واقام خالد إلى الصباح واجتمع إليه أهلها وقالوا: يا أيها الأمير لو
صالحناك ما جرى شيء من ذلك لكن نسألك بالذي ايدك ونصرك ما الذ ي فتح لك أبواب
مدينتنا فاستحى خالد رضي الله عنه أن يقول: فوثب روماس وقال أنا فعلت ذلك يا اعداء
الله واعداء رسوله وما فعلته إلا ابتغاء مرضاة الله وجهادا فيكم فقالوا: أولست منا فقال: اللهم
لا تجعلني منهم رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبالكعبة قبلة وبالقرآن إماما وأنا
اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: ففرح خالد بذلك وأما أهل بصرى
فغضبوا وأضمروا له شرا وعلم بذلك روماس فقال لخالد: أنا لا أريد المقام عندهم وإني
أسير معك حيث سرت فإذا فتح الله على يديك الشام وصار لكم الأمر ردوني إليها لأن
الوطن عزيز.
قال الواقدي: حدثني معمر بن سالم عن جده قال كان روماس
يجاهد معنا جهادا حسنا حتى فتح الله على ايدينا الشام فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر
بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفي رحمه
الله وخلف عقبا يذكر به قال: وأمر خالد رجالا يعينونه على أخراج رحله وماله من المدينة
ففعلوا ذلك وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه فقال لها المسلمون: ما الذي تريدين قال
أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاؤا بها إلى خالد فقالت له: أنا استغيث بك من روماس فقال لها خالد:
وكيف ذلك فقالت: إني كنت البارحة نائمة إذ رايت شخصا ما رأيت منه وجها كأن البدر
يطلع من بين عينيه وكأنه يقول: أن المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق
فقلت له: ومن أنت يا سيدي قال محمد رسول الله ثم دعاني إلى الإسلام فاسلمت ثم
علمني سورتين من القرآن قال فحدث الترجمان خالد بما كان منها فقال أن هذا لعجيب ثم
قال خالد للترجمان: قل لها: أن تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة وقل هو الله أحد ثم جددت
اسلامها على يد خالد بن الوليد وقالت: يا أيها الأمير أما أن يسلم روماس وإلا يتركني
أعيش بين المسلمين قال فضحك خالد من قولها وقال سبحان الله الذي وفقنا جميعا ثم
قال للترجمان: قل لها: أن روماس اسلم قبلها ففرحت بذلك ثم أن خالدا أحضر أهل بصرى
وقررهم على اداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه ثم كتب إلى أبي عبيدة كتابا
يبشره بالفتح ويقول له: يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فالحقنا إليها ثم
كتب كتابا اخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله ويقول له: يوم كتبت إليك هذا
الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته
ثم بعث الكتابين كلاهما ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى اشرف على موضع يقال له: الثنية فوقف هناك
وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الآن
بدير خالد وكان.
أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق وقد اجتمعت خلائق وامم
لا تحصى من الرجال واما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر الفا وقد زينوا اسوارهم
بالطوارق والبيارق والصلبان واقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين.
قال الواقدي: ووصلت الأخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد
من الشام وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال: يا بني الأصفر لقد قلت لكم
وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا اركة وتدمر والسخنة وبصرى وقد توجهوا إلى
الربوة ففتحوها فواكرباه لأن دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم اضعاف
العرب ثم قال: أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم فإن هزمهم اعطيته ما فتحوه
ملكا فقال بطريق: من البطارقة أسمه كلوس بن حنا وكان من فرسانهم وقد عرفت شجاعته
في عساكر الروم والفرس أيها الملك أنا اكفيك وأردهم على اعقابهم منهزمين قال فلما
سمع الملك قوله سلم إليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس وقال له: قدم صليبك
أمامك فإنه ينصرك قال فأخذه كلوس وسار من يومه من انطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها
مزينة بالسلاح فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه وقد خرجت القسس والرهبان
واستقبلوه ودعوا له بالنصر وأقام بحمص يوما وليلة ثم ارتحل إلى مدينة بعلبك فخرج
إليه النساء لاطمات الخدود وقلن أيها السيد أن العرب فتحوا اركة وحوران وبصرى فقال
لهن كيف قدرت العرب على حوران وبصرى فقلن أيها السيد أن الذين ذكرتهم لم يبرحوا من
أماكنهم وأن هذا الرجل قد أقبل من العراق وهو الذي فتح أركة فقال: وما اسمه قلن
خالد بن الوليد قال في كم يكون من العساكر قلن في ألف وخمسمائة فارس فقال: وحق
المسيح لاجعلن رأسه على رأس سناني ثم رحل فلم ينزل إلا بدمشق وكان واليها بطريقا
من قبل الملك هرقل اسمه عزازير فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم
منشور الملك ثم قال لهم: أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم قالوا: نعم فقال
اخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الأمر فقالوا: أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا
من بلدنا وهذا العدو قاصد إلينا قال فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه وقد اتفق
رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يوما فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس.
قال الواقدي: ولقد بلغني إنهم كانوا يخرجون كل يوم من
باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم
خالد بن الوليد من نحو الثنية قال حدثنا يسار بن محمد قال أخبرنا رفاعة بن مسلم
قال كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به وإذا بجيش الروم قد
زحف علينا وهو.
كالجراد المنتشر فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة ثم
صرخ في وجه المسلمين وقال هذا يوم ما بعده يوم وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم
والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم باخوانكم
المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء
رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن
الأزور ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك
ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره
خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: أحمل بارك الله فيك قال
فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالا شديدا ثم حمل من بعده
خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته فلما
نظر إليه البطريق كلوس علم إنه أمير الجيش وعلم إنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من
مخافته فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه
البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين
ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبهأحد وقالوا:
أخرجوا غيره منكم فقال: ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما
منهم من فهم كلامه فأقبل عزازير على كلوس وقال أليس الملك قد قدمك علي جيشه وبعثك
إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك.
فقال كلوس أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني وقد عزمت إنك
لا تخرج إلا باذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب فقال لهما
العساكر تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب فقال كلوس لا بل
نحمل جميعا فهو أهيب لنا قال: وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو
يقتله قال فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس فقال عزازير اخرج وبين شجاعتك فقال كلوس لأصحابه
أريد أن تكون همتكم عندي فإن رأيتم مني تقصيرا فاحملوا وخلصوني فقال لأصحابه: هذا
كلام عاجز لا يفلح أبدا فقال: يا قوم أن الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل
أسمه جرجيس وقال له: أنا أترجم لك فسار معه فقال كلوس اعلم يا جرجيس أن هذا رجل ذو
شجاعة فإن رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه ويخرج له غدا عزازير
فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي فقال له: ما أنا أهل حرب وإنما أخوفه بالكلام
قال فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر إليهما قال فهم أن يخرج إليهما رافع بن
عميرة فصاح فيه خالد قال: مكانك لا تبرح فاني كفء لهما فلما دنوا من خالد قال كلوس
لصاحبه قل له: من أنت وما تريد وخوفه من.
سطواتنا فقرب جرجيس من خالد قال له: يا أخا العرب أنا
اضرب لك مثلا أن مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل
الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأسا إلى أن انقضت
الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعا عنها فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه
علم إنه لم يؤت إلا من الراعي فانتدب لغنمه غلاما نجيبا فسلمه الغنم فكان كل ليلة
يكثر الطوفان حول الغنم فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية
واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله ولم يقرب الغنم وحش
بعدها وكذلك انتم نتهاون بأمركم لانه ما كان أضعف منكم لانكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم
أكل الذرة والشعير ومص النوى فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم
وقد بعث لكم الملك رجالا لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالأبطال ولا سيما هذا الرجل
الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما انزل الغلام بالاسد وقد سألني أن أخرج إليك
واتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس فلما سمع
خالد منه ذلك قال: يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب إلا كقابض الطير
بشبكة وقد قبضتها يمينا وشمالا فلم يخرج إلا ما انفلت منه وأما ما ذكرت من بلادنا
وإنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى ابدلنا ما هو خير منه فأبدلنا
بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل وهذا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على
لسان نبيه وأما قولك ما الذي تريدونه منا فنريد منكم أحدى ثلاث خصال أما أن تدخلوا
في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما قولك أن هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم
مسكين فهو عندنا أقل القليل وأن يكن هو ركن الملك فأنا ركن الإسلام أنا الفارس
الصنديد أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله ﷺ.
معارك الشام
قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع جرجيس كلام خالد
تأخر إلى وراءه وقد تغير لونه فقال له: كلوس يا ويلك رأيتك في بدايتك تهيم كالسبع
فمالك قد تأخرت فقال: وحق المسيح ما أعلم إنه الفارس الجحجاح وبطلهم الصفاح هذا
صاحب القوم الذي ملأ الشام شرا فقال كلوس يا جرجيس اسأله أن يؤخر الحرب بيننا إلى
غد فالتفت إلى خالد وقال له: يا سيد قومك هذا صاحبي يريد أن يرجع إلى قومه
ليشاورهم فقال خالد: ويحك أتريد أن تخدعني بالكلام وأقبل برمحه في وجه جرجيس فلما
نظر جرجيس ذلك انعقد لسانه وولى هاربا فلما رأى خالد ذلك طلب كلوس وحمل عليه
وتطاعنا واحترز البطريق من طعنات خالد فلما نظر خالد احتراز البطريق خط يده في
أطواقه وجذبه فقلعه من سرجه فلما نظر المسلمون فعل خالد كبروا.
بأجمعهم وتسابق الفرسان إلى خالد فلما قربوا منه رمى لهم
البطريق وقال اوثقوه كتافا فصار يبربر بلسانه فأتى المسلمون بروماس صاحب بصري
وقالوا: له: أسمع ماذا يقول: فقال لهم يقول: فقال لهم يقول: لكم لا تقتلوني فاني
اجبت صاحبكم في المال والجزية فقال خالد: استوثقوا منه ثم نزل عن جواده وركب جوادا
أهداه له صاحب تدمر وعزم أن يهجم على الروم فقال ضرار بن الأزور: أيها الأمير دعني
أنا أحمل على القوم حتى تستريح أنت فقال: يا ضرار الراحة في الجنة غدا ثم عول خالد
على الحملة فصاح به البطريق كلوس وقال: وحق دينك ونبيك إلا ما رجعت الي حتى أخاطبك
فرجع خالد إليه وقال لروماس اسأله ما يريد فقال أعلمه إني صاحب الملك وقد بعثني
إليكم في خمسة آلاف فارس لاردكم عن بلده وأهله ورعيته وقد تحجبت أنا وعزازير متولي
دمشق وقدم الي معه كذا وكذا وأنا اسألك بحق دينك إذا خرج إليك فأقتله وأن لم يخرج
إليك فاستدعه وأقتله فإنه رأس القوم فإن قتلته فقد ملكت دمشق فقال خالد لروماس: قل
له: أنا لا نبقي عليك ولا عليه ولا على من أشرك بالله تعالى ثم إنه بعد ذلك الكلام
حمل وهو ينشد ويقول:
لك الحمد مولانا على كل نعمة
...
وشكر لما أوليت من سابغ النعم
مننت علينا بعد كفر وظلمة
...
وأنقذتنا من حندس الظلم والظلم
وأكرمتنا بالهاشمي محمد
...
وكشفت عنا ما نلاقي من الغم
فتمم إله العرش ما قد ترومه
...
وعجل لاهل الشرك بالبؤس والنقم
وألقهم ربي سريعا ببغيهم
...
بحق نبي سيد العرب والعجم
قال الواقدي: لقد بلغني ممن أثق به إنه لما ولي جرجيس
هاربا من بين يدي خالد إلى أصحابه رأوه يرتعد من الفزع فقالوا له: ما ورءاك فقال:
يا قوم ورائي الموت الذي لا يقاتل والليث الذي لا ينازل وهو أمير القوم وقد إلى
على نفسه أن يطلبنا أينما كنا وما خلصت روحي إلا بالجهد فصالحوا الرجل قبل أن يحمل
عليكم بأصحابه فلا يبقى منكم أحدا فقالوا له: ما يكفيك إنك انهزمت وقد هموا بقتله
فبينما هم كذلك إذا أقبل أصحاب كلوس على عزازير وهم خمسة آلاف وصاحوا به وقالوا
له: ما أنت عند الملك أعز من صاحبنا وقد كان بيننا وبينك شرط فاخرج أنت إلى خالد
واقتله أو أسر هـ وخلص لنا صاحبنا وإلا وحق المسيح والمذبح والذبيح شننا عليك
الحرب فقال عزازير وقد رجع به مكره ودهاؤه يا ويلكم أتظنون إني جزعت من الخروج إلى
هذا البدوي من أول مرة ولكني ما تأخرت عن الخروج إليه وتقاعدت عن قتاله حتى يتبين
عجز صاحبكم وسوف سوف ينظر الفريقان أينا أفرس واشجع وأثبت في مقام القتال إذا نحن
تشابكنا بالنصال ثم إنه في الحال ترجل عن جواده ولبس لأمته وركب جوادا يصلح
للجولان وخرج إلى قتال سيدنا خالد بن الوليد الفارس الصنديد رضي الله عنه فلما قرب
منه قال: يا أخا العرب ادن مني حتى أسألك وكان الملعون يعرف العربية فلما سمع خالد ذلك
قال: يا عدو الله ادن أنت على أم رأسك ثم هم أن يحمل عليه فقال على رسلك يا أخا
العرب أنا أدنو منك فعلم خالد أن الخوف داخله فأمسك عنه حتى قرب منه فقال: يا أخا
العرب ما حملك أن تحمل أنت بنفسك أما تخشى الهلاك فلو قتلت بقيت أصحابك بلا مقدم
فقال خالد: يا عدو الله قد رأيت ما فعل الرجلان من أصحابي لو تركتهم لهزموا أصحابك
بعون الله تعالى وإنما معي رجال وأي رجال يرون الموت مغنما والحياة مغرما ثم قال
له خالد: من أنت فقال: أوما سمعت باسمي أنا فارس الشام أنا قاتل الروم والفرس أنا
كاسر عساكر الترك فقال خالد: ما أسمك فقال أنا الذي تسميت باسم ملك الموت اسمي
عزرائيل.
قال الواقدي: فضحك خالد من كلامه وقال: يا عدو الله
تخوفني أن الذي تسميت باسمه هو طالبك ومشتاق إليك ليرديك إلى الهاوية فقال له
عزازير: وما منعك فعلت بأسيرك كلوس فقال هو موثق بالقيود والأغلال فقال له عزازير:
وما منعك من قتله وهو داهية من دواهي الروم فقال خالد: منعني من ذلك إني أريد
قتلكم جميعا فقال عزازير هل لك أن تأخذ ألف مثقال من الذهب وعشرة أثواب من الديباج
وخمسة رؤوس من الخيل وتقتله وتأتيني برأسه فقال له خالد: هذه ديته فما الذي تعطيني
أنت عن نفسك قال فغضب عدو الله من ذلك وقال: ما الذي تأخذ مني قال الجزية وأنت
صاغر ذليل فقال عزازير كلما زدنا في كرامتكم زدتم في اهانتنا فخذ الآن لنفسك الحذر
فاني قاتلك ولا أبالي فلما سمع خالد كلام عزرائيل حمل عليه حملة غظيمة كانه شعلة
نار فاستقبله البطريق وقد أخذ حذره وكان عزازير ممن يعرف بالشجاعة في بلاد الشام
فلما نظر خالد إلى عدو الله أظهر شجاعته وبراعته تبسم فقال عزازير وحق المسيح لو
أردت الوصول إليك لقدرت على ذلك ولكنني أبقيت عليك لاني أريد أن أستأسرك ليعلم
الناس إنك أسيري وبعد ذلك أطلق سبيلك على شرط إنك ترحل من بلادنا وتسلم لنا ما
أخذت من بلاد الشام فلما سمع خالد كلام عزازير قال له: يا عدو الله قد داخلك الطمع
فينا وهذه العصابة قد ملكوا تدمر وحوران وبصرى وهم ممن باعوا أنفسهم بالجنة
واختاروا دار البقاء على دار الفناء وستعلم أينا من يملك صاحبه ويذل جانبه ثم أن
خالد أرى البطريق ابواب الحرب قال فندم عزازير على ما كان منه من الكلام وقال: يا
أخا العرب أما تعرف الملاعبة فقال خالد: ملاعبتي الضرب في طاعة الرب ثم أن الملعون
هاجم خالد ولوح إليه بسيفه وضربه به فلم يقطع شيئا فذهل عدو الله من جولان خالد
وثباته وعلم إنه لا يقدر عليه ولا على ملاقاته فولى هاربا وكان جواده أسبق من جواد
خالد قال عامر بن الطفيل رضي الله.
عنه وكنت يوم حرب دمشق في القلب وشاهدنا ما جرى بين خالد
وعزازير لما ولى هاربا وقصر جواد خالد عن طلبه فوقع في قلبه الطمع وقال كان البدوي
خاف مني ومالي إلا أن أقف حتى يلحقني وآخذه أسيرا ولعل المسيح ينصرني عليه فلما
وقع ذلك في نفسه وقف حتى لحق به خالد وقد جلل فرسه العرق فلما قرب منه صاح عزازير
وقال: يا عربي لا تظن إني هارب خوفا منك وإنما أبقيت عليك خوفا على شبابك فارحم
نفسك وأن أردت الموت أسوقه إليك أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت فعند ذلك ترجل عن
جواده وسحب السيف وسار إليه كأنه الاسد الضاري.
فلما نظر عزازير إلى ذلك والى ترجل خالد زاد طمعه فيه
وحام حوله وهم إليه يريد أن يعلو رأسه بالسيف فزاغ خالد عنها وصاح فيه وضرب قوائم
فرسه بضربة عظيمة فقطعها فسقط عدو الله على الأرض ثم ولى هاربا يريد أصحابه فسبقه
خالد وقال: يا عدو الله أن الذي تسميت باسمه قد غضب عليك واشتاق إليك وها هو قد
اقبل عليك يقبض روحك ليؤديك إلى جهنم ثم هجم عليه وهم أن يجلد به الأرض ونظرت
الروم إلى صاحبها وهو في يد خالد فهموا أن يحملوا على خالد ويخلصوه من يده إذ قد
أقبلت جيوش المسلمين وأبطال الموحدين مع الأمير أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان
قد سار من بصرى فوجدوه وقد أخذ عزازير في تلك الساعة فلما نظرت عساكر دمشق إلى
جيوش المسلمين قد أقبلت داخلهم الجزع والفزع فوقفوا عن الحملة قال حدثني عمر بن
قيس عن شعيب عن عبد الله عن هلال القشعمي قال: لما قدم الأمير أبو عبيدة سأل عن
خالد فقالوا: إنه في ميدان الحرب وقد اسر بطريق الروم فدنا أبو عبيدة إليه وهم أن
يترجل فأقسم عليه خالد أن لا يفعل وأقبل عليه وصافحه وكان أبو عبيدة يحب خالدا
لمحبة رسول الله ﷺ فقال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان لقد فرحت بكتاب أبي بكر
الصديق حين قدمك علي وأمرك علي وما حقدت في قلبي عليك لاني أعلم مواقفك في الحرب
فقال خالد: والله لا فعلت أمرا إلا بمشورتك ووالله لولا أمر الإمام طاعة لما فعلت
ذلك أبدا لانك اقدم مني في دين الإسلام وأنا صاحب رسول الله ﷺ وأنت قال: فيك أبو
عبيدة أمين هذه الأمة فشكره أبو عبيدة وقدم لخالد جواده فركبه وقال خالد لأبي
عبيدة: اعلم أيها الأمير أن القوم قد خذلوا ووقع الرعب في قلوبهم وأهينوا بأخذ
كلوس وعزازير قال: وسار مع أبي عبيدة يحدثه بما صار من البطريقين وكيف نصره الله
عليهما إلى أن أتيا الدير فنزلا هناك وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض فلما كان
الغد ركب الناس وتزينت المواكب وزحف أهل دمشق للقتال وقد أمروا عليهم صهر الملك
هرقل ولما أقبلوا قال خالد لأبي عبيدة: أن القوم قد انخذلوا ووقع الرعب في قلوبهم
فاحمل بنا على القوم قال أبو عبيدة: افعل قال فحمل خالد وحمل أبو عبيدة وحمل
المسلمون على عساكر الروم حملة عظيمة وكبروا.
بأجمعهم فارتجت الأرض من تكبيرهم ووقع القتل في الروم
وجاهد أصحاب رسول الله ﷺ جهادا عظيما وذهلت منهم الكفار قال عامر بن الطفيل لقد
كان الواحد منا يهزم من الروم العشرة والمائة قال فما لبثوا معنا ساعة واحدة حتى
ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وأقبلنا نقتل فيهم من الدير إلى الباب الشرقي فلما
نظر أهل دمشق إلى انهزام جيشهم أغلقوا الأبواب في وجه من بقي منهم قال قيس ابن هبيرة
رضي الله عنه فمنهم من قتلناه ومنهم من أسرناه فلما رجع خالد عنهم قال لأبي عبيدة:
أن من الرأي أن أنزل أنا على الباب الشرقي وتنزل أنت على باب الجباية فقال أبو
عبيدة: هذا هو الرأي السديد.
قال: حدثنا سهل بن عبد الله عن أويس بن الخطاب أن الذي
قدم مع الأمير أبي عبيدة من المسلمين من أهل الحجاز واليمن وحضرموت وساحل عمان
والطائف وما حول مكة كان سبعة وثلاثين ألف فارس من الشجعان وكان مع عمرو بن العاص
تسعة آلاف فارس والذين قدم بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق ألف فارس
وخمسمائة فارس فكان جملة ذلك سبعة وأربعين ألفا وخمسمائة غير ما جهز عمر بن الخطاب
في خلافته وسنذكر ذلك إذا وصلنا إليه أن شا الله تعالى هذا وأن خالدا نزل بنصف
المسلمين على الباب الشرقي ونزل أبو عبيدة بالنصف الثاني على باب الجابية فلما نظر
أهل دمشق إلى ذلك نزل الرعب في قلوبهم ثم أن خالدا أحضر البطريقين بين يديه وهما
كلوس وعزازير فعرض عليهما الإسلام فأبيا فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقيهما ففعل
قال فلما نظر أهل دمشق ما فعلوا بالبطريقين كتبوا إلى الملك كتابا يخبرونه بما جرى
على كلوس وعزازير وقد نزلت العرب على الباب الشرقي وباب الجابية وقد نزلوا بشبانهم
وأولادهم وقد قطعوا أرض البلقاء وأرض السواد ووصفوا له ما ملك العرب من البلاد فأدركنا
وإلا سلمنا إليهم البلد ثم سلموا الكتاب إلى رجل منهم وأعطوه أوفى أجرة وأدلوه
بالجبل من أعلى الاسوار في ظلمة الأعتكار.
قال الواقدي: وأن الرجل وصل إلى الملك هرقل وهو بأرض
انطاكية فاستأذن عليه فأمر له بالدخول فلما دخل سلم الكتاب إليه فلما قرأه الملك رماه
من يده وبكى ثم إنه جمع البطارقة وقال لهم: يا بني الأصفر لقد حذرتكم من هؤلاء
العرب وأخبرتكم إنهم سوف يملكون ما تحت سريري هذا فاتخذتم كلامي هزوءا وأردتم قتلي
وهؤلاء العرب خرجوا من بلاد الجدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الاشجار
والثمار والفواكه فاستحسنوا ما نظروه من بلادنا وخصبنا وليس يزجرهم شيء لما هم فيه
من العزم والقوة وشدة الحرب ولولا إنه عار علي لتركت الشام ورحلت إلى القسطنطينية
العظمى ولكن ها أنا أخرج إليهم وأقاتلهم عن أهلي وديني فقالوا: أيها.
الملك ما بلغ من شأن العرب أن تخرج إليهم بنفسك وقعودك
أهيب قال الملك هرقل نبعث إليهم قالوا: عليك أيها الملك بوردان صاحب حمص لانه ليس
فينا مثله في القوة وملاقاة الرجال ولقد بين لنا شجاعته في عساكر الفرس لما قصدونا
قال فأمر الملك باحضاره فلما حضر وردان قال له الملك: إنما قدمتك لانك سيفي القاطع
وسندي المانع فاخرج من وقتك وساعتك ولا تتأخر فقد قدمتك على اثني عشر ألف فإذا
وصلت إلى بعلبك فانقذ إلى من بأجنادين بأن يتفرقوا في أرض البلقاء وجبال السواد
فيكونوا هناك ولا تتركوا أحدا من العرب يلحق بأصحابه يعني عمرو بن العاص رضي الله
عنه فقال وردان: السمع والطاعة لك أيها الملك وسوف يبلغك الخبر إني لا أعود إلا
برأس خالد بن الوليد ومن معه اهزمهم جميعا وبعد ذلك أدخل الحجاز ولا أخرج حتى أهدم
الكعبة ومكة والمدينة قال فلما سمع الملك هرقل قوله قال: وحق الإنجيل لئن فعلت ذلك
ووفيت بقولك لأعطينك ما فتحوه حرثا وخراجا وكتبت كتاب العهد إنك الملك من بعدي ثم
سوره وتوجه وأعطاه صليبا من الذهب وفي جوانبه أربع يواقيت لا قيمة لها وقال إذا
لاقيت العرب فقدمه أمامك فهو ينصرك قال: فلما تسلم وردان الصليب من وقته دخل
الكنيسة وانغمر في ماء المعمودية وبخروه ببخور الكنائس وصلى عليه الرهبان وخرج من
وقته فضرب خيامه خارج المدينة قال: وأخذت الروم على أنفسهم بالرحيل فلما تكاملوا
ركب الملك هرقل وسار لوداعهم وصحبته أرباب دولته فوصل معهم إلى جسر الحديد بها
فودعه الملك وسار إلى أن وصل إلى حماة فنزل بها وأنفذ من وقته كتابا إلى من بأجنادين
من جيوش الروم يأمرهم ليتفرقوا في سائر الطرقات ليمنعوا عمرو بن العاص ومن معه أن
يصلوا إلى خالد فلما سار الرسول بالكتاب جمع وردان إليه البطارقة وقال لهم: إني
أريد أن أسير على حين غفلة على طريق مارس حتى أكبس على القوم ولا ينجو منهم أحد
فلما كان الليل رحل على طريق وادي الحياة.
قال حدثني شداد بن أوس قال لما دخل خالد بن الوليد رضي
الله عنه بعد قتل البطريقين أمر المسلمين أن يزحفوا إلى دمشق قال فزحف منا الرجال
من العرب وبأيديهم الحجف يتلقون بها الحجارة والسهام فلما نظر أهل دمشق إلينا ونحن
قد زحفنا إليهم رمونا بالسهام والحجارة من أعلى الاسوار وضيقنا عليهم في الحصار وأيقن
القوم بالدمار قال شداد ابن أوس فأقمنا على حصارهم عشرين يوما فلما كان بعد ذلك
جاءنا ناوي بن مرة وأخبرنا عن جموع الروم بأجنادين وكثرة عددهم فركب خالد نحوه باب
المدينة الجابية إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ويستشيره وقال: يا أمين الأمة إني رأيت
أن ترحل من دمشق إلى اجنادين ونلقى من هناك من الروم فإذا نصرنا الله عليهم عدنا
إلى قتال هؤلاء القوم قال أبو عبيدة:
ليس هذا برأي قال خالد: ولم ذلك.
قال أبو عبيدة: إذا رحلنا يخرج أهل المدينة فيملكون
مواضعنا فلما سمع خالد ذلك من أبي عبيدة قال: يا أمين الأمة إني أعرف رجلا لا يخاف
الموت خبيرا بلقاء الرجال قد مات أبوه وجده في القتال قال: ومن هذا الرجل يا أبا
سليمان قال: هو ضرار بن الأزور بن طارق قال أبو عبيدة: والله لقد صدقت ووصفت رجلا
باذلا معروفا فافعل قال: فرجع خالد إلى بابه واستدعى بضرار بن الأزور فجاء إليه
وسلم عليه فقال: يا ابن الأزور إني أريد أن أقدمك على خمسة آلاف قد باعوا أنفسهم
لله عز وجل واختاروا دار البقاء والاخرة على الأولى وتسيروا إلى لقاء هؤلاء القوم الذين
وردوا علينا فإن رأيت لك فيهم طمعا فقاتلهم وأن رأيت إنك لا تقدر عليهم فابعث
إلينا رسولك فقال ضرار بن الأزور وافرحتاه والله يا ابن الوليد ما دخل قلبي مسرة
أعظم من هذه فاتركني أسير وحدي قال خالد: لعمري إنك ضرار ولكن لا تلق نفسك إلى
الهلاك وسر بما ندب معك من المسلمين قال فقام ضرار رضي الله عنه مسرعا فقال خالد:
ارفق بنفسك حتى يجتمع عليك الجيش فقال:
والله لا وقفت ومن علم الله فيه خيرا أدركني ثم ركب ضرار
وأسرع إلى أن وصل إلى بيت لهيا وهو الموضع الذي كان يصنع فيه الأصنام فوقف هناك
حتى لحق به أصحابه فلما تكاملوا نظر ضرار وإذا بجيش الروم ينحدر كأنه الجراد
المنتشر وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس على لأماتهم وطوارقهم.
فلما نظر إليهم أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: لضرار أما
والله أن هذا الجيش عرمرم والصواب أننا نرجع فقال ضرار والله لا زلت أضرب بسيفي في
سبيل الله واتبع من أناب إلى الله ولا يراني الله مهزوما ولا أولى الدبر لأن الله
تعالى يقول: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ*وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 1] وتكلم رافع بن عميرة الطائي وقال: يا قوم وما
الخيفة من هؤلاء العلوج أما نصركم الله في مواطن كثيرة والنصر مقرون مع الصبر ولم
تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة والجموع اليسيرة فاتبعوا سبيل المؤمنين وتضرعوا
إلى رب العالمين وقولوا كما قال قوم طالوت عند لقائهم جالوت {رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ} فلما سمع ضرار كلامهم وإنهم اشتروا الاخرة على الأولى كمن بهم عند
بيت لهيا وأخفى أمره وجلس عاري الجسد بسراويله على فرس له عربي بغير سلاح وبيده
قناة كاملة الطول وهو يوصي القوم.
قال الواقدي: هكذا حدثني تميم بن أوس عن جده عمرو بن
دارم قال كنت يوم بيت لهيا ممن صحب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو بهذه الصفة
رغبة منه في الشهادة فلما قارب العدو كان أول من برز وكبر ضرار بن الأزور قبل
فأجابه المسلمون.
بتكبيرة واحدة رعبت منها قلوب المشركين وفاجئوهم بالحملة
ونظروا إلى ضرار بن الأزور وهو في أول القوم وهو في حالته التي وصفناها فهالهم
أمره وكان وردان في المقدمة والأعلام والصلبان مشتبكة على رأسه قال فما طلب ضرار
غيره لانه علم إنه صاحبهم فحمل عليه غير مكترث به وطعن فارسا كان في يده العلم
فتجندل من على فرسه قتيلا ثم إنه طعن اخر في الميمنة فارداه وحمل يريد القلب وكان
قد عاين وردان والصليب على رأسه يحمله فارس من الروم والجواهر تلمع من أربع جوانبه
فعارضه ضرار وطعن حامله طعنة عظيمة فخرج السنان يلمع من خاصرته قال: فسقط الصليب منكسا
إلى الأرض فلما نظر وردان إلى الصليب أيقن بالهلاك وهم أن يترجل لاخذه أو يميل في
ركابه ليأخذه فلما وجد لذلك سبيلا لما قد أحدق به وترجل عليه قوم من المسلمين
ليأخذوه وقد اشتغل كل عن نفسه ونظر ضرار إلى من ترجل لاخذ الصليب فقال معاشر
المسلمين أن الصليب لي دونكم وأنا صاحبه فلا تطمعوا فاني إليه راجع إذا فرغت من
كلب الروم قال فسمع ذلك وردان وكان يعرف العربية فعطف من القلب يريد الهرب فقالت
البطارقة: إلى أين أيها السيد أتفر من الشيطان فما رأينا ادنى من منظره ولا أهول
من مخبره ونظر إليه ضرار وقد عطف راجعا فعلم إنه قد عزم على الهرب فصاح بقومه ثم
اقتحم في أثره ومد رمحه وهمز جواده فتصارخت به الروم وعطفت عليه المواكب من كل
جانب فأنشد يقول:
الموت حق أين لي منه المفر
...
وجنة الفردوس خير المستقر
هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر
...
وكل هذا في رضا رب البشر
ثم اخترق القوم وحمل عليهم وحمل المسلمون في أثره فاحدقوا
بهم من كل مكان ونظروا إلى ضرار وقد قصده وردان صاحب حمص عندما علم إنه اخترق
القوم فمد إليه رمحه وقدأحدقت به بطارقته وضرار يمانع عن نفسه يمينا وشمالا فما طعنأحدا
إلا اباده إلى أن قتل من القوم خلقا كثيرا وهو يصرخ بقومه ويقول: {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ
مَرْصُوصٌ} [الصف:] قال اكتب عليه جيوش الروم من كل جانب ومكان واشتعل الحرب بينهم
ووصل همدان بن وردان إلى ضرار بن الأزور ورماه بسهم فأصاب عضده الإيمن فوصل السهم
إليه فأوهنه واحسن ضرار بالألم فحمل على همدان وصمم عليه برمحه وطعنه فأصاب
بالطعنة فواده فوصل السنان إلى ظهره فجذب الرمح منه فلم يخرج وإذا به قد اشتبك في
عظم ظهره فخرج الرمح من غير سنان فطمعوا فيه وحملوا عليه وأخذوه أسيرا فنظر أصحاب
رسول الله ﷺ إلى ضرار وهو اسير فعظم الأمر عليهم وقاتلوا قتالا شديدا ليخلصوه فما
وجدوا إلى ذلك سبيلا وأرادوا الهرب فقال رافع بن عميرة الطائي يا.
أهل القرآن إلى أين تريدون أما علمتم أن من ولى ظهره
لعدوه فقد باء بغضب من الله وأن الجنة لها أبواب لا تفتح إلا للمجاهدين الصبر
الصبر الجنة الجنة يا أهل الكتاب كروا على الكفار عباد الصلبان وها أنا معكم في
أوائلكم فإن كان صاحبكم أسر أو قتل فإن الله حي لا يموت وهو يراكم بعينه التي لا
تنام فرجعوا وحملوا معه.
قال: ووصل الخبر إلى خالد أن ضرار قد أسر بيد الروم وانه
قتل من الروم خلقا كثيرا فعظم ذلك على خالد وقال في كم العدو قالوا: اثني عشر ألف
فارس فقال: والله ما ظننت إلا إنهم في عدد يسير ولقد غررت بقومي ثم سأل عن مقدمهم
من يكون فقيل وردان صاحب حمص وقد قتل ضرار ولده همدان فقال: لا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم ثم ارسل إلى أبي عبيدة يستشيره فبعث إليه أبو عبيدة يقول له:
اترك على الباب الشرقي من تثق به وسر إليهم فانك تطحنهم باذن الله تعالى فلما وصل
الجواب إلى خالد قال: والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله ثم أوقف بالمكان
ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه ومعه ألف فارس وقال له: احذر أن تنقذ من مكانك
فقال ميسرة حبا وكرامة وعطف خالد بالناس وقال له: أطلقوا الأعنة وقوموا الاسنة فإذا
أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليخلص فيها ضرار أن شاء الله تعالى أن كانوا
أبقوا عليه والله أن كانوا عجلوا عليه لنأخذن بثأره أن شاء تعالى وأرجو أن لا
يفجعنا به ثم تقدم أمام القوم وجعل يقول:
اليوم يوم فاز فيه من صدق
...
لا ارهب الموت إذا الموت طرق
لاروين الرمح من ذوي الحدق
...
لاهتكن البيض هتكا والدرق
عسى أرى غدا مقام من صدق
...
في جنة الخلد والقى من سبق ==خولة بن الأزور== فبينما
خالد يترنم بهذه الأبيات إذ نظر إلى فارس على فرس طويل وبيده رمح طويل وهو لا يبين
منه إلا الحدق والفروسية تلوح من شمائله وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق
لامته وقد خرم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره ومن ورائه وقد سبق أمام الناس كأنه
نار فلما نظره خالد قال ليت شعري من هذا الفارس وايم الله إنه لفارس شجاع ثم اتبعه
خالد والناس وكان هذا الفارس اسبق الناس المشاركين قال: وكان رافع بن عميرة الطائي
رضي الله عنه في قتال المشركين وقد صبر لهم هو ومن معه إذ نظر خالدا وقد أنجده هو
ومن معه من المسلمين ونظر إلى الفارس الذي وصفناه وقد حمل على عساكر الروم كأنه
النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم ثم غاب.
في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ
بالدماء من الروم وقد قتل رجالا وجندل أبطالا وقد عرض نفسه للهلاك ثم اخترق القوم
غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم في الناس وكثر قلقهم عليه فأما رافع
بن عميرة ومن معه فما ظنوا إلا إنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد فهم على
ذلك إذ أشرف عليهم رضي الله عنه وهو في كبكة من الخيل فقال رافع بن عميرة من
الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته فقال خالد: والله انني أشد إنكارا
منكم له ولقد أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله فقال رافع أيها الأمير إنه منغمس في
عسكر الروم يطعن يمينا وشمالا.
فقال خالد: معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا
المحامي عن دين الله قال فأطلقوا الأعنة وقوموا الاسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم
إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار والخيل في أثره وكلما لحقت به
الروم لوى عليهم وجندل فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس المذكور إلى جيش
المسلمين قال فتأملوه فرأوه قد تخصب بالدماء فصاح خالد والمسلمون لله درك من فارس
بذل مهجته في سبيل الله وأظهر على الأعداء اكشف لنا عن لثامك قال فمال عنهم ولم
يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون وقالوا: أيها
الرجل الكريم أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيما فلم
يرد عليهم جوابا فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال له: ويحك لقد شغلت قلوب
الناس وقلبي بفعلك من أنت قال فلما لج عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان
التأنيث وقال انني يا أمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لانك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور
وبنات الستور وإنما حملني على ذلك إني محرقة الكبد زائدة الكمد فقال لها: من أنت
قالت: أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين أخي وهو ضرار وإني كنت مع بنات
العرب وقد أتاني الساعي بأن ضرار أسير فركبت وفعلت ما فعلت قال خالد: نحمل بأجمعنا
ونرجو من الله أن نصل إلى أخيك فنفكه قال عامر بن الطفيل كنت عن يمين خالد بن
الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من
خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة
ولما حمل خالد ومن معه إذا بالروم قد اضطربت جيوشهم ونظر وردان إليهم فقال لهم:
اثبتوا للقوم فإذا رأوا ثباتكم ولوا عنكم ويخرج أهل دمشق يعنونكم على قتالهم قال
فثبت المسلمون لقتال الروم وحمل خالد بالناس حملة منكرة وفرق القوم يمينا وشمالا وقصد
خالد مكان صاحبهم وردان عند اشتباك الأعلام والصلبان وإذا حوله أصحاب الحديد
والزرد النضيد وهم محدقون به فحمل خالد عليهم حملة منكرة واشتبك المسلمون بقتال
الروم وكل فرقة.
مشغولة بقتال صاحبها وأما خولة بنت الأزور فإنها جعلت
تجول يمينا وشمالا وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثرا ولا وقفت له على خبر
إلى وقت الظهر وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على الكافرين
وقتلوا منهم مقتلة عظيمة قال: وتراجعت كل فرقة إلى مكانها وقد كمدت افئدة الروم ما
ظهر لهم من المسلمين وقد هموا بالهزيمة وما يمسكهم إلا الخوف من صاحبهم وردان فلما
رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة بنت الأزور على المسلمين وجعلت تسألهم رجلا رجلا
عن أخيها فلم تر من المسلمين من يخبرهما إنه نظره أو رآه أسيرا أو قتيلا فلما يئست
منه بكت بكاءا شديدا وجعلت تقول يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي
سنان طعنوك أم بالحسام قتلوك يا أخي أختك لك الفداء لو إني أراك انقدتك من أيدي
الأعداء ليت شعري أترى الي أراك بعدها ابدا فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة
لا يخمد لهيبها ولا يطفأ ليت شعري لحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي ﷺ فعليك مني
السلام إلى يوم اللقاء قال فبكى الناس من قولها وبكى خالد وهم أن يعاود بالحملة إذ
نظر إلى كردوس من الروم قد خرج من ميمنة العقبان فتأهب الناس لحربهم وتقدم خالد
وحوله أبطال المسلمين فلما قربوا من القوم رموا رماحهم من أيديهم والسيوف وترجلوا
ونادوا بالأمان فقال خالد: اقبلوا أمانهم وائتوني بهم فأتوا إليه فقال خالد: من أنتم
فقالوا: نحن من جند هذا الرجل وردان ومقامنا بحمص وقد تحقق عندنا إنه ما يطيقكم
ولا يستطيع حربكم فأعطونا الأمان واجعلونا من جملة من صالحتم من سائر المدن حتى
نؤدي لكم المال الذي أردتم في كل سنة فكل من في حمص يرضي بقولنا.
فقال خالد: إذا وصلت إلى بلادكم يكون الصلحإن شاء الله
تعالى أن كان لكم فيه أرب ولكن نحن ههنا لا نصالحكم ولكن كونوا معنا إلى أن يقضي
الله ما هو قاض ثم أن خالدا قال لهم: هل عندكم علم عن صاحبنا الذي قتل ابن صاحبكم
قالوا: لعله عاري الجسد الذي قتل منا مقتله عظيمة وفجع صاحبنا في ولده قال خالد:
عنه سألتكم قالوا: بعثه وردان عندنا أسيرا على بغل ووكل به مائة فارس وأنفذه إلى
حمص ليرسله إلى الملك ويخبره بما فعل قال ففرح خالد بقولهم ثم دعا برافع بن عميرة
الطائي وقال: يا رافع ما أعلم أحدا أخبر منك بالمسالك وأنت الذي قطعت بنا المفازة
من أرض السماوة وأعطشت الإبل واوردتها الماء وأوردتنا أركة وما وطئها جيش قبلنا
لمفازتها وأنت أوحد أهل الأرض في الحيل والتدبير فخذ معك من أحببت واتبع أثر القوم
فلعلك أن تلحق بهم وتخلص صاحبنا من أيديهم فلئن فعلت ذلك لتكونن الفرحة الكبرى
فقال رافع بن عميرة حبا وكرامة ثم إنه في الحال انتخب مائة فارس شدادا من المسلمين
وعزم على المسير فأتت البشارة إلى خولة بمسير رافع بن عميرة ومن معه.
طلب أخيها ضرار فتهلل وجهها فرحا وأسرعت إلى لبس سلاحها
وركبت جوادها وأتت إلى خالد بن الوليد ثم قالت له: أيها الأمير سألتك بالطاهر
المطهر محمد سيد البشر إلا ما سرحتني مع من سرحت فلعلي أن أكون مشاهدة لهم فقال
خالد لرافع: أنت تعلم شجاعتها فخذها معك فقال له: رافع السمع والطاعة وارتحل رافع
ومن معه وسارت خولة في أثر القوم ولم تختلط بهم وسار إلى أن قرب من سليمة قال فنظر
رافع فلم يجد للقوم أثرا فقال لأصحابه: أبشروا فإن القوم لم يصلوا إلى ههنا ثم إنه
كمن بهم في وادي الحياة فبينما هم كامنون إذا بغبرة قد لاحت فقال رافع لأصحابه
ايقظوا خواطركم وانتبهوا فأيقط القوم هممهم وبقوا في انتظار العدو وإذا بهم قد
أتوا وهم محدقون بضرار فلما رأى رافع ذلك كبر وكبر المسلمون معه وحملوا عليهم فلم
يكن غير ساعة حتى خلص الله ضرارا وقتلوهم جميعا وأخذوا سلبهم قال: وإذا بعساكر
الروم قد اقبلت منهزمة وأولهم لا يلتفت إلى آخرهم فعلم رافع أن القوم انهزموا
فأقبل يلتقطهم بمن معه قال: وكان خالد لما أرسل رافع بن عميرة في طلب ضرار ليخلصه ومعه
المائة فارس صدم وردان صدمة من يحب الشهادة ويبتغي دار السعادة وصدم المسلمون
الروم فما لبثوا أن ولو الأدبار وركنوا إلى الفرار وكان أولهم وردان واتبعهم
المسلمون وأخذوا أسلابهم وأموالهم ولم يزالوا في طلبهم إلى وادي الحياة فاجتمع المسلمون
برافع بن عميرة الطائي وضرار بن الأزور وسلموا عليهم وفرحوا بضرار رضي الله عنه
وهنؤوه بالسلامة قال: واثنى خالد على رافع خيرا ورجعوا إلى دمشق وفرح المسلمون
بالنصر واتصل الخبر إلى الملك هرقل وأن وردان قد انهزم وقتل ولده همدان قال فأيقن
بزوال ملكه من الشام فكتب إلى وردان كتابا يقول فيه: أما بعد فإني قد بلغني جياع
الأكباد عراة الأجساد قد هزموك وقتلوا وادك رحمه المسيح ورحمك ولولا إني أعلم إنك
فارس الحرب ومجيد الطعن والضرب وليس النصر آتيك لحل عليك سخطي والآن مضى ما مضى
وقد بعثت إلى اجنادين تسعين الفا وقد أمرتك عليهم فسر نحوهم وانجد أهل دمشق وأنفذ
بعضهم ليمنعوا من في فلسطين من العرب وحل بينهم وبين أصحابهم وانصر دينك وصاحبك
قال: وانفذ
إليه الكتاب مع خيل البريد فلما ورد عليه الكتاب وقرأه سرى عنه بعض ما كان يجده
وأخذ الأهبة إلى اجنادين فسار فوجد الروم قد تجمعوا وأظهروا العدد والزرد وخرجوا
إلى لقائه وسلموا عليه وتقدموا بين يديه وعزوه في ولده فلما استقر قراره قرأ عليهم
منشور الملك فأجابوا بالسمع والطاعة واخذوا على أنفسهم.
قال حدثني روح بن طريف قال كنت مع خالد بن الوليد على باب
شرقي حين رجعنا من هزيمة وردان واذ قد ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه
شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ من بصرى يعلم خالدا بمسير الروم إليه من.
اجنادين في تسعين ألف فارس فخذ أهبتك للقائهم قال فلما
سمع خالد ذلك ركب إلى أبي عبيدة وقال له: يا أمين الأمة هذا عباد بن سعد الحضرمي
قد بعث به شرحبيل بن حسنة يخبر أن طاغية الروم هرقل قد ولى وردان على من تجمع باجنادين
من الروم وهم تسعون الفا فما ترى من الرأي يا صاحب رسول الله فقال أبو عبيدة: اعلم
يا أبا سليمان أن أصحاب رسول الله ﷺ متفرقون مثل شرحبيل بن حسنة بأرض بصرى ومعاذ
بن جبل بحوران ويزيد بن أبي سفيان بالبلقاء والنعمان بن المغيرة بأرض تدمر وأركة
وعمرو بن العاص بأرض فلسطين والصواب أن تكتب إليهم ليقصدونا حتى نقصد العدو ومن
الله نطلب المعونة والنصر قال فكتب خالد إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه: بسم
الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن إخوانكم المسلمين قد عولوا على المسير إلى اجنادين
فإن هناك تسعين الفا من الروم يريدون المسير إلينا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ} [الصف:] فإذا وصل إليك كتأبي هذا فاقدم علينا بمن معك إلى اجنادين
تجدنا هناك إن شاء الله تعالى والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله
وبركاته وكتب نسخة الكتاب إلى جميع الأمراء الذين ذكرناهم ثم أمر الناس بالرحيل
فرفعت القباب والهوادج على ظهور الجمال وساقوا الغنائم والأموال فقال خالد لأبي
عبيدة: قد رأيت رأيا أن أكون على الساقة مع الغنائم والأموال والبنين والولدان
والبنين والولدان وكن أنت على المقدمة مع خاصة أصحاب رسول الله ﷺ فقال أبو عبيدة:
بل أكون أنا على الساقة وأنت على المقدمة مع الجيش فإن وصل إليك جيش الروم مع
وردان يجدوك على اهبة فتمنعهم من الوصول إلى الحريم والأولاد فلا يصلون إلينا إلا
وانت قتلت فيهم وإلا كنت أنا ومن معي غنيمة لهم إذا كنت أنا في المقدمة فقال خالد:
لست أخالفك فيما ذكرت ثم أن خالدا قال: أيها الناس إنكم سائرون إلى جيش عظيم
فأيقظوا هممكم وأن الله وعدكم النصر وقرأ عليهم قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} [البقرة: 24] .
ثم أن خالدا أخذ الجيش وسار في المقدمة وبقي أبو عبيدة
في ألف من المسلمين ونظر إلى ذلك أهل دمشق فعطفوا عليهم واقبلوا بسيوفهم وهم يظنون
إنه منهزمون لأجل ما بلغهم من الجيش العظيم الذي هو بأجنادين فقال لهم عقلاؤهم: أن
كانوا سائرين على طريق بعلبك فأنهم يريدون فتحا وفتح حمص وأن كانوا على طريق مرج
راهط فالقوم لا شك هاربون إلى الحجاز ويتركون ما أخذوا من البلاد قال: وكان بدمشق بطريق
يقال له بولص: وكان عظيما عند النصراينة وكان إذا قدم على الملك يعظمه وكان
الملعون فارسا وذلك إنهم كان عندهم شجرة فرماها بسهم فغاص السهم في الشجرة من قوة
ساعده ثم أن من عجبه كتب عليها أن كل من يدعي الشجاعة فليزم بسهمه إلى.
جانب سهمي وكان قد شاع ذكره بذلك ولم يحضر قتال المسلمين
منذ دخلوا دمشق فلما اجتمعوا عليه قال لهم بولص: ما الذي حل بكم فأعلموه بما جرى
عليهم من المسلمين وقالوا له: إن كنت تريد حياة الأبد عند الملك وعند المسيح وعند
أهل دين النصرانية فدونك والمسلمين فاخرج إليهم واخطف كل من تخلف منهم وأن رأيت
لنا فيهم مطمعا قاتلناهم فقال بولص إنما كان سبب تخلفي عن نصرتكم لانكم قليلوا
الهمة لقتال عدوكم فتخلفت عنكم والآن لا حاجة لي في قتال العرب.
فقالوا: وحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن سرت في مقدمتنا
لنثبتن معك وما منا من يولى عنك وقد حكمناك فيمن ينهزم أن تضرب عنقه ولا يعارضك في
ذلكأحد قال فلما استوثق منهم دخل إلى منزله ولبس لامته فقالت له زوجته: إلى أين
عزمت قال أخرج في أثر العرب فقد ولاني أهل دمشق عليهم فقالت: لا تفعل والزم بيتك
ولا تطلب ما ليس لك به حاجة فاني رأيت لك في المنام رؤيا فقال لها: ومال الذي
رأيتي قالت: رأيتك كانك قابض قوسك وانت ترمي طيورا وقد سقط بعضها على بعض ثم عادت
صاعدة فبينما أنا متعجبة إذ أقبلت نحوك سحابة من الجو فانقضت عليك من الهواء وعلى
من معك فجعلت تضرب هاماتهم ثم وليتم هاربين ورأيتها لا تضربأحدا إلا صرعته ثم إني انتبهت
وأنا مذعورة باكية العين عليك فقال لها: ومع ذلك رأيتيني فيمن صرع قالت: نعم وقد
صرعك فارس عظيم قال فلطم وجهها وقال: لا بشرك المسيح بخير لقد دخل رعب العرب في
قلبك حتى صرت تحلمين بهم في النوم فلا بد أن أجعل لك أميرهم خادما وأجعل أصحابه
رعاة الغنم والخنازير فقالت له زوجته: أفعل ما تريد فقد نصحتك قال فلم يلتفت إلى
كلامها وخرج من عندها وركب وسار معه من كان في دمشق من الروم ففرضهم فإذا هم ستة
آلاف فارس وعشرة آلاف راجل من أهل النجدة والحمية وسار يطلب القوم.
معركة حول دمشق
وكان خالد في المقدمة وأبو عبيده يمشي مع الأموال
والأغنام والجمال إذ نظر رجل من أصحابه وهو يتأمل الغبرة من ورائهم فسأله أبو
عبيدة عن ذلك فقال أظنها غبرة القوم فقال أبو عبيدة: أن أهل الشام قد طمعوا فينا
وهذا العدو قاصد إلينا قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل وبولص في
أوائلهم فلما نظر إلى أبي عبيدة قصده ومعه الفرسان وأخوه بطرس قصد الحريم والماس فاقتطعوا
منها قطعة فلما احتوى عليها رجع بها بطرس نحو دمشق فلما بعد جلس هناك لنظر ما يكون
من أمر أخيه وأما أبو عبيدة فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم قال: والله لقد
كان الصواب مع خالد لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وانه قد وصل إليه بولص وقصده
والأعلام.
والصلبان على رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان
يصيحون والألف من المسلمين قد اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة
واشتد بينهم الحرب ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر
وفر على أرض سحورا قال: وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام قال سهيل بن
صباح وكان تحتي الجواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت السنان وأطلقت
العنان فخرج كأنه الريح العاصف فما كان غير بعيد حتى لحقت بخالد بن الوليد
والمسلمين فأقبلت إليهم صارخا وقلت: أيها الأمير أدرك الأموال والحريم فقال خالد:
ما وراءك يا ابن الصباح فقلت: أيها الأمير الحق أبا عبيدة والحريم فإن نفير دمشق
قد لحق بهم وقد اقتطعوا قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة
لنا به قال فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال أنا لله وأنا إليه راجعون
قد قلت لأبي عبيدة: دعني أكون على الساقة فما طاوعني ليقضي الله أمرا كان مفعولا
ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل وقال له: كن في المقدمة وأمر عبد الرحمن بن
أبي بكر الصديق على ألفين وقال له:
ادرك العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش.
قال فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ
تلاحقت به جيوش المسلمين وحملوا على اعداء الله وداروا بهم من كل مكان فعند ذلك
تنكست الصلبان وأيقن الروم بالهوان وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار
وقصد نحو بولص فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في فرائصه وقال لأبي
عبيدة: يا عربي وحق دينك إلا ما قلت لهذا الشيطان: يبعد عني وكان بولص قد سمع به
ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس عزازير وسمع بفعاله في بيت لهيا فلما رآه
مقبلا إليه عرفه فقال لأبي عبيدة: قل لهذا الشيطان: لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله
عنه فقال له: أنا شيطان أن قصرت عن طلبك ثم إنه فاجأه وطعنه فلما رأى بولص أن
الطعنة واصلة إليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه
وقال له: أين تروح من الشيطان وهو في طلبك ولحقه وهم أن يعلوه بسيفه فقال بولص يا
بدوي ابق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم قال فلما سمع ضرار قوله أمسك عن
قتله وأخذه أسير هذا والمسلمون قد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة.
قال حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس
قال كنت يوم وقعة سحورا مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه قال فدرنا بالروم من كل جانب وبذلنا اسيافنا في القوم وكانوا ستة كتائب في
كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس فوالله لقد حملنا يوم فتح دمشق وانه ما رجع
منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل.
على خالد وأعلمه بذلك فقال له خالد: لا تجزع فقد أسرنا
منهم خلقا كثيرا وقد أسرت أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من اسر من حريمنا ولا بد لنا
من دمشق في طلبهم ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر
حريمنا ثم إنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة مخافة أن
يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب المأسورات وقد قدم
أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي وضرار بن الأزور.
قال حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي قال
سمعت حبيب بن مصعب يقول: لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو
بولص إلى أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه ثم قال بطرس أنا لا أبرح من ههنا حتى
انظر ما يكون من أمر أخي ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه منهن إلا
خولة بنت الأزور أخت ضرار قال بطرس هذه لي وأنا لها لا يعارضني فيها أحد فقال له أصحابه:
هي لك وانت لها قال: وكل من سبق إلى واحدة يقول: هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك
ووقفوا ينتظرون ما يكون من أمر بولص وأصحابه وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من
نسل العمالقة والتبابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت الأزور: يا
بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم ويكون أولادكن عبيدا لاهل الشرك
فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن فيأحياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن
إلا بمعزل عن ذلك وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكم من خدمة
الروم الكلاب.
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت ووالله يا بنت
الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت وفي البراعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف
الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل
هذا الوقت وإنما دهمنا العدو على حين غفلة وما نحن إلا كالغنم فقالت خولة: يا بنات
التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام
فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب فقالت عفرة بنت غفار: والله ما
دعوت إلا ما هوأحب إلينا مما ذكرت ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن
صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان بنت
عتبة وسلمة بنت زراع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت النعمان ومثل
هؤلاء رضي الله عنهن فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة
ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهن قال فهجمت
خولة امامهن فأول ما ضربت رجلا من القوم على هامته بالعمود فتجندل.
صريعا والتفت الروم ينظرون ما الخبر فإذا هم بالنسوة وقد
أقبلن والعمد بأيديهن فصاح بطريق يا ويلكن ما هذا فقالت عفرة: هذه فعالنا فلنضربن
بالقوم بهذه الأعمدة ولا بد من قطع اعماركم وانصرام أجالكم يا أهل الكفر قال فجاء
بطرس وقال تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولاأحد منكم يقتل واحدة منهن وخذوهن
اسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه فتفرق القوم عليهن وحدقوا بهن من كل
جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا ولم تزل النساء لا يدنوا إليهن
أحد من الروم إلا ضربن قوائم فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالأعمدة
فيقتلنه ويأخذن سلاحه.
قال الواقدي:
ولقد بلغني أن النسوة قتلن ثلاثين فارسا من الروم فلما
نظر بطرس إلى ذلك غضب غضبا شديدا وترجل وترجلت أصحابه نحو النساء والنساء يحرض
بعضهن بعضا ويقلن متن كراما ولا تمتن لئاما وأظهر بطرس رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن
ونظر إلى خولة بنت الأزور وهي تجول كالاسد وتقول:
نحن بنات تبع وحمير
...
وضربنا في القوم ليس ينكر
لاننا في الحرب نار تسعر
...
اليوم تسقون العذاب الأكبر
قال فلما سمع بطرس ذلك من قولها ورأى حسنها وجمالها قال
لها: يا عربية اقصري عن فعالك فاني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون أنا مولاك
وأنا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواشي ومنزلة عند الملك هرقل
وجميع ما أنا فيه مردود إليك أما ترضين أن تكوني سيدة أهل دمشق فلا تقتلي نفسك
فقالت له: يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله لئن ظفرت بك لاقطعن رأسك والله ما
أرضى بك أن ترعى لي الإبل فكيف ارضاك أن تكون لي كفؤا قال فلما سمع كلامها حرض
أصحابه على القتال وقال أترون عارا أكبر من هذا في بلاد الشام أن النسوة غلبنكم
فاتقوا غضب الملك قال فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام
فبينما هم على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين
ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف فقال لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم فقال رافع بن
عميرة الطائي أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على النسوة وهن يقاتلن قتال
الموت قال فرجع وأخبر خالدا بما رأى فقال خالد: لا أعحب من ذلك انهن من بنات
العمالقة ونسل التبابعة وما بينهن وبين تبع إلا قرن واحد وتبع بن بكر بن حسان الذي
ذكر رسول الله ﷺ قبل ظهوره وشهد له بالرسالة قبل أن يبعث وقال:
شهدت بأحمد إنه رسول
...
من الله بارىء كل النسم وأمته سميت في الزبور
...
بأمة أحمد خير الأمم
فلو مد عمري إلى عصره
...
لكنت وزيرا له وابن عم ==بطولة النساء== قال الواقدي:
قال خالد: لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن الحروب المذكورات والمواقف
المشهورات وأن يكن فعلهن ما ذكرت فلقد سدن على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن
عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحا ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع فقال خالد:
مهلا يا ضرار ولا تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة
بنت أبي وامي فقال خالد: قد قرب الفرج انشاءالله تعال ثم أن خالدا وثب ووثب أصحابه
وقال معاضر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا بهم فعسى أن يخلص
حريمنا فقالوا: حبا وكرامة ثم تقدم خالد قال فبينما القوم في قتال شديد مع النسوة
إذا أشرفت عليهم المواكب والكتائب والأعلام والرايات فصاحت خولة يا بنات التبابعة
قد جاءكم الفرج ورب الكعبة ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية وقد اشرفت فخفق فؤاده
وارتعدت فرائضه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضا قال فصاح بطرس يا معاشر النسوة أن
الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي لأن لنا أخوات وبنات وأمهات وقد وهبتكن للصليب
فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى فارسين قد خرجا من
قلب العسكرأحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري الجسد وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان
وكانا خالدا وضرارا فلما رأت خولة أخاها قالت له: إلى أين يا أبن أقبل فصاح بها
بطرس انطلقي إلى أخيك فقد وهبتك له ثم ولى يطلب الهرب فقالت له خولة: وهي تهزأ به
ليس هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب ثم تظهر الساعة الجفاء والتباعد
وخطت نحوه فقال قد زال عني ما كنت أجد من محبتك فقالت له خولة: لا بد لي منك على
كل حال ثم اسرعت إليه وقد قصده ضرار فقال له بطرس: خذ أختك عني فهي مباركة عليك
وهي هدية مني إليك فقال له الأمير ضرار: قد قبلت هديتك وشكرتها وإني لا أجد لك على
ذلك إلا سنان رمحي فخذ هذه مني إليك ثم حمل عليه ضرار وهو يقول: {وَإِذَا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 8]
ثم همهم إليه بالطعنة ووصلت إليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به الجواد ووقع عدو
الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الجانب
الآخر فتجندل صريعا إلى الأرض فصاح به خالد لله درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب
طاعنها.
ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت
إلا جولة جائل حتى.
قتل من الروم ثلاثة آلاف رجل قال حامد بن عامر اليربوعي
لقد عددت لضرار بن الأزور في ذلك اليوم ثلاثين قتيلا وقتلت خولة خمس وعفراء بنت
غفار الحميرية أربعة وقال: وانهزم بقية القوم ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على
أثرهم إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الأمر عليهم ورجع
المسملون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال ثم قال خالد: الحقوا بأبي
عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به فسار ضرار والقوم وقل جعل ضرار رأس
البطريق على سنان رمحه يزل القوم سائرين إلى أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر وقد
تخلف أبو عبيدة حتى اشرف المسلمون عليه فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه
ومعه المسلمون فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن وأخبر
خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر الله وعلموا
أن الشام لهم ثم دعا خالد ببولص فقال له: أسلم وإلا فعلت بك كما فعلت بأخيك فقال
له: وما الذي صنعت بأخي قال قتلته وهذه رأسه ورماها ضرار قدامه فلما رأى أخيه بكى وقال
له: لا بقاء لي بعد هـ حيا فألحقوني به قال فقام إليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي
الله عنه فضرب عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم.
قال الواقدي: حدثنا سعيد بن مالك قال لما بعث خالد الكتب
إلى شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ والى يزيد بن أبي سفيان والى عمرو بن
العاص قرأ كل واحد من الأمراء كتابه قال فساروا بأجمعهم إلى اجنادين لعون أخوانهم
وجاءوا بعددهم وعديدهم قال سفينة مولى رسول الله ﷺ كنت في خيل معاذ بن جبل فلما أشرفنا
بأجمعنا على اجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد وذلك في شهر صفر سنة 2
من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض قال: ورأينا جيوش الروم في عدد لا
يحصى فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا
صفوفهم فكانوا ستين صفا في كل صف ألف فارس قال الضحاك بن عروة والله لقد دخلنا
العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم
قال فنزلنا بإزائهم قال فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا قال الضحاك فلما
رأيناهم وقد ركبوا أخذنا على أنفسنا وتأهبنا وأن خالد ركب وجعل يتخلل الصفوف
ويقول: اعلموا إنكم لستم ترون للروم جيشا مثل هذا اليوم فإن هزمهم الله على أيديكم
فما يقوم لهم بعدها قائمة أبدا فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر دينكم وإياكم أن
تولوا الأدبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى
آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم.
قال الواقدي: ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى
أصحاب رسول الله ﷺ قد اجتمعوا وعولوا على حربهم جمع إليه الملوك والبطارقة وقال
لهم: يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم وإذا إنكسرتم لا تقوم لكم بعدها
قائمة أبدا وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا
تتفرقوا واعلموا أن كل ثلاثة منا بواحد منهم واستعينوا بالصليب ينصركم فهذا ما كان
من هؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه مشى على أصحابه وقال معاشر المسلمين من فيكم
يحذر لنا القوم وينذرهم فقال ضرار بن الأزور أنا أيها الأمير فقال خالد: أنت لها والله
ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك أن تحمل نفسك ما لا تطيق وأن تغرر بنفسك
وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك فقد قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال فأطلق ضرار عنان جواده حتى اشرف على جيش
الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض والطوارق والرايات كأجنحة الطيور قال: وكان
وردان ينظر نحو جيش المسلمين إذ نظر إلى ضرار وهو مشرف على القوم فقال للبطارقة
إني أرى فارسا قد أقبل ولست اشك إنه طليعة للقوم فأيكم يأتيني به فانتدب من القوم
ثلاثين فارسا طلبوا ضرارا فلما نظر إليهم ضرار ولى من بين ايديهم فتبعوه وظنوا إنه
قد انهزم وإنما أراد بذلك أن يبعدهم عن أصحابهم فلما بعدوا علم إنه تمكن منهم فلوى
رأس جواده إليهم وصوب السنان عليهم فأول ما طعن فارسا من القوم أرداه وثنى على
الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم صولة الاسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا
منهزمين فتبعهم وهو يصرع منهم فارسا بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارسا.
فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعا إلى خالد
ومعه اسلابهم وخيولهم وأعلمه بما كان فقال له خالد: ألم اقل لك لا تغرر بنفسك ولا
تحمل عليهم فقال أن القوم طلبوني فخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص ولا جرم
أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لاحملن على الجميع واعلم أن القوم
غنيمة لنا قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين فجعل في القلب معاذ بن
جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي
الجناح الايسر شرحبيل بن حسنة وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس
حول الحريم والبنات والأولاد ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم
أبان ابنة عتبه وكانت عروسا قد تزوج بها في هذا اليوم ابان بن سعيد ابن العاص
والخضاب في يدها والعطر في رأسها وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت
زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن الشجاعة والبراعة.
نصيحة خالد
فقال لهن خالد يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن
فعلا أرضيتن به الله تعالى والمسلمين وقد بقي لكن الذكر الجميل وهذه أبواب الجنة
قد فتحت لكن وابواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لاعدائكن واعلمن إني أثق بكن فإن
حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن وأن رايتن أحدا من المسلمين قد ولى
هاربا فدونكن وإياه بالأعمدة وارمين بولده وقلن له اين تولى عن أهلك ومالك وولدك
وحريمك فانكن ترضين بذلك الله تعالى فقالت عفراء بنت غفار: أيها الأمير والله لا
يفرحنا إلا أن نموت أمامك فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف
والله مانبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيرا ثم عاد إلى الصفوف فجعل يطوف
بينهم بفرسه ويحرض الناس على القتال وهو ينادي برفيع صوته يا معاشر المسلمين
انصروا الله ينصركم وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا
حتى آمركم بالحملة ولتكن السهام إذا خرجت من اكباد القسى كأنها من قوس واحدة فإذا
تلاصقت السهام رشقا كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 20] واعلموا
إنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله وأن هذه الفئة جملتهم وأبطالهم وملوكهم فجردوا
السيوف وأوتروا القسى وفوقوا السهام ثم أن خالدا أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن
العاص وعبد الله بن عمر قيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وذى الكلاع الحميري وربيعة بن
عامر ونظائرهم قال فلما نظر ودان إلى جيش المسلمين قد زحف زحفوا وكانوا ملء تلك
الأرض في الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان وقد اظهر أعداء الله
الصلبان والأعلام ورفع المسلمون اصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على
البشير النذير.
فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير
وعليه قلنسوة سوداء فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي أيكم المقدم فليخاطبني
وليخرج الي وعليه أمان قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له القس: أنت أمير القوم
فقال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله وأن أنا غيرت أو بدلت فلا
امارة لي عليهم ولا طاعة قال القس بهذا نصرتم علينا ثم قال اعلم إنك توسطت بلادا
ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وأن الفرس دخلوها ورجعوا خائبين وأن
التبابعة أتوها وأفنوا أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا ولكنكم أنتم نصرتم علينا
وأن النصر لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد اشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال إنه يعطي
كل واحد منكم دينار وثوبا وعمامة ولك أنت مائة دينار ومائة ثوب ومائة عمامة وارحل
عنا بجيشكم فإن جيشنا على عدد الذر ولا تظن أن هؤلاء مثل من لقيت.
من جموعنا فإن الملك ما انفذ في هذا الجيش إلا عظماء البطارقة
والاساقفة قال خالد: والله ما نرجع إلا باحدى ثلاث خصال أما أن تدخلوا في ديننا أو
تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت من إنكم عدد الذر فإن الله تعالى قد وعدنا
النصر على لسان محمد ﷺ وأنزل ذلك في كتابه العزيز وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي
كل واحد منا دينارا وعمامة وثوبا فعن قريب أن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم
وعمائمكم كل ذلك في ملكنا وبأيدينا فقال الراهب إني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك
ثم لوى راجعا وأخبر وردان بما كان من جواب خالد فقال وردان: أيظن أننا مثل من لقيه
من قبل وإنما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد أرسل إليهم أكابر
البطارقة وما بيننا وبينهم إلا جولة الجائل ثم نتركهم صرعى ثم رتب أصحابه وزحف
وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة وبأيديهم المزازيق والقسي قال فصاح
معاذ بن جبل معاشر الناس أن الجنة قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لاعدائكم والملائكة
عليكم قد اقبلت والحور العين قد تزينت للقائكم فابشروا بالجنة السرمدية ثم قرأ:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 11] بارك الله فيكم الحملة فقال خالد: مهلا يا معاذ
حتى اوصي الناس ومشي في الصفوف ورتبها وقال اعلموا أن هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى
وقت العصر فإنها ساعة نرزق فيها النصر وإياكم أن تولوا الأدبار فيراكم الله
منهزمين ازحفوا على بركة الله تعالى.
فلما تقارب الجمعان رمت الأروام سهامهم رمية واحدة قال فقتلوا
رجالا وجرحوا أناسا وخالد قد منع الناس من الحملة فقال لضرار بن الأزور وما لنا
والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا والله ما يظن أعداء الله إلا أننا قد
فشلنا عنهم وجزعنا فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك قال فأنت لها يا ضرار فخرج ضرار بن
الأزور وقال: والله ما من شيء اشهى إلى قلبي من ذلك ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان
لبطرس أخي بولص وألقى الزرد على وجهه وركب جواده وكان عليه يؤمئذ جبتان من جلود
الفيلة كان قد أخذهما أيضا من بطرس وقد أخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك وقد اطلق
عنانه وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل إليه منهم أذى وهو
يخترق صفوفهم فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارسا ومثلها رجالة قال
عنان بن عوف النجبي كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور وكنت كلما قتل فارسا من الروم
أعده فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه فرسانا ورجالا ثلاثين فارسا.
قال عمر بن سالم هكذا حدثني نوفل بن زياد ثم إنه رمى
البيضة عن رأسه والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته أنا الموت الأصفر أنا ضرار بن
الأزور أنا.
صاحبكم أنا قاتل همدان بن وردان أنا البلاء المسلط عليكم
وعلى من أشرك بالرحمن قال فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم قال
فطمع فيهم وحمل على أثرهم فعند ذلك انطبقت عليه الروم فقال وردان: من هذا البدوي
فقالوا: أيها الملك هذا الذي بقى طول عمره عاري الجسد ومرة برمح ومرة بنبل فلما
سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال هذا قاتل ولدي ولقد اشتهيت من يأخذ
منه بثأري وله مني ما يريد قال فبرز إليه بطريق وكان صاحب طبرية وقال لوردان أنا
أخذ لك بالثأر ثم لوى عنانه وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة ثم طعنه ضرار طعنة
صادقة خرق بها كبد عدو الله فتجندل صريعا فقال وردان لهم: ما أتى به ولو اتى به
عينا ما صدقته فإن هذا لا تطيق الانس أن تقاتله وأنا أرى لهذا غيري ثم ترجل وغير
لامته وألقى عليه درعا وجعل على رأسه التاج وركب جوادا من الخيول العربية وهم أن
يخرج إلى ضرار بن الأزور فتقدم إليه بطريق اسمه اصطفان وهو صاحب عمان قال وباس
ركاب وردان قال: أيها السيد أن أخذ بثأرك من هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك
فقال له وردان: هي لك وأشهد عليه من حضر من ملوك الشام فلما سمع اصطفان بذلك خرج
كأنه شعلة نار وحمل على ضرار وقال له: ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به قال فلم
يدر ضرار ما يقول: غير إنه أخذ ححذره منه وقد أخرج اصطفان صليبا من الذهب وجعله في
عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقبله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار إنه يستنصر به عليه
فقال ضرار رضي الله عنه أن كنت تستنصر علي به فأنا أستنصر بالقريب المجيب الذي هو
ممن دعاه قريب ثم حمل عليه وأرى الناس أبوابا من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما
فصاح خالد يا بان الأزور ما هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد
فتحت لاعدائك وإياك الكسل فإن الله عز وجل يعينك قال: فأيقظ ضرار نفسه وانقض من
سرجه وحمل على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم وقد حميت
الشمس وتعب الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حتى نتقابل فهم ضرار أن يترجل
شفقة على الجواد وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود جنيبا امامهم وكان ذلك غلام البطريق
فلما نظر إليه ضرار صاح في جواده وقال له: اجلد معي ساعة وإلا شكوتك إلى رسول الله
ﷺ.
قال فحمحم الجواد وشمر اجنحته جريا واستقبل ضرار غلام
البطريق بطعنة فقتله واخذ الجنيب فركبه واطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه
وعاد ضرار نحو البطريق فلما رآه اقبل إليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده ايقن عدو
الله بالهلاك وعلم إنه أن ولى قتله بلا محالة وأن وقف اهلكه فلما نظر ضرار إلى عدو
الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج منهم دوس وذلك أن وردان لما
نظر إلى.
صاحبه وقد اشرف على الموت علم إنه أن لم يدركه هلك فقال
لقومه يا قوم أن هذا الشيطان قد أكل من كبدي قطعة وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد
لي من الخروج إليه قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون وفي ارجلهم أخفاف من
الحديد وسواعد من الحديد وبأيديهم اعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى رأسه
تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من خرج فصرخ بضرار
فلم يلتفت إلى من خرج إليه إلا إنه تأهب فبينما هم كذلك إذ نظر خالد إلى القوم
وخروجهم ونظر إلى التاج وهو يلمع على رأس صاحبهم فقال أن التاج لا يكون إلا على
رأس الملك ولا شك إنه صاحب القوم قد خرج إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته ثم
قال لأصحابه: لا يخرج إلا عشرة حتى نساوي القوم فخرج خالد في عشرة أصحابه وأطلقوا
الأعنة وقوموا الاسنة قال: ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب اقوى من الحجر
الجلمود قال فناداه خالد ابشر يا ضرار فقد اسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار فقال
ضرار رضي الله عنه ما اقرب النصر من الله وجاء خالد ومن معه والتقت الرجال بالرجال
وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان ولم يبرح ضرار عن خصمه اصطفان وقد كل ساعة
وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد ومن معه فنظر يمينا وشمالا ليطلب الهرب فعلم ضرار
منه ذلك فهجم عليه بسنانه فلما أيقن بالموت القى نفسه إلى الأرض وولى هاربا فبادر
إليه ضرار والقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه الأرض وكان
عدو الله كالصخر الجلمود وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله تعالى اعطاه قوة
الإيمان فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه وقلعه من الأرض بحيله وجلد به
الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان وقال بالرومية أيها السيد انجدني مما أنا
فيه فقد هلكت فصاح وردان يا ويلك ومن ينقذني أنا من هؤلاء السباع الكاسرة فسمع
خالد ذلك فطمع فيه وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر إليهما الفريقان وأقبل صاحب
رسول الله ﷺ ضرار فلم يمهل خصمه دون حتى برك على صدره وذبحه مثل البعير وكل واحد
مشتغل عن نصرة صاحبه قال فأخذ ضرار رأس عدو الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده
وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد بن زيد يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي
الله الملك الجبار فإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا دخول النار يا أهل الإيمان
يا حملة القرآن اصبروا قال فزاد الناس بقوله نشاطا وتزاحم الفريقان قال: وجاء وقت
العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم ومنهم رومان صاحب
الأميرة ودمر صاحب نوى وكوكب صاحب ارض البلقاء ولاوى بن حنا صاحب غزة قال ثم افترق
القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعبا مما ظهر له من المسلمين من شدة
صبرهم وقتالهم فجمع البطارقة وقال لهم: يا أهل دين النصرانية ما.
تقولون في هؤلاء العرب فاني اراهم غالبين علينا وقد رأيت
اسيافهم قاطعة وخيلهم صابرة وسواعدكم بليدة وأن القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم
إلا بالظلم والجور والغدر وما مرادي منكم إلا أن تتوبوا إلى ربكم فإن فعلتم ذلك
رجوت لكم النصر من عدوكم وأن لم تفعلوا ذلك فائذنوا بحرب من المسيح وبهلاك أنفسكم
فإن الله عاقبكم اشد عقوبة إذ سلط عليكم اقواما لا نفكر بهم ولا نعدهم لأن أكثرهم
جياع وعبيد وعراة ومساكين أخرجهم إلينا قحط الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء والان
قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب وأعظم ذلك سبي
نسائكم وأموالكم.
قال الواقدي: فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا: نقتل عن
آخرنا ولا يصل إلينا هؤلاء القوم وأنا نرى أن نقاتلهم بالرماح قال فلما سمع وردان
ذلك منهم صاح بالبطارقة وقال لهم: ما عندكم من الرأي فقال رجل منهم يا وردان اعلم
إنك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم وقد رأيت الواحد منهم يحمل على عسكرنا ولا يبالي
منأحد ولا يرجع حتى يقتل منهم وقد قال لهم نبيهم: أن من قتل منكم صار إلى الجنة
ومن قتل من الروم صار إلى النار والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم
مطمعا إلا أن نتحيل على صاحبهم فنقتله فإن قتلتموه ينهزم القوم وإنك لا تصل إليه
إلا بحيلة توقعه فيها فقال وردان واي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع
والمكر منهم.
فقال له البطريق: أنا أقول لك شيئا أن صنعته وصلت به إلى
أمير العرب من حيث لا يصل إليك شيء ولا اذى وذلك إنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي
الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك إليه وبعد ذلك تخرج إليه
وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن ويقطعونه اربا اربا
وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم أحد قال فلما سمع وردان ذلك من
البطريق فرح فرحا عظيما وقال: ما هذا إلا رأي سديد فنعم ما اشرت به وقد أصبت فيما
ذكرت غير أن هذا الأمر يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح إلا وقد فرغنا مما نريد
ثم أن وردان دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه وقال له: يا داود
أنا أعلم إنك فصيح اللسان وإني أريد أن تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم أن يقطعوا
الحرب بيننا وبينهم وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى أخرج بنفسي إليهم
منفردا عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب فقال داود ويحك وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك
به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فإن الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي
أخاطب العرب في ذلك أبدا فيبلغ الملك إني كنت السبب في ذلك فيقتلني فقال له وردان:
يا ويلك إنما دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل إليه بها فأقتله.
وتتفرق هؤلاء العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من
المكر بخالد بن الوليد فقال لوردان أن الباغي مخذول في كل فعل فالق الجمع بالجمع
واترك ما عزمت عليه فقال وردان: وقد غضب ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك
المحاججة فقال حبا وكرامة ثم إنه مضى وقال في نفسه أن وردان قد عزم أن يلحق بولده
ثم اقبل حتى إنه وقف قريبا من المسلمين ونادى برفيع صوته وقال: يا معاشر العرب
حسبكم من القتل وسفك الدماء فإن الله تعالى يسألكم عن سفكها وأريد أن يخرج الي
أمير العرب حتى أخاطبه بما ارسلت به قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه خالد رضي
الله عنه وهو كأنه شعلة نار.
فلما نظر إليه داود النصراني قال له: يا عربي على رسلك
فما خرجت أحارب ولا أنا من رجال الحرب وما أنا إلا رسول فلما سمع خالد مقالته قرب منه
وقال اذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك فقال صدقت يا عربي أن
أميرنا وردان كاره سفك الدماء وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم وقد نظر إلى من قتل من
جماعته فكره أن يحاربكم وقد رأى أن يدفع لكم مالا ويحقن به دماء الناس لكن بشرط أن
يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك كبراء قومك إنك لا تتعرض له ولا لاحد من أصحابه
ولا لحصن من حصونه فإن فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك فإذا
اصبحت فاخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضا منفردا فننظر ما تتفقان عليه عسى
أن تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم قال فلما سمع خالد ما نطق به داود قال له: إن
كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي
بحيلة ولا بخديعة فإن كان ذلك ضميره واعتقاده فما هو إلا قرب أجله وانقطاع عمره
وهلاك جموعكم والانفصال بيننا وبينكم وأن كان ذلك حقا من قوله فلست اصالحه إلا إذا
أدى الجزية عن جماعته وأما المال فلست براغب فيه إلا على ما ذكرته لكم وعن قريب
نأخذ أموالكم ونملك بلادكم فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد ما يكون الأمر إلا
كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا وها أنا راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى
راجعا وقد امتلأ قلبه رعبا من خالد وفزع منه فزعا شديدا ثم قال في نفسه صدق والله
أمير العرب وأنا اعلم والله أن وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي إلا أن أصدق
أمير العرب وأخذ لي ولاهلي منه أمانا ثم رجع إلى خالد وقال له: يا أمير إني قد
أضمرت على سر وأريد أن أبديه لك لاني أعلم أن البلاد لكم أن وردان قد نوى على شيء فقال
خالد: وما هو فقال خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظا فإنه قد اضمر لك كيدا ثم أخبره
بالقصة من أولها إلى اخرها ثم قال لخالد أريد منك الأمان لي ولاهلي فقال خالد:
الأمان لك ولاهلك ولاولادك أن أنت لم تخبر القوم ولم تغدر قال داود لو أردت أن
أغدر لما حدثتك فقال خالد: وأين كمين القوم قال عند كثيب عن يمين عسكرهم ثم إنه
خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح وقال: الآن ارجو أن يظفرني الصليب بهم ثم إنه دعا
بعشرة من الأبطال وقال لهم: امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه وأما
خالد فإنه رجع فلقيه امين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكا فقال: يا أبا سليمان اضحك
الله سنك ما الخبر فحدثه بما جرى فقال أبو عبيدة: على ماذا عزمت قال عزمت أن أخرج
إلى القوم وحدي فقال: يا أبا سليمان لعمرك إنك لكفء ولكن ما أمرك الله أن تلقي
بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}
[الأنفال: 6] وقد أعد لك عشرة وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له
رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريبا من القوم فإذا صرخ اللعين بقومه فاصرخ أنت
بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا فإذا فرغت من عدو الله حملنا جميعا ونرجوا من
الله النصر ثم قال: والمسلمون هم رافع بن عميره الطائي ومعاذ بن جبل وضرار بن
الأزور وسعيد بن زيد وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق العبسي وعدي بن حاتم حتى استتم
العشرة واخبرهم خالد بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها
وردان وقال أخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكمأحد حتى إنكم تأتون الكثيب الذي عن يمين
العسكر فاكمنوا هناك فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد لواحد واتركوني
لعدو الله فانني أن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار أيها الأمير أخاف أن يكثر عليك
الجمع الكثير فلا نأمن أن يصلوا بشرهم إليك وقد كنت ادبر لك حيلة اننا نسير من
وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا وجدناهم رقودا قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح
ونكمن نحن في مواضعهم فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة.
فقال خالد: افعل يا أبا الأزور ما ذكرت أن وجدت إلى ذلك
سبيلا وخذ معك هؤلاء الذين ندبتهم وانت الأمير عليهم وارجو أن الله يبلغك ما تطلبه
وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم اسلحتهم وودعوا الناس وكان وقت
خروجهم قد مضى ثلث الليل ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف أصحابه وقال على رسلكم
حتى استخبر لكم خبر القوم فلما اشرف عليهم من بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا
في النوم لما نالهم من التعب والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم فقال ضرار في نفسه:
أن أنا دنوت من القوم لاقتلهم خشيت أن يوقظ بعضهم بعضا قال فرجع إلى أصحابه وقال
لهم: ابشروا فقد أتاكم الله بما تريدون وأذهب عنكم ما تحذرون فجردوا سيوفكم وسيروا
إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم ثم تقدم ضرار امامهم وهم في أثره إلى أن وصل بهم
إليهم فوجدوهم نياما كل واحد منهم سلاحه عند رأسه فانفرد كل واحد منهم بواحد فلم يلبثوا
إلا وقد فرغوا منهم عن اخرهم وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا.
كل ما معهم من الزاد وغيره فقال لهم: ضرارا أبشروا فإن
هذا أول النصر أن شاء الله تعالى وأقبلوا بقيلة ليلتهم يصلون ويدعون الله أن
ينصرهم على عدوهم ولم يزل كل واحد منهم في مصلاه إلى أن اضاء الفجر فصلوا صلاة
الفجر فلما فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة أن
يرسل إليهم وردان خبرا.
معركة اجنادين
قال الواقدي: فلما اصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب
أصحابه لاهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب
أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقن
الدماء بينهما قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له الفارس: إن وردان يريد أن
تنتظره حتى تتكلم معه فقال خالد: السمع والطاعة ارجع واخبره فعند ذلك خرج وردان
وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج فقال خالد: عندما رآه هذه غنيمة للمسلمين أن
شاء الله تعالى قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما
وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل: ما تشاء واستعمل الصدق والزم
طريق الحق واعلم إنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل فقال: ما تريد فقال وردان يا
خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم فإن كنت تطلب منا شيئا فلا
نبخل به عليك صدقة منا عليكم لاننا ليس عندنا امة اضعف منكم وقد علمنا إنكم كنتم
في بلاد قحط وجوع تموتون جوعا فاقنع منا بالقليل وارحل عنا فلما سمع منه خالد هذا
الكلام قال له: يا كلب الروم أن الله عز وجل اغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل
أموالكم نتقاسهما بيننا وأحل لنا نساءكم واولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله
محمد رسول الله وأن ابيتم فالحرب بيننا وبينكم أو الجزية عن يد وانتم صاغرون
وبالله اقسم أن الحرب اشهى لنا من الصلح أما قولك يا عدو الله لم تكن امة اضعف منا
عندكم فانتم عندنا بمنزلة الكلاب وأن الواحد منا يلقي الفا منكم بعون الله تعالى وما
هذا خطاب من يطلب الصلح فإن كنت ترجو أن تصل إلى بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما
تريد.
قال فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن
يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا قال فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال
لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب فما استم كلامه حتى بادر إليه
الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور وقد رموا النشاب عنهم وجردوا سيوفهم
وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالاسد وأصحابه من ورائه فالتفت
عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون إليه وهو يظن إنهم قومه حتى إنهم وصلوا إليه
ونظر.
في أوائلهم ضرار بن الأزور فقال لخالد سألتك بحق معبودك
أن تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز
ضرار سيفه وقال: يا عدو الله اين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله ﷺ فقال خالد:
اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ثم وصل إليه أصحاب رسول الله ﷺ فهزوا سيوفهم في وجهه
ومرادهم أن يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير باصبعه الأمان
الأمان فقال لخالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لاهل الأمان وانت اظهرت لنا
المكر والخديعة {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 5] فلما سمع ضرار كلام خالد
لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه ثم أخذ التاج من على
رأسه وقال: من سبق إلى شيء كان أولى به وقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه اربا
اربا وتبادروا إلى سيفه فأخذوه ثم أن خالدا قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على
الروم لانهم مشتاقون إلى أصحابهم قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر
الروم فلما وصل خالد الصفوف نادى يا اعداء الله هذا راس صاحبكم وردان أنا خالد بن
الوليد أنا صاحب رسول الله ﷺ ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون وحمل أبو
عبيدة وقال احملوا يا أهل القرآن وحفاظ الدين وحماة المسلمين فلما رأى الروم رأس
وردان ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى
الغروب قال عامر بن الطفيل الدوسي كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق
غزة إذ اشرف علينا خيل فظننا إنها نجدة من عند الملك هرقل فأخذنا على أنفسنا وإذا
بالغبرة قد قربت منا فإذا هي عسكر من ارسلها أبو بكر الصديق وما رأواأحدا من
المنهزمين إلا قتلوه ونهبوا ما معه.
قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين الفا فقتل منهم في
ذلك اليوم خمسون الفا وتفرق من بقى منهم فمنهم من انهزم إلى دمشق ومنهم من انهزم
إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها واخذوا منهم صلبان الذهب والفضة
فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد: لست اقسم عليكم شيئا إلا بعد فتح دمشق
أن شاء الله تعالى وكانت الوقعة باجنادين ليلة ست خلت من جمادي الأول سنة ثلاث
عشرة من الهجرة النبوية وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة ثم أن خالدا رضي
الله عنه كتب كتابا إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن
الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله ﷺ سلام عليك أما بعد فانيأحمد الله الذي لا
إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ وازيد حمدا وشكرا على المسلمين ودمارا على المتكبرين
المشركين وانصداع بيعتهم وأنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا
بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على
الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر وكتب الله على اعدائنا القهر فقاتلناهم في
كل واد وسبسب وجملة منأحصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون.
ألفا وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة
وخمسون رجلا ختم الله لهم بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم
ما فيه قرأه على عشرون والباقي من اخلاط الناس ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس
لليلتين خلتا من جمادي الاخر ونحن راجعون إلى دمشق أن شاء الله تعالى فادع لنا
بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى
عبد الرحمن بن حميد وامره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة
واتم السلام وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق.
قال الواقدي: رحمة الله عليه ولقد بلغني أن أبا بكر
الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد فلما رآه
تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت قال من الشام وأن الله قد نصر
المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكرا وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر
وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك هالمسلمين فرفع أبو بكر
رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهرا فتزاحم الناس يسمعون
قراءة الكتاب فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني
مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما
ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر وأقبل
إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق
بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب بن وائل
وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى
الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن والحمد لله الذي
كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وارادوا أن يطفئوا نور الله
بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول ليس مع الله غالب فلما أن
أعز الله ديننا ونصر شريعتنا اسلموا خوفا من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد
نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين والصواب
أن لا نقربهم فقال أبو بكر لا أخالف لك قولا ولا أعصى لك أمرا قال: وبلغ أهل مكة
ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا بجمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله
جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره
وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه
وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاما فكان أول من تكلم أبو سفيان بن
حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضا في الجاهلية فلما هدانا
الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان لك في قلوبنا لأن الإيمان يهدم الشرك وأنت
بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديما وحديثا أما أن لك أن تغسل
ما بقلبك من الحقد.
والتنافر وأنا لنعلم إنك أفضل منا وأسبق في الإيمان
والجهاد ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين قال فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا
الكلام فقال أبو سفيان إني اشهدكم إني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات
مكة فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يوملون وأجزهم باحسن ما يعملون وأرزقهم
النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:
2] .
قال الواقدي: فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم
عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن
الاشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله وكان مالك يحب
سيدنا عليا وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله ﷺ وقد عزم على
الخروج مع الناس إلى الشام.
كتاب أبو بكر إلى خالد
قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف فلما تم
امرهم كتب أبو بكر كتابا إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من
أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ إلى خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين أما بعد
فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد ﷺ وأوصيكم وآمركم بتقوى
الله في السر والعلانية وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين
وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى
حمص وانطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وقد تقدم
إليك ابطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الاشتر وانزل
على المدينة العظمى انطاكية فإن بها الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وأن حاربك فحاربه
ولا تدخل الدروب وأقول هذا وأن الأجل قد قرب ثم كتب: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ} [آل عمران: 18] ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن وقال له: أنت كنت
الرسول من الشام وانت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل
إلى أن وصل إلى دمشق.
قال حدثني نافع بن عميرة قال لما بعث خالد بن الوليد
الكتاب إلى أبي بكر الصديق ارتحل يريد دمشق وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم
وابطالهم وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق واعدوا
آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الاسوار ونشروا الأعلام والصلبان
فلما أخذوا على أنفسهم اشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد والجيش قد زاد عمرو بن
العاص في تسعة.
آلاف ويزيد بن أبي سفيان في الفين وشرحبيل بن حسنة وعامر
بن ربيعة في ألفين وأقبل السواد من ورائهم معاذ بن جبل في الفين فلما رأى أهل دمشق
عسكر المسلمين مثل البحر الزاخر ايقنوا بالهلاك وأقبل خالد في جيش الزحف فنزل على
الدير المعروف به وبينه وبين المدينة أقل من ميل فلما نزل هناك دعا بالأمراء فاحضرهم
فقال لأبي عبيدة: أنت تعلم ما ظهر لنا من غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم
وخروجهم في أثرنا فامض بمن معك من أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح
للقوم بالأمان فيأخذوك بمكرهم ولتكن متباعدا عن الباب وابعث إليهم فوجا بعد فوج
واجعل قتال الناس دولا ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحذر من
القوم الكافرين فقال أبو عبيدة: حبا وكرامة ثم إنه خرج حتى نزل بباب الجابية ونصب
له بيتا من الشعر بالبعد من الباب.
حول دمشق
قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن
حجاج الأنصاري قال قلت لجدي رفاعة بن عاصم وكان ممن قاتل بدمشق وكان في خيل أبي
عبيدة فقلت: يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض قبب الروم مما أخذه
من اجنادين ومن بصرى فقد كان عندهم الوف من ذلك فقال: يا بني منعهم من ذلك التواضع
ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظر الروم إنهم لا يقاتلون طلبا للملك وإنما
يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى وطلب الاخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا
وخيام الروم بالبعد قال فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال ثم
أن خالدا استدعى بيزيد بن أبي سفيان وقال له: يا يزيد خذ صاحبك وانزل على الباب
الصغير واحفظ قومك وأن خرج إليكأحد لا يكون لك به طاقة فابعث الي حتى انجدك أن شاء
الله تعالى ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ وقال له: انزل على باب
توما ثم توجه بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره أن يسير إلى باب الفراديس ثم
استدعي بعده بقيس بن هبيرة وقال له: اذهب بقومك إلى باب الفرج ثم نزل خالد إلى
الباب الشرقي ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم إليه ألفي فارس وقال له: تطوف
حول المدينة بعسكرك وأن دهمك أمر أو لاحت لك عيون القوم فأرسل إلينا قال ثم سار
ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على الباب الشرقي ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من
المدينة بكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على
الباب الشرقي وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة فلما رفع إليه
الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبي
سفيان بن حرب قال: وشاع الخبر.
عند جميع الناس وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرىء
على الناس متأهين وبات الناس متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم
ولا يقف في مكان واحد مخافة أن يكبس بهم العدو.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم
من البلد وتشاوروا فيما بينهم فقال بعضهم ما لنا إلا الصلح ونعطي العرب جميع ما
طلبوه منا وقال اخرون ما نحن بأكثر من جموع اجنادين فقال لهم بطريق من الروم:
اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الأمر لنسمع ما يقول: ونطلب منه أن
يكشف عنا ما نحن فيه فاما أن يصالحهم واما أن يحامي عنا قال فمضى القوم إلى توما
وعليه رجال موكلون بالسلاح فقالوا: لهم ما الذي تريدون فقالوا: نريد صهر الملك
توما نشاوره في هذا الأمر قال فأذنوا لهم فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه فقال
لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا وقد جاءنا ما لا طاقة
لنا به فاما أن نصالح العرب على ما طلبوا واما أن نرسل إلى الملك فينجدنا أو يمانع
عنا فقد أشرفنا على الهلاك فلما سمع ذلك منهم تبسم ضاحكا وقال: يا ويلكم أطمعتم
العرب فيكم وحق راس الملك ما أرى القوم أهلا للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو
فتح لهم الباب ما جسروا أن يدخلوا فقالوا: أيها السيد أن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة
والمائة وصاحبهم داهية لا تطاق فإن كان ولا بد فاخرج بنا لقتالهم فقال لهم توما:
إنكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح وأما القوم فهم حفاة
عراة فقالوا له: أيها السيد أن معهم من عددنا واسلحتنا كثيرا مما أخذوه من واقعة
فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم بكلوس وعزازير ومما أخذوه من أجنادين
وأيضا أن نبيهم قال لهم: أن من قتل منا صار إلى الجنة فلاجل ذلك يبقون عراة
الأجساد ليصلوا إلى ما قال لهم: نبيهم قال فضحك من قولهم وقال لهم: لاجل ذلك
أطمعتم العرب فينا ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لانكم اضعافهم مرارا.
فقالوا: أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت واعلم إنك أن
لم تمنعهم عنا فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم فلما سمع توما كلامهم فكر طويلا وخشي
أن تفعل القوم ذلك فقال أنا أصرف عنكم هؤلاء العرب واقتل اميرهم وأريد منكم أن
تقاتلوا معي قالوا: نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن أخرنا فقال لهم: باكروا
القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولامره منتظرون وباتوا بقية ليلتهم على
الحصن وأصحاب رسول الله ﷺ في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على
البشير النذير وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم
التي غنموها من أعدائهم ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف وغيرهم ولم
يزل الناس.
في الحرس إلى أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من
قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه ثم أمر أصحابه بالزحف وقال لهم: لا تخلوا عن القتال
واركبوا الخيل.
حدثني رفاعة بن قيس قال سألت والدي قيسا وكان ممن حضر
فتوح دمشق الشام فقلت له: أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين
فقال: ما كان أحد منا فارسا إلا زهاء الفي فارس مع ضرار بن الأزور وهو يطوف بهم
حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى بابا من الأبواب وقف عنده وحرض أهله على القتال
وهو يقول: صبرا صبرا لاعداء الله قال: وأقبل توما صهر الملك هرقل من بابه الذي
يدعى باسمه وكان عندهم عابدا راهبا ولم يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في
دينهم وكان معظما عند الروم فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا
به فوق البرج وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال: ونصبوه بالقرب
من الصليب ورفع القوم أصواتهم وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل وقال اللهم
أن كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لاعدائنا واخذل الظالم منا فانك به عليم اللهم
اننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه وأظهر الايات الربانية والأفعال
اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين قال: وأمن الناس على دعائه قال رفاعة بن قيس
هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ والذي فسر لنا هذا الكلام روماس
صاحب بصرى وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما وكلما قال الروم شيئا
بلغتهم فسره لنا قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته وقد عظم عليه قول توما اللعين
وقال له: يا لعين لقد كذبت أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابأحياه متى
شاء ورفعه متى شاء ثم أن روماس ناوشه بالقتال فقاتل توما قتالا شديدا وهشم الناس
بالحجارة ورمى النشاب رميا متداركا فجرح رجالا وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص
أصابته نشابة وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله اخوانه إلى أن
أتوا به إلى العسكر فأرادوا حل العمامة فقال: لا تحلوها فإن حللتم جرحي تبعتها
روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه قال فلم يسمعوا قوله وحلوا عمامته فلما
حلوها شخص إلى السماء وصار يشير باصبعيه أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى.
بطولة المرأة
وكانت زوجته بنت عمه وكان قد تزوجها باجنادين وكانت
قريبة العهد من العرس ولم يكن الخصاب ذهب من يدها ولا العطر من رأسها وكانت من
المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة واليراعة فلما سمعت بموت بعلها أتته تتعثر
في أذيالها.
إلى أن وقعت عليه فلما نظرته صبرت واحتسبت ولم يسمع منها
غير قولها هنئت بما أعطيت ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق ولاجهدن حتى
الحق بك فاني لمتشوقة إليك حرام علي أن يمسني بعدك أحد وإني قد حبست نفسي في سبيل
الله عسى أن الحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلا ثم حفر له ودفن مكانه فقبره معروف وصلى
عليه خالد بن الوليد فلما غيب في التراب لم تقف على قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت
الجيش من غير أن تعلم خالدا بذلك وقالت: على أي باب قتل بعلي فقيل لها على باب
توما والذي قتله هو صهر الملك قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم
وقاتلت مع الناس قتالا لم ير مثله وكانت أرمى الناس بالنبل وكان قد جعل لها قوس
وكنانة قال شرحبيل بن حسنة رايت يوم حصار دمشق رجلا على باب توما يحمل الصليب وهو
أمام توما وهو يشير إليه اللهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به اللهم اظهر له نضرته
وأعل درجته قال شرحبيل بن حسنة وأنا دائما أنظر إليه إذ رمته زوجة ابان بنبلة فلم
تخطىء رميتها وإذا بالصليب قد سقط من يده وهوى إلينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من
جوانبه فما فينا إلا من بادر إليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض
كل منا يسبق إليه ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم واهوائه
إلى المسلمين فعند ذلك كفر وعظم عليه الأمر وقال يبلغ الملك أن الصليب الأعظم أخذ
مني وملكته العرب لا كان ذلك أبدا ثم إنه حرم وسطه وأخذ سيفه وقال من شاء منكم
فليتبعني ومن شاء فليقعد فلابد لي من القوم عسى أن أشفي صدري ثم انحدر مسرعا وأمر
بفتح الباب وكان هو أول مبادر فلما نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم إلا من انحدر
في أثره لما يعلمون من شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر هذا والمسلمون محيطون
بالصليب فلما خرج الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضا فلما نظر المسلمون إلى
الروم سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردا لاعدائهم وحملوا في أعراضهم وأخذهم
النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب فصاح شرحبيل بن حسنة معاشر المسلمين تقهقروا
إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله العالين على الباب قال فتقهقر الناس إلى
ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب النشاب فاتبعهم عدو الله توما وهو يضرب يمينا وشمالا
وحوله أبطال المشركين من قومه وهو يهدر كالجمل فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ
بقومه وقال معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا خالقكم
بفعلكم فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الأدبار فاحملوا عليهم واقربوا
إليهم بارك الله فيكم قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط الناس بعضهم ببعض وعملت
بينهم السيوف وتراموا بالنبل وتسامع أهل دمشق أن توما خرج إلى العرب من بابه وأن
صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو.
الله ينظر يمينا وشمالا وينظر الصليب فحانت منه التفاتة
فنظر فرآه مع شرحبيل بن حسنة فلما نظر إليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح هات
الصليب لا أم لك فقد لحقتك بواثقة.
قال ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله وهو مقبل فرمى
الصليب من يده وصادمه فلما رأى عدو الله الصليب مرميا على الأرض صرخ بأصحابه صرخة
هائلة ونظرت زوجة أبان ابن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل فقالت: من هذا قيل
هو صهر الملك وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد فلما سمعت ذلك منهم حملت حملة منكرة إلى
أن قاربته ورمته بنبلة وكان الروم أرهبوها فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على
صاحبها وقالت: بسم الله وبركة رسول الله ﷺ ثم أطلقتها وكان عدو الله واصلا إلى
شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر إلى ورائه
صارخا وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا بالطوارق وتبادر إليها
قوم من المسلمين يحامون عنها فلما أمنت من شر الأعداء أخذت ترمي بالنبل ثم إنها رمت
علجا من الروم فأصابت صدره فسقط هاويا إلى الأرض وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك
اليوم هاربا من شدة حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل
إلى ذلك فصرخ بأصحابه يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن تدركوا
عدو الله قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب فحماهم قومهم من أعلى
الباب بالحجارة والنشاب قال فتراجع الناس إلى مواضعهم وقد قتلوا من الروم مقتلة
عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم وصليبهم ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا
الأبواب وجاء الحكماء يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب
وهو يضج بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في اخراجها نشروها وبقي النصل
في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس داخل الباب إلى أن
سكن ما به وخف عنه الألم فقالوا له: عد إلى منزلك بقية ليلتك فقد نكبنا في يومنا
هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عنيك كل هذا مما وصل إلينا من النبال وقد علمنا أن
القوم لا يصطلي لهم بنار وقد سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا قال فغضب
توما من قولهم وقال: يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ
الملك عني ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ
في عيني ألف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما غنموه وبعد ذلك
اسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب دياره وأهدم مساكنه وأجعل
بلده مسكنا للوحوش ثم أن الملعون سار إلى أعلى السور وهو معصوب العين وصار يحرض الناس
لكي يزيل عن قلوبهم الرعب وأقبل يقول لهم: لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر.
لكم من العرب ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم
قال فثبت القوم من قومه وحاربوا حربا شديدا وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد
يخبره بما صنع مع القوم فقال الرسول أن عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن في
الحساب ونطلب منك رجالا لأن الحرب عندنا أكثر من كل باب فلما سمع خالد ذلك الخبر
حمدالله وقال كيف أخذتم الصليب من الروم فقال الرسول كان يحمل صليب الروم رجل وهو
أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان بنبلة فوقع الصليب إلينا وخرج عدو الله فرمته
زوجة أبان بنبلة فاشتبكت في عين توما اليمنى.
فقال خالد: أن توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن
الصلح ونرجو من الله أن يكفينا شره ثم قال للرسول عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظا
ما أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك وهذا ضرار بن
الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك قال فرجع الرسول فأخبره بذلك فصبر وقاتل
بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل بن حسنة من توما وبما غنم من
صليبه فسر بذلك قال ولما أصبح الصباح بعث توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم فلما حضروا
بين يديه قال لهم: يا أهل دين النصراينة إنه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد
لهم وقد أتوا يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون
نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيدا لهم وما وقع الصليب إلا غضبا عليكم مما اضمرتم
لهذا الدين من مصالحة المسلمين واذلالكم للصليب وأنا قد خرجت ولولا إني أصبت بعيني
لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري وأن اقلع ألف عين من العرب ثم لابد أن
أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن قريب فلما سمعوا كلامه قالوا له: ها نحن بين يديك
وقد رضينا بما رضيت لنفسك فإن امرتنا بالخروج خرجنا معك وأن أمرتنا بالقتال قاتلنا
فقال توما اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء وإني قد عزمت على أن أهجم هذه
الليلة واكبسهم في أماكنهم فإن الليل مهيب وانتم أخبر بالبلد من غيركم فلم يبق
الليلة فيكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو أن لا أعود حتى تنقضي
الاشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم اسيرا وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره
فقالوا: حبا وكرامة فعند ذلك فرق القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية
فرقة وعلى كل باب جماعة وقال لهم: لا تجزعوا فإن أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك
إلا الأراذل والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد قال ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس
إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه واخذ معه أبطال القوم ولم يترك بطلا يعرف
بالشجاعة إلا أخذه معه ورتب على الباب ناقوسا وقال لهم: إذا سمعتم الناقوس فهي العلامة التي
بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين إلى اعدائكم ولا تجدوا رجالا نياما إلا
وتطعون السيف فيهم فإن فعلتم ذلك فرقتم جمعهم.
في هذه الليلة وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبدا قال
ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون
صوت الناقوس ليبادروا إلى المسلمين قال ودعا توما برجل من الروم قال له: خذ ناقوسا
واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة خفيفة يسمعها
قومنا وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم السيوف وتوما في أوائلهم
وبيده صفيحة هندية والقى على رأسه بيضة كسروية كان هرقل قد أهداها له وكانت لا
تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى الباب ثم وقف حتى تكامل القوم فلما نظر
إليهم قال: يا قوم فتحنا لكم الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا
إلى القوم فإذا وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا
تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه فقالوا: حبا
وكرامة.
القتال من فوق الاسوار
ثم أمر رجلا من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس
ويأمره أن يضربه ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله ﷺ وهم
في غفلة مما دبر القوم لهم إلا إنهم في يقظة فلما سمعوا الصوت أيقظ بعضهم بعضا
وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم يصل إليهم العدو إلا وهم على حذر وحملوا
عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن
الوليد فقام ذاهل العقل مما سمع من الزعقات فصاح واغوثاه واسلاماه كيد قومى ورب
الكعبة اللهم انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين وسار خالد ومن
معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل الشام مكشوف
الرأس ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث العوابس إلى أن وصلوا إلى
الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي قال
وأصوات المسلمين عالية بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد أشرفوا
وتصايحوا عندما استيقظ لهم المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع
صوته أبشروا يا معشر المسلمين أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد أنا
خالد بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالا وقتل رجالا وهو مع ذلك مشتغل
القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع اصواتهم وزعقاتهم قال
وتصايح الروم والنصارى واليهود.
قال سنان بن عوف قلت لابن عمي: قيس هل كانت إليهود
تقاتلكم قال: نعم يقاتلوننا من أعلى الاسوار ويرمون بالسهام وخشى خالد على شرحبيل
ابن حسنة مما وصل إليه من عدو الله توما لانه ملازما الباب وقال لقي شرحبيل بن
حسنة من عدو الله.
توما أمرا عظيما لم يلق أحد مثله وذلك إنه هجم عليه توما
في تلك اليلة وكان أول من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال فصبروا له صبر
الكرام وقاتل عدو الله قتالا شديدا وهو ينادي أين أميركم الذميم الذي أصابني أنا
ركن الملك الرحيم أنا ناصر الصليب قال فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته وقد جرح
رجالا من المسلمين وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم أنا كاتب وحي
رسول الله ﷺ فعطف عليه توما عطفة الاسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمرا هائلا ولم
يزالوا كذلك إلى أن زال من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة ابان مع شرحبيل
وكانت في تلك الليلةأحسن الناس صبرا ورمت بنبالها وكانت لا تقع نبلة من نبالها إلا
في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم يتحايدون
عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في نحره قال فصرخ بالروم
فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته قال ولقي شرحبيل من الروم مالا
يلقاهأحد وانه ضرب توما ضربة هائلة فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع
عدو الله فيه وحمل عليه وظن إنه يأخذه اسيرا وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع
كبكبة من الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة ابان قد خلصت وهجمت على الروم
وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبان
بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو الله توما هاربا إلى
المدينة.
قال حدثني تميم بن عدي وكان ممن شهد الفتوحات قال كنت في
خيمة أبي عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح فقال: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر إليهم وهم
في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم وعطف نحو الباب وكبر وكبر
المسلمون فلما سمع المشركون تكبيرهم ظنوا أن المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع
كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو عبيدة وقومه واخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة
السيف فيهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني إنه ما سلم من الروم تلك
الليلةأحد من الذين هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال
إذ أشرف عليهم ضرار بن الأزور وهو ملطخ بالدماء فقال له خالد: ما وراءك يا ضرار فقال
أبشر أيها الأمير ما جئتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلا وقتل قومي ما
لايعد ولا يحصى وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير إلى يزيد بن أبي سفيان ثم
عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقا كثيرا قال فسر بذلك خالد بن الوليد ثم ساروا
جميعا حتى أتوا.
شرحبيل بن حسنة وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق
مثلها الناس فقتلوا في تلك الليلة ألوفا من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى
توما وقالوا له: أيها السيد أنا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس
وهذا أمير لا يطاق يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وأن لم تصالح
صالحنا وأنت وشأنك فقال: يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما نزل بنا
فكتب من وقته وساعته كتابا يقول فيه: إلى الملك الرحيم من صهرك توما أما بعد فإن
العرب محدقون بنا كاحداق البياض بسواد العين وقد قتلوا أهل اجنادين ورجعوا إلينا
وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة وقد خرجت إليهم وأصيبت عيني وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية
للعرب فاما أن تسير بنفسك واما أن ترسل لنا عسكرا تنجدنا بهم واما أن تأمرنا
بالصلح مع القوم فقد تزايد الأمر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح.
فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال وبعث خالد لكل
أمير أن يزحف من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الأمر على أهل دمشق
فبعثوا لخالد أن أمهلنا فأبى إلا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار وهم
ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا: لبعضهم ما لنا صبر على ما نحن فيه من
الأمر وأن هؤلاء أن قاتلناهم نصروا علينا وأن تركناهم أضر بنا الحصار فاطلبوا من
القوم صلحا على ما طلبوه منكم فقال لهم شيخ كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة:
يا قوم والله إني أعلم إنه لو أتى الملك في جيشه جميعا لما منعوا عنكم هؤلاء لما
قرأت في الكتاب أن صاحبهم محمدا خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا
القوم وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو وافق لكم فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا إليه
لما يعلمون من علمه ومعرفته بالاخبار والملاحم فقالوا: كيف الرأي عندك فنحن نعلم
أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سفاك للدماء فقال لهم: أن أردتم تقارب الأمر
فامضوا إلى الذي على باب الجابية وليتكلم رجل يعرف بالعربية ويقول بصوت رفيع: يا
معاشر العرب الأمان حتى ننزل إليكم ونتكلم مع صاحبكم قال أبو هريرة رضي الله عنه
وكان أبو عبيدة قد انفذ رجالا من المسلمين مكثرا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل
الليلة التي خلت وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن الطفيل
الدوسي قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا اصوات القوم وهم ينادون
قال أبو هريرة فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال وبشرته بذلك فاستبشر وقال أمض
وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان قال فأتيت القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا: من أنت.
فقلت:
أنا أبو هريرة صاحب رسول الله ﷺ ولو أن عبيدا أعطوكم
الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله إلى دين الإسلام
قال فنزل القوم.
وفتحوا الباب واذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا
من عسكر أبي عبيدة تبادر إليهم وأزلوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة
فرحب بهم وأجلسهم وقال أن نبينا محمدا ﷺ قال: "إذا أتاكم عزيز قوم فأكرموه
وتكلموا في أمر الصلح" وقالوا: أنا نريد منكم أن تتركوا كنائسنا ولا تنقضوا
علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق فقال لهم أبو عبيدة: جميع الكنائس لا يؤمر
بهدمها قال وكان في دمشق كنائس واحدة تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل
وكنيسة انذار وهي عند دار عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان
ولم يسم فيه اسمه ولا اثبت شهودا وذلك لانه لم يكن أمير المؤمنين فلما كتب لهم
الكتاب تسلموه منه وقالوا له: قم معنا إلى البلد قال فقام أبو عبيدة وركب معه أبو
هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان
بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك
والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة وعامر بن قيس وعبادة بن
عتيبة وبشر بن عامر وعبد الله بن قرط الاسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابيا من اعيان
الصحابة رضي الله عنهم وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا نحو الباب
قال أبو عبيدة: أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن وقيل أن أبا عبيدة رأى
في منامه أن رسول الله ﷺ يقول له: تفتح المدينة أن شاء الله تعالى في هذه الليلة
فقلت: يا رسول الله أراك على عجل قال: لاحضر جنازة أبي بكر الصديق قال فاستيقظت من
المنام.
قال الواقدي: وقد بلغني أن أبا عبيدة لما دخل دمشق
بأصحابه سارت القسس والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر
بالند والعود ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد لانه شد
عليهم بالقتال قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص وكانت داره ملاصقة
للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده ملاحم دانيال عليه السلام وكان
فيها أن الله تعالى يفتح البلاد على يد الصحابة ويعلو دينهم على كل دين فلما كانت
تلك الليلة نقب يونس من داره وحفر موضعا وخرج على حين غفلة من أهله واولاده وقصد
خالدا وحدثه إنه خرج من داره وحفر موضعا والآن أريد أمانا لي ولاهلي ولاولادي قال
فأخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير وقال لهم:
إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا الأقفال وأزيلوا
السلاسل حتى تدخلوا أن شاء الله تعالى قال ففعل القوم ما أمرهم به خالد رضي الله
عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى دخل بهم من حيث خرج فلما حطوا في داره
تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا الباب واعلنوا بالتكبير قال فلما سمع.
المشركون التكبير ذهلوا وعلموا أن أصحاب رسول الله ﷺ
حطوا معهم في المدينة وأن أصحاب رسول الله ﷺ قصدوا الباب وكسروا الأقفال وقطعوا
السلاسل ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ووضعوا السيف في الروم وهم
مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم وخالد بن الوليد يأسر ويقتل.
قال الواقدي: والتقي الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش
أبي عبيدة وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين ايديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة
جرد سيفه فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل ينظر إليهم متعجبا
قال فنظر إليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الإنكار فقال أبا سليمان قد فتح الله على
يدي المدينة صلحا وكفى الله المؤمنين القتال.
قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالدا يوم الفتح بدمشق
إلا بالأمارة فقال: أيها الأمير قد تم الصلح فقال خالد: وما الصلح لا أصلح الله
بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسليمن من دمائهم وأخذت
الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم إني ما دخلتها إلا
بالصلح فقال له خالد بن الوليد: إنك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة
وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير والله لقد
صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتب لهم الكتاب وهو مع القوم فقال خالد: وكيف
صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى افنيهم
عن آخرهم فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أن تخالفني إذا عقدت عقدا ورأيت رأيا
فالله الله في أمري فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم واعطيتهم الأمان من الله
جل جلاله وامان رسول الله ﷺ وقد رضي من معي من المسلمين والغدر ليس من شيمنا قال
وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده ونظر
أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله ﷺ مع خالد وهم جيش البوادي من العرب
مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت الله ونقض عهدى
وجعل يحرك جواده ويشير إلى العرب مرة يمينا ومرة شمالا وينادي معاشر المسلمين
اقسمت عليكم برسول الله ﷺ أن لا تمدوا ايديكم نحو الطريق الذي جئت منه حتى نرى ما
نتفق أنا وخالد عليه فلما دعاهم بذلك سكتوا عن القتل والنهب واجتمع إليهما فرسان
المسلمين والأمراء وأصحاب الرايات مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي
سفيان رضي الله عنه وعمرو ابن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه
وربيعة بن عامر رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجمعين
ونظرائهم والتقوا عند الكنائس.
واجتمع هناك فرسان للمشورة والمناظرة فقالت طائفة من
المسلمين: منهم معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان الرأي أن تمضي إلى ما أمضاه أبو
عبيدة بن الجراح وتكفوا عن القتال للقوم فإن مدن الشام لم تفتح ابدا وهرقل في
انطاكية كما تعلمون وأن علم أهل المدن صالحتهم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحا ولأن
تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم ثم قالوا: لخالد أمسك عليك ما فتحت بالسيف
ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة وتحاكما إليه فكل ما أمر به فعلناه
فقال لهم خالد بن الوليد: قد أجبت إلى ذلك وقبلت مشورتكم فأما أهل دمشق فقد امنتهم
إلا هذين اللعينين توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين
رجع الأمر إليه فقال أبو عبيدة: أن هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي رحمك
الله تعالى فقال خالد: والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعا ولكن يخرجان من الأمير أبا
سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق قال فانطلق توما إلى المدينة
فلعنهما الله حيث سارا.
قال أبو عبيدة: وعلى هذا صالحتهما قال ونظر توما وهربيس إلى
خالد وهو يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من يترجم
عنهما وقالا له ما يقول: هذا يعني خالدا قال الترجمان لأبي عبيدة ما نقول أنت
وصاحبك فيه من المشاورة أن صاحبك هذا يريد غدرنا فنحن واهل المدينة دخلنا في عهدكم
ونقض العهد ما هو من شيمكم وإني أسألكم أن تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي واسلك أي
طريق أردت فقال أنت في ذمتنا فاسلك أي طريق شئت فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت
من ذمتنا أنت ومن معك فقال توما وهربيس نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق
سلكنا فاذ كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم فمن لقينا منكم بعد ثلاثة أيام
وظفر بنا فنحن لهم عبيد أن شاء اسرنا وأن شاء قتلنا فقال خالد: قد اجبناك إلى ذلك
لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد إلا الزاد الذي تتقوتون به قال أبو عبيدة لخالد: هذا كلام داع
لنقض العهد والصلح إنما وقع بيننا إنهم يخرجون برجالهم وأموالهم فقال خالد: سمحت
لهم بذلك إلا الحلقة يعني السلاح فاني لا أطلق لهم شيئا من ذلك فقال توما لا بد
لنا من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا أن طرقنا طارق حتى نصل إلى بلدنا وإلا
فنحن بين ايديكم فاحكموا فينا بما أردتم فقال أبو عبيدة: اطلق لكل واحد قطعة من
السلاح أن أخذ سيفا فلا يأخذ رمحا وأن أخذ رمحا فلا يأخذ سيفا وأن أخذ قوسا فلا
يأخذ سكينا فقال توما لما سمع منهم ذلك الكلام قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا
إلا قطعة من السلاح لا غير ثم قال توما لأبي عبيدة إني خائف من هذا الرجل اعني
خالد بن الوليد فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة: ثكلتك امك أنا معاشر العرب لا نغدر
ولا نكذب وأن الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق قال
فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما.
ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج وهربيس
يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء
من ثلاثمائة حمل ديباج وحل مذهبة فعزم على اخراجها وامر توما فضربت له خيمة من
القز ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والأحمال حتى اخرجوا شيئا
عظيما فنظر خالد بن الوليد إلى كثرةأحمالهم فقال: ما اعظم رحالهم ثم قرأ قوله
تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ} [الزخرف:3] الاية ثم نظر خالد إلى القوم كانهم حمر مستنفرة ولم
يلتفتأحد إلى أخيه من شدة عجلتهم فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء وقال
اللهم جعله لنا وملكنا إياه واجعل هذه الأمتعة قوتا للمسلمين آمين إنك سميع الدعاء
ثم اقبل على أصحابه وقال لهم: إني رأيت أنا رأيا فهل انتم تتبعوني عليه فقالوا:
نتبعك ولا نخالف لك امرا فقال خالد: قوموا بخيولكم حق القيام واحسنوا إليها ما
استطعتم وانجزوا سلاحكم فاني اسير بكم بعد ثلاثة أيام في مطلب هؤلاء القوم وارجو
من الله أن يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي رأيتموها وأن نفسي تحدثني أن القوم
ما تركوا في دمشق متاعا ولا ثوبا حسنا إلا وقد أخذوه معهم.
فقالوا: افعل ما تريد فما نخالف لك أمرا ثم أخذوا في
اصلاح شأنهم وتوما وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال فلما جمعوه جاءوا به
إلى أبي عبيدة فقال لهم: وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا ثلاثة
أيام قال يزيد ابن ظريف فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا سائرين كأنهم سواد
مظلم وكان قد خرج مع القوم خلق كثير من أهل دمشق بأولادهم وكرهوا أن يكونوا في
جوار المسلمين قال واشتغل خالد عن اتباعهم بخلاف ما وقع بينهم وبين أهل دمشق في
حنطة وشعير وجدوا في المدينة منه شيئا كثيرا فقال أبو عبيدة: هو للقوم دخل في
صلحهم فكادت القتنة أن تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة واتفق رأيهم أن
يكتبوا كتابا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر إنه مات يوم دخولهم
دمشق.
قال عطية بن عامر كنت واقفا على باب دمشق في اليوم الذي
سارت فيه الروم مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل قال فنظرت إلى ضرار بن
الأزور وهو ينظر إلى القوم شزرا ويتحسر على ما فاته منهم فقلت له: يا ابن الأزور
مالي اراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك فقال والله ما أعني مالا وإنما أنا
متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا ولقد أساء أبو عبيدة فيما فعل بالمسلمين فقلت: يا
بان الأزور ما أراد أمين الأمة إلا خيرا للمسلمين أن يحقن دمائهم وازواجهم من تعب
القتال فإن حرمة رجل واحد خير مما طلعت عليه الشمس وأن الله سبحانه وتعالى اسكن
الرحمة في قلوب المؤمنين وأن الرب يقول في بعض الكتب المنزلة: إن الرب لا يرحم من
لا يرحم.
وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 12] فقال
ضرار لعمري إنك لصادق ولكن اشهدوا علي إني لا ارحم من يجعل له زوجة وولدا.
قال حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري
عن وائلة بن الاسقع قال كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق وكان قد جعلني مع ضرار
بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب السلامة إلى باب الجابية
إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد
خرج منه فارس فتركناه حتى قرب منا فأخذنا قبضا بالكف وقلنا أن تكلمت قتلناك فسكت
وإذا قد خرج فارس اخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد أخذناه فقلنا له كلمه حتى
يأتي قال فرطن له بالرومية أن الطير في الشبكة فعلم إنه قد اسر فرجع وأغلق الباب قال
فاردنا قتله فقال بعضنا لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد الأمير قال فأتينا به
خالدا فلما نظر إليه قال له: من أنت قال له: أنا من الروم وإني تزوجت بجارية من
قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها فلما طال علينا حصاركم سألت أهلها أن يزفوها علي
فأبوا ذلك وقالوا: إن بنا شغلا عن زفافك وكنتأحب أن القاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب
فيها فوعدتها أن نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني أن اخرج بها إلى خارج
المدينة ففتحنا الباب وخرجت انظر اخباركم فأخذني أصحابك فنادتني فقلت: إن الطير
وقع في الشبكة احذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها لهان علي ذلك فقال خالد: ما
تقول في الإسلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله فكان
يقاتل معنا قتالا شديدا فلما دخلنا المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته فقيل له إنها
لبست ثياب الرهبانية فأقبل إليها وهي لا تعرفه فقال لها: ما حملك على الرهبانية
قالت: حملني على ذلك إني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبنت حزنا عليه قال أنا
زوجك وقد دخل في دين العرب قال فلما سمعت ذلك قالت: وما تريد قال أن تكوني في
الذمة فقال وحق المسيح لا كان ذلك ابدا ومالي إلى ذلك سبيل وخرجت مع البطريق توما
فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له حاله.
فقال له خالد: إن أبا عبيدة فتح المدينة صلحا ولا سبيل
لك إليها ولما علم أن خالدا يسير وراء القوم فقال أسير معه لعلي اقع بها وأقام
خالد بدمشق إلى اليوم الرابع ثم اقبل إليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال: أيها
الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين العينين توما وهربيس واخذ ما معها قال بلى
فقال له: وما الذي اقعدك عن ذلك قال بعد القوم وبيننا وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم
يسيرون سير الخوف وما يمكن اللحاق بهم فقال يونس أن كان تخلفك لبعد المسافة بيننا
وبينهم فأنا.
أعرف الديار وأسلك طريقا فنلحقهم إن شاء الله تعالى ولكن
البسوا زي لخم وجذام وهو العرب المتنصرة وخذوا الزاد وسيروا قال فسار خالد واخذ
عساكر الزحف وهم أربعة آلاف فارس فامرهم أن يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك
وخالد ومن معه قد ساروا ويونس الدليل امامهم وهو يتبع آثار القوم وقد أوصى خالد
أبا عبيدة على المدينة والمسلمين قال زيد بن طريف وكان يونس دليلنا قال فرأى آثار
القوم وإنهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه وسار خالد ومن معه كلما دخلوا بلدا من
بلاد الروم يظنون إنهم من العرب المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الدليل على
ساحل البحر ونوى أن يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا انطاكية ولم يدخلوها خيفة
الملك قال فوقع للدليل عند ذلك حيرة في امره فعدل إلى قرية هناك وسأل بعضا من الناس
فاخبروه أن الخبر قد أتصل إلى الملك بأن توما وهربيس قد سلما دمشق للعرب فنقم
عليهما ولم يدعهما يأتيان إليه وذلك إنه جمع الجيوش وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن
يتحدثوا بشجاعة العرب أصحاب رسول الله ﷺ فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه أن
يسيروا إلى القسطنطينية فلما علم يونس أن القوم عدلوا واخذوا في طلب التحيز فكر في
ذلك وغاب عن المسلمين قوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد اقبل وقال: أيها الأمير
إني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب قال خالد: وكيف الأمر قال: أيها
الأمير تبعثني في آثارهم في هذا المكان رجاء أن الحقهم وأن الملك منعهم من الدخول
إلى انطاكية لئلا يرعبوا عسكره وامرهم أن يطلبوا القسطنطينية وقد قطع بينكم وبينهم
هذا الجبل العظيم وانتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم وإني خائف
عليكم أن تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالأمر إليك وكل ما أمرتني به
فعلت قال ضرار بن الأزور فرأيت خالدا وقد انتقع لونه كالخضاب وكان ذلك منه جزعا
وما عهدت به ذلك فقلت: يا أمير على ماذا عولت فقال: يا ضرار والله ما فزعت من
الموت ولا من القتل وإنما خفت أن يؤتى المسلمون من قبلي وإني رأيت قبل فتح دمشق
مناما افزعني وأنا منتظر تاويله وارجو أن يجعل الله لنا خيرا وينصرنا على عدونا
فقال ضرار خيرا رأيت وخيرا يكون أن شاء الله تعالى فما الذي رايت قال رايت
المسلمين في برية قفرة ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة
عظيمة اجسامها مهزولة اخفافا وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي لا
تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى اجتهدنا
واجتهدت خيولنا وإني اقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة جوانب البرية وحملت
عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال واودية خصبة فلم نأخذ منها إلا اليسير
فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها وإذا هي قد رجعت تطلب الحرب منا فلما نظرت إليها وقد
طرحت المضايق والأجام صحت بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله.
فيكم فاستوى المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها
حتى وقعت بها وتصيدت منها بعيرا عظيما فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما
بقي منها إلا اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت
فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لاخذها فانتبهت من منامي وأنا فزع مرعوب فهل فيكمأحد
يفسره فاني اقول الرؤيا ما نحن فيه قال فصعب ذلك على القوم وجعل خالد يراود نفسه
على الرجوع.
فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما
تفسير الوحوش فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط
عليه من رفعه إلى خفضة واما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب وهي معرة
تلحقك فقال خالد: اسأل الله العظيم أن كان ذلك تأويل ما رأيته أن يجعله من أمر
الدنيا ولا يجعله من أمر الاخرة وبالله استعين وعليه أتوكل في كل الأمور قال ثم
سار خالد والدليل امامهم حتى قطعوا الجبل فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح
فيها القوم أتى مطر كافواه القرب وكان من توفيق الله عز وعلا أن حبس القوم عن
المسير قال روح بن طريف رضي الله عنه ولقد رايتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا
كافواه القرب طول ليلتنا فلما اصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس أيها الأمير قف حتى
أنظر القوم لانهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم فقال له خالد بن الوليد: أحقا
سمعت صياحهم يا يونس قال: نعم أيها الأمير واريد منك أن تاذن لي بالمسير إليهم
وآتيك بخبرهم قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة قال
له: يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنسا واحذر أن يأخذ خبركما القوم فقال المفرط
السمع والطاعة لله ولك أيها الأمير ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش:
والروم تسمه جبل باردة قال المفرط فلما علونا عليه وجدنا مرجا واسعا كثير الجنبات
كثير النبات وفيه خضرة عظيمة وأن القوم قد اصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد حميت
عليهم الشمس فخافوا اتلافها فاخرجوها واخرجوا الديباج ونشروها في طول المرج وقد
نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي اصابهم قال المفرط بن جعدة فلما رأيت
ذلك فرحت فرحا شديدا ورجعت إلى خالد بن الوليد وتركت صاحبي يونس فلما رآني خالد
وحدي اسرع الي وظن أن صاحبي كيد فقال: ما وراءك يا ابن جعدة اخبرني وعجل بالخير
فقلت: الخبر والغنيمة يا أمير القوم خلف هذا الجبل وقد اصابهم المطر وقد وجدوا
الراحة بطلوع لشمس وقد نشروا امتعتهم فقال بشرك الله بالخير ثم ظهر لي من وجهه
الخير والفرح والسرور فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد اقبل فقال له خالد: خيرا فقال
له: ابشر أيها الأمير فإن القوم امنوا على أنفسهم ولكن اوصى أصحابك أن كل من وقع
بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة سواها فقال له خالد: هي لك إن شاء الله تعالى
ثم أن خالدا قسم أصحابه أربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على ألف فارس وعلى الألف
الثاني رافع بن عميرة الطائي وعلى الألف الثالث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي
هو في الفرقة الرابعة وقال سيروا على بركة الله تعالى وإياكم أن تخرجوا إليهم دفعة
واحدة بل يخرج كل أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة ثم افترق القوم وحمل ضرار بن
الأزور والروم مطمئنون وحمل من بعده رافع بن عميرة الطائي ثم عبد الرحمن بن أبي
بكر الصديق ثم خالد بن الوليد سار في اخر القوم حتى وصلوا المرج قال عبيد ابن سعيد
لقد كدنا أن نفتنه من حسن منظره فزعق فينا خالد بن الوليد وقال عليكم باعداء الله
ولا تشتغلوا بالغنائم ولا بالنظر إلى المرج فإنها لكم أن شاء الله تعالى.
ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت
الروم إلى الخيل وقد خرجت عليهم وخالد امامهم فعلموا إنها خيول المسلمين فبادروا
إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض إنها خيل قليلة ساقها المسيح إليكم
وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها قال فتبادر الروم وهم يظنون أن ليس وراء خالدأحد
وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع رافع بن عميرة الطائي بعده
وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من
حولهم وطلبوا ما في ايديهم وقد رفعوا اصواتهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله
وانصبت خيل المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن
نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان ابدا فانقسمت الروم طائفة
معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالدا توما وقد أحدق به خمسمائة فارس وقد رفع بين
عينيه صليبا من الجوهر مقمعا بالذهب الأحمر فعدل خالد وحمل عليه وقال: يا عدو الله
اظننتم إنكم تفلتون منا والله تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة
ابان قال فحمل عليه وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وارداه عن جواده وحمل أصحابه على
رجال توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لما نظر إلى توما
وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على السنان ونادى قد قتل
والله توما اللعين فاطلبوا هربيس.
قال الواقدي: ففرح العرب بذلك قال رافع بن عميرة الطائي
كنت في الميمنة مع خالد بن الوليد إذ نظر الي فارس زيه زي الروم وقد نزل عن جواده
وهو يقاتل علجة مع نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت انظرها فإذا هو يونس الدليل
وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الاسد قال رافع فدنوت أن أتقدم إليهما فاعينه فقصد
الي عشرة من النساء يرمين قومي بالحجارة فخرج حجر كبير من امرأة حسناء عليها ثياب الديباج
قال فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه وكان جوادا شهدت عليه اليمامة فسقط
الجواد ميتا قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية القناص وهربت النساء
من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت أريد قتلهن ومالي قصد إلا الجارية
التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت
عن قتلها وأقبلت إليها وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فاخذتها
اسيرة من النساء وأوثقتها كتافا ورجعت على أثري فركبت جوادا من خيل الروم ثم قلت:
والله لامضين وانظر ما كان من أمر يونس فوجدته وهو جالس وزوجته بجانبه وقد تلطخت
بدمائها وهو يبكي عليها فلما رأيتها قلت لها: اسلمي فقال: لا وحق المسيح لا اجتمعت
أنا وانتم ابدا ثم اخرجت سكينا كانت معها فقتلت بها نفسها فقلت: إن الله عز وجل
ابدلك ما هي اعظم منها وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها
لك بدلا عن زوجتك فقال: أين هي فقلت: ها هي معي.
قال فلما نظر إليها والى ما عليها من الحلى والزينة
وتبين حسنها وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن امرها فرطنت عليه وهي تبكي فالتفت
الي وقال لي أتدري من هذه قلت: لا فقال هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما وما مثلى
يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله قال وافتقد المسلمون خالدا فلم يجدوا
له أثرا فقلقوا عليه قلقا عظيما وخالد رضي الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس
بعد قتل توما فبينما هو يحمل يمينا وشمالا إذ نظر علجا من علوج الرومان عظيم
الخلقةأحمر اللون فظن خالد إنه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلبا شديدا ليقتله
فلما نظر إليه العلج والى حملته فر هاربا من بين يديه فوكزه خالد بالرمح وإذا هو
واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالاسد وهو يقول: ويلك يا هربيس أطننت
إنك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية فقال: يا عربي ما أنا هربيس أطننت إنك فابق
علي ولا تقتلني فقال خالد: مالك من يدي خلاص إلا إذا كنت تدلني على هربيس فإذا
دللتني عليه اطلقتك فقال له العلج: إنذا دللتك عليه تطلقني فقال خالد: نعم لك ذلك
فقال العلج يا أخا العرب قم من علي صدري حتى ادلك عليه فقام خالد من على صدره فوثب
العلج ونظر يمينا وشمالا قال ثم قال لخالد أترى هذا الجبل وهذه الخيل الصاعدة
اقصدها فإن هربيس فيها قال فوكل خالد بالعلج واحدا وهو ابن جابر ثم اطلق خالد عنان
جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم وقال: يا ويلكم إني لكم مني خلاص فلما سمع هربيس ذلك
ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع ورجعت البطارقة بالسلاح فقال لهم خالد: يا ويلكم
ظننتم أن الله لا يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد ثم طعن فارسا
فرماه واخر فأرداه فما سمع هربيس كلام خالد قال.
لأصحابه: يا ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه هذا
صاحب بصرى وحوران ودمشق وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن
أصحابه وكان المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه قال فترجلت
البطارقة حول خالد لانهم في جبل كثير الوعر واحاطوا بخالد بن الوليد فعندها ترجل
عن جواده واخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم قال حدثني شداد بن أوس وكان ممن حضر وقعة
مرج الديباج وقال خالد: قد صحت الرؤيا فلما ترجل اقبل يقاتل بنفسه واقبل إليه
هربيس وهو مشتغل بالقتال وأتاه من ورائه وضرب خالدا بالسيف فوقع السيف على البيضة
فقدها وقد عمامته وانقض السيف من يد هربيس وخاف خالد أن يلتفت إلى ورائه فتهجم
عليه الروم وخاف أن يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير
والصلاة على البشير النذير كأنه مستبشر بشيء اغاثه أو ادركه وذلك خديعة منه وحيلة
يريد بها أن يتمكن من الأعلاج فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات وقد أخذت
الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول
الله أتاك النصر من رب العالمين أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فلما سمع خالد
صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى من معه ومضى يفرق الأعلاج ذات اليمين وذات
الشمال وما أن سمع اللعين هربيس اصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه
ضربة فأرداه قتيلا وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله ﷺ على أصحاب
هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى ابادوهم عن اخرهم وكان أكثرهم قتلا من يد ضرار بن
الأزور فلما إنكشف الكرب عن خالد ونظر إلى ما فعل ضرار قال افلح وجهك يا ابن
الأزور فما زلت مباركا في كل افعالك انجح الله اعمالك واصلح ربي حالك ثم سلم على
عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال من اين علمتم مكاني
هذا فقال عبد الرحمن يا امين بينما نحن في قتال الروم وقد نصرنا الله عليهم والمسلمون
قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفا من الهواء يقول: اشتغلتم بالغنائم وخالد
قدأحاطت به الروم فلما سمعنا ذلك لم ندر أي مكان أنت فيه وفقدنا شخصك فدلنا عليك
علج كان بيد رجل من أصحابك وقال: إن صاحبكم أنا الذي دللته على هربيس وانه معه في
هذا الجبل فسرنا إليك.
فقال خالد: لقد دلنا على عدونا ودل علينا المسلمين وقد
وجب له الحق علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين فلما رأوه بادروا وسلموا عليه
فرد عليهم السلام ثم أن خالدا رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله على هربيس
وقال له: إنك وفيت لنا ونريد أن نوفي لك بما وعدناك لانك نصحت لنا فهل لك أن تكون
من أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد عليه الصلاة والسلام فتكون من أهل الجنة
فقال: ما أريد بديني بدلا فأطلق خالد سبيله قال نوفل بن عمرو فرأيته قد استوى على
ظهر جواده.
يطلب بلاد الروم وحده ثم أن خالد رضي الله عنه أمر بجمع
الغنائم والاسارى فجمع ذلك إليه فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره واثنى عليه
ودعا بدليله يونس النجيب ثم قال له: ما فعلت بزوجتك فحدثه معها وما كان من امرها
فعجب من ذلك فقال رافع بن عميرة أيها الأمير إني أسرت ابنة الملك هرقل وقد سلمتها
إليه بدلامن زوجته فقال خالد: وأين ابنة الملك هرقل فمثلت بين يديه فنظر إلى حسنها
وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف وجهه عنها وقال سبحانك اللهم وبحمدك
تخلق ما تشاء وتختار ثم قرأ قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَيَخْتَارُ} [القصص: 6] ثم قال ليونس أتريدها بدلا من زوجتك قال: نعم ولكني اعلم أن
الملك هرقل لا بدله أن يفديها بالأموال او يخلصها بالقتال فقال خالد: خذها لك الآن
فإن لم يطلبها فهي لك وأن طلبها فالله يعوضك خيرا منها فقال يونس أيها الأمير إنك
في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل أن يلحق نفير القوم فقال خالد: الله
لنا ومعنا وعطف راجعا يجد في مسيره والغنائم امامه والمسلمون في أثره فرحين
بالغنيمة والسلامة والنصر.
قال روح بن عطية فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من
الرومأحد ونحن نخوض في وسط ديار القوم خوضا فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم
حكيم نظرنا إلى غبرة من وراءنا فلما عايناها إنكرنا ذلك فاسرع رجال من المسلمين
إلى خالد يخبرونه بالغبرة قال: أيكم يأتيني بخبرها فبادر بالأجابة رجل من غفار يقال له صعصعة
بن يزيد الغفاري: قال: أنا أيها الأمير ثم نزل عن جواده وكان بجريه يسبق الفرس الجواد
لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها ورجع على عقبه وهو ينادي أيها الأمير ادركنا
الصلبان من ورائنا وهم مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق فدعا خالد
بيونس الدليل عندما قاربته الخيل وقال: يا يونس اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون
فقال السمع والطاعة ثم دنا من الخيل وقاربهم ثم رجع إلى خالد وقال له: ألم أقل لك
أيها الأمير أن هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد انفذ هذه الخيل يريدون أن يأخذوا
الغنيمة من أيدي المسلمين فلما لحقوك ههنا قريبا من دمشق بعثوا رسولا يسألك في
الجارية أما بيعها واما هدية فبينما خالد يتحدث إذ أقبل إليه شيخ عليه لبس المسوح
فأقبل حتى دنا من المسلمين فاوقفوه أمام خالد وقال له: قل: ما نشاء فقال الشيخ أنا
رسول الملك هرقل وانه يقول: لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت
حرمتي وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك والان ما أن تبيع ابنتي أو تهديها الي
فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من يرحم وإني ارجو أن يقع بيننا الصلح فلما سمع
خالد ذلك قال للشيخ قل لصاحبك: والله لا رجعت عنه وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما
تحت قدميه كما في علمك واما ابقاؤك علينا فلو وجدت.
إلى ذلك من سبيل فما قصرت وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم
أن خالدا اطلق ابنة الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك
الرسول إلى الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول
إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم هذا الذي اشرت عليكم فلم تقبلوه واردتم قتلي
وسيكون الأمر اعظم ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء.
قال الواقدي: فبكت الروم بكاء شديدا وسار خالد حتى أتى دمشق
وكان المسلمون وابو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق والاياس إذ
قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه وهنئوه بالسلامة وسلم
المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الاشتر
النخعي ومن كان معهما واقبل خالد إلى جانب ابي عبيدة وهو يحدثه بما لاقى في غزوته
وابو عبيدة بتعجب من شجاعته وجسارته فلما استقر بخالد مكانه أخذ الخمس من الغنائم
وفرق الباقي على المسلمين ثم أن خالدا اعطى من ماله ليونس وقال خذ هذا فتزوج به او
اشتر به جارية لك من بنات الروم قال يونس والله لا أتزوج في هذا الدار الدنيا زوجة
ابدا وما أريد إلا أن أتزوج في الأخرة بعيناء من الحور لعين قال رافع بن عميرة
الطائي فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك فما كنت أراه في حرب إلا ويجاهد جهادا
عظيما وقد أبلى في الروم بلاء حسنا فأتاه سهم في لبته فخر ميتا رحمه الله تعالى
قال رافع فحزنت عليه واكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي
رجليه نعلان من ذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له: ما فعل الله بك قال غفر لي
واعطاني بدلا من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن فى الدنيا لكف ضوء وجهها نور
الشمس والقمر فجزاكم الله خيرا فقصصت الرؤيا على خالد فقال ليس والله سوى الشهادة
طوبى لمن رزقها.
كتب خالد بالفتح
قال الواقدي: ولقد بلغني أن خالدا رضي الله عنه لما رجع
من غزوته ومسيره غانما ظن أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه حي لم يقبض فهم
أن يكتب له كتابا بالفتح والبشارة وما غنم من الروم وابو عبيدة لا يخبره بذلك ولا يعلمه
أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا خالد بدواة وبياض وكتب بسم الله
الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله ﷺ من عامله على الشام خالد بن الوليد اما
بعد سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ ثم أنا لم
نزل في مكايدة العدو على حرب دمشق حتى انزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق
عنوة بالسيف من باب شرقي وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم فصالحوه على
الباب الأخر ومنعني أن اسبي واقتل ولقيناه على كنيسة يقال لها: كنيسة مريم وامامه
القسس والرهبان ومعهم كتاب الصلح وأن صهر الملك توما واخر يقال له هربيس: خرجا من
المدينة بمال عظيم واحمال جسيمة فسرت خلفها في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من ايديهما
وقتلت الملعونين واسرت ابنة الملك هرقل ثم اهديتها إليه ورجعت سالما وأنا منتظر
امرك والسلام عليك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى إله وصحبه وسلم وطوى الكتاب
وختمه بخاتمه ودعا برجل من العرب يقال له عبد الله بن قرط: فدفع إليه الكتاب وسار
إلى مدينة رسول الله ﷺ فوردها والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ عنوان
الكتاب وإذا هو من خالد إلى خليفة رسول الله ﷺ فقال عمر: أما عرف المسلمون وفاة
ابي بكر رضي الله عنه فقال: لا يا أمير المؤمنين فقال قد وجهت بذلك كتابا إلى ابي
عبيدة وأمرته على المسلمين وعزلت خالدا وما اظن أبا عبيدة يريد الخلافة لنفسه فسكت
وقرأ الكتاب قال أصحاب السير في حديثهم ممن تقدم ذكرهم واسنادهم في أول الكتاب ممن
روى فتوح الشام ونقلوها عن الثقاب منهم محمد بن اسحق وسيف بن عمرو وابو عبد الله
بن عمر الواقدي رضي الله عنه كل حدث بما رواه وسمعه ثقة عن ثقة قالوا: جميعا في
اخبارهم إنه لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وولى الأمر بعده عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وله من العمر اثنتان وخمسون سنة بايعه الناس في مسجد رسول الله ﷺ
بيعة تامة ولم يتخلف عن مبايعته أحد لا صغير ولا كبير وانقطع في امارته الشقاق
والنفاق وانحسم الباطل وقام الحق وقوي السلطان في امارته وضعف كيد الشيطان وظهر
أمر الله وهم كارهون ومن أمره إنه كان يجلس مع الفقير ويتلطف بالناس والمسلمين
ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويعطف على اليتيم وينصف المظلوم من الظالم حتى يرد الحق
إلى اهله ولا تأخذه في الله لومة لائم وكان في امارته يدور في اسواق المدينة وعليه
مرقعة وبيده درته وكانت درته أهيب من سيف الملوك وسيوفكم هذه وكان قوته في كل يوم
خبز الشعير وادمه الملح الجريش وربما اكل خبزه بغير ملح تزهدا واحتباطا وترفقا على
المسلمين ورأفة ورحمة لا يريد ذلك إلا الثواب من الله سبحانه وتعالى ولا يشغله
شاغل عن اداء الفريضة وما اوجب الله عليه من حقوقه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة
والسلام قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد تولى والله عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الخلافة فجد في التشمر وترك عن نفسه التكبر ولقد كان أحرقه خبز الشعير والملح
واراد أكل الزيت واليابس من التمر وربما أخذ شيئا من السمن ويقول: أكلت الزيت وخبز
الشعير والملح والجون اهون غدا من نار جهنم من حل بها لم يمت ولم يجد فيها راحة
ابدا قرارها بعيد وعذابها شديد وشرابها الصديد لا يؤذن لهم فيعتذرون جند الجنود في
امارته وبعث العساكر وفتح الفتوحات ومصر الأمصار وكان يخاف عذاب النار رضي الله
عنه.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: ولقد بلغني أن هرقل لما
بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ولى الأمر من بعد ابي بكر الصديق رضي الله
عنه جمع الملوك والبطارقة وارباب دولته وقام فيهم خطيبا على منبر قد نصب له في
كنيسة القسيسين وقال: يا بني الأصفر هذا الذي كنت أحذركم منه فلم تسمعوا مني وقد اشتد
الأمر عليكم بولاية هذا الرجل الاسمر وقد دنا موعد صاحب الفتوح المشبه بنوح والله
ثم والله لا بد أن يملك ما تحت سريري هذا الحذر ثم الحذر قبل وقوع الأمر ونزول
الضرر وهدم القصور وقتل القسس وتبطيل الناقوس هذا صاحب الحرب والجالب على الروم
والفرس الكرب هذا الزاهد في دنياه وهذا الغليظ على من أتبع في غير ملته هواه وإني
ارجو لكم النصر أن امرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وتركتم الظلم واتبعتم المسيح
في اداء المفروضات ولزوم الطاعات وترك الزنا وانواع الخطايا وأن ابيتم إلا الفساد
والفسوق والعصيان والركون إلى شهوات الدنيا يسلط الله عليكم عدوكم ويبلوكم بما لا
طاقة لكم به ولقد أعلم أن دين هؤلاء سيظهر على كل دين ولا يزال اهله بخير ما لم
يغيروا ويبدلوا فاما أن ترجعوا إليه واما أن تصالحوا القوم على اداء الجزية فلما سمع
القوم ذلك نفروا وبادروا إليه وهموا بقتله فسكن غضبهم بلين كلامه ولاطفهم وقال
لهم: إنما أردت أن أرى حميتكم لدينكم وهل تمكن خوف العرب في قلوبكم أم لا.
ثم استدعى برجل من المتنصرة يقال له طليعة بن ماران وضمن
له مالا وقال له: انطلق من وقتك هذا إلى يثرب وانظر كيف تقتل عمر بن الخطاب فقال
له طليعة: نعم أيها الملك ثم تجهز وسار حتى ورد مدينة رسول الله ﷺ وكمن حولها وإذا
بعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يشرف على أموال اليتامى ويفتقد حدائقهم فصعد
المتنصر إلى شجرة ملتفة الأغصان فاستتر بأوراقها وإذا بعمر رضي الله عنه قد اقبل
إلى أن قرب من الشجرة التي عليها المتنصر ونام على ظهره وتوسد بحجر فلما نام هم
المتنصر أن ينزل إليه ليقتله وإذا بسبع أقبل من البرية فطاف حوله وأقبل يلحس قدميه
وإذا بهاتف يقول: يا عمر عدلت فأمنت فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ذهب السبع ونزل
المتنصر وترامى على عمر رضي الله عنه فقبل يديه وقال بأبي أنت وأمي أفدى من الكائنات
من السباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم أعلمه بما كان منه وأسلم على يديه.
قال الواقدي: ثم أن عمر رضي الله عنه كتب كتابا لابي
عبيدة بن الجراح يقول فيه: قد وليتك على الشام وجعلتك أميرا على المسلمين وعزلت
خالد بن الوليد والسلام ثم سلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط وأقام قلقا على ما يرد
عليه من أمور المسلمين وصرف همته إلى الشام.
تولية ابي عبيدة
قال الواقدي: حدثني رافع بن عميرة الطائي قال حدثني يونس
بن عبد الأعلى وقد قرأت عليه بجامع الكوفة قال حدثني عبد الله بن سالم الثقفي عن
أشياخه الثقات قال لما كانت الليلة التي مات فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأى
عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه رؤيا قصها على عمر رضي الله عنه وكانت تلك
الليلة بعينها قال رأيت دمشق والمسلمون حولها وكأني أسمع تكبيرهم في أذني وعند
تكبيرهم وزحفهم رأيت حصنا قد ساخ في الأرض حنى لم أر منه شيئا ورأيت خالدا وقد
دخلها بالسيف وكأن نارا أمامه وكأنه وقع على النار فانطفأت فقال الإمام علي كرم
الله وجهه ورضي الله تعالى عنهم اجمعين أبشر فقد فتح الشام هذه الليلة أو قال يومك
هذا أن شاء الله تعالى فبعد أيام قدم عقبة ابن عامر الجهني صاحب رسول الله ﷺ ومعه
كتاب الفتح فلما رآه قال: يا ابن عامر كم عهدك قال قلت يوم الجمعة: قال: ما معك من
الخبر فقلت: خير وبشارة وإني سأذكرها بين يدي الصديق رضي الله عنه فقال قبض والله
حميدا وصار إلى رب كريم وقلدها عمر الضعيف في جسمه فإن عدل فيها نجا وأن ترك أو خلط
هلك قال عقبة بن عامر: فبكيت وترحمت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخرجت
الكتاب فدفعته إليه فلما قرأه نظر فيه وكتم الأمر إلى وقت صلاة الجمعة فلما خطب
وصلى ورقى المنبر واجتمع المسلمون إليه وقرأ عليهم كتاب الفتح فضج المسلمون
بالتهليل والتكبير وفرحوا ثم نزل عن المنبر وكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عليه
بتوليته وعزل خالد ثم سلمني الكتاب وأمرني بالرجوع قال فرجعت إلى دمشق فوجدت خالدا
قد سار خلف توما وهربيس فدفعت الكتاب إلى ابي عبيدة فقرأه سرا ولم يخبر أحدا بموت
ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم كتم أمره وكتم عزل خالد وتوليته على المسلمين حتى
ورد خالد من السرية فكتب الكتاب بفتح دمشق ونصرهم على عدوهم وبما ملكوا من مرج
الديباج واطلاق بنت الملك هرقل وسلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط فلما ورد به إلى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأ عنوان الكتاب من خالد بن الوليد إلى أبي بكر
الصديق رضي الله عنه إنكر الأمر ورجعت حمرته إلى البياض وقال: يا بن قرط أما علم الناس
بموت أبي بكر رضي الله عنه وتوليتي أبا عبيدة بن الجراح قال عبد الله بن قرط قلت:
لا فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر ثم قال: يا معاشر الناس إني أمرت أبا
عبيدة الرجل الأمين وقد رأيته لذلك أهلا وقد عزلت خالدا عن امارته فقال رجل من بني
مخزوم أتعزل رجلا قد أشهر الله بيده سيفا قاطعا ونصربه دينه وأن الله لا يعذرك في
ذلك ولا المسلمين أن أنت أغمدت سيفا وعزلت أميرا أمره الله لقد قطعت الرحم ثم سكت
الرجل فنظر عمر رضي الله عنه إلى الرجل المخزومي فرآه غلاما حدث السن فقال شاب حدث
السن.
غضب لابن عمه ثم نزل على المنبر وأخذ الكتاب وجعله تحت
رأسه وجعل يؤامر نفسه في عزل خالد فلما كان من الغد صلى صلاة الفجر وقام فرقى
المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول ﷺ فصلى عليه وترحم على أبي بكر
الصديق رضي الله عنه ثم قال: أيها الناس إني حملت امانة عظيمة وإني راع وكل راع
مسؤول عن رعيته وقد جئت لاصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر
في هذا البلد فاني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من صبر على أذاها وشرها كنت له
شفيعا يوم القيامة" وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء أوقر به الإبل
لآمن مسيرة شهر وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة لأؤدي
الأمانة والتوقير للمسلمين وما كرهت ولاية خالد على المسلمين إلا لأن خالدا فيه
تبذير المال يعطي الشاعر إذا مدحه ويعطي للمجد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من
حقه ولا يبقى لفقراء المسلمين ولا لضعافهم شيئا وإني أريد عزله وولاية أبي عبيدة
مكانه والله يعلم إني ما وليته إلا أمينا فلا يقول: قائلكم عزل الرجل الشديد وولى
الأمين اللين للمسلمين فإن الله معه يسدده ويعينه ثم نزل عن المنبر وأخذ جلد أدم
منشور وكتب إلى أبي عبيدة كتابا فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين
إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي
على نبيه محمد ﷺ وبعد فقد وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فإن الله لا يستحي من
الحق وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقي ويفني ما سواه والذي استخرجك من الكفر إلى
الإيمان ومن الضلال إلى الهدى وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده
واعزله عن امارته ولا تنفذ المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنفذ سرية إلى جمع
كثير ولا تقل إني أرجو لكم النصر فإن النصر انما يكون مع اليقين والثقة بالله
وإياك والتغرير بالقاء المسلمين إلى الهلكة وغض عن الدنيا عينيك واله عنها قلبك
وإياك أن تهلك كما هلك من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم وخبرت سرائرهم وإنما بينك
وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدم فيها سلفك وأنت كأنك منتظر سفرا ورحيلا من دار قد
مضت نضرتها وهبت زهرتها فأحزم الناس فيها الراحل منها إلى غيرها ويكون زاده التقوى
وراع المسلمين ما استطعت وما الحنطة والشعير الذي وجدت بدمشق وكثرت في ذلك
مشاجرتكم فهو للمسلمين وأما الذهب والفضة ففيهما الخمس والسهام وأما اختصامك أنت
وخالد في الصلح او القتال فأنت الولي وصاحب الأمر وأن صلحك جرى على الحقيقة إنها
للروم فسلم إليهم ذلك والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين.
وأما هديتك ابنة الملك هرقل فهديتها إلى ابيها بعد أسرها
تفريط وقد كان يأخذ في فديتها مالا كثيرا يرجع به على الضعفاء من المسلمين والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وختمه بخاتمة ثم دعا بعامر بن أبي وقاص أخي
سعد ودفع الكتاب إليه وقال له: انطلق إلى دمشق وسلم كتابي هذا إلى ابي عبيدة وامره
أن يجمع الناس إليه واقرأه أنت على الناس يا عامر واخبره بموت ابي بكر الصديق رضي
الله عنه ثم دعا عمر رضي الله عنه شداد بن أوس فصافحه وقال له: أمض أنت وعامر إلى
الشام فإذا قرأ أبو عبيدة الكتاب فأمر الناس يبايعونك لتكون بيعتك بيعتي.
قال الواقدي: فانطلقا يجدان في السير إلى أن وصلا إلى
دمشق والناس مقيمون بها ينتظرون ما يأتيهم من خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما
يأمرهم به فأشرف صاحبا عمر رضي الله عنه على المسلمين وقد طالت اعناقهم إليهما
وفرحوا بقدومهما فاقبلا حتى نزلا في خيمة خالد رضي الله عنه وقال له عامر بن أبي وقاص:
تركته يعني عمر بخير ومعي كتاب وانه أمرني أن اقرأه على الناس بالاجتماع فاستنكر
خالد ذلك واستراب الأمر وجمع المسلمين إليه فقام عامر أبي وقاص فقرأ الكتاب فلما
انتهى إلى وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ارتفع للناس ضجة عظيمة بالبكاء
والنحيب وبكى خالد رضي الله عنه وقال أن كان أبو بكر قد قبض وقد استخلف عمر فالسمع
والطاعة لعمر وما أمر به وقرأ عامر الكتاب إلى آخره فلما سمع الناس بما فيه من أمر
المبايعة لشداد بن أوس بايعوه وكانت المبايعة بدمشق لثلاث خلت من شهر شعبان سنة
ثلاث عشر من الهجرة.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: قد بلغني إنه كان على
العدو بعد عزله اشد فظاعة وأصعب جهادا لا سيما في حصن أبي القدس.
ذكر حديث وقعة أبي القدس
قال الواقدي رحمه الله تعالى: سألت من حدث بهذا الحديث
عن حصن أبي القدس قال: ما بين عرقا وطرابلس مرج يقال له: مرج السلسلة وكان بازائه دير
وفيه صوامع وفيه صومعة راهب عالم بدين النصرانية وقد قرأ الكتب السالفة وأخبار
الأمم الماضية المتقدمة وكانت تقصده الروم وتقتبس من علمه وله من العمر ما ينوف عن
مائة سنة وكان في كل سنة يقوم عند ديره عيد آخر صيام الروم وهو عيد الشعانين
فتجتمع الروم والنصارى وغيرهم من جميع النواحي والسواحل ومن قبط مصر ويحدقون به
فيطلع عليهم من ذروة له فيعلمهم ويوصيهم بوصايا الإنجيل وكان يقوم في ذلك العيد
سوق عظيم من السنة إلى السنة وكان يحمل له الأمتعة والذهب والفضة ويبيعون ويشترون
ثلاثة ايام وما كان المسلمون يعلمون بذلك ولا يعرفونه حتى دلهم عليه رجل نصراني من
المعاهدين وقد اصطفاه وأمنه وأهله فلما ولى أبو عبيدة أمر المسلمين أراد ذلك
المعاهد أن يتقرب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فعسى أن يكون فتح الدير والسوق على
يديه فأقبل إليه وأبو عبيدة قد أطال الفكر فيما يصنع واي بلد من بلاد الروم يقصد
فمرة يقول: أسير إلى بيت المقدس بالجيش فإنها أشرف بلدهم وكرسي مملكة الروم بها
قيام دينهم ووقتا يقول: اسير إلى انطاكية وأقصد هرقل وأفرغ منه وبينما هو يفكر في أمره
وقد جمع المسلمين إذ أقبل ذلك المعاهد وكان من نصارى الشام فقال: أيها الأمير إنك
قد أحسنت الي وأمنتني ووهبتني أهلي ومالي وولدي وقد اتيتك ببشارة وغنيمة تغنمها
المسلمون ساقها الله إليهم فإن اظفرهم الله بها استغنوه غنى لا فقر بعده فقال أبو
عبيدة: أخبرنا ما هذه الغنيمة وأين تكون فما علمتك إلا ناصحا فقال: أيها الأمير
إنها بازائك على دير الساحل وهو حصن يعرف بأبي القدس وبازائه دير فيه راهب تعظمه
النصرانية ويتبركون بدعائه ويقتبسون من علمه وله في كل سنة عيد يجتمعون إليه من كل
النواحي والقرى والأمصار والضياع والأديرة ويقوم عنده سوق عظيم يظهرون فيه فاخر
ثيابهم من الديباج والذهب والفضة يقيمون عنده ثلاثة ايام او سبعة وقد قرب وقت قيام
السوق فتأخذون جميع ما فيه وتقتلون الرجال وتسبون النساء والذرارى وهذه غنيمة يفرح
بها المسلمون ويوهن لها عدوكم.
قال الواقدي: فلما سمع أبو عبيدة ما قاله المعاهد فرح
رجاء أن يكون ما قاله المعاهد غنيمة للمسلمين فقال للمعاهد كم بيننا وبن هذا الدير
قال عشرة فراسخ للمجد السائر قال أبو عبيدة: وكم بقي إلى قيام السوق قال: أيام
قلائل قال أبو عبيدة: فهل يكون لهم حامية يلي أمرهم ويصد عنهم قال المعاهد لسنا نعرف
ما ذكرت في بلاد الملك لانه لا يصيب بعضنا بعضا لهيبة هرقل في قلوبهم فلما سمع أبو
عبيدة قال هل بالقرب منه شيء من مدائن الشام قال: نعم بالقرب من السوق مدينة تسمى
طرابلس وهي مينا الشام إليها تقدم المراكب من كل مكان وفيها بطريق عظيم كثير
التجبر وقد أقطعه الملك إياها من تجبره وهو يحضر السوق وما كنت أعهد أن لهذا السوق
حامية من الروم إلا أن يكون الآن لخوفهم منكم ولو سار إلى الدير والسوق أدنى
المسلمين لرجوت لهم الفتح أن شاء الله تعالى.
فقال أبو عبيدة: أيها الناس أيكم يهب نفسه لله تعالى
وينطلق مع جيش ابعثه فتحا للمسلمين فسكت الناس ولم يتكلم أحد فنادى أبو عبيدة
ثانية وإنما يريد خالدا بقوله واستحى أن يواجهه في ذلك لاجل عزله فقام من وسط
الناس غلام شاب نبت شعر.
عارضيه واخضر شاربه وكان ذلك الشاب عبد الله بن جعفر رضي
الله عنه وكانت أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكان ابوه جعفر رضي الله عنه قد مات
في غزوة تبوك وخلف ولده عبد الله صغيرا فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما
كبر وترعرع كان يقول لأمه: يا أماه ما فعل أبي فتقول يا ولدي قتله الروم وكان
يقول: لئن عشت لآخذن بثأره فلما مات أبو بكر وتولى عمر رضي الله عنه جاء عبد الله
إلى الشام في بعث بعثه عمر مع عبد الله بن انيس والجهني وكان فيه مشابهة من رسول
الله ﷺ في خلقه وخلقه وهو أحد الأصحاب الاسخياء فلما قال أبو عبيدة رضي الله عنه:
أيها الناس من ينطلق إلى هذا الدير وثب عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنه فقال
أنا أول من يسير مع هذا البعث يا أمين الأمة ففرح أبو عبيدة وجعل يندب له رجالا من
المسلمين وفرسان الموحدين وقال له: أنت الأمير يا ابن عم رسول الله ﷺ وعقد له راية
سوداء وسلمها إليه وكان على الخيل خمسمائة فارس منهم رجال من أهل بدر وكان من جملة
من سيره مع عبد الله أبو ذر الفغاري وعبد الله بن أبي اوفي وعامر بن ربيعة وعبد
الله بن أنيس وعبد الله ابن ثعلبة وعقبة بن عبد الله السلمي ووائلة بن الاسقع وسهل
بن سعد وعبد الله بن بشر والسائب بن يزيد ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجمعين.
قال الواقدي: ولما أن اجتمعت الخمسمائة فارس تحت راية
عبد الله بن جعفر وةما منهم إلا من شهد الوقائع وخاض المعامع لا يولون الأدبار ولا
يركنون إلى الفرار عولوا على المسير وقال أبو عبيدة لعبد الله بن جعفر: يا ابن عم
رسول الله ﷺ لا تقدم على القوم إلا في أول قيام السوق ثم إنه ودعهم وساروا
قال الواقدي:
وكان في هذه السرية مع عبد الله بن جعفر وائلة بن الاسقع
وكان خروجهم من أرض الشام وهي دمشق إلى دير ابي القدس في ليلة النصف من شعبان وكان
القمر زائد النور قال وأنا إلى جانب عبد الله ابن جعفر فقال لي يا ابن الاسقع ما أحسن
قمر هذه الليلة وأنوره فقلت: يا ابن عم أردت رسول الله ﷺ هذه ليلة النصف من شعبان
وهي ليلة مباركة عظيمة وفي هذه تكتب الأرزاق والآجال وتغفر فيها الذنوب والسيئات
وكنت أدرت أن أقومها فقلت: إن سيرنا في سبيل الله خير من قيامها والله جزيل العطاء
فقال صدقت ثم اننا سرنا ليلتنا فبينما نحن سائرون إذ أشرفنا على صومعة راهب وعليه
برنس اسود فجعل يتأملنا وينظر في وجوهنا فتفقدنا واحدا بعد واحد ثم جعل يطيل النظر
في وجه عبد الله ثم قال اهذا الفتى ابن نبيكم فقلنا لا قال أن نور النبوة يلوح بين
عينيه فهل يلحق به فقلنا هو ابن عمه فقال الراهب هو من الورقة والورقة من الشجرة
فقال عبد الله أيها الراهب وهل تعرف رسول الله ﷺ.
فقال وكيف لا أعرفه واسمه وصفته في التوراة والإنجيل
والزبور وانه صاحب الجمل الأحمر والسيف المشهر فقال عبد الله فلم لا تؤمن به
وتصدقه فرفع يده إلى السماء وقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء فأعجبنا كلامه وسرنا
والدليل بين ايدينا إذ أتى بنا إلى واد كثير الشجر والماء أمرنا أن نكمن فيه ثم
قال لعبد الله بن جعفر إني ذاهب أجس لكم الخبر فقال له عبد الله: أسرع في مسيرك
وعد إلينا بالخبر قال فانطلق مسرعا وأقام عبد الله بن جعفر يحرس المسلمين بنفسه
إلى الصباح قال فلما اصبحنا صلينا صلاة الصبح وجلسنا ننتظر رجوع الرسول فلم يأت
وأبطأ خبره علينا فقلق المسلمون عليه لاحتباسه وخافوا من المكيدة ووسوس لهم
الشيطان وساءت بالدليل الظنون فما من المسلمين إلا من ظن بالمعاهد شرا إلا أبا ذر الغفاري
رضي الله عنه فإنه قال ظنوا بصاحبكم خيرا ولا تخافوا منه كيدا ولا مكرا أن له شأنا
تعلمونه قال فسكت الناس بعد ذلك وإذا بصاحبهم قد اقبل قال وائلة بن الاسقع فلما
رايناه فرحنا به وظننا إنه يأمر بالنهوض إلى العدو فاقبل حتى وقف وسط المسلمين
وقال: يا أصحاب محمد وحق المسيح ابن مريم إني لا أكذبكم فيما أحدثكم به وإني رجوت
لكم الغنيمة وقد حال بينكم وبينها ماء.
فقال له عبد الله رضي الله عنه: وكيف حيل بينا وبينها
قال حال بينكم وبينها بحر عجاج وذلك إني اشرفت على السوق وقد قام فيه البيع
والشراء فاجتمع فيه أهل دين النصرانية وقد دار أكثرهم بالدير دير أبي القدس واجتمع
إليه القسس والرهبان والملوك والبطارقة فلما نظرت إلى ذلك لم ارجع حتى اختبرت ما
السبب الذي تجمعت له الخلق زيادة على كل سنة وذلك إني مضيت واختلطت بالقوم وإذا
بصاحب طرابلس قد زوج ابنته ملكا من ملوك الروم وقد أتوا بالجارية إلى الدير
ليأخذوا لها من راهبهم قربانا وقد دار بها فرسان الروم المنتصرة في عددهم وعديدهم
كل ذلك خوفا منكم لانهم يعلمون إنكم بأرض الشام يا معاشر المسلمين وما ارى لكم
صوابا أن تصلوا إلى القوم لانهم خلق كثير وجم غفير وجمع غزير فقال عبد الله بن
جعفر رضي الله عنه في كم يكون القوم وكم خررتهم فقال: أما السوق ففيه أكثر من
عشرين الفا من عوام الروم والأرمن والنصارى والقبط واليهود من مصر والشام وأهل
السواد والبطارقة والمنتصرة وأما المستعدون للحرب فخمسة آلاف فارس فما لكم بالقوة
طاقة وأن وقع طائح في بلادهم انضاف إليهم امثالهم فإن بلادهم متصلة بهم وأما أنتم فعددكم
يسير والعرب منكم بعيد.
قال الواقدي: فصعب ذلك على عبد الله بن جعفر وعلى
المسلمين وسقط في ايديهم وهموا بالرجوع فقال عبد الله بن جعفر معاشر المسلمين ما
الذي تقولون في.
هذا الأمر فقالوا: نرى أن لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة
كما أمر ربنا في كتابه العزيز ونرجع إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه والله لا
يضيع أجرنا قال فلما سمع عبد الله قولهم قال: أما أنا فأخاف أن فعلت ذلك أن يكتبني
الله من الفارين وما ارجع او أبدى عذرا عند الله تعالى فمن ساعدني فقد وقع اجره
على الله ومن رجع فلاعتب عليه فلما سمعوا ذلك من عبد الله بن جعفر اميرهم وبذل
مهجته استحيوا منه وأجابوه بأجمعهم وقالوا: افعل ما تريد فما ينفع حذر من قدر ففرح
باجابتهم ثم عمد إلى درعه فأفرغه عليه ووضع على رأسه بيضة وشد وسطه بمنطقة وتقلد
بسيف أبيه واستوى على متن جواده وأخذ الراية بيده وامر الناس بأخذ الأهبة فلبسوا
دروعهم واشتملوا بسلاحهم وركبوا خيولهم وقالوا: للدليل سر بنا نحو القوم فستعاين
من أصحاب رسول الله ﷺ عجبا قال وائلة بن الاسقع رأيت الدليل قد اصفر وجهه وتغير
لونه وقالوا: سيروا انتم برأيكم وما علي من امركم وخرج قال أبو ذر الغفاري فرأيت
عبد الله بن جعفر يتلطف به حتى سار بين يديه يدله على القوم ساعة ثم وقف وقال
أمسكوا عليكم فانكم قد قربتم من القوم فكونوا في مواضعكم كامنين إلى وقت السحر ثم
أغيروا على القوم قال وائلة بن الاسقع فبتنا ليلتنا حيث امرنا ونحن نطلب النصر من
الله تعالى على الأعداء فلما أصبح النهار صلي بهم عبد الله بن جعفر صلاة الصبح
فلما فرغوا من صلاتهم قال: ما ترون في الغارة.
فقال عامر بن عميرة بن ربيعة أدلكم على أمر تصنعونه قالوا:
قل: قال اتركوا القوم في بيعهم وشرائهم واظهار امتعتهم ثم اكبسوا عليهم على حين
غفلة وغرة من امرهم فصوب الناس رأيه وصبروا إلى وقت قيام السوق ثم اظهروا السيوف
من أغمادها وأوتروا القسى وشرعوا لاماتهم وعبد الله بن جعفر امامهم الراية بيده
فلما طلعت الشمس عمد عبد الله إلى المسلمين فجعلهم خمسة كراديس كل كردوس مائة فارس
وجعل على كل مائة نقيبا وقال تاخذ كل مائة منكم قطرا من أقطار سوقهم ولا تشتغلوا
بنهب ولا غارة ولكن ضعوا السيوف في المفارق والعواتق وتقدم عبد الله بن جعفر بالراية
وطلع على القوم فنظر إلى الروم متفرقين في الأرض كالنمل لكثرتهم وقد أحدق منهم
بدير الراهب خلق كثير والراهب قد اخرج رأسه من الدير وهو يعظ الناس ويوصيهم
ويعلمهم معالم ملتهم وهم إليه شخوص بابصارهم وابنة البطريق عنده في الدير
والبطارقة وابناؤهم عليهم الديباج المثقل بالذهب ومن فوقهم دروع وجواشن تلمع وبيض
وهم ينظرون صيحة بين ايديهم او طارقا يطرقهم من خلفهم ونظر عبد الله إلى الدير
والى ما أحدق به والى الراهب وما حول صومعته فهاله ذلك من امرهم وصاح فيهم قبل
الحملة وقال: يا صاحب رسول الله ﷺ احملوا بارك الله فيكم فإن كانت غنيمة وسرور
فالفتح والسلامة ويكون الاجتماع تحت صومعة الراهب وأن كان غير ذلك.
فهو وعدنا الجنة ونلتقي عند حوض رسول الله ﷺ مع الصحابة
قال وطلب عبد الله الجم العظيم فغاص فيهم وجعل يضرب بسيفه ويطعن برمحه ويحمل
المسلمون من ورائه وسمع الروم اصوات المسلمين مرتفعة بالتهليل والتكبير فتيقنوا أن
جيوش المسلمين قد ادركتهم وكانوا لذلك منتظرين وعلى يقظة من امرهم فأما السوقة
فانهم تبادروا إلى اسلحتهم والمتع عن أنفسهم وأموالهم وأخرجوا السيوف من الأغمدة وانعطفوا
على قتال المسلمين عطفة الاسد الضاري وطلبوا صاحب الراية ولم يكن مع المسلمين راية
غيرها فأحدقوا بالراية من كل جانب ومكان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وانعقد
وأحدق الروم بالمسلمين فما كان المسلمون فيهم إلا كشامة بيضاء في جلد بعير اسود
وما كان أصحاب رسول الله ﷺ يعرف بعضهم بعضا إلا بالتهليل والتكبير وكل واحد مشتغل
بنفسه عن غيره وقال أبو سبرة ابراهيم بن عبد العزيز بن ابي قيس وكان من السابقين
والمتقدمين بايمانهم في الإسلام وصاحب الهجرتين جميعا قال شهدت قتال الحبشة مع
جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه وشهدت المشاهد مع رسول الله ﷺ في بدر وفي أحد وفي
حنين وقلت: إني لا اشهد مثلها فلما قبض الله ﷺ حزنت عليه ولم استطع أن اقيم بالمدينة بعد
فقده فقدمت مكة فأقمت بها فعوتبت في منامي من التخلف عن الجهاد فخرجت إلى الشام
وشهدت اجنادين والشام وسرية خالد خلف توما وهربيس وشهدت سرية عبد الله بن جعفر
وكنت معه على دير ابي القدس فانستني وقعتها ما شهدت قبلها من الوقائع بين يدى رسول
الله ﷺ وذلك إني نظرت إلى الروم حين حملنا عليهم في كثرتهم وعددهم وقلنا ما ثم
غيرهم وليس لهم كمين عظيم قال فرأينا اجسادهم هائلة وعليهم الدروع وما يبين منهم
إلا حماليق الحدق لهم طقطقة وزمجرة عندما يحملون حتى نظرت إلى المسلمين قد غابوا
في اوساطهم ولا اسمع منهم إلا الأصوات تارة يجهرون بها وتارة اقول هلكوا.
ثم انظر إلى الراية بيد عبد الله بن جعفر رضي الله عنه
مرفوعة بذلك وعبد الله يقاتل بالراية ويكر على المشركين ولا يثني ويجاهد على صغر
سنة ولم تزل الحرب بيننا كلما طال مكثها اشتد ضرامها وعلا قتامها والتهب نارها
وصار عبد الله في وسط القوم وهم حوله كالحلقة الدائرة والروم يحدقون به فجعل كلما
حمل يمينا حملت يمينا وأن حمل شمالا حملت شمالا ولم نزل في الحرب والقتال حتى كلت
منا السواعد وخدرت منا المناكب قال: وعظم الأمر علينا وهالنا الصبر وتثلم سيف عبد
الله في يده وكادت تقع فرسه من تحته فالتجأ بأصحابه في موضع فاجتمع أصحابه إليه
فنظر المسملون إلى رايته فقصدوها وما منهم إلا مكلوم من المشركين فضاق لذلك ذرعه
وما نزل في نفسه مثل ما نزل بالمسلمين فألجأ إلى الله تعالى أمره وفوض إلى صاحب
السماء شأنه ورفع يده إلى السماء وقال في دعائه يا من خلق خلقه وابلى بعضهم ببعض
وجعل ذلك محنة لهم أسألك بجاه محمد النبي ﷺ إلا ما جعلت لنا من امرنا فرجا ومخرجا
ثم عاد إلى القتال وأصحاب رسول الله ﷺ يقاتلون معه تحت رايته فلله در ابي ذر
الفغاري رضي الله عنه فإنه نصر ابن عم رسول الله ﷺ وجاهد بين يديه قال عمرو بن
ساعدة فلقد رايته مع كبر سنه يضرب بسيفه ضربا شديدا في الروم وينتمي إلى قومه
ويذكر عند حملاته اسمه ويقول: أنا أبو ذر والمسلمون يفعلون كفعلة إلى أن بلغت
القلوب الحناجر وظنوا أن في ذلك الموضع قبورهم.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: حدثني عبد الله بن انيس
الجهني قال كنت أحب جعفرا واجب من اولاده عبد الله فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه
وكان قائما مقام ابيه نظرت إلى أمه أسماء بنت عميس حزينة فكرهت أن انظر إليها في
ذلك الحزن وايضا أن أبا بكر رضي الله عنه في المسير إلى الشام فاستأذن عبد الله بن
جعفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسير إلى الشام وقال لي يا ابن انيس الجهني
اشتهي أن ألحق بالشام ومعنا عشرون فارسا أكون مجاهدا أفتصحبني فقلت: نعم فودع عمه عليا
رضي الله عنه وودع عمر رضي الله عنه وسار يريد الشام ومعنا عشرون فارسا حتى أتينا
تبوك فقال: يا ابن انيس أتدري موضع قبر ابي فقلت: نعم فقال: أشتهي أن ارى الموضع
قال فما أتينا الموضع فأريته موضع مصرع أبيه وموضع الوقعة وقبر ابيه جعفر رحمه
الله تعالى وعليه حجارة فلما نظر إليه نزل ونزلنا معه وبكى وترحم فأقمنا عنده إلى
صبيحة اليوم الثاني فلما رحلنا رايت عبد الله يبكي ووجهه مثل الزعفران فسألته عن
ذلك فقال رأيت ابي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوتان وتاج وله جناحان وبيده
سيف مسلول اخضر فسلمه إلى وقال: يا بنى قاتل به اعداءك فما وصلت إلى ما ترى إلا بالجهاد
وكأني اقاتل بالسيف حتى تثلم قال عبد الله بن انيس وسرنا حتى أتينا عسكر ابي عبيدة
رضي الله عنه بدمشق فبعثه أمير تلك السرية إلى دير ابي القدس قال عبد الله بن انيس
فلما رأيت بينه وبين الروم قلت: يوشك أن يذهب عبد الله فسرت كالبرق ورجعت إلى ابي
عبيدة رضي الله عنه فلما راني قال أبشارة يا ابن انيس ام لا فقلت: انفذ المسلمين
إلى نصرة عبد الله بن جعفر ومن معه ثم حدثته بالقصة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه
أنا لله وأنا إليه راجعون ايصاب عبد الله بن جعفر ومن معه تحت رايتك يا أبا عبيدة
وهي أول امارتك.
قال الواقدي: ثم التفت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال
له: يا أبا سليمان سألتك بالله الحق عبد الله بن جعفر فأنت المعد لها فقال خالد:
أنا لها أن شاء إله وما كنت انتظر إلا أن تأمرني فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه
استحيت منك يا أبا سليمان فقال والله لو أمر علي طفل صغير لاطيعن له فكيف اخالفك
وانت اقدم مني إيمانا.
واسبق اسلاما سبقت باسلامك مع السابقين وسارعت بايمانك
مع المسارعين وسماك رسول الله بالأمين فكيف الحقك او انال درجتك والان اشهدك إني
قد جعلت نفسي حبيسا في سبيل الله تعالى لا أخالفك ابدا ولا وليت امارة بعدها ابدا.
قال قال الواقدي: فاستحسن المسلمون قوله فقال أبو عبيدة:
رضي الله عنه يا أبا سليمان الحق اخوانك رحمك الله قال فوثب خالد رضي الله عنه
كأنه الاسد وسار إلى رحلة فأفرغ عليه درع مسيلمة الكذاب الذي سلبه منه يوم اليمامة
والقى بيضة على رأسه واردفها قلنسوة وتقلد بحسامه وانصب في سرجه كأنه السيل ونادى
بجيش الزحف هلموا إلى جزب السيوف فأجابوه مسرعين كأنهم العقبان وبادروا إلى طاعة الرحمن
واخذ خالد الراية بيده وهزها على ركابه ودار به عسكر الزحف من كل جانب وودع
المسلمون بعضهم بعضا وساروا وسار خالد وعبد الله بن انيس يدلهم على الطريق قال
رافع بن عميرة الطائي كنت يومئذ من أصحاب خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يزل
مجدا في السير والله عز وجل يطوي لنا البعيد فلما كان عند غروب الشمس اشرفنا على
القوم والروم كالجراد المنتشر قد غرق المسلمون في كثرتهم فقال خالد: يا ابن انيس
في جانب أطلب ابن عم رسول الله ﷺ فقلت له: إنه واعد أصحابه أن يلتقوا عند دير
الراهب او موعدهم الجنة.
قال الواقدي: فنظر خالد نحو الدير فشاهد الراية
الإسلامية وهي بن عبد الله بن جعفر وما من المسلمين إلا من اصيب بجرح وقد ايسو من
الحياة الفانية وطعموا في الحياة السرمدية والروم تناوشهم بالحرب وتكثر الطعن
الضرب وعبد الله بن جعفر يقول لأصحابه: دونكم والمشركين واصبروا لقتال المارقين
واعلموا إنه قد تجلى عليكم ارحم الراحمين ثم قرأ الاية قوله تعالى: {كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 24] فلما نظر خالد رضي الله عنه إلى صبرهم وتجلدهم على القتال اعدائهم لم
يطق الصبر دون أن حمل عليهم وهز رايته وقال لأصحابه: دونكم القوم القباح فأرووا من
دمائهم السلاح وابشروا بالنجاح يا أهل حي على الفلاح قال الواقدي رحمه الله تعالى:
فبينما أصحاب عبد الله بن جعفر في اشد ما يكونون فيه إذ خرجت عليهم خيل المسلمين
وكتائب الموحدين كأنهم الطيور وعليها الرجال كأنهم العقبان الكاسرة والليوث
الضارية وهم عائصون في الحديد وقد ارتفع لهم الضجيج وبخيلهم العجيج فلما نظر عبد
الله وأصحابه إلى ذلك ظنوا إنها نجدة الأعداء فأيقنوا بالهلاك والفناء وجعلوا ينظرون
إلى الخيل التي رأوها هي قاصدة إليهم ففزعوا وظنوا أن كمينا من الروم قد خرج
لقتالهم فعظم عليهم الأمر وقل منهم الصبر وأخذهم.
البهر وقد لحق بالمشركين الدمار واتاهم حرب مثل النار
والسيوف تلمع والرؤوس من الرجال تقطع والأرض قد امتلات قتلى وهم في أيدى المشركين
كالأسرى والقوم في أشد القتال والسيف يعمل في الرجال إذ نادى فيهم مناد وهتف بهم
هاتف خذل الأمن ونصر الخائف يا حملة القران جاءكم النصر من الرحمن ونصرتهم على
عبدة الصلبان وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت المرهفات البواتر وإذا بفارس على المقدمة
كأنه الاسد الزائر او الليث الهادر ويده تشرق بالانوار كاشراف القمر فنادى الفارس
باعلى صوته ابشروا يا معاشر حملة القران بالنصر المشيد أنا خالد بن الوليد فلما
نظر المسلمون الرباية وسمعوا صوت خالد رضي الله عنه كانهم كانوا في لجه واخرجهم
فاجابوه بالتهليل والتكبير وكانت اصواتهم كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم حمل
خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف الذي لا يفارقه ووضع السيف في الروم قال
عامر بن سراقة فما شبهت حملته إلا حملة الاسد في الغنم ففرقهم يمينا وشمالا قال
فثبت المسلمون وكل علج من الروم شديد يمانع عن نفسه وخالد يطلب أن يصل إلى عبد
الله بن جعفر.
ولما نظر المسلمون إلى الخيل المقبلة عليها ولم يعلموا
ما هي حتى سمعوا صوت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس دونكم
الأعداء فقد جاءكم النصر من رب السماء ثم حمل المسلمون معه قال وائلة بن الاسقع
لقد كنا ايسنا من أنفسنا وايقنا بالهلاك حتى أتتنا المعونة من الله عز وجل فحملنا
بحملة اخواننا قال فما اختلط الظلام حتى نظرت إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه والراية
بيده وهو يسوق المشركين بين يديه سوق الغنم إلى المراعي والمسلمون يقتلون يأسرون
فلله در ابي ذر الغفاري وضرار بن الأزور والمسيب بن نجية الفزاري لقد قرنوا
المواكب وهزوا المضارب وقتلوا الروم من كل جانب والتقى ضرار بعبد الله بن جعفر رضي
الله عنه فنظر إليه والدم على اكمام درعه كأكباد الإبل فقال شكر الله تعالى لك يا
ابن عم رسول الله ﷺ والله إنك لقد أخذت بثأر ابيك وشفيت غليلك فقال عبد الله بن
جعفر رضي الله عنه من الرجل المخاطب لي وكان الظلام قد اعتكر وضرار ملثم لا يبين
منه إلا الحدق فلم يعرفه عبد الله فقال أنا ضرار بن الأزور صاحب رسول الله ﷺ فقال
مرحبا بطلعتك وبأخ منا عدل لنا وقام لنصرتنا.
معركة ضرار
قال عبد الله بن انيس فبينما هم على ذلك إذ اقبل خالد بن
الوليد رضي الله عنه وجيش الزحف فقال شكر لك الله واحسن جزاءك ثم قال عبد الله يا
ضرار اعلم أن حامية الروم والبطارقة عند الدير لاجل ابنه صاحب طرابلس وما معها من الأموال
وقد.
أحاط بها كل فارس من الروم فهل لك يا ابن الأزور أن تحمل
معي فقال وأين هم فقال: أما تنظر إليهم فمد عينه وإذا بحامية الروم وبطريق طرابلس
وقد أحدقوا بالدير يمنعون عن الجارية والنيران مشتعلة والصلبان تلمع كضوء النار
وكأنهم سد من حديد فقال ارشدك الله للخيرات فنعم المرشد أنت أحمل حتى أحمل معك
بحملتك قال فحمل عبد الله بن جعفر من جهته وحمل ضرار بن الأزور من جهته واتبعتهما
الرجال وزعقوا في الروم وحماة المشركين وهم يمانعون عن أنفسهم وكان اشدهم منعة
بطريقهم فبرز أمام القوم وهو يهدر كالبعير ويزأر زئير الاسد يصيح بكلمة الكفر
ويحمل حملات الشجعان فقصده ضرار بن الأزور وباطشه في الضرب والتقت الأقران ونظر
ضرار إلى العلج وعظم خلقته وتمكنه في سرجه وشدة ضربه وحسن احترازه فاخذ ضرار منه
حذره واحترز منه البطريق وطلبه اشد الطلب وكل واحد منهما طامع في صاحبه فانفرد ضرار
بن الأزور مع صاحب القوم وكل قرن مع قرنه وليس مع ضرار أحد المسلمين فانبسط ضرار
بين ايديهم ليمكر بهم وطلبه البطريق وأصحابه وقصدوه بحملتهم فلما نظر ضرار إلى ذلك
قصد موضعا يصلح لمجال الخيل فاعترضه واحد من ظلمة الليل فكبابه الجواد فسقط الأرض
هاويا ثم ثار من سقطته يروم أخذ الفرس فلم يجد إلى ذلك سبيلا فوقف مكانه وسيفه
وجحفته بيده وجعل يجاهدهم بسيفه وصبر لهم صبر الكرام ولم يأخذه في الله لومة لائم
فخفق عليه بطريق الروم واقبل يضرب بعموده فلما لازمه ورمى العمود عليه زاغ ضرار عن
الضربة ثم وثب إليه وثبة الاسد وضربه ضربة ازعجت فرس البطريق من تحته وقام على
رجليه وشك بيديه وضربه الثانية فوقعت ضربة ضرار في عين جواده فانتكس الجواد إلى
الأرض ووقع العلج على ظهره ولم يقدر أن يقوم لانه مزرد في سرجه فعالجه ضرار قبل
وصول غلمانه إليه وضربه على حبل عانقه فنبا سيفه ولم يعمل شيئا فناهضه المعلج وقد
ايكن بالهلاك وقبض عليه وكان الجبل العظيم فرماه ضرار تحته وملك صدره واستوى على
نحره وكان مع ضرار سكين من صنعة اليمن لا تفارقه فاستلها من غمدها وضرب صدر عدو
الله إلى سرته فسقط عدو الله قتيلا وعجل الله روحه إلى النار وبئس القرار.
ثم وثب ضرار وملك جواد عدو الله واستوى في سرجه وكان على
الجواد كثيرا من الذهب والفضة والفصوص التي تساوي ثمنا كثيرا فلما صار على ظهر
الجواد حمل وكبر على المشركين ففرقهم يمينا وشمالا وكان ضرار لما انبسط أمام القوم
ملك عبد الله بن جعفر الدير ومن فيه ومن معه من المسلمين واحدقوا به ولم ياخذوا
منه شيئا حتى رجع خالد رضي الله عنه من اتباع الروم وذلك أن خالدا اتبعهم إلى نهر
عظيم كان بينهم وبين طرابلس الشام والروم يعرفون مخاوضه فوقف خالد ورجع إلى أصحاب
رسول الله ﷺ فوجدهم قد ملكوا الدير وقتلوا العلج وانتشرت الناس في جمع الغنائم وما.
كان في السوق والفراش والقماش والثياب والطعام وغيره قال
وائلة بن الاسقع فجعلنا نجمعه ونأكل الخيرات واخرجوا ما كان في الدير من انية
الذهب والفضة والستور والمراتب واخرجوا ابنة البطريق ومعها أربعون جارية لهن حلي
وحلل والمال على البراذين والبغال والحمير فانقلب أصحاب رسول الله ﷺ بالغنيمة والأموال
الجسيمة.
قال الواقدي: فنسبت تلك السرية لثلاث عبد الله بن جعفر
صاحبها وعبد الله بن انيس مدركها وخالد بن الوليد منجدها ولقى خالد فيها مشقة
وجراحا مؤلمة فلما سار واقبل خالد إلى الدير فصاح بصاحبه يا راهب فلم يكلمه فهتف
به مرة اخرى وهدده فاطلع عليه وقال: ما تشاء وحق المسيح ليطالبنك صاحب هذه الخضراء
بدماء من قتلت فقال خالد: كيف يطالبنا وقد امرنا أن نقاتلكم ونجاهدكم ووعدنا على
ذلك الثواب ووالله لولا رسول الله ﷺ نهانا أن نتعرض لكم لاتركتك في صومعتك بل كنت
قتلتك اشر قتلة فسكت الراهب عنه ولم يجبه وانقلب خالد والمسلمون بالغنائم إلى دمشق
وابو عبيدة رضي الله عنه فيها فشكر لهم وسلم خالد وعلى عبد الله بن جعفر رضي الله
عنه ورجع إلى مكانه فخمس الغنيمة وقسمها على الناس فدفع لضرار بن الأزور فرس البطريق
وسرجه وما عليه من حلى الذهب والفضة والجواهر والفصوص فأتى به ضرار إلى اخته
السيدة خولة رضي الله عنها قال فرأيتها تنزع فصوص الجوهر فنفرقها على نساء
المسلمين وأن الفص منها ليساوي الثمن الكثير قال وعرض السبي على ابي عبيدة رضي
الله عنه وفي الجملة ابنة البطريق فقال عبد الله ابن جعفر أريدها قال أبو عبيدة:
حتى استأذن أمير المؤمنين في ذلك فكتب إليه يعلمه بها وبمسألة عبد الله بن جعفر
فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي له فأخذها عبد الله واقامت زمانا عنده وعلمها
الطبخ وكانت من قبل تعرف طبخ الفرس والروم واقامت عنده إلى ايام يزيد فأخبر بها فاستهلااها
منه فاهداها له وكانت عنده وقال عامر بن ربيعة اصابني من غنيمة سوق الدير أثواب
ديباج حرير فيها صور الروم وكان في كل ثوب منها صورة حسنة وهي صورة مريم وعيسى عليهما
السلام فحملت الثياب إلى اليمن فبيعت بثمن كثير وكتب إلى عمي وأنا مع ابي عبيدة يا
ابن اخي ابعث لي من هذه الثياب واكثر منها فإنها تنفق.
قال الواقدي: فلما رجع جيش المسلمين غانما كتب أبو عبيدة
بن الجراح رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يخبره بما فتح الله
على يديه وما غنم المسلمون من دير ابي القدس ويمدخ خالدا ويشكره ويثني عليه ويخبره
بما قال وما تكلم به وسأله في كتابه أن يكتب إلى خالد يستشيره في المسير إلى هرقل
او إلى بيت المقدس وكتب إليه ايضا أن بعض المسلمين يشربون الخمر قال عاصم بن ذؤيب
العامري وكان ممن شهد قتال الروم بالشام وفتح دمشق العرب الوافدين من اليمن فأخذوا
في الشرب.
واستطابوا ذلك فانكر ذلك الأمير أبو عبيدة فقال رجل من
العرب اظنه سراقة ابن عامر يا معاشر المسملين خلوا شرب الخمور فإنها تزيل العقول
وتكسب الإثم وأن رسول الله ﷺ لعن شارب الخمر حتى لعن حاملها والمحمولة إليه.
وحدثني اسامة بن زيد الليتي عن الزهري عن حميد بن عبد
الرحمن بن عوف الغفاري قال كنت مع ابي عبيدة بالشام فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يخبره بفتح الشام وفي الكتاب أن المسلمين يشربون الخمر واستقلوا الحد
فقدمت المدينة فوجدت عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله ﷺ جالسا وعنده نفر في
الصحابة وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف يتحدثون فدفعت الكتاب إليه فلما قرأه
جعل يفكر في ذلك ثم قال أن رسول الله ﷺ جلد من شربها ثم سأل عمر عليا رضي الله عنه
في ذلك وقال: ما ترى في هذا فقال علي رضي الله عنه أن السكران إذا سكر هذي وإذا هذي افترى
فكتب إليه عمر أن من شرب الخمر فعليه ثمانون جلدة ولعمري ما يصلح لهم إلا الشدة
والفقر ولقد كان حقهم يراقبوا ربهم عز وجل ويعبدوه ويؤمنوا به ويشكروه فمن عاد
فأقم عليه الحد.
قال الواقدي: ق فلما ورد كتاب عمر رضي الله عنه وقراه
نادى في المسلمين من من كان في نفسه حد فليعط ذلك من نفسه وليتب إلى الله عز وجل
ففعل ذلك كثير من الناس ممن كان شرب الخمر واعطى الحد من نفسه ثم قال أبو عبيدة
رضي الله عنه: إني عزمت على المسير إلى انطاكيا وقصد قلب الروم لعل الله يفتح فتحا
على ايدينا فقال المسلمون سر حيث شئت فنحن تبع لك نقاتل اعداءك فسر بقولهم وقال:
تأهبوا للرحيل فاني سائر بكم إلى حلب فإذا فتحناها توجهنا منها أن شاء الله تعالى
إلى انطاكيا فاسرع المسلمون في اصلاح شأنهم وأخذوا اهبتهم فلما فرغ أبو عبيدة رضي
الله عنه من جميع شغله أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يأخذ راية العقاب التي
عقدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وامره أن يسير أمام الجيش بعسكر الزحف فسار
خالد على المقدمة ومعه ضرار بن الأزور ورافع بن عمرة الطائي والمسيب بن نجيبة
الفزاري والناس يتبع بعضهم بعضا وترك على دمشق صفوان بن عامر السلمي وترك عنده
خمسمائة رجل وسار أبو عبيدة بالمسلمين ومعه ناس من اليمن ومصر.
ذكر فتح حمص
قال الواقدي: وسار أبو عبيدة على طريق البقاع واللبوة
فلما وصل إلى هناك بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى حمص قال: يا أبا سليمان
انهض على بركة الله تعالى وعونه ونازل القوم وشن الغارة على ارض العواصم وفنسرين
وأنا اسير إلى بعلبك فلعل.
الله أن يسهل علينا فتحها ثم ودعه وسار خالد رضي الله
عنه بمن معه إلى حمص وتوجه أبو عبيدة رضي الله عنه إلى بعلبك إذ ورد بطريق جوسيه
ومعه الهدايا والتحف وصالح المسلمين سنة كاملة وقال أن فتحتم بعلبك فانا بين
ايديكم ولا نخالف لكم قولا فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه على أربعة آلاف درهم
وخمسين ثوبا من الديباج فلما انبرم الصلح سار أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب بعلبك فما
بعد من اللبوة إلا وقد اشرف عليه راكب نجيب فإذا هو اسامة بن زيد الطائي فقال: يا
اسامة من اين اقبلت فأتاح نجيبه وسلم على ابي عبيدة رضي الله عنه وعلى المسلمين
وقال أتيت من المدينة وسلم إليه كتابا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففضه أبو
عبيدة رضي الله عنه وإذا فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله الرحمن
الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى امين الأمة سلام عليك فاني أحمد الله لا
إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ اما بعد فلا مرد لقضاء الله وقدره ومن كتب في
اللوح المحفوظ كافرا فلا ايمان له وذلك أن جبلة بن الأيهم الغساني كان قدم علينا
ببني عمه وسراة قومه فأنزلتم واجسنت إليهم واسلموا على يدي وفرحت بذلك إذ شد الله
عضد الإسلام والمسلمين بهم ولم اعلم ما كمن في الغيب وأنا سرنا إلى مكة حرسها الله
تعالى وعظمها نطلب الحج فطاف جبلة بالبيت اسبوعا فوطىء رجل من فزارة ازاراه فسقط
ازاره عن كتفه فالتفت إلى الفزاري وقال: يا ويلك كشفتني في حرم الله تعالى فقال
والله ماتعمدتك فلطم جبلة بن الأيهم الفزاري لطمة هشم بها انفه وكسر ثناياه الأربع
فأقبل الفزاري الي مستعيا على جبلة فأمرت باحضاره وقلت له: ما حملك على أن لطمت
اخاك في الإسلام وكسرت ثناياه الأربع وهشمت انفه فقال جبلة إنه وطىء ازاري برجله
فحله ووالله لولا حرمة هذا البيت لقتلته فقلت له: اقررت على نفسك فاما أن يعفو عنك
واما أن أخذ له منك القصاص فقال: أيقتص وأنا ملك وهو من السوقة قلت: قد شملك وإياه
الإسلام فما تفضله إلا بالعافية فقال أتتركني إلى غدا او تقتص مني فقلت للفزاري: اتتركه إلى غد
قال: نعم فلما كان الليل ركب في بني عمه وتوجه إلى الشام إلى كلب الطاغية وأرجوا
أن الله تعالى يظفرك به فانزل على حمص ولا تنفذ عنها فإن صالحك اهلها فصالحهم وأن
أبو فقاتلهم وابعث عيونك إلى انطاكية وكن على حذر من المنتصرة والسلام عليك ورحمة
الله وعلى جميع المسلمين.
قال الواقدي: فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب في سره جهر به
مرة اخرى ثم لوى يطلب حمص وكان خالد رضي الله عنه سبقه إليها بثلث الجيش فنزل
عليها يوم الجمعة من شوال سنة أربع عشرة من الهجرة النبوية وكان عليها واليا بطريق
من قبل هرقل اسمه لقيطا وكان قد مات قبل نزول خالد والمسلمين رضي الله عنهم اجمعين
فاجتمع المشركون في كنيستهم العظمى وقال كبيرهم اعلموا أن صاحب الملك قد مات وليس.
عند الملك خبر من هؤلاء العرب وقد نزلوا علينا وما ظننا ذلك
ولقد حسبنا إنهم لا ينزلون علينا حتى يفتحوا جوسيه وبعلبك وأن انتم قاتلتوهم
وكاتبتم الملك أن يسير إليكم واليا جيشا فإن العرب لا تمكن أحدا من جنود الملك أن
يسير إليكم ولا يصل لكم وليس عندكم طعام يقوم بكم للحصار فقالوا: أيها السيد فما
الذي ترى قال تصالحون القوم على ما أرادوا وتقولون نحن لكم وبين ايديكم أن فتحتم
حلب وقنسرين وهزمتهم جيش الملك فإذا توجه القوم عنا بعثنا إلى الملك أن يمدنا بجيش
عرمرم ويولي من أراد علينا ويستوثق لنا من الطعام والعدد وبعد ذلك نقاتلهم فاستصوب
القوم رأيه وقالوا: دبرنا بحسن رأيك وتدبيرك فبعث البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله
عنه جاثليقا كان عندهم معظما ليعقد الصلح بينهم وبين المسلمين فخرج الجاثليق ووصل
إلى ابي عبيدة رضي الله عنه وتكلم في الصلح معه بما تحدث به البطريق من أمر سير المسلمين
إلى حلب وقنسرين والعواصم وانطاكية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وصالح
القوم وهم أهل حمص على عشرة آلاف دينار ومائتي ثوب من الديباج وعقد الصلح مع القوم
سنة كاملة اولها ذو القعدة واخرها شوال سنة أربع عشرة من الهجرة قال وانبرم الصلح
وخرجت السوقة من حمص إلى عسكر المسلمين فباعوا واشتروا ورأى أهل حمص سماحة العرب
من بيعهم وشرائهم وربحوا منهم ربحا وافيا.
ذكر حديث سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه
قال الواقدي: إن أبا عبيدة دعا بخالد وضم إليه أربعة
آلاف فارس من لخم وجذام وطي ونبهان وكهلان وستس وخولان وقال: يا أبا سليمان شن
الغارة بهذه الكتيبة واقصد بها المعرة واقرب من معرة حلب وشن بها الغارة على بلدة
العواصم وارجع على أثرك ونفذ عيونك وانظر أن كان للقوم نجدة او ناصر من قومهم أم
لا فاجابه خالد إلى ذلك وأخذ الراية وتقدم أمام الكتيبة وجعل ينشد يقول:
أخذتها والملك العظيم
...
وانني بحملها زعيم
لانني كبش بني مخزوم
...
وصاحب لاحمد الكريم
اسير مثل الاسد الغشوم
...
يا رب فارزقني قتال الروم
قال الواقدي: وسار خالد بن الوليد إلى شيزر ونزل على
النهر المقلوب ودعا بمصعب بن محارب اليشكري وضم إليه خمسمائة فارس وأمره أن يشن
الغارة على العواصم وقنسرين وسار خالد بن الوليد إلى كفر طاب والمراه والى دير
سمعان وجعلت خيل المسلمين تغير يمينا وشمالا على القرى والرساتيق ويأخذون الغنائم
والاسارى فرجعوا إلى خالد بن الوليد بالاسارى فسار بهم إلى ابي عبيدة رضي الله عنه
فلما نظر إلى خالد وما معه من الغنائم والأموال فرح فرحا شديدا وإذا خلف خالد سواد
عظيم قد ارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على على المبشير النذير فقال
أبو عبيدة: رضي الله عنه ما هؤلاء يا أبا سليمان.
فقال خالد: هذا مصعب بن محارب اليشكري وقد عقدت له راية
على خمسمائة فارس من قومه ومن أهل اليمن وأنه اغار بهم على العواصم وقنسرين وقد
أتى بالغنائم والسبي والأموال فالتفت الأمير أبو عبيدة فنظر إلى سرح عظيم من البقر
والغنم وبراذين عليها رجال ونساء وصبيان ولهم دوي عظيم وبكاء شديد فقصدهم أبو
عبيدة رضي الله عنه وإذا برجال مقرونين في الحبال وهم يبكون على عيالهم ونهب
أموالهم وخراب ديارهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه قل لهم: ما بالكم تبكون
ولم لا تدخلون في دين الإسلام وتطلبون الأمان والذمام لتأمنوا على أنفسكم وأموالكم
فقال لهم الترجمان: ذلك فقالوا: أيها الأمير نحن كنا بالبعد منكم وكانت اخباركم
تأتينا وما ظننا إنكم تبلغون إلينا فما شعرنا حتى اشرف علينا أصحابكم فنهبوا
أموالنا واولادنا وساقونا في الحبال كما ترى.
قال الواقدي: وكانت الأعلاج زهاء من أربعمائة علج فقال لهم
الأمير: أن مننا عليكم واطلقناكم من اسركم ورددنا عليكم أموالكم واهاليكم فهل
تكونون في طاعتنا وتؤدون الجزية إلينا والخراج فقالوا: اوف لنا بذلك ونحن نفعل
جميع ما شرطته علينا فعند ذلك اقبل أبو عبيدة رضي الله عنه إلى المسلمين وقال لهم:
قد رأيت من الرأي أن اؤمن هؤلاء من القتل وارد عليهم أموالهم وعيالهم فيكونوا
عبيدا لنا ويعمروا الأرض والبلاد ونأخذ خراجهم وجزيتهم فما انتم قائلون فما كنت
بالذي اقطع امرا إلا بمشورتكم فقالوا: الرأي في ذلك أيها الأمير أن رأيت صلاحا
للمسلمين.
قال الواقدي: ففرض على كل واحد أربعة دنانير وبذلك كتب
إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعند ذلك رد عليهم أموالهم واولادهم واقرهم على
بلادهم وكتب اسماءهم وامرهم بالرجوع إلى اوطانهم فلما استقروا في خيامهم اخبروا من
كان بالقرب منهم بحسن سيرة العرب وما عاملوهم به من الجميل وقالوا: لقد ظننا إنهم
يقتلوننا ويستعبدون اولادنا والآن قد رحمونا وأقرونا في بلادنا على اداء الجزية
والخراج.
قال الواقدي: فسمعت الروم ذلك فأقبلوا إلى ابي عبيدة رضي
الله عنه في طلب الأمان واداء الجزية والخراج.
ذكر فتح قنسرين
قال الواقدي: وبلغ الخبر إلى أهل قنسرين أن الأمير أبا
عبيدة يعطي الأمان من.
قصده فأحبوا أن يأخذوا الأمان من أبي عبيدة رضي الله عنه
واجمعوا رايهم على ذلك وأن ينفذوا رسولا من غير علم بطريقهم.
قال الواقدي: وكان على قنسرين والعواصم بطريق من بطارقة
الملك من أهل الشدة والبأس وكان أهل قنسرين يخافون منه وكان اسمه لوقا وصاحب حلب
عسكره مثل عسكره وسطوته مثل سطوته وكان الملك هرقل قد دعا بهما إليه فقالا له أيها
الملك ما كنا نترك ملكنا من غير أن نقاتل قتالا شديدا فشكرهما الملك هرقل على ذلك
ووعدهما أن يبعث إليهما جيشا عرمرميا وكانا منتظرين ذلك من وعد الملك لهما وكان مع
كل واحد منهما عشرة آلاف فارس إلا انهما لا يجتمعان في موضع واحد قال فلما سمع
صاحب قنسرين ما قد عزم عليه أهل قنسرين من الصلح مع ابي عبيدة غضب غضبا شديدا وعزم
أن يمكر بهم فجمع أهل قنسرين إليه وقال لهم: يا بني الأصفر ما تريدون أن اصنع مع
هؤلاء العرب وكأنكم بهم وقد اقبلوا إلينا يفتحون بلادنا كما فتحو أكثر بلاد الشام
فقالوا: أيها السيد قد بلغنا إنهم أصحاب وفاء وذمة وقد فتحوا أكثر البلاد بالصلح
والعدل ومن قاتلهم قاتلوه واستعبدوا اهله واولاده ومن دخل تحت طاعتهم اقروه في
بلده وكان آمنا من سطوتهم والرأي عندنا أن نصالح القوم ونكون آمنين على أنفسهم وأموالنا
فقال لهم البطريق: لقد اشرتم بالصواب والأمر الذي لا يعاب لأن هؤلاء العرب قوم
منصورون على من قاتلهم وها أنا اعقد لكم الصلح معهم سنة كاملة إلى أن توافينا جيوش
الملك هرقل ونعطف عليهم وهم آمنون فنبيدهم عن آخرهم فقالوا: افعلوا ما فيه الصلاح.
قال الواقدي: واتفق أهل قنسرين والبطريق على صلح
المسلمين وفي قلوبهم الغدر قال وأن لوقا البطريق دعا برجل من أصحابه اسمه اصطخر
وكان قسيسا عالما بدين النصرانية فصيح اللسان قوي الجنان يعرف العربية والرومية
وقد عرف الدينين إليهودية والنصرانية فقال لوقا يا ابانا سر إلى العرب وقل لهم
يصالحونا سنة كاملة حتى نبعد القوم بالحيلة والخداع ثم كتب الكتاب إلى الأمير ابي
عبيدة رضي الله عنه فقال بعد كلمة كفره اما بعد يا معاشر العرب أن بلدنا منيع كثير
العدد والرجال فما تأتونا من قبله ولو اقمتم علينا مائة سنة ما قدرتم علينا وأن
الملك هرقل قد استنجد عليكم من حد الخليج إلى رومية الكبرى ونحن قد بعثنا إليكم
نصالحكم سنة كاملة حتى نرى لمن تكون البلاد ونحن نريد منكم أن تجعلوا بيننا وبينكم
علامة من حد أرض قنسرين والعواصم حتى إذا همت العرب بالغارة بدت العلامة تريكم حد
ارضنا ونحن نصالحكم خفية من الملك هرقل لئلا يعلم فيقتلنا والسلام ثم خلع على
اصطخر خلعة سنية واعطاه بغلة من مراكبه وعشرة غلمان وسار حتى وصل إلى حمص فرأى
الأمير أبا عبيدة رضي.
الله عنه يصلي بالمسلمين صلاة العصر فوقف اصطخر ينظر ما
يفعلون ويعجب من ذلك فلما فرغوا من صلاتهم ونظروا إلى القسيس وثبوا إليه وقالوا
له: من أنت ومن اين اقبلت فقال أنا رسول ومعي كتاب فمثلوه بين يدي ابي عبيدة فهم
القسيس بالسجود له فمنعه أبو عبيدة رضي الله عنه من ذلك وقال له: نحن عبيد الله عز
وجل فمنا شقي ومنا سعيد: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا
زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}
[هود: 10، 10] فلما سمع اصطخر ذلك بهت وبقي لا يرد جوابا وهو متعجب مما تكلم به
الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فناداه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال له: ما
شأنك أيها الرجل ورسول من أنت فقال اصطخر اانت أمير القوم فقال خالد: لا بل هذا
اميرنا واشار إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فقال اصطخر أنا رسول صاحب قنسرين
والعواصم ثم اخرج الكتاب ودفعه إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فأخذه وقرأه على
المسلمين فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ما في الكتاب من صفة مدينتهم وكثرة
عددهم ورجالهم وتهديدهم بجيوش الملك هرقل حرك رأسه وقال لأبي عبيدة: وحق من ايدنا بالنصر
وجعلنا من امة محمد ﷺ الطاهر أن هذا الكتاب من عند رجل لا يريد الصلح بل يريد
حربنا ثم قال لاصطخر: تريدون أن تخدعونا حتى إذا جاءت جنود صاحبكم ورأيتم القوم
وقد جاءتكم نقضتم صلحنا وكنتم أول من يقاتلنا وأن رأيتم الغلبة لنا هربتم إلى
طاغيتكم هرقل فإن أردتم ذلك فنواعدكم الحرب مواعدة من غير أن يكون صلحا سنة كاملة
فإن لحق بكم جيش هذه السنة من الملك هرقل فلا بد من قتاله فمن اقام في المدينة ولم
يقاتل مع الجيش فهو على صلحنا لا نتعرض له قال اصطخر قد اجبناكم إلى ذلك فاكتبوا
لنا كتابا بذلك فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير اكتب لهم كتابا بمواعدة
الحرب سنة كاملة اولها مستهل شهر ذي القعدة سنة أربع عشرة من الهجرة النبوية قال
فكتب له أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك فلما فرغ من الكتاب قال له: اصطخر أيها
الأمير حد بلادنا معروف وبازائنا صاحب حلب وبلاده بحد بلادنا ونريد أن تجعل لنا
علامة فيما بيننا وبينكم حتى إذا طلب أصحابكم الغارة لا يتجاوزون ذلك.
قال الواقدي: فرضني أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك وقال
أنا ابعث من يحدد لكم ذلك قال اصطخر أيها الأمير ما نريد معنا أحدا من أصحابك نحن
نصنع عمودا وننصحه ويكون عليه صورة الملك هرقل فإذا رآه أصحابك لا يجاوزنه فقال
أبو عبيدة: رضي الله عنه افعل ذلك ثم دفع إليه الكتاب ونادى في عساكر المسلمين
وأصحاب الغارات من نظر إلى عمود فلا يتعداه ولا يتجاوزه بل يشن الغارة على ارض حلب
وحدها ولا يتجاوز العمود فليبلغ الشاهد الغائب.
قال الواقدي: ورجع اصطخر إلى بطريق قنسرين واعلمه بما
جرى له مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ودفع له الكتاب ففرح بذلك وقصد إلى عمود
عظيم وصنع عليه صورة الملك هرقل كأنه جالس على كرسي مملكته.
قال الواقدي: وكانت خيل المسلمين تضرب غارتها إلى اقصى بلاد
حلب والعمق وانطاكية ويحيدون عن حد قنسرين والعواصم إلا يقربون العمود قال عمر بن
عبد الله الغبري عن سالم بن قيس عن ابيه سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كان صلح
المسلمين لاهل قنسرين والعواصم على أربعة آلاف دينار ملكية ومائة اوقية من الفضة
والف ثوب من متاع حلب والف وسق من طعام.
قال الواقدي: حدثنا عامر قال كنا في بعض الغارات إذ
نظرنا إلى العمود وعليه صورة الملك هرقل فجئنا عنده وجعلنا نجول حوله بخيولنا
ونعلمها الكر والفر وكان بيد أبي جندلة قناة تامة فقرب به الجواد من الصورة وهو
غير متعمد ذلك ففقأ عين الصورة وكان عندها قوم من الروم وهم غلمان صاحب قنسرين
يحفظون العمود فرجعوا إلى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا ودفع صليبا من الذهب
إلى بعض أصحابه وضم إليه ألف فارس من أعلاج الروم وعليهم الديباج الرومي وعليهم
المناطق المجوفة وأمر اصطخر أن يسير معهم وقال له: ارجع إلى أمير العرب وقل له
غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم ومن غدر جندل فأخذ اصطخر الصليب وسار مع ألف فارس من
الروم حتى اشرف على ابي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو
مرفوع اسرعوا إليه ونكسوه فاستقبل أبو عبيدة القوم وقال من انتم قال اصطخر أنا رسول
صاحب قنسرين إليك وهو يقول: لك غدرتم ونقضتم العهد الذي بيننا وبينكم فقال أبو عبيدة: رضي
الله عنه وحق رسول الله ﷺ ما علمت بذلك وسوف اسأل عنه ثم نادى يا معاشر الناس من
فقأ عين التمثال فليخبرنا بذلك فقالوا: أيها الأمير أبو جندلة وسهل بن عمرو صنعا
ذلك من غير أن يتعمداه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لاصطخر أن صاحبنا فعل ذلك من
غير أن يتعمد فما الذي يرضيك منا فقالت الأعلاج: لا نرضى حتى تفقأ عين ملككم
يريدون بذلك أن يتطرقوا إلى رقاب المسلمين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ها أنا فاصنعوا بي مثل ما
صنع بصورتكم قالوا: لا نرضى بذلك إلا بعين ملككم الأكبر الذي يلي أمر العرب كلها
فقال أن عين ملكنا تمنع من ذلك.
قال الواقدي: وغضب المسلمين حين ذكر الأعلاج عين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وهموا بقتل الأعلاج فنهاهم أبو عبيدة رضي الله عنه عن ذلك فقال
المسلمون أيها الأمير نحن دون امامنا فنفديه بأنفسنا ونفقأ عيوننا دون عينه فقال
اصطخر عندما نظر.
إلى المسلمين وقد هموا بقتله وقتل من معه من الأعلاج لا
نفقا عين عمر ولا عيونكم ولكن نصور صورة اميركم على عمود ونصنع به مثل ما صنعتم
بصورة ملكنا فقالت المسلمون أن صاحبنا فعل ذلك من غير تعمد وانتم تريدون العمد
فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه مهلا يا قوم فإذا رضي القوم بصورتي فقد اجبتم إلى
ذلك ولا يتحدث القوم عنا اننا عاهدنا وغدرنا فإن هؤلاء القوم لا عهد لهم ولا عقل
ثم اجابهم إلى ذلك.
قال الواقدي: فصوروا ابي عبيدة رضي الله عنه على عمود
وجعلوا له عينين من زجاج واقبل فارس منهم حنقا ففقأ عين الصورة ثم رجع اصطخر إلى
صاحب قنسرين واخبره بذلك فقال لقومه بهذا نالهم ما يريدون قال واقام أبو عبيدة على
حمص يغير يمينا وشمالا ينتظر خروج السنة لينظر ما بعد ذلك.
قال الواقدي: وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر بن الخطاب رضي
الله ولم يرد عليه شيء من الكتب والفتح فأنكر عمر ذلك وظن به الظنون وحسب إنه قد
داخله خبر وقد ركن إلى القعود عن الجهاد فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين
إلى أمين الأمة ابي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله
إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ وآمرك بتقوى الله عز وجل سرا وعلانية وأحذركم عن
معصية الله عز وجل وأحذركم وانهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم: {قُلْ إِنْ
كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 2] الاية وصلى الله على خاتم النبيين وامام المرسلين
والحمد لله رب العالمين فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قرأه على
المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين عمر يحرضهم على القتال وندم أبو عبيدة رضي الله عنه
على صلح قنسرين ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب رضي الله
عنه وقالوا:
أيها الأمير ما يقعدك عن الجهاد فدع أهل شيزر وقنسرين
واطلب بنا حلب وانطاكية فلعل الله أن يفتحهما على ايدينا وقد انقضى اجل الصلح وما
بقي إلا القليل وما البقاء إلا للملك الجليل فعزم أبو عبيدة على المسير إلى حلب
وعقد راية لسهل بن عمرو وعقد راية اخرى لمصعب بن محارب اليشكري وامر عياض بن غانم
أن يسير على مقدمتهم واتبعه خالد بن الوليد وسار أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أن
نزل على الرشين وصالح اهلها وسار الىحماة فخرج اهلها إليه ومعهم الإنجيل وقد رفعه
الرهبان على اكفهم والقسس أمام القوم يطلبون منه الصلح والذمام فلما رآهم أبو
عبيدة رضي الله عنه وقف وقال لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها الأمير نريد أن نكون في صلحكم
وذمامكم فأنتم أحب إلينا.
قال الواقدي: فصالحهم أبو عبيدة وكتب لهم كتاب الصلح
والذمام وخلف رجالا من المؤمنين وسار حتى نزل إلى شيزر فاستقبلوه فصالحهم وقال
لهم: اسمعتم للطاغية هرقل خبرا فقالوا: ما سمعنا له خبرا غير إنه اتصل بنا الخبر
أن بطريق قنسرين قد كتب إلى الملك هرقل يستنجد عليكم وقد بعث بجبلة بن الأيهم الغساني
من بني غسان والعرب المنتصره ومعه بطريق عمورية في عشرة آلاف فارس وقد نزلوا على
جسر الحديد فكن منهم على حذر أيها الأمير فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الواقدي: واقام الأمير أبو عبيدة على شيزر وبقي مرة
يقول: اسير إلى حلب ومرة يقول: اسير إلى انطاكيه فجمع امراء المسلمين إليه وقال:
أيها الناس قد بلغني أن بطريق قنسرين قد نقض العهد وارسل للملك هرقل والخبر كذا
وكذا فما انتم قائلون فقالوا: أيها الأمير دع أهل قنسرين والعواصم وسر بنا إلى حلب
وانطاكية فقال خذوا اهبتكم رحمكم الله.
قال الواقدي: وكان بقي من الصلح والعهد الذي بينهم وبين
أهل قنسرين شهر او اقل من ذلك فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه ينتظر انفصال العهد
قال وكانت عبيد العرب يأتون بجراثيم الشجر من الزيتون والرمان وغير ذلك من الاشجار
التي تطعم الثمار فعظم ذلك على الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فدعا العبيد إليه
وقال: ما هذا الفساد فقالوا: أيها الأمير أن الأحطاب متباعدة منا وهذه الاشجار قريبة فقال
الأمير أبو عبيدة عزيمة مني على كل حر وعبد قطع شجرة لها طعم وثمر لاجازينه
ولانكلن به فلما سمع العبيد ذلك النكال جعلوا يأتون بالأحطاب من اقصى الديار قال
سعيد بن عامر وكان معي عبد نجيب وكان اسمه مهجعا وقد شهد معي الوقائع والحروب وكان
جريء القلب في القتال وكان إذا خرج في غارة او في طلب حطب يتوغل ويبعد فخرج هو
وجماعة من العبيد ممن شهد الوقائع في طلب الحطب فأبطأ خبره على سيده سعيد بن عامر
فركب جواده وخرج في طلبه وجعل يقفو أثره وإذا لاح له شخص وقد سال دمه على وجهه
وصبغ سائر جسده وما كاد يمشي خطوة واحدة إلا ويهوي على وجهه قال سعيد بن عامر
فنزلت إليه وقلت له: ما وراءك من الأخبار فقال هلكة ودمار يا مولاي فقلت: عليك يا
ابن الأسود حدثني بخبرك قال سعيد فلم يكد يقف حتى سقط على وجهه فنضحت على وجهه ماء
فسكن ما به فقال: يا مولاي انج بنفسك وإلا ادركك القوم يصنعون بك مثل ما صنعوا بي
فقلت: ما القوم الذين صنعوا بك ما أرى فقال خرجت يا مولاي أنا وجماعة من الموالي
لنحطتب حطبا فتباعدنا كثيرا في البر وإذا نحن بكتيبة من الخيل زهاء عن ألف فارس كلهم
عرب وفي اعناقهم صلبان الذهب والفضة وهم معتقلون بالذهب والفضة.
والرماح فلما نظروا إلينا اسرعوا نحونا وداروا بنا
وعزموا على قتلنا فقلت لأصحابي: دونكم وإياهم.
فقالوا:
ويحك ومن يقاتل وليس لنا طاقة بقتال هذه الكتيبة والخيل
وما لنا إلا أن نلقي بأيدينا إلى الأسر فهو اهون من القتال فقلت: لا والله ما سلمت
نفسي إليهم دون أن اقاتل قتالا شديدا فلما رأوا مني الجد فعلوا مثل فعلي فقاتلنا القوم
وقاتلونا فقتلوا منا عشرة وأسروا عشرة وأما أنا فأثخنت بالجراح حتى سقطت على وجهي
فرجعوا عني وبقيت كما ترى قال سعيد بن عامر الأنصاري فغمني والله ما نزل بالعبيد
فأردفته ورائي ورجعت على أثري وإذا بالخيل قد طلعت من ورائي كأنها الريح الهبوب او
الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب وإذا بخيل غسان أحدقت بالرماح الطوال وهم يقولون
نحن بنو غسان من حزب الصليب والرهبان قال سعيد بن عامر فناديتهم أنا من أصحاب محمد
المختار ﷺ فأسرع بعضهم الي وهم أن يعلوني بالسيف فناديته يا ويلك أتقتل رجلا من
قومك فقال من أي الناس أنت قلت: أنا من الخزرج الكرام فرد السيف وقال أنت طلبة
سيدنا جبلة بن الأيهم وحق المسيح فقلت: ومن اين يعرفني جبلة حتى يطلبني فقال إنه
يطلب رجلا من أهل اليمن من انصار محمد بن عبد الله ثم قال سر بنا طائعا وإلا سرت كرها
قال سعيد بن عامر فسرت والجيش معي حتى اشرفنا على جيش عرمرم وعنده اعلام وصلبان قد
رفعت فلم ازل مع القوم حتى أتوا بي إلى مضرب جبلة بن الأيهم وإذا به جالس على كرسي
من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من
الياقوت فلما وقفت بين يديه رفع رأسه الي وقال من أي عرب أنت قلت: أنا من اليمن
قال اكرمت من أيها فقلت: أنا من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو وبن عامر بن حارثة بن
ثعلبة بن امرىء القيس بن عبد الله بن الأزور بن عوف بن مالك بن كهلان بن سبأ فقال
جبلة من أي الملأ أنت نسبا فقلت: أنا من ولد الخزرج بن حارثة من انصار محمد بن عبد
الله عليه الصلاة والسلام فقال جبلة وأنا من قومك من بني غسان فقلت: أنا من القبيلة
التي نسبت إليها فقال أنا جبلة بن الأيهم الذي رجعت عن الإسلام فما رضي صاحبكم عمر
بن الخطاب أن يكون مثلي لهذا الدين ناصرا حتى يأخذ مني القود لعبد حقير وأنا ملك
اليمن وسيد غسان فقلت: يا جبلة أن حق الله اوجب من حقك وديننا لا يقوم إلا بالحق
والنصفة وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخاف ولا تأخذه في الله لومة لائم فقال
لي ما اسمك فقلت: سعيد بن عامر الأنصاري فقال اوطيء يا سعيد قال فجلست فقال الك
عهد بحسان بن ثابت الأنصاري فقلت: شاعر رسول الله ﷺ ومن قال فيه المصطفى أنت حسان
ولسانك حسام فقال لي كم لك منذ فارقته فقلت: عهدي به قريب وقد دعاني إلى دعوة
صنعها وامر مولاته أن تنشد بها شعرا فيك فانشدت:
لله در عصابة نادمتهم
...
يوما بجلق في الزمان الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم
...
لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة انسابهم
...
شم الأنوف من الطراز الأول
الملحقين فقيرهم بغنيهم
...
المشفقين على اليتيم الأرمل
اولاد جفنة حول قبر ابيهم
...
قبر ابن مارية الكريم المفضل
ثم خرجنا إلى الشام وهذا آخر عهدي به قال جبلة بن الأيهم
اوحفظ لي هذه المكرمة قلت: نعم قال فأمر لي بثوب من الكتان الرومي وفيه شيء من الورق
وقال أنا امرت لك بالكتان كي تلبسه ولا تحرمه ثم قال لي بحق ذمة العرب ما كنت تصنع
في المكان الذي اسرت فيه فقلت: إن الصدق اوفى ما استعمله الرجل أنا من أصحاب
الأمير ابي عبيدة بن الجراح وقد قصدنا نريد حلب وانطاكية فقال جبلة اعلم أن الملك
قد بعثني أنا وهذا البطريق صاحب عمورية حتى ننصر صاحب قنسرين فإنه قد كادكم بصلحه
لكم وأنا منتظر أن يلاقينا بهذا المكان ولكن ارجع إلى صاحبك ابي عبيدة وحذره من
اسيافنا وقل له يرجع من حيث قدم ولا يتعرض لبلاد هرقل وسوف ينزع من ايديكم ما قد
ملكتموه من الشام قال سعيد بن عامر فركبت واردفت غلامي وسرت حتى أتيت عسكر
المسلمين فأسرع الناس الي وقالو ااين كنت يا ابن عامر فأتيت خيمة الأمير ابي عبيدة
رضي الله عنه وحدثته بقصتي مع جبلة بن الأيهم فقال لي لقد خلصك الله بذكرك لحسان
بن ثابت الأنصاري ثم جمع أصحاب رسول الله ﷺ للمشورة ثم قال: أيها الناس ما ترون من
قصة هذا البطريق وقد وفينا له وكادنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن البغي مصرعة
وأن كادنا كان الله من ورائه بالمرصاد وسوف نكيده اعظم مكيدة وأنا اسير إلى لقائه
بعشرة رجال من أصحاب رسول الله ﷺ فقال أبو عبيدة: أنت لها يا أبا سليمان ولكل كريهة
فخذ من أحببت من أصحاب رسول الله ﷺ فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اين عياض بن
غانم الاشعري اين عمرو بن سعيد اين مصعب بن محارب اليشكري اين أبو جندلة بن سعيد
المخزومي اين سهل بن عمرو العامري اين رافع بن عميرة الطائي اين المسيب بن نجية
الفزازي اين سعيد بن عامر الأنصاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي اين عاصم بن عمر
القيس اين عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه فاجابوه بالتلبية.
قال الواقدي: وكان ضرار بن الأزور رضي الله عنه رمد
العينين لم يحضر هذه الوقعة فقال لهم خالد بن الوليد: هلموا فوجدوه قد تدرع بدرع
مسيلمة الكذاب الذي.
استلبه منه يوم اليمامة واشتمل بلامة حربه وركب جواده
وقال لعبده همام سر معي حتى ترى مني عجبا فسار معه وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه
والعشرة من أصحاب رسول الله ﷺ وأبو عبيدة يا سعيد أما اخبرك جبلة بن الأيهم من اين
يأتي البطريق صاحب قنسرين إليه فقال: نعم يا أبا سليمان اخبرني فقال له: خذنا في
الطريق إلى جبلة بن الأيهم رضي الله عنه يدعو لهم بالنصر فأقبل خالد على سعيد بن
عامر الأنصاري وقال حتى نكمن له فيه فإذا أتى البطريق صاحب قنسرين كدناه كما كادنا
ودمرناه ومن معه فسار سعيد أمام القوم يدلهم ويجد السر طالب عسكر جبلة بن الأيهم
وكان مسيرهم ليلا فلما وصلوا إلى قرب النيران وسمعوا اصوات القوم عدل بهم سعيد بن
عامر إلى صوب طريق البطريق وكمن بمن معه من الرجال إلى وقت الصباح فلم يأت أحد
فصلى خالد بأصحابه صلاة الفجر وهم في المكمن فبينما هم في المكمن إذ اشرف عليهم
جيش جبلة بن الأيهم والعرب المتنصرة وصاحب عمورية وهم طالبون ارض العواصم وقنسرين
فقال المسلمون لخالد يا أبا سليمان أما ترى هذا الجيش الذي قد اشرف علينا في عدد
الشوك والشجر فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: فما يكون من كثرتهم إذا كان النصر
لنا والله معنا فاختلطوا بهم انتم وكونوا في جملتهم كأنكم من جيشهم إلى أن نلتقي
بالبطريق صاحب قنسرين ويفعل الله تعالى ما يشاء ويختار فعند ذلك اختلطوا بهم
وصاروا في جملتهم وهم لا يفترقون قال رافع بن عميرة الطائي فلما اشرفنا على حد
صلحنا ولاح لنا بلد العواصم وقنسرين إذا ببطريقها قد استقبلنا وقد رفع امامه
الصليب واخرج بين يديه القسوس والرهبان وهم يقرأون الإنجيل وقد ارتفعت اصواتهم
بكلمة الكفر ودنا بعضهم من بعض.
وخرج البطريق أمام الصحابة ليأتي إلى جبلة بن الأيهم يسلم
عليه فاستقبله خالد بن الوليد رضي الله عنه مواجها له وحوله أصحاب رسول الله ﷺ
فلما قرب البطريق منهم قال سلمكم المسيح وأبقاكم الصليب فقال خالد: ويا ويلك ما
نحن من عباد الصليب بل نحن من أصحاب رسول الله ﷺ محمد الحبيب وكشف خالد بن الوليد
رضي الله عنه وجهه ونادى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
يا عدو الله أنا خالد بن الوليد أنا المخزومي صاحب رسول الله ﷺ وضرب بيده البطريق
وقبض عليه واتنزعه من سرجه وبرز أصحاب رسول الله عليه وسلم وسلوا السيوف على
أصحابه وارتفعت الضجة والجلبة وأعلن العدو بكلمة الكفر وضج المسلمون بكلمة التوحيد
وسمع جبلة وصاحب عمورية اصوات المسلمين وقد ارتفعت بالتهليل والتبكير فانزعجوا
لذلك ونظروا إلى السيوف وقد جردت والرماح وقد شرعت فبرزوا نحو أصحاب رسول الله ﷺ وأحاطوا
بهم من كل جانب ومكان فلما نظر خالد إلى ما دهمه ونزل بأصحابه الذين معه والبطريق صاحب
قنسرين لا يفارقه وقد ملك قياده وهو خائف أن.
ينفلت من يديه أو تجري عليه حادثة قبل أن يقتله هم خالد
أن يقتله ورفع السيف ليعلوه به فتبسم البطريق من فعاله وعجب خالد من ضحكه وقال
ويلك مم ضحكك فقال البطريق لانك مقتول أنت ومن معك وتريد قتلي وأن أنت ابقيت علي
فهو اصوب فتركه خالد ولم يقتله ثم صاح خالد بأصحابه أصحاب رسول الله ﷺ كونوا حولي
واحموا عني واصبروا على ما نزل بكم ولا يكثر عليكم من أحدق بكم فإن اشد ما تخافون
منه القتل والموت منية خالد في سبيل الله وإني والله اهديت نفسي للقتل مرارا لعلي
ارزق الشهادة واعلموا رحمكم الله أن حجتنا واضحة ومفوضة إلى الله عز وجل وكأني بكم
وقد وصلتم إلى ربكم وسكنتم دارا لا يموت ساكنها ثم قرأ: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا
نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:4] .
جبلة يحارب خالدا
قال الواقدي:
فاجتمع أصحاب رسول الله ﷺ إلى خالد رضي الله عنه وداروا
من حوله وسار عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه عن يمينه ورافع بن عميرة
عن يساره وعبده همام من ورائه وأصحابه محدقون به وسلم خالد البطريق صاحب قنسرين
إلى عبده همام وقال اوثقه إلى جانبك ولا تبرح من مكانك وأبشر بالنصر من الله عز وجل.
قال الواقدي: واقبلت إليهم العرب المنتصرة يقدمهم جبلة
بن الأيهم في عنقه صليب من الذهب الأحمر وفيه طوق من الجوهر وعليه ثياب الديباح
المزركش ومن فوقه درع مذهب الزرد وعلى رأسه بيضة من الذهب وعلى أعلاها صليب من
الجوهر وفي يده رمح طويل وسنانه يضيء كالقنديل وصاحب عمورية كالبرج المشيد ومن
حوله الأعلاج المدلجة وقد أحدق بهم الجيش من كل جانب فلما نظر صاحب عمورية إلى
خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد ملك صاحب قنسرين وهو في يده اسير خاف أن يعجل
عليه خالد فأقبل إلى جبلة وقال له: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين إلا ترى
إلى هذا العربي ومعه وهم عشرة رجال وقد أحدق بهم هذا الجيش العظيم وما يفكرون فيه
وقد ملكوا صاحبنا وهو معهم اسير ولا يخلص من ايديهم وإني خائف عليه أن يقتلوه وهو
عزيز عند الملك هرقل فاخرج إلى هذا العربي وقل له يخلي صاحبنا ويوصله إلينا حتى
نجود لهم بأنفسهم فإذا اطلقوا صاحبنا حملنا عليهم وقتلناهم عن آخرهم قال رافع ابن عميرة
الطائي فبينما نحن وقوف حول خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الروم والعرب
المنتصرة محدقون بنا ونحن لا نفكر في كثرتهم لانا واثقون بالله عز وجل وإذا بجبلة
بن الأيهم وهو ينادي برفيع صوته ويقول: من انتم من أصحاب محمد المعروفين من انتم
من العرب التابعين اخبرونا من قبل أن ينزل بكم.
الدمار فكان المكلم له خالد وبادره بالخطاب وقال له: بل
نحن من أصحاب محمد المختار المعروفين بأهل القبلة والإسلام والأكرام والأنعام وأما
سؤالك عن انسابنا فنحن الآن من قبائل شتى وقد جعل الله كلمتنا واحدة ونحن مجتمعون عليها
وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله زاده الله تعالى شرفا فلما سمع جبلة كلام
خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا إذ لم يفكر فيه ولا فيمن معه.
فقال جبلة يا فتى أنت أمير هؤلاء العرب فقال خالد: لست
أميرهم بل اخوهم في الإسلام وهم اخواني المؤمنون فقال جبلة من أنت من أصحاب محمد
بن عبد الله ﷺ فقال خالدا أنا المعروف بكبش بني مخزوم أنا خالد بن الوليد صاحب رسول
الله ﷺ وهذا الرجل الذي عن يميني هو عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه
وهذا الذي عن شمالي من أهل اليمن من كرام طيء وهو رافع بن عميرة الطائي صهري
وفؤادي وذلك إني أخذت من كل قبيلة شجاعها المعروف وبطلها الموصوف فلا تزدر بقتلنا
ولا تفرح بكثرتهم فما انتم في القتال إلا كطيور وقع عليها صائدها وهي كامنة في
اوكارها فألقى القانص الشبكة عليها فما انفلت منها إلا النجيب.
قال الواقدي: فزاد غضب جبلة من كلام خالد وقال له: ستعلم
أن كلامك عليك ميشوم إذا دارت بك الاسنة وبقيت أنت ومن معك طعاما للوحوش في هذه
الفلاة تمزقكم بكرة وعشيا فقال له خالد: ذلك لا يكثر علينا وهو سهل لدينا فأنت من
العرب التي قد نسبت لعبادة الصليب فقال أنا سيد بني غسان ومن ملوك همدان أنا ملك
غسان وتاجها أنا جبلة بن الأيهم فقال أنت المرتد عن دين الإسلام ومن اختار الضلالة
على الهدى وسلك سبيل الغي وصل وغوى فقال جبلة لست كذلك أنا الذي اخترت العز على
الذل والهوان فقال خالد: فانك على ذل نفسك حريص وإنما الكرامة غدا في دار البقاء والبعد
عن دار الشقاء فقال جبلة: يا اخا بني مخزوم لا تفرط علينا في المقال فإنما بقائي عليك
وعلى أصحابك بسبب هذا الأسير الذي في يدك لاني اخاف أن حملت عليكم قتلته وهو معظم
عند الملك هرقل وقريب عنده في النسب فأطلقه من يدك حتى أجود عليكم بأنفسكم فقال
خالد: أما اسيري فلا اطلقه من يدي حتى اقتله ولا أبالي لما صنع بي بعده وأما قولك
تحمل علي وعلى من معي بهذه الجموع فما انصفت في المقال فإذا أردت النصفة في القتال
فجمعكم عظيم وعددكم كثير ونحن عشرة رجال وقد فارس وهذا اميركم فإن قتلتمونا فقد
خلصتم اسيركم وأن اظفرنا الله أحدقت بنا اعنت خيولكم واسنة رماحكم وطيال سيوفكم
فابرزوا فارسا بكم وما النصر إلا من عند الله فما يعظم عليكم هلاك اسيركم إذا هلكت
أنفسكم قبله.
قال الواقدي: فعند ذلك نكس جبلة راسه واقبل يحدث صاحب
عمورية بجواب خالد بن الوليد رضي الله عنه فغضب صاحب عمورية غضبا شديدا وانتضى
سيفه فلما نظر خالد بن الوليد إلى البطريق وقد جرد سيفه علم إنه يريد القتال فلما
هم صاحب عمورية بالحملة امسكه جبلة ومنعه عن الحملة واوقفه تحت صليبه واقبل جبلة على
خالد بن الوليد وقال: يا اخا بني مخزوم أن الحرب كما ذكرت تحتمل النصفة وهؤلاء
بنوا الأصفر اعلاج الروم غنم ما يعرفون النصفة في البراز وقد حدثتهم بحديثك معي
وقد رضوا منك بالمبارزة فمن أراد منكم المبارزة فليبرز قال رافع بن عميرة الطائي
فعزم خالد بن الوليد أن يبرز فمنعه عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه
وقال: يا أبا سليمان وحق القبر الذي ضم اعضاء رسول الله ﷺ وحق شيبة ابي بكر الصديق
رضي الله عنه لا يبرز لهؤلاء القوم غيري وابذل المجهود فيهم فلعلي الحق بأبي بكر
الصديق فتركه خالد وقال اخرج شكر الله مقالك وعرف لك مفالك قال فخرج عبد الرحمن
ابن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
وكان دفعه له من قسمة غنيمة وقعة اجنادين وكان الجواد من خيل بني لخم وجذام من
العرب المتنصرة وكان كالطود العظيم وعبد الرحمن غارقا في الحديد والزرد النضيد وبيده
قناة تامة الطول فجال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة ودعاهم
إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق ثم جعل يقول:
أنا ابن عبد الله ذي المعالي
...
والشرف الفاضل ذي الكمال
أبي المجيد الصادق المقال
...
أدين هذا الدين بالفعال
ثم طلب البراز قال رافع بن عميرة فخرج إليه خمسة فوارس
من شجعان الروم فما كان يجول عبد الرحمن على الفارس إلا جولة واحدة فيصرعه قتيلا
فلما قتل الخمسة فوارس توقفوا عنه فهم بالحملة على عسكر الروم فخرج إليه جبلة بن الأيهم
وقد اشتد به الغضب فلما قرب من عبد الرحمن قال له: يا غلام قد تعديت علينا في
فعالك وبغيت علينا في قتالك فقال عبد الرحمن وكيف ذلك وما البغي من شيمتنا قال
جبلة لانك قد ملأت الأرض من قتلانا وما خرجت إليك اقاتلك لانك لست لي كفؤا في
القتال وإنما خرجت إليك لأن رجلا من أصحابك قد خرج يعينك وليس هذا من شيم الأشراف
والانصاف قال فلما سمع عبد الرحمن كلام جبلة تبسم وقال: يا ابن الأبهم تريد أن
تخدعني وأنا تربية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد شهدت معه الوقائع
والقتال فقال جبلة: لست مخادعا وما قلت إلا حقا فقال عبد الرحمن فأخرج بإزاء من
خرج معي فارسا من قومك أن كنت صادقا في مقالتك واحمل على علي فاني كفء كريم.
قال الواقدي: فلما نظر جبلة بن الأيهم إلى عبد الرحمن
وانه لا يؤتي من قبل الخداع والحيل قال هل لك يا غلام أن تلقي بيدك إلينا واغمسك
في ماء المعمودية غمسة تخرج منها نقيا من الذنوب كما خرجت من بطن أمك وتكون من حزب
الصليب والإنجيل وتأكل القربان وتأخذ الجائزة العظيمة من الملك هرقل وازوجك ابنتي
واقاسمك نعمتي واتفضل عليك باكرامي وانعامي وأنا الذي مدحني شاعر نبيكم حيث يقول:
أن ابن جفنة من بقية معشر
...
لم تغذهم آباؤهم باللوم باللوم
يعطي الجزيل ولا يراه بأنه
...
إلا كبعض عطية المذموم
لم ينسني بالشام إذ هو بارح
...
يوما ولا متنصرا بالروم
أن جئته يوما تقر بمنزل
...
تسقي براحته من الخرطوم
فأسرع إلى ما عرضته عليك لتنجو من المهالك وتكون في
النعم والعيش السليم فقال عبد الرحمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يا ويلك يا
ابن اللئام أتدعوني من الهدى إلى الضلال ومن الإيمان إلى الكفر والجهالة وأنا ممن
وقر الإيمان في قلبه وعرف رشده من غيه وصدق نبي الله وابغض من كفر بالله فدونك
والقتال ودع عنك الخديعة والمحال وتقدم إلى ما عزمت عليه حتى أضربك ضربة أعجل بها حمامك
وارغم بها انفك وتستريح العرب من أن تنسب إليك لانك كافر بالرحمن وعابد للصلبان
قال فغضب ج 4 بلة من كلام عبد الرحمن جعل عليه وهم به ورفع رمحه يريد أن يطعنه
فزاع عبدلارحمن من الطعنة وحمل على جبلة حملة عظيمة وتطاعنا بالرماح حتى كل عبد
الرحمن من حمل قناته فرماها من يده وانتضى سيفه وتعاركا في الحرب فهجم عبد الرحمن
على جبلة وضرب رمحه فبراه فرمى جبلة باقي الرمح من يده وانتضى سيفه من غمده وكان
من سيوف كندة من بقايا كأنه صاعقة بارقة ما ضرب به شيءا إلا براه وحمل على عبد
الرحمن رضي الله عنه حملة عظيمة قال رافع بن عميرة الطائي: فعجبنا والله من عبد
الرحمن وصبره على قتال جبلة ومنازلته على صغر سنه وقلة أعوانه ثم التقيا بضربتين
واصلتين فسبقه عبد الرحمن بالضربة فأخذها جبلة من حجفته فقطع الدرق ونزل السيف إلى
البيضة فاثنى سيف عبد الرحمن عنها لأنها ذات سقاية عظيمة فجرحه جرحا واضحا اسأل
دمه وضربه جبلة ضربة واصلة فقطع ما كان عليه من الزرد والدروع والثياب ووصلت
الضربة إلى منكبه فجرحته فلما أحسن عبد الرحمن رضي الله عنه بالضربة قد وصلت إليه
ثبت نفسه وارى قرينه كأن الضربة لم تصل وحرك جواده واطلق عنان فرسه حتى لحق بخالد
بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه فلما وصل إليهم قال له خالد: قد وصل إليك عدو الله
بضربته فقال: نعم وأظهر له ضربته وما لحقه فأخذوه.
عن فرسه وسدوا جراحه فقال: يا ابن الصديق أن كان جبلة قد
وصل إليك بضربته فوحق بيعة ابيك لافجعنهم في اسيرهم كما فجعوني بك ثم صاح خالد
بعبده همام وقال قدم هذا العلج فقدمه بين يديه فضربه بسيفه فأطاح رأسه عن جسده
فلما نظرت الروم إلى صاحبهم وقد قتله خالد فجعهم ذلك وغضب جبلة وقال أبيتم إلا
الغدر وقتلتم صاحبنا ثم صاح في الروم والعرب المتنصرة وهموا بالحملة ونظر خالد
إليهم وقد حملوا على المسلمين فقال لعبده همام قف أنت عند عبد الرحمن فامنع عنه من
أراده بسوء ثم قال لأصحابه: أصحاب رسول الله ﷺ لا يخرج أحد منكم عن صاحبه وكونوا حولي فما
اسرع الفرج والنصر من الله عز وجل فوقف أصحاب رسول الله ﷺ حول خالد بن الوليد رضي
الله عنه كما امرهم وما قصدهم إلا من آيس من نفسه وحملت الروم والعرب المتنصرة بأجمعهم
وثبت لهم المسلمون الأخيار وعظم بينهم القتال ودارت بهم الأهوال قال ربيعة بن عامر
والله لقد كان خالد بن الوليد كلما كثرت الخيل حولنا وازدحمت علينا يتقيها بنفسه
ويفرقها بسيفه ولم نزل كذلك حتى أخذنا العطش والظما قال رافع بن عميرة الطائي فلما
رايت ذلك قلت لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان لقد نزل بنا القضاء فقال والله لقد
صدقت يا أبا عميرة لاني نسيت القلنسوة المباركة ولم اصحبها معي.
قال الواقدي: وقد عظم عليهم الأمر وعز منهم الصبر وأخذهم
الانبهار ورأوا من المشركين الدمار والأرض قد ملئت من قتلى المشركين وهم بين الروم
كأنهم أسرى واذ قد نادى بهم مناد وهتف بهم هاتف وهو يقول: خذل الأمن ونصر الخائف
أبشروا يا حملة القرآن جاءكم الفرج من الرحمن ونصرتم على عبدة الأوثان هذا وقد
بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر ودارت عليهم الحوافر.
قال الواقدي: حدثنا بسرة عن اسحق بن عبد الله قال كنت مع
ابي عبيدة رضي الله عنه فبينما نحن في شيرزة وابو عبيدة في مضربه وإذا به قد خرج
في بعض الليل من مضربه وهو ينادي النفير النفير يا معشر المسلمين لقد أحيط بفرسان
الموحدين قال فأسرعنا إليه من كل جانب ومكان وقلنا له ما نزل بك أيها الأمير فقال
الساعة كنت نائما إذ طرقني رسول الله ﷺ وجرني وقال لي معنفا يا ابن الجراح أتنام عن
نصرة القوم الكرام فقم والحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أحاط به القوم
اللئام وإنك تلحق به أن شاء الله تعالى رب العالمين.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع المسلمون قول ابي
عبيدة رضي الله عنه تبادروا إلى لبس السلاح والزرد وركبوا خيولهم وساروا يريدون
خالدا ومن معه قال فبينما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على المقدمة في أوائل
الخيل إذ نظر إلى فارس يسرع به جواده وهو أمام الخيل ويكر في سيره كرا فأمر أبو عبيدة
رضي الله عنه رجالا.
من المسلمين أن الحقوا به فلم يقدروا على ذلك لسرعة
جواده قال فلما كلت الخيل عن ادراكه نظر أبو عبيدة إليه وظن إنه من الملائكة قد
ارسله الله امامهم غير إنه نادى به الأمير أبو عبيدة على رسلك أيها الفارس المجد
والبطل المكد ارفق بنفسك يرحمك الله فوقف الفارس حين سمع النداء فلما قرب أبو
عبيدة من الفارس إذا هي أم تميم زوجة خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال لها أبو
عبيدة: ما حملت على المسير امامنا فقالت: أيها الأمير إني سمعتك وانت تصيح وتضج
بالنداء وتقول أن خالدا أحاطت به الأعداء فقلت أن خالدا ما يخذل أبدا ومعه ذؤابة
المصطفى ﷺ إذ حانت مني التقاتة إلى القلنسوة المباركة وقد نسيها فأخذتها وأسرعت
إليه كما ترى فقال أبو عبيدة: لله درك يا أم تميم سيري على بركة الله وعونه قالت أم
تميم: كنت في جماعة نسوة من مذحج وغيرهم من نساء العرب والخيل تطير بنا طيرا حتى
اشرفنا على الغبرة والقتال ونظرنا الاسنة والصوارم تلوح في القتال كأنها الكواكب
وما للمسلمين حس يسمع قالت: فانكرنا ذلك وقلنا أن القوم قد وقع بهم عدوهم فعند ذلك
كبر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وحمل وحملت المسلمون قال رافع بن عميرة فبينما
نحن قد أيسنا من أنفسنا إذ سمعنا التهليل والتكبير فلم تكن إلا ساعة حتى أحاط جيش
المسلمين بعسكر الكافرين ووضعوا السيوف من كل جانب وعلت الأصوات وارتفعت الزعقات
قال مصعب بن محارب اليشكري فرأيت عبدة الصلبان وهم هاربون ورأيت خالد بن الوليد
رضي الله عنه وهو ثابت في سرجه متشوف إلى الأصوات من اين هي وإذا بفارس قد خرج من
الغبار وهو يسوق فرسان الروم بين يديه ويهربون منه حتى أزاح من حولنا الكتائب والرجال
فأسرع خالد بن الوليد إليه وقال من أنت أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام فقالت:
أنا زوجتك أم تميم يا أبا سليمان وقد أتيتك بالقلنسوة المباركة التي تنصر بها على
أعدائك فخذها إليك فوالله ما نسيتها إلا لهذا الأمر المقدر ثم سلمتها إليه فلمع من
ذؤابة رسول الله ﷺ نور كالبرق الخاطف.
قال الواقدي: وعيش عاش فيه رسول الله ﷺ ما وضع خالد
القلنسوة على رأسه وحمل على الروم إلا قلب أوائلهم على أواخرهم وحملت المسلمون
حملة عظيمة فما كان غير بعيد حتى ولت الروم الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يكن في
القوم إلا قتيل وجريح واسير وكان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره فلما رجع
المسلمون من اتباعهم اجتمعوا حول راية الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وأتباعه
وسلموا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وعن المسلمين وشكروا الله على سلامتهم
ونظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وأصحابه وهم كأنهم قطعة ارجوان
فصافحه وهنأه بالسلامة وقال لله درك يا أبا سليمان قد أشفيت الغليل وأرضيت الملك
الجليل ثم قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر الناس قد رأيت أن نسير من
وقتنا هذا ونغير.
على قنسرين والعواصم ونقتل الرجال وننهب الأموال فقال
المسلمون: نعم ما رأيت يا أمين الأمة.
قال الواقدي: فانتخب أبو عبيدة رضي الله عنه فرسانا
فجعلهم في المقدمة عياض بن غانم الاشعري وساروا حتى اشرفوا على قنسرين والعواصم
فقال لأصحاب رسول الله ﷺ: شنوا الغارات فشنوا الغارات عليهم وسبوا الذراري وقتلوا
الرجال فلما نظر أهل قنسرين إلى ذلك غلقوا مدينتهم واذعنوا بالصلح وأداء الجزية فأجابهم
أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح وفرض على كل رأس منهم أربعة
دنانير وبذلك أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الواقدي: لما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه قنسرين
والعواصم قال لأصحاب رسول الله ﷺ: اشيروا علي برأيكم رحمكم الله فإن الله تعالى
يقول لنبيه ﷺ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ} الآية فهل اسير إلى حلب وقلاعها وانطاكية وملوكها وعساكرها او
نرجع إلى ورائنا فقالوا: أيها الأمير كيف نرجع إلى حلب وانطاكية وهذه ايام انقضاء الصلح
الذي بيننا وبين أهل شيزر وأرمين وحمص وجوسية ولا شك إنهم قد أخذوا الحصار وقووا
بلادهم بالأطعمة والرجال ونخاف أن يتغلبوا علينا فيما أخذناه من البلاد ويغيروا
علينا لا سيما بعلبك وحصنها فانهم اولو شدة وعديد ونرى من الرأي أنا نرجع إليهم
ونقاتلهم فلعل الله عز وجل أن يفتح على ايدينا قال فاستصوب ورجع على طريقه فوجدوا
البلاد كما قالوا: قد تحصنت بالعدد والرجال والطعام ولم يكن لابي عبيدة قصد إلا
حمص فوجدها قد تحصنت بالعدد والعديد وقد بعث إليها الملك هرقل بطريقا من أهل بيته
وكان من أهل الشدة والبأس ومعه جيش عرمرم وكان اسم البطريق هربيس فلما نظر أبو
عبيدة إلى ذلك ترك على حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وسار هو إلى بعلبك فلما
قرب منها وإذا بقافلة عظيمة فيها جمع من الناس ومعهم البغال والدواب وعليها من
انواع التجارات وقد اقبلت من الساحل يريدون بعلبك فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه
إلى سوادها قال لمن حوله من الفرسان ما هذا إلا جمع كثير أمامنا فقالوا: لا علم
لنا بذلك فقال علي بخبرهم فسارت الخيل إليهم وأخذت اخبارهم ورجع بعضهم بخبرها
والقافلة من قوافل الروم محملة متاعا قال شداد بن عدي وكانت أحمال القافلة أغلبها
سكر وكانت لاهل بعلبك فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال أن بعلبك لنا حرب وليس بيننا
وبينهم عهد فخذوا ما قد ساقه الله إليكم فإنها غنيمة من عند الله.
قال الواقدي: فاحتوينا على القافلة وكان فيها أربعمائة
حمل من السكر والفستق والتين وغير ذلك وأخذنا أهلها اسارى فقال أبو عبيدة: رضي
الله عنه كفوا عن القتل.
واطلبوا منهم الفداء فابتعناهم أنفسهم بالذهب والفضة
والثياب والدواب وصنعنا من السكر العصيدة والفالوذج بالسمن والزيت ودعس المسلمون
دعبنا وبتنا حيث حوتنا القافلة فلما اصبح الصباح أمرنا أبو عبيدة رضي الله عنه
بالمسير إلى بعلبك والنزول عليها وكان قد هرب قوم من القافلة وأخبروا أهل بعلبك
بالقافلة.
قال الواقدي: وكان على بعلبك بطريق عظيم يقال له هربيس:
وكان شديد البأس شجاع القلب فلما أتاه الخبر بقدوم عساكر المسلمين جمع رجاله وأهل
الحرب وأمرهم بلبس السلاح والعدد وخرج بعسكره وجعل يسير وهو يعلم أن الأمير أبا
عبيدة رضي الله عنه سائر إليهم بجيوش المسلمين فلما انتصف النهار وتراءى الجمعان وكان
هربيس معه سبعة آلاف فارس سوى من اتبعه من سواد بلده ونظر طوالع جيش أبي عبيدة رضي
الله عنه ونظر المسلمون إلى ذلك نادوا النفير فعندها تبادرت الفرسان وتقدمت
الشجعان وشرعوا رماحهم وجردوا سيوفهم وصف هربيس رجاله وعباهم تعبيئة الحرب فقال له
بعض بطارقته: ما الذي تريد أن تصنع مع العرب فقال اقاتلهم لئلا يطمعوا فينا
فينزلوا على مدينتنا فقالوا له: الرأي عندي أن لا تقاتل العرب وارجع سالما أنت
ورجالك فإن أهل دمشق الشام ما قدروا عليهم ولا ردهم عساكر اجنادين ولا جيوش فسلطين
وقد بلغك ما فيه كفاية مما جرى لهم بالأمس مع صاحب قنسرين وصاحب عمورية والعرب
المتنصرة وكيف ردهم هؤلاء العرب على أعقابهم منهزمين والصواب إنك تفوز بنفسك وبمن
معك وأرجع.
فقال هربيس لست أفعل ذلك ولا أنهزم أمام العرب وقد بلغني
أن عسكرهم الكبير على حمص مع الأمير ابي عبيدة الذي كان فيها خالد بن الوليد وهذه
غنيمة ساقها المسيح لنا فقال ذلك البطريق الناصح أما أنا فلست أبتع رأيك ولا أقاتل
العرب ثم لوى عنان فرسه راجعا إلى بعلبك واتبعه خلق كثير من القوم واما هربيس فإنه
صف رجاله وزحف يريد القتال فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك وإنهم قد عولوا
على الحرب صف رجاله وعساكره وقال: أيها الناس اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله قد
وعدكم وأيدكم بالنصر حتى هزم أكثر هؤلاء القوم وهذه المدينة التي أنتم قاصدون
إليها وسط ما فتحتموه من البلاد وأهلها قد أكثروا من الزاد والعدد والقوة فإياكم
والعجب وانتصروا وأغزوا أعداء الدين وانصروا الله ينصركم وأعلموا أن الله معكم ثم
حمل الأمير أبو عبيدة وحمل المسلمون قال عامر بن ربيعة وعيش عاش فيه رسول الله ﷺ
سيد المرسلين ما كان بيننا وبينهم إلا جولة الجائل حتى ولوا الأدبار وطلبوا
الاسوار ودخل هربيس المدينة مع أصحابه وفيه سبع جراحات فتلقاه الذي أشار عليه لا
تقاتل العرب وقال له: وأين غنائم العرب التي غنمتوها فقال هربيس قبحك المسيح أتهزأ
بي وقد.
قتلت العرب رجالي وقد جرحت هذه الجراحات فقال له
البطريق: ألم أقل لك إنك مهلك نفسك ورجالك.
قال الواقدي: ثم أن الأمير أبا عبيدة سار حتى نزل على
بعلبك فنظر إلى مدينة هائلة وحصن حصين والقوم قد اغلقوا الأبواب وقد أحرزوا
أموالهم ومواشيهم في جوفها واطلع المسلمون على الأموال كأنها الجراد المنتشر قال
فلما نظر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه إلى البلد وتحصينه وامتناعه وكثرة رجاله وشدة
برده وذلك إنه بلد لا يزايله البرد في الشتاء والصيف فقال الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه لخواص أصحاب رسول الله ﷺ ما الرأي في ذلك فاجتمع رأيهم على شورى واحدة
وهو أن يحاصروا القوم ويضيقوا عليهم فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه أصلح الله
الأمير إني أعلم أن الروم أزدحم بعضهم ببعض من كثرتهم وأظن أن المدينة لا تسعهم
وأن طاولناهم رجونا من الله النصر وأن يفتحها الله على أيدينا فقال الأمير يا ابن جبل
من أين علمت أن القوم يتضايقون في مدينتهم فقال: أيها الأمير إني كنت أول من اسرع
بجواده قبل واشرفت على هذه المدينة والقلعة البيضاء ورجوت أن نلحق سوابق الخيل
فرأيت القوم يدخلون المدينة من جميع الأبواب مثل السيل المنحدر والمدينة مشحونة
بأهل السواد والقرى والمواشي ودوابهم فيها وقد ضاقت بهم وهذه اصوات القوم في
المدينة كانهم النحل من كثرتهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا معاذ ونصحت وايم الله ما عرفتك
إلا مبارك الرأي سديد المشورة.
قال الواقدي: وبات المسلمون تلك الليلة يحرس بعضهم بعضا
إلى الصباح ثم كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أهل بعلبك كتابا يقول فيه: بسم الله
الرحمن الرحيم من أمير جيوش المسلمين بالشام وخليفة أمير المؤمنين فيهم أبو عبيدة
بن الجراح إلى أهل بعلبك من المخالفين والمعاندين أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى
وله الحمد أظهر الدين وأعز أولياءه المؤمنين على جنود الكافرين وفتح عليهم البلاد
وأذل أهل الفساد وأن كتابنا هذا معذرة بيننا وبينكم وتقدمة إلى كبيركم وصغيركم
لانا قوم لا نرى في ديننا البغي وما كنا بالذين نقاتلكم حتى نعلم ما عندكم وأن دخلتم
فيما دخل فيه المدن من قبلكم من الصلح والأمان صالحناكم وأن أردتم الذمام ذممناكم
وأن ابيتم إلا القتال استعنا عليكم بالله وحاربناكم فأسرعوا بالجواب والسلام على
من اتبع الهدى ثم كتب: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى
مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:4] وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وأمره أن
يسير به إلى أهل بعلبك ويأتيه بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وأتى به إلى السور
وخاطبهم بلغتهم وقال: إني رسول إليكم من هؤلاء العرب فدلوا حبلا فربطه في وسطه
وأخذه القوم إليهم وأتوا به إلى بطريقهم هربيس فناوله الكتاب فجمع.
هربيس أهل الحرب والبطارقة وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة
رضي الله عنه وقال: أشيروا علي برأيكم فقال له بطريق: من بطارقته وهو صاحب مشورة
الرأي.
عندي أن لا نقاتل العرب لانا ليس لنا طاقة بقتالهم ومتى
صالحناهم كنا في أمن وخصب ودعة كما قد صار أهل أركه وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وأن
نحن قاتلناهم وأخذونا في الحرب قتلوا رجالنا واستعبدونا وسبوا حريمنا والصلح خير
من الحرب فقال هربيس لا رحمك المسيح فما رأيت اجبن منك ولا أقل جلدا يا ويلك كيف
تأمرنا أن نسلم مدينتنا إلى أوباش العرب ولا سيما وقد عرفت حربهم وقتالهم واختبرت نزالهم
وإني في هذه النوبة لو حملت في ميسرتهم كنت هزمتهم فقال له البطريق: نعم كانت الميسرة
والقلب يخافون منك ثم تخاصما وتشاتما وافترق أهل بعلبك فرقتين فرقة يطلبون الصلح
وفرقة يطلبون القتال ورمى هربيس الكتاب إلى المعاهد بعد أن مزقه وأمر غلمانه أن
يدلوه إلى ظاهر المدينة ففعلوا ذلك ووصل المعاهد إلى عسكر المسلمين وأتى أبا عبيدة
رضي الله عنه وحدثه بما كان من القوم وقال: أيها الأمير أن أكثر القوم عولوا على
القتال فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه للمسلمين شدوا عليهم واعلموا أن هذه المدينة
في وسط اعمالكم وبلادكم فإن بقيت كانت وبالا على من صالحتم ولا تقدرون على سفر ولا
على غيره قال: فلبس أصحاب رسول الله ﷺ السلاح والعدد ورجعوا إلى الاسوار وعطف أهل
بعلبك عليهم وتراموا بالسهام والأحجار وأن هربيس قد نصب كرسيه وسريره على برج من
أبراج القلعة من ناحية النملة وقد عصب جراحته ولبس سلاحه ولامته ولبس على رأسه
صليبا من الجواهر وحوله البطارقة والديرجانية بالدروع المذهبة والعدد الكاملة وفي
اعناقهم صلبان الذهب والجوهر وبأيديهم القسى والسهام قال عامر بن وهب اليشكري شهدت
حرب بعلبك وقد زحفت المسلمون إلى سورها قال ونشاب الروم كالجراد المنتشر وكان أناس
من العرب بلا سلاح فأصابهم سهام القوم قال: ورأيت القوم يتساقطون علينا من السور
تساقط الطير على الحب فذهبت إلى رجل سقط لاضرب عنقه فصاح الغوث الغوث وكنا قد
عرفنا من الحرب أن من قال الغوث يعني الأمان فقلت له: يا ويلك لك الأمان فما الذي القاك
إلينا من سوركم فجعل يكلمني بالرومية وأنا لا أدري ما يقول: قال عامر ابن وهب
اليشكري فسحبته إلى خيمة أبي عبيدة وقلت له: أيها الأمير اطلب من يعرف لغة هذا
العلج فاني رايتهم يرمي بعضهم بعضا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لمن حضر من
المترجمة اخبرنا بخبر هذا العلج وما قضيته ولم يرمي بعضهم بعضا فقال له الترجمان:
يا ويلك قد اعطيناك الأمان فاصدقنا في الكلام قل لنا: لم يرمي بعضكم بعضا قال أن
بعضنا لا يرمي بعضا ولكنا من أهل والقرى فلما سمعنا بمسيركم ورجوعكم عن أهل قنسرين
التجأنا إلى هذه المدينة من جميع الرساتيق لنتحصن فيها لما نعلم من كثرة ما بها من
الجيش فضيق بعضنا.
على بعض وسددنا طرقات المدينة ومضى بعضنا إلى السور فإذا
ليس لنا موضع ناوي إليه ولا مسكن نسكن فيه فجعلنا الأبراج والأسوار مسكنا لنا فلما
زحفتم إلى القتال برز إليكم أهل الحرب والنزال من هذه المدينة فجعلوا يدوسوننا بأرجلهم
وإذا اشتد الحرب عليهم والقتال يدفع الرجل منهم الرجل منا فيلقيه إليكم.
قال الواقدي: فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه
ذلك فرح فرحا شديدا وقال ارجو من الله أن يجعلهم غنيمة لنا قال وأخذت الحرب مأخذها
وطحنت رجالها وعلا الضجيج وحمى الروم أسوارهم فلم يقدر أحد من المسلمين أن يصل
إليها من كثرة السهام والحجارة قال غياث بن عدي الطائي حاربنا أهل بعلبك في أول
يوم فأصيب من المسلمين اثنا عشر رجلا وأصيب من الروم على السور خلق كثير من أهل
الحرب وغيرهم وانصرف المسلمون إلى رحالهم وما لهم همة إلى الطعام ولا الشراب ولا
يريد أحد منا إلا الإصطلاء بالنار من شدة البرد قال فبينما نحن ليلتنا نوقد النار
ونتناوب في الحرس إلى الصباح فلما صلينا الفجر نادى مناد من قبل أبي عبيدة رضي
الله عنه يقول: عزيمة مني على كل رجل من المسلمين لا يبرز إلى حرب هؤلاء القوم
حتى ينفذ إلى رحله ويصلح له طعاما حارا يأكله ليكون بذلك شديدا على لقاء العدو قال
فابتدرنا لاصلاح أمورنا فلما نظر أهل بعلبك إلى تأخرنا عن حربهم وقتالهم طمعوا
فينا وظنوا أن ذلك فشل منا وعجز فصاح هربيس في الروم وقال اخرجوا لهم بارك المسيح
فيكم قال غياث بن عدي فلم يشعر المسلمون إلا والأبواب قد فتحت والخيل والرجال قد
طلعت إلينا كالجراد المنتشر قال وكان بعضنا قد مد يده إلى الطعام وبعضنا ينضج له
القرص وإذا بمناد ينادي يا خيل الله اركبي وللجهاد تأهبي فدونكم والقوم قبل أن
يدهموكم قال حمدان بن اسيد الحضرمي وكان لي قرص خبزته وقدمت شيئا من الزيت لاجعله
ادامى للقرص وإذا بالمنادي ينادي النفير النفير قال فوالله ما راعني ذلك حتى أخذت
قطعة وغمستها في الزيت وهويت بها إلى فمي سمعت النفير فقمت مسرعا وركبت جوادي
عريانا من دهشتي لسرعة الإجابة وضربت يدي على عمود من أعمدة الخيام وحملت على
القوم فوالله ما شعرت بما صنعت ولا عقلت: على نفسي حتى صرت في الروم فجعلت أحطمهم حطما
واهبرهم بالسيف هبرا قال: فنظرت إلى خيل الروم متفرقة والأمير أبو عبيدة قد نصب
رايته والناس يهرعون إليها وأن أبا عبيدة رضي الله عنه ينادي برفيع صوته اليوم يوم
له ما بعده قال ونظر أبو عبيدة إلى شدة ضرب الروم وصبرهم على قتال المسلمين فحمل
عليهم بالخيل العربية وأحاط بالروم من كل جانب ومكان وكان في جملة خيله عمرو بن
معد يكرب الزبيدي وعبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وربيعة بن عامر
ومالك بن الاشتر وضرار بن الأزور رضي الله عنه وذو الكلاع الحميري فلله درهم فلقد
قاتلوا قتالا شديدا.
وابلوا بلاء حسنا فلما نظرت الروم إلى فعلهم رجعوا إلى
أعقابهم طالبين الاسوار وغلقوا الأبواب ورجع المسلمون إلى عسكرهم وأضرموا نيرانهم
ودفنوا من استشهد منهم وأقبلت رؤساء المسلمين إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه
وقالوا: أيها الأمير ما الذي قد عزمت عليه وما عندك من الرأي يرحمك الله فقال أبو عبيدة:
رضي الله عنه اعلموا أن من الرأي أن نتأخر عن المدينة مقدار شوط فرسخ ليكون ذلك
مجالا نحيلكم ومنعة لحريمكم والنصر من عند الله تعالى.
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بسعيد بن زيد بن عمرو بن
نفيل وعقد له راية وامره على خمسمائة فارس وثلثمائة راجل وأمرهم أن يهبطوا إلى
الوادي وأن يقاتلوا القوم على الأبواب وأن يشغلوهم عن المسلمين ثم دعا ضرار بن
الأزور وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس ومائة راجل سرحه إلى باب الشام وقال: يا بن الأزور
اظهر شجاعتك على بني الأصفر فقاتل من هناك من الروم فقال حبا وكرامة قال ومضت كل
فرقة إلى جهة من الجهات فلما أصبح الصباح فتحت الروم الأبواب وخرجوا في خلق كثير
إلى أن تكاملوا حول بطريقهم هربيس فقال لهم البطريق: اعلموا يا معاشر النصرانية أن
أهل هذا الدين من قبلكم قد فشلوا عن قتال هؤلاء العرب وعجزوا عن قتالهم ونزالهم
فقالوا: أيها السيد طب نفسا وقر عينا فانا كنا نخاف من العرب قبل أن نختبرهم ونعلم
قتالهم وقد علمنا إنهم إذا لاقوا حربنا لم يكونوا أصبر منا على الحرب لأن أحدهم
يلقي الحرب وعليه ثوب خلق خام أو فروة خلقة ونحن علينا الدروع والزرد وقد وهبنا
أنفسنا للمسيح.
قال الواقدي: فلما نظر أبو عبيدة إلى كثرتهم نادى برفيع صوته
يا معاشر المسلمين لا تفشلوا فتذهب ريحكم واصبروا أن الله مع الصابرين قال وأن
الروم داخلهم الخوف لما كانوا قد نالوه من غرة المسلمين بالأمس فحملوا حملة عظيمة
قال سهل بن صباح العبسي شهدت قتال أهل بعلبك وقد خرج إلينا أهلها في اليوم الثاني
وهم أطمع مما كانوا في اليوم الأول وقد حملوا علينا حملة عظيمة شديدة منكرة وكنت
في ذاك اليوم اصابني جرح في عضدي الإيمن وما أطيق أن أحرك يدي ولا أحمل سيفا
فترجلت عن جوادي وجريت بين أصحابي وقلت في نفسي: إذا قصدني أحد من هؤلاء الأعلاج
لم يكن لي غنى ادفع عن نفسي فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته واشرفت على العسكرين
وجعلت انظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب والمسلمون ينادون بالنصر
وأبو عبيدة يدعو لهم بالنصر والتحمت القبائل وافتخرت العشائر قال سهل بن صباح وأنا
على الجبل من وراء حجر انظر إلى ضرب السيوف على البيض والحجف والشرر يطير من شعاعها
وقد التقى الفريقان واختلط الجمعان فقلت في نفسي: ويحي وما.
عسى أن ينفع المسلمين مقام سعيد بن زيد وضرار بن الأزور
على الأبواب والأمير أبو عبيدة في مثل هذا الحرب وإنهم والله على وجل أن ينكشفوا
من عظم شدتهم وحربهم وهول ما يلقونه قال فأسرعت إلى جراثيم الشجر فجعلت أكسرها
وأعبي الحطب بعضه على بعض وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار واضرمتها فيه وعبيت
عليه حطبا اخضر ويابسا حتى علا منه دخان عظيم وكانت علامتنا إذا أردنا أن يجتمع
بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار واثارة الدخان قال فما هو إلا أن
علا الدخان وتصاعد إلى الافق حتى نظراليه سعيد بن زيد وأصحابه وضرار بن الأزور
وأصحابه فنادى بعضهم بعضا الحقوا الأمير أبا عبيدة رحمكم الله فإن هذا الدخان ما
هو إلا من شيء عظيم والصواب أن نكون بخيلنا في موضع واحد فأسرعوا بخيلهم وساروا
حتى أشرفوا على المسلمين وهم في شدة الحرب وأعظم الكرب وقد بلغت القلوب الحناجر
وعملت السيوف البواتر وإذا بمناد هتف بهم يا حملة القرآن جاءكم النصر من الرحمن
ونصرتم على عبدة الصلبان وإذا قد اشرف عليهم سعيد بن زيد وضرار بن الأزور في أوائل
خيلهم وقد شرعا سنانهما وحملا في الروم وقد أيقن الروم إنهم الغالبون إذ ظهرت عليهم
رايات المسلمين وكتائب المواحدين فالتفتوا ينظرون ما الخبر وإذا بالمسلمين من
ورائهم وقد حالوا بينهم وبين مدينتهم فنادوا بالويل والخراب وظنوا إنه قد أتى
للمسلمين نجدة ومدد وقد غرر بهم البطريق فلما نظر البطريق إلى تبلدهم زعق فيهم
وقال: يا ويلكم لا ترجعوا إلى المدينة قد حيل بينكم وبينها وهذه مكيدة من مكايد
العرب فلما سمعت الروم ذلك أحاطوا ببطريقهم كالحلقة المستديرة يحمي بعضهم بعضا
فعدل بهم البطريق نحو الجبل ذات الشمال وكان سعيد بن زيد وضرار بن الأزور قد اقبلا
بجيشهما عن يمين الحصن وشماله فحملوا عليهم واتبعوا آثارهم حتى طلعوا إلى الجبل
والتجأت الروم إلى ضيعة في الجبل حصينة خالية من أهلها فاستند الروم إليها وتحصنوا
فيها وتبعهم سعيد بن زيد في الخمسمائة فارس الذين كانوا معه وذلك أن الأمير أبا
عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى هزيمة الروم نادى في المسلمين معاشر الناس لا يتبعهم
أحد ولا يفترق جمعكم لاني اخشى أن تكون هزيمة القوم مكيدة لكم حتى إذا تفرق جمعكم
زحفوا عليكم قال وأن سعيد بن زيد لم يكن يسمع النداء ولو سمع النداء ما تبع القوم.
قال الواقدي: لما تحصنت الروم في الضيعة قال سعيد بن زيد
هذه طائفة قد أراد الله هلاكها فدوروا بهم وحاصروا في كل مكان ولا تدعوا أحدا يطلع
رأسه إلى أن تلحق بكم المسلمون ويأتي إليكم أمر من الأمير أبي عبيدة ثم اقبل إلى
رجل من عظماء المسلمين وقال له: اخلفني في قومي حتى انظر رأى الأمير ابي عبيدة ومن
معه ثم أخذ معه زهاء من عشرين فارسا من أصحابه وسار حتى لحق بجيش المسلمين فلما
نظر إليه.
الأمير أبو عبيدة ومن معه قال: يا سعيد اين رجالك وما
صنعت بهم قال ابشر أيها الأمير فإن المسلمين في خير وسلامة وقد حاصروا اعداء الله
في ضيعة في هذا الجبل ثم اخبره بالقصة من اولها إلى آخرها فقال أبو عبيدة: الحمد
لله الذي هزمهم عن اوطانهم وجعلهم اشتاتا ثم اقبل أبو عبيدة على سعيد بن زيد وعلى ضرار
بن الأزور وقال لهما ما هذه المخالفة رحمكم الله الم آمركم بالإقامة على أبواب
المدينة والمشاغلة للقوم فما الذي ردكم الي وقد ارعبتم قلبي وقلب من كان معي وظننت
أن أهل المدينة كادوكم وهو الذي منعنا أن نتبع المنهزمين فقال سعيد بن زيد أيها
الأمير والله ما عصيت لك امرا ولا خالفتك في قول وإني قد وقفت حيث أمرتني إذ رأينا
دخانا قد علا قتامه ولاح لنا بيانه فقلنا والله ما هذه إلا داهية من دواهي الروم
أو نفير قد استدعانا به المسلمون فأسرعنا نحوك فعندما نادى الأمير أبو عبيدة في
المسلمين معاشر الناس ايكم اوقد نارا أو دخن دخانا في هذا الجبل فليجب الأمير أبا
عبيدة قال سهل بن صباح فلما سمعت النداء اجبت المنادي وأتيت الأمير أبا عبيدة
فقال: ما الذي جراك على ذلك فقصصت عليه قصتي فقال أبو عبيدة: لقد وفقك الله تعالى
إلى الجنة فإياك بعدها أن تحدث حديثا من غير اذن أميرك.
قال الواقدي:
فبينما الأمير كذلك يحدث سهل بن صباح وإذا برجل من
المسلمين منحدر من الجبل وهو ينادي النفير النفير يا امة البشير النذير ادركوا
اخوانكم المسلمين فقد أحاط بهم الروم وهم في اشد ما يكون من القتال وانه قد دنا
البطريق من المسليمن ونادى بأصحابه ورجاله وقال: يا عباد المسيح إليكم هذه الشرذمة
اليسيرة والعصابة الحقيرة التي قد أحاطت بكم فاقتلوهم وادخلوا المدينة فانكم أن
قتلتم القوم كسرتم بذلك حدة العرب وانصرفوا عنكم قال مصعب بن عدي وكنت في بعلبك من
أصحاب سعيد بن زيد وقد جعلنا محاصرين البطريق والروم في الضيعة ونحن دون الخمسمائة
رجل فما شعرنا إلا والبطريق والروم قد تبادروا إلينا من كل مكان فنادى بعضنا عضا
واجتمعنا قال والله لقد كبوا علينا الخيل واحاطوا بنا بعد ما كنا أحطنا بهم وكان
شعارنا في ذلك اليوم الصبر الصبر قال فبينما نحن كذلك في اشد الحرب واعظم الكرب إذ
سمعنا صوتا عاليا قد ملأ الجبل ومناديا ينادي ويقول: أما من رجل يهب نفسه في الله
ويسنفر المسلمين فانهم بالقرب منا ولا يعلمون ما نزل بنا قال مصعب بن عدي فلما
سمعت الصوت همزت جوادي بكعبي وكان جواد عتيقا يسبق الريح الهبوب او الماء إذ انسكب
من ضيق الأنبوب وكأنه الطود العظيم والله لقد خرج من تحتي كأنه البرق ولم تلحق منه
الروم إلا الغبار بعد ما قتلت منهم رجلين ولقد نظرت إلى فرسي وهو يشب الصخرة ويسلك
الوعرة حتى اشرفت على عساكر المسلمين فناديت النفير النفير يا أمة البشير النذير.
فلما سمع أبو عبيدة ذلك صاح بالرماة فأجابه خمسمائة رام
من أصحاب القسي العربية فضمهم إلى سعيد بن زيد وقال له: اسرع يرحمك الله والحق
بأصحابك قبل أن يأتي العدو إليهم ثم نادى بضرار بن الأزور وأصحابه وقال له: أدرك
أخاك سعيد بن زيد قال فسار المسلمون مثل الجراد المنتشر حتى علوا على قلة الجبل واشرفوا
على الروم وهم محدقون بأصحاب رسول الله ﷺ وقال أبو زيد بن ورقة بن عامر الزبيدي
وكنت ممن شهد القتال على الضيعة مع أصحاب سعيد بن زيد وقد أحاطت بنا الروم وقد
صبرنا لهم صبر الكرام وقد صرع منا سبعون رجلا مابين جريح وقتيل ونحن في اشد ما
يكون من القتال والجراح وقد طمعت الروم فينا حتى سمعنا التهليل والتكبير ولحقنا
النفير فلما اشرفت علينا راية المسلمين رجعت الروم على أعقابهم مدبرين إلى الضيعة راجعين
ولحقنا من تأخر منهم وكثر فيهم القتل والجراح لكثرتهم وتحصن القوم في الضيعة
فأحطنا بهم من كل جانب وما تركنا منهم أحدا يخرج رأسه من كثرة النبل وورد الخبر
إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه بمن استشهد من المسلمين ومن قتل من الكافرين
وأن القوم قد لزمهم الحصار وأن لا زاد عندهم ولا ماء فقال أبو عبيدة: الحمد لله ثم
قال للمسلمين معاشر الناس ارجعوا إلى أموالكم واضربوا خيامكم حول المدينة فإن الله
عز وجل كاد عدوكم وهو منجز لنا ما وعدنا من نصره قال فعندنا رجع المسلمون إلى
أموالهم ومواضعهم التي كانوا فيها أول مرة وضربوا خيامهم وانفذوا طوالعهم وارسلوا
إلى المرعى خيولهم وابلهم وسرحوا إلى الحطب عبيدهم واضرموا النيران في عسكرهم وذهب
منهم الخوف وأتاهم الأمان وأن أهل بعلبك افترقوا على السور وجعلوا يضربون على
وجوههم ويصيحون بلغتهم فقال الأمير أبو عبيدة لبعض التراجمة ما يقول: هؤلاء فقال له
الترجمان: أيها الأمير إنهم يقولون يا ويلهم ويا عظم ما أصابهم ويا خراب ديارهم
ويا فناء رجالهم حتى ظفرت العرب ببلادهم.
قال الواقدي: فلما دنا المساء ارسل الأمير أبو عبيدة إلى
سعيد بن زيد يقول له: يا بن زيد الحذر الحذر على من معك من المسلمين واجتهد رحمك
الله أن لا يفوتك من الروم أحد ولا تفسح لهم قدما واحدا فيخرج منهم واحدا فيتبع
اولهم آخرهم فتكون كمن حصل في يده شيء فاضاعه فلما وصل الرسول إلى سعيد بن زيد بهذه
الرسالة أمر المسلمين أن يحيطوا بالضيعة من كل جانب وأن لا يخرجوا إلى الحطب إلا
مائة بالسلاح ففعلوا ذلك واضرموا نيرانهم وباتوا طول ليلتهم يهللون ويكبرون
وبالضيعة يطوفون فلما نظر البطريق هربيس إلى ذلك اقبل على أصحابه ورجاله وقال لهم:
يا ويلكم لقد ايسنا من التدبير وأخطأنا الرأي وما لنا مدد ولا نجدة ولا نصير ولو
اجتهدنا لما اجتهدت العرب على أن يحبسونا في هذه الضيعة والآن قد حبسنا أنفسنا في.
حبس ليس فيه طعام ولا شراب وأن دام علينا هذا يوما ثانيا
أو ثالثا ضعف قوينا ومات ضعيفنا وبطلت حيلتنا وسلمنا أنفسنا كارهين فنقتل عن آخرنا
فقالت البطارقة: فما الذي ترى أيها السيد فقال قد رأيت من الرأي أن اخدع العرب
واحتال عليهم واسألهم الصلح لنا ولاهل مدينتنا كما قد طلبوا وأضمن أن افتح لهم
المدينة ونكون في ذمامهم فإذا دخلنا المدينة حاربناهم على سورنا ولعلنا نرسل إلى
صاحب عين الجوز والى صاحب جوسية فلعلهما يقدمان إلى نصرتنا فيكونان لقتال العرب من
خارج المدينة ونحن من اعلى الاسوار ويكفينا المسيح هذه النوبة.
فقالت البطارقة: اعلم أيها السيد أن صاحب جوسية لا يجيبك
إلى نجدة ابدا لانه مشتغل بنفسه وربما يكون محاصرا مثل حصارنا هذا فلقد بلغنا قبل
نزول هؤلاء العرب علينا إنهم صالحوهم القدرة وألقوه أن يقاتلوا العرب واما أصحاب
عين الجوز فانهم في تجارتهم متفرقون في اقصى الشام وما اظن إلا إنهم في صلح العرب
فانظر لنفسك ورعيتك ما فيه الصلاح فلما سمع البطريق هربيس قولهم اجابهم إلى ذلك
فلما اصبح الصباح طلع البطريق على جدار الضيعة ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب
أما فيكم رجل يعرف كلامي أنا هربيس البطريق فلما سمعه بعض التراجمة اقبل على سعيد
بن زيد وقال له: يا مولاي أن هذا العلج هو هربيس صاحب القوم وهو يستدعي كلامك فقال
له سعيد بن زيد: ادن منه وانظر ماذا يريد وما يقول: قال فدنا الترجمان منه فقال
له: ما الذي تريد قال أريد أن يؤمنني أميركم هذا في ذمامه وذمام أصحابه ويدنو مني
حتى أخاطبه بما يعود صلاحه على الفريقين فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال سعيد
بن زيد لا كرامة له حتى أدنو منه وأمشي إليه حتى يخاطبني فإن كان له حاجة فليأت الي
خاضعا ذليلا صاغرا حتى أسمع كلامه وأعلم مراده قال فأعلم الترجمان هربيس بكلام
سعيد بن زيد فقال هربيس فكيف انزل إليه وأنا محارب له فأنا اخاف أن يقتلني فقال له
الترجمان: أنا أخذ لك منه الذمام فإن العرب لا تخون إذا أمنت فقال البطريق: نعم قد
تناهت إلينا أخبارهم ولكني أريد أن استوثق لنفسي ولأصحابي واهل بلدي لانهم قوم قد
لحقهم الحقد علينا وقد اصبنا منهم دما كثيرا وإني أريد أن ارسل له شخصا يأخذ لي
منه أمانا فقال الترجمان أنا أعرفه ذلك ثم اقبل الترجمان على سعيد بن زيد وقال له:
إن البطريق هربيس يريد أن يوجه إليك رجلا من أصحابه يأخذ له منك أمانا فقال سعيد
بن زيد دعه يوجه من يريد وأعلمه أن رسوله منا في أمان حتى يرجع إليه قال فأعلمه الترجمان
بذلك فأقبل البطريق على رجل من عظماء أصحابه وقال له: ترى ما قد نزل بنا وكيف قد
ملك العرب علينا الطريق وأن بلاد الشام قد أذن المسيح بخرابها وقد نصرت العرب
علينا وأنا في شدة شديدة وأن لم نأخذ من القوم الأمان وإلا هلكنا وهلكت خيلنا وبعد
ذلك يتحكمون في اولادنا.
وحريمنا ويقتسمون أموالنا وذرارينا وليس لنا نجدة لأن كل
بلدة مشتغل بنفسه عن نصرتنا فأنزل إلى هؤلاء العرب وخذ لنا منهم أمانا واستوثق لنا
منهم حتى أنزل أنا إليهم فلعلنا نجري بينهم صلحا ولعلي أمكر بهم حتى نرجع إلى المدينة
ولعلي ارغب صاحبهم في شيء من المال فلعله يرغب وينصرف عنا إلى أن نرى ما يكون
بينهم وبين الملك هرقل.
قال الواقدي: فنزل الرجل ووقف أمام الأمير سعيد بن زيد
وهم الرجل أن يسجد له فمنعه من ذلك وتبادرت إليه المسلمون فأمسكوه ففزع الرجل وقال
لم تمنعوني أن أعظم صاحبكم فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال انما أنا وهو
عبدان لله تعالى ولا يجوز السجود والتعظيم إلا لله الملك المعبود القديم فقال
الرجل بهذا نصرتم علينا وعلى غيرنا من الأمم فقال سعيد بن زيد فما الذي جاء بك قال
جئت لآخذ منك أمانا لبطريقنا أن لا تنقض لنا عهدا فقال سعيد بن زيد ليس من اخلاق
الأمراء ومن يقود الجيوش أن يغدر بعد الأمان ولسنا بحمدالله ممن ينقض عهدا وقد
أعطيت صاحبك أمانا ولمن معه ممن القى السلاح وخرج يطلب الأمان مستسلما فقال الرجل نريد
منك الأمان ومن أميرك وممن معك فقال سعيد لكم ذلك فعند ذلك رجع الرجل إلى البطريق
وأعلمه بجواب سعيد وقال له: اخرج وإياكم والغدر فإنه يهلك صاحبه وأن هؤلاء العرب
لا يخونون أمانهم وعهدهم.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن البطريق هربيس خلع ما كان
عليه من الثياب والديباج والقى السلاح ولبس ثياب الصوف وخرج حافيا حاسرا ذليلا
ومعه رجال من قومه حتى وقف بين يدي سعيد بن زيد فخر سعيد لله ساجدا وقال: الحمد
لله الذي أزال عنا الجبابرة وملكنا بطارقتهم وملوكهم ثم اقبل عليه وقال له: ادن
مني فدنا إلى أن جلس إلى جانبه وقال له: أهذا لباسك دائما أم غيرته فقال: لا وحق
المسيح والقربان ما لبست الصوف ابدا غير الحرير والديباج وما لبست هذا إلا في وقتي
هذا فاني ما أريد حربكم ولا قتالكم ثم قال لسعيد هل لك أن تصالحني على أصحابي
هؤلاء وعلى أهل المدينة ومن فيها فقال سعيد أما أصحابك هؤلاء فاني أوفيهم على شرط
أن من دخل في ديننا فله ما لنا ومن اختار الإقامة على دينه والقى السلاح كان آمنا
من القتل وعليه العهد إنه لا يحمل علينا سلاحا ولا يكون لنا حربا ابدا واما
المدينة فالأمير أبو عبيدة عليها وقد فتحها أن شاء الله تعالى ثم قال: أن أحببت أن
تسير معي إلى أبي عبيدة حتى يسمع كلامك وتصالح عن قومك فسر وانت في ذمامي فإن اتفق
بينكما الأمر وإلا رددتك إلى موضعك هذا ومن أراد الرجوع معك من رجالك إلى أن يحكم
الله وهو خير الحاكمين فقال البطريق أنا أفعل ذلك فعندها دعا سعيد بن زيد سعد بن
ابي وقاص بن عوف العدوى.
وقال: يا ابن أبي وقاص كن بشيرا للأمير أبي عبيدة بما سمعت
واسرع بالجواب قال فأسرع ابن أبي وقاص بن عوف وركب جواده وكان حصانا شديد العدو
وجعل يسير سيرا حثيثا حتى اشرف على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ووقف بين يديه
وسلم عليه وقال: أصلح الله تعالى شأن الأمير أبشرك بأن البطريق هربيس قد أخذ
الأمان من سعيد بن زيد وهو يريد أن يقبل به عليك يسألك الصلح والأمان له ولاهل
مدينته فلما سمع الأمير ذلك سجد لله شكرا ورفع رأسه وقال: أيها الناس تقدموا الآن
إلى قتال أهل المدينة وأظهروا أسلحتكم عليها وكبروا تكبيرة واحدة لكي ترعبوا بها
القوم قال ففعل المسلمون ذلك فارتجت المدينة وفزع أهل بعلبك وتداعوا للقتال وأحاط
المسلمون بالمدينة من كل جانب وكان أول من سبق إلى المدينة واعطاهم خبر البطريق المرقال
ابن عتبة وقال حصنوا أنفسكم وأولادكم وأموالكم بالصلح فإن ابيتم ذلك فقد وعدنا
الله تبارك وتعالى على لسان نبينا محمد ﷺ أن يفتح لنا بلادكم وأمصاركم وغيرها وأن
الله تعالى منجز أمره فلما سمع أهل بعلبك ذلك فزعوا فزعا شديدا واغبرت وجوههم
ورعبت قلوبهم وكلت من الحرب أيديهم وقالوا: أهلكنا البطريق وأهلك نفسه ولو كنا
صالحنا العرب من قبل أن يوجد بنا هذا الحصار لكان خير لنا قال وشدد المسلمون عليهم
القتال.
قال الواقدي:
فلما علم أبو عبيدة أن نيران الحرب قد اضرمت على المدينة
أرسل إلى سعيد بن زيد يقول له: أسرع بالبطريق إلينا وله الأمان الذي أمنت أنت فنحن
لا ننقض لك عهدا فلما ورد رسول أبي عبيدة على سعيد بن زيد استخلف على الضيعة رجلا من
أصحابه وسار سعيد مع البطريق حتى وردا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فلما وقف
البطريق بين يديه ونظر إلى زيه وزي من معه وشهد قتالهم وعظم ما تلقى المدينة من
حربهم وقتالهم حرك البطريق رأسه وعض على أنامله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه
لترجمانه ما لهذا يحرك رأسه ويعض أنامله كأنه يتأسف على شيء فاته قال فأعلمه
الترجمان بذلك فأقبل على الترجمان وقال له: وحق المسيح وما مسح وحق البيعة والمذبح
لقد ظننت إنكم أكثر عددا من الحصى وأكثر مددا ولقد كان يخيل لنا عند حربكم وشدة ما
نلقى منكم إنكم على عدد الحصى والرمل من كثرتكم ولقد كنا نرى خيلا شهبا وعليها
رجال وبأيديهم رايات صفر وعليهم ثياب خضر فلما صرت بينكم لم أر من ذلك شيئا وما
أراكم إلا في قلة عدد وما ادري ما فعل جمعكم أبعثتموه إلى عين الجوز او إلى جوسيه
أو مكان آخر فأخبر الأمير الترجمان بذلك فقال أبو عبيدة: للترجمان قل له: يا ويلك
نحن معاشر المسلمين يكثرنا الله تعالى في أعين المشركين ويمدنا بالملائكة كما فعل
بنا يوم بدر وبذلك فتح الله تعالى بلادكم وحصونكم علينا وأذل ملوككم فلما سمع
البطريق كلام أبي عبيدة رضي الله عنه على لسان الترجمان.
قال: لقد وطئتم الشام الذي عجزت عنه ملوك الفرس والترك والجرامقة
وما ظننا أن يكون ذلك ابدا وأما مدينتنا فهي حصينة لا تعبأ بالحصار لانها مدينة
ليس بالشام مثلها بناها سليمان بن داود عليهما السلام لنفسه وعملها دار مقامه
وخزانة لملكه ولولا ما سبق من تفريطنا وخروجنا عنها إليكم وانحرافنا عنها ما
صالحناكم ابدا ولا هالنا حربكم ولو اقمتم علينا مائة سنة والان فقد كان ذلك فهل
لكم أن تصالحونا حتى نصالحكم فتعدل فينا فهو اقرب رشدا لنا ولكم فوحق المسيح
والإنجيل الصحيح لئن فتحنا لكم هذه المدينة لا يصعب عليكم في الشام حصن ولا مدينة
قال فلما أخبر الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بما قاله قال أبو عبيدة
للترجمان: قل له: الحمد لله تعالى الذي ملكنا أرضكم ودياركم فلا بد أن تؤدوا
الجزية وقد ظننت لنفسك أمانا كاذبا حتى أراك الله الذل والصغار بعد العز والإقتدار
ولا بد لنا أن نملك مدينتكم أن شاء الله تعالى ونقتل الرجال ونأسر الأبطال فمن أراد
حربنا وقتالنا فلا يدخل في صلحنا أبدا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فقال البطريق لما سمع ذلك على لسان الترجمان لقد تيقنت أن المسيح قد غضب على أهل
هذه المدينة إذ بعث بكم إليها وملككم عليها وقد اجتهدت في حربكم ومكرت بكم وما نفع
مكرى واجتهادي لانكم قوم مسلطون وإنما طلبت منكم السلم وألقيت يدي في أيديكم بعد
جهد مني لا شفقة مني على نفسي ولا بقاء مني على ملكي ولكن أردت صلاح البلاد لأن
الله تعالى لا يحب الفساد والان فهل لكم أن تصالحوا على المدينة وما فيها وعلى
أصحابي هؤلاء فقال له الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: فما الذي تبذل لنا في صلحك
قال له البطريق: أيها الأمير انظر ما الذي تريد فقال الأمير أبو عبيدة لو أن الله فتح
على المسلمين من الصلح على هذه المدينة بملئها ذهبا وفضة ما كان أحب الي من سفك دم
رجل واحد لكن الله تعالى اعطى الشهداء في الآخرة أكثر من ذلك فقال البطريق أنا أصالحكم
على ألف أوقية من الفضة البيضاء وألف ثوب من الديباج.
قال الواقدي: فتبسم الأمير أبو عبيدة من كلامه واقبل على
المسلمين وقال لهم: أما تسمعون ما يقول: هذا البطريق قالوا: نعم قال فما رأيكم
فيما شرط على نفسه فقالوا: يزيد عليه وشرطه يرضينا فأقبل الأمير على البطريق وقال
له: أنا أصالحكم على ألفي أوقية من الذهب الأحمر وألفي أوقية من الفضة البيضاء
وألفي ثوب من الديباج وخمسة آلاف سيف من مدينتكم وسلاح أصحابك الذين هم في الضيعة
محاصرون ولنا عليكم خراج أرضكم في العام الآتي واداء الجزية في كل عام وأنتم بعد
ذلك لا تحملون علينا سلاحا ولا تكاتبون ملكا ولا تحدثون حدثا ولا كنيسة وترون
النصح للمسلمين فلما سمع البطريق ذلك من شرط الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه قال لك
ذلك كله علينا إلا إني أريد أن أشرط عليك وعلى أصحابك شرطا فقال له الأمير أبو
عبيدة: وما.
شرطك فقال: لا يدخل إلينا من أصحابك أحد وتنزل صاحبك
الذي تستخلفه علينا خارج المدينة بأصحابه ويكون له الخراج والجزية وتدعني أنا من
داخل المدينة من قبل الإصلاح بين الناس والنظر في أحوالهم ونحن نخرج إلى من تخلفه
علينا من أصحابك سوقا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا ولا يدخلون إلينا مخافة أن يغلظوا
بكلامهم على كبرائنا ويفسد الأمر بيننا وبينكم ويكون سببا للغدر ونقض العهد قال
أبو عبيدة: فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم لانكم تصيرون في ذمتنا ويكون الرجل الذي
نخلفه عليكم مثل الواسطة والسفير بيننا وبينكم قال البطريق هربيس يكون خارج
المدينة ويفعل ما يشاء أن يفعله من المحاماة فقال أبو عبيدة: لكم ذلك وما لنا في
الدخول إلى مدينتكم من حاجة فقال البطريق تم الصلح على ذلك ثم سار البطريق إلى
المدينة وأبو عبيدة معه فلما وصل إلى الباب حسر البطريق عن رأسه ورطن عليهم بلغه
الروم فعرفوه عند ذلك فقالوا له: وأين أصحابك ورجالك فقص عليهم قصته وأخبرهم بخبره
وخبر أصحابه وأعلمهم بالصلح فبكى القوم وقالوا: تلفت النفوس وذهبت الأموال فقال
لهم البطريق: يا قوم وحق المسيح ما صالحتم ولي وجه غير الصلح فقالوا له: اذهب أنت
وصالح عن نفسك وأما نحن فلن نصالح العرب أبدا ولن ندع أحدا منهم يملكنا ولا يدخل بلادنا
ومدينتنا وهي أحصن مدينة في الشام وكان الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد أعلم
المسلمين بمصالحة البطريق وأمرهم أن يكفوا عن القتال والحرب فلما سمع الترجمان
كلام أهل بعلبك لبطريقهم أخبر الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فأقبل البطريق
فقال له أبو عبيدة: هات ما عندك وإلا نرد الحرب كما كان فقال البطريق دعني والقوم
فوحق الإنجيل الصحيح وعيسى المسيح لو لم يقبلوا مني لادخلنك بالكثرة إليهم فتضع
السيف فيهم وتقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم لاني خبير بعورات بلدهم
وبطرقاتها قال أبو عبيدة رضي الله عنه: ما شاء الله كان قال وكان الروم على سورهم
يسمعون كلام البطريق لابي عبيدة رضي الله عنه فدخل الرعب في قلوبهم فعند ذلك اقبل
البطريق على الروم وقال لهم: ما تقولون في صلح العرب فاني اسير في أيديهم ورجالهم
وبنو عمكم في قبضتهم فإن لم تصالحوا العرب وإلا يقاتلونا جميعا ويرجعوا إليكم من بعدنا.
فقالوا: أيها السيد أنا لا نطيق هذا المال فقالوا: يا ويلكم
علي وحدي ربع ما طلبوا فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أنا لا نفتح الباب إلا لك وحدك
ولا يدخل معك أحد من العرب حتى نصلح مدينتنا ونرفع رحالنا ونخفي حريمنا فقال
البطريق ويحكم فإني قد صالحت القوم على أن لا يدخل مدينتكم أحد منهم وأن الرجل
الذي يخلفونه عليكم يكون هو وأصحابه خارج المدينة وتخرجون إليه سوقا يتسوقون منه
قال ففرحت الروم بذلك وفتحوا له الباب فدخل إليهم وبعث الأمير أبو عبيدة إلى سعيد
بن زيد أن يخلي.
عن الرجال الذين هم في الضيعة يحاصرون فخلى سعيد بن زيد
سبيلهم وجاء بهم عند الأمير ابي عبيدة وأخذ سلاحهم وتركهم عنده رهائن على المال
الذي عندهم لانه خاف أن تركهم أن يرجعوا إلى المدينة ويغدروا بالمسلمين فتركهم
عنده في عساكره هذا والبطريق في المدينة يجبي المال بعد اثني عشر يوما وهم مع ذلك يحملون
إلى عسكر المسلمين الزاد والميرة والعلوفة حتى كملت الأموال والثياب والسلاح
وحملها البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله عنه وقال له: تسلم الأموال على ما وافقتك
عليه وخل عن الرجال وانظر إلى من تخلفه علينا من أصحابك فأحضره لنا حتى نشرط عيله
بحضرتك أن لا يجوز علينا ولا يطالبنا بما لا نطيق ولا يدخل مدينتا قال فدعا أو
عبيدة برجل من سادات قريش اسمه رافع ابن عبد الله السهمي وقال له: يا رافع بن عبد
الله استعملتك على هذه المدينة وضم إليك خمسمائة فارس من بني عمك وعشيرتك
وأربعمائة فارس من اخلاط المسلمين وإني آمرك بما أمرك الله به فاتق الله حق تقاته
ولا تكن إلا من الولاة العادلين وإياك والظلم والجور فتحشر مع الظالمين واعلم أن
الله تعالى سائلك عنهم ومطالبك بما تصنع بغير الحق واعلم إني سمعت رسول الله ﷺ
يقول: "أن الله تبارك وتعالى أوحي إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى
لا تظلم عبادي أخرب بيتك من نفسك" فأقم الأرصاد في أطراف البلاد فانك بين
أعدائك وبعد هذا ما عرفتك إلا استيقاظا وأحذرك من السواحل وشن الغارة عليهم ولتكن غارتك
في المائة والمائتين ولا تمكن أحدا من المدينة يختلط بأصحابك في غارة حتى يطمع
عدوكم فيه وأحسن معاملة من ساعدك وأصلح بينهم وأمرهم بالعدل وكن بينهم كأحدهم وأمر
أصحابك ومن معك أن يكفوا أيديهم عن الفساد والظلم للرعية والله تعالى خليفتي عليك
والسلام عليك.
ذكر حديث نزول المسلمين على حمص
قال الواقدي: ثم هم أبو عبيدة رضي الله عنه بالرحيل إلى
حمص واذ قد ورد عليه صاحب عين الجوز يطلب منه الصلح فصالحه على نصف ما صالحه عليه
أهل بعلبك وولى عليهم سالم بن ذؤيب السلمي وأوصاه بمثل ما أوصي به رافع بن عبد
الله ورحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب حمص فلما وصل إلى بين الرأس والكفيلة
لاقاه صاحب الجوسية ومعه هدية كثيرة فقبلها منه وجدد معه صلحا وسار الأمير أبو
عبيدة رضي الله عنه حتى نزل على حمص.
قال الواقدي:
حدثنا حبان بن تميم الثقفي قال كنت فيمن اقام مع رافع بن
عبد الله السهمي في جملة أصحابه وذلك اننا نصبنا بيوت الشعر على العمد واقمنا خارج
المدينة لا يدخل إليها أحد منا ونحن مع ذلك نشن الغارة على سواحل الروم ونكبس على العرب
التي لم تكن في صلحنا وكنا إذا خرجنا في سرية نبيع الغنائم في بعلبك ففرح أهلها
ببيعنا وشرائنا ووجدونا قوما ليس فينا كذب ولا خيانة ولانريد ظلم أحد وطابت قلوبهم
وربحوا في تلك المدة اليسيرة مالا عظيما فلما نظر البطريق هربيس إلى ما ربح أهل
بعلبك منا في تجارتهم ورخص ما يشترونه منا جمعهم إليه في كنيسة المدينة وهي الجامع
اليوم وكان ذلك بميعاد وعدهم فيه الاجتماع فلما اجتمعوا عنده اقبل عليهم وقال
للتجار والباعة والسوقة لقد علمتم إني قد اجتهدت في أموركم واحرصت على سلامة
نفوسكم واهاليكم واولادكم وانتم تعلمون ما ذهب مني من المال وأنا اليوم واحد منكم
وقد سلمت مالي وسلاحي وقتل أكثر غلماني ورجالي وبنو عمي وأنتم قوم قد أصبتم مع
هؤلاء العرب خيرا كثيرا في هذه التجارات وقد أديت وحدي ربع المال فقالوا: صدقت أيها
البطريق وقد عرفنا كل ما وصفت فما الذي تريد الآن فقال: يا قوم انما كنت قبل هذا
اليوم بطريقكم وأنا اليوم واحد منكم وأريد أن تردوا علي بعض ما بذلت من المال
للعرب فقالوا: أيها البطريق وإني لك بذلك فقال البطريق يا قوم الست أكلفكم أن
تخرجوا من أموالكم ولا مما حوته منازلكم شيئا وإنما أريد أن تجعلوا في هذه البيوع
والأشربة العشر مما تأخذون وتعطون قال فاضطرب القوم اضطرابا شديدا لذلك وعظم عليهم
واقبل بعضهم على بعض وقالوا: يا قوم هذا رجل منا وصاحب ملكنا وقد اجتهد في امورنا
وحامى بماله ونفسه عنا وما عسى يصيب منا في مالنا قال فأجابوه إلى ذلك وجعلوا له
عليهم العشر فنصب عليهم من قبله عشارا يأخذ منهم أعشارهم ويجمعها ويحملها إليه
فأقام على ذلك أربعين يوما فلما نظر هربيس إلى كثرة ما قد اجتمع له من المال العشر
قال أنا أعلم أن هذه المدينة في كسب عظيم وتجارة رابحة ما رأى أهل بعلبك مثل هذا
أبدا ثم جمعهم في الكنيسة مرة ثانية وقال لهم: يا قوم قد علمتم ما بذلت من المال
على صلحكم وهذا الذي تعطوني إياه من العشر ليس يحزنني فإن أردتم أن تردوا علي مالي
وتجعلوني كأحدكم فاجعلوا إلى الربع في أموالكم حتى يرجع الي مالي سريعا وإلا فمتى
أخلف من هذا العشر مالي وسلاحي وغلماني.
قال الواقدي: فأبى القوم وضجوا عليه واشهروا عددهم
ووقفوا في الطريق بغلمانه فقطعوهم اربا اربا وارتفع ضجيجهم فجزع المسلمون لذلك وهم
لا يعلمون بالقصة فاجتمعوا إلى أميرهم رافع بن عبد الله السهمي وقالوا: أيها
الأمير أما تسمع اصوات هؤلاء القوم في مدينتهم فقال: يا قوم قد سمعت كما سمعتم فما
عسى أن أصنع بهم ولا يحل لنا الدخول إليهم وبهذا جرى الشرط بيننا وبينهم ونحن أحق بمن
أوفى بعهد الله تعالى فإن هم خرجوا إلينا وأعلمونا بأمرهم صالحنا بينهم ونظرنا في
أمورهم.
قال الواقدي: فما استتم الأمير رافع بن عبد الله كلامه
حتى خرج أهل بعلبك يهرعون إليه فلما وقفوا بين يديه قالوا: أنا بالله وبك أيها
الأمير ثم اعلموه بقصتهم وما فعل البطريق بهم أول مرة وما فعل بهم ثاني مرة قال
رافع بن عبد الله أنا لا نمكنه من ذلك فقالوا: أيها الأمير أنا قد قتلناه وجميع
غلمانه فصعب ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فقال لهم رافع: فما الذين تريدون فقالوا:
نريد أن تدخلوا إلى المدينة فإنا قدأطلقنا لكم الدخول إليها فقال رافع بن عبد الله
أنا لا أقدر أن ادخل المدينة إلا باذن الأمير أبي عبيدة لانه ما أذن لي بذلك ثم
كتب رافع بن عبد الله إلى الأمير ابي عبيدة يعلمه بالقصة وبحديث البطريق وبحديثهم
الذي قالوه فكتب له بالدخول إلى المدينة كما قد أذنوا له فدخل رافع وأصحابه.
قال الواقدي: حدثنا موسى بن عامر قال حدثنا يونس بن عبد
الله قال حدثنا سالم بن عدي عن جده عبد الرحمن بن مسلم الربيعي وكان ممن حضر فتوح
الشام اوله وآخره قال لما فتح الله بعلبك على يد المسلمين وترك أبو عبيدة رافع بن
عبد الله وتوجه إلى حمص للحوق بخالد بن الوليد فلما قرب من حمص موضع يقال له الزراعة:
وجه على مقدمة جيشه ميسرة بن مسروق العبسي وعقد له راية سوداء معلمة بالبياض وضم
إليه خمسة آلاف فارس من المسلمين فلما سار ميسرة حتى وصل إلى حمص خرج خالد بن
الوليد رضي الله عنه إلى لقائه وسلم عليه وعلى من معه من المسلمين ثم بعث أبو
عبيدة بعده ضرار بن الأزور في خمسة آلاف فارس وبعث بعده عمرو بن معد يكرب الزبيدي
وقدم أبو عبيدة رضي الله عنه ببقية الجيش فلما اشرف أبو عبيدة على حمص قال اللهم
عجل علينا فتحها وأخذل من فيها من المشركين واستقبلهم المسلمون فلما استقر به
القرار كتب إلى أهل حمص وبطريقها الجديد وهو هربيس كتابا يقول فيه: بسم الله
الرحمن الرحيم من أبي عبيدة عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على
الشام وقائد جيوشه أما بعد فإن الله تعالى قد فتح علينا بلادكم ولا يغرنكم عظم
مدينتكم وتشييد بنيانكم وكثرة رجالكم فما مدينتكم عندنا إذا أتاكم الحرب إلا كالبرمة
قد نصبناها في وسط عسكرنا والقينا اللحم فيها وجميع العساكر يتوقع الأكل منها وقد
داروا بها ينتظرون نضجها واكل ما فيها ونحن ندعوكم إلى دين ارتضاه لنا ربنا عز وجل
فإن اجبتم إلى ذلك ارتحلنا عنكم وخلفنا عندكم رجالا منا يعلمونكم أمر دينكم وما
فرض الله تعالى عليكم وأن أبيتم الإسلام قررناكم على اداء الجزية وأن أبيتم
الإسلام والجزية فهلموا إلى الحرب والقتال حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ثم طوى
الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وكان ذلك الرجل يحفظ بالعربية والرومية وقال
له: انطلق إلى حمص وائتنا بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وسار حتى وصل إلى.
السور فهم أهل حمص أن يرموه بالسهام والحجارة فقال لهم
بالرومية: يا قوم أمسكوا عليكم فأنا رجل معاهد وقد جئتكم بكتاب من هؤلاء العرب.
قال الواقدي:
فدلوا له حبلا فربط وسطه به وشالوه إليهم وأتوا به إلى
بطريقهم فلما وقف بين يديه خضع له وناوله الكتاب فقال له البطريق: ارجعت عن دينك
إلى دين هؤلاء العرب قال: لا ولكن في ذمتهم وعهدتهم أنا واولادي وأهلي ومالي وما رأينا
من القوم إلا خيرا والصواب عندي أن لا تقاتلوهم فإن القوم اولو بأس شديد لا يخافون
ولا يرهبون الموت قد تمسكوا بدينهم والموت عندهم أفضل من الحياة وقد اقسم بدينهم
لا يبرحون عن مدينتكم حتى تسلموها إليهم أو يفتحها الله على أيديهم وحق ديني إنكم
أحب الي من العرب وأريد النصر لكم دون القوم ولكني خائف عليكم من بأسهم وسطوتهم
فسلموا تسلموا ولا تخالفوا تندموا.
قال الواقدي: فلما سمع البطريق هربيس كلامه غضب غضبا
شديدا وقال وحق المسيح والإنجيل الصحيح لولا إنك رسول لامرت بقطع لسانك على جراءتك
علينا فلما قرأ الكتاب وعلم ما فيه أمر كاتبه أن يكتب إلى الأمير أبي عبيدة بجواب
كتابه فكتب كلمة الكفر ثم قال: يا معاشر العرب إنه وصل إلينا كتابكم وعلمنا ما فيه
من التهديد والوعد والوعيد ولسنا كمن لاقيتم من أهل الشام ولم يزل الملك هرقل
يستنصر بنا على من عاداه وعلى من قصد إليه من العساكر والآن فلا بد لنا من الحرب
والقتال فإن سورنا شديد وأبوابنا حديد وحربنا عتيد والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى
المعاهد وأمر غلمانه أن يدلوه بالحبال من السور وسار حتى وصل إلى الأمير أبي عبيدة
وسلمه الكتاب ففضه وقرأه فلما سمع المسلمون ما فيه عولوا على الحرب والقتال وقسم الأمير
أبو عبيدة عسكر المسلمين أربع فرق فبعث فرقة مع المسيب بن نجية الفزاري فنزل بهم
على باب الجبل مما يلي باب الصغير وبعث فرقة أخرى مع المرقال بن هشام بن عقبة بن أبي
وقاص فنزل بهم على باب الرستق وبعث فرقة أخرى مع يزيد بن أبي سفيان فنزل على باب
الشام ونزل الأمير أبو عبيدة وخالد بن الوليد على باب الصغير وزحف المسلمون إليهم
من كل مكان وقاتلوهم بقية يومهم هذا وسهام الروم تصل إليهم فيتلقونها بالحجف ونبال
العرب تصل إليهم والى من بأعلى السور فأثرت لاجل ذلك ضرا فانفضوا عند المساء فلما
كان الغد جمع خالد بن الوليد كل عبد كان في عسكر المسلمين وأمرهم أن يتقلدوا
بالسيوف ويتنكبوا بالحدف ويزحفوا إلى سور حمص ويضربوا السور بأسيافهم ويتلقوا
السهام بحجفهم فقال الأمير أبو عبيدة وما عسى أن يغني عنا هذا يا أبا سليمان فقال
خالد رضي الله عنه: على رسلك أيها الأمير ولا تخالفني فيما صنعت فاني عزمت أن
أقاتلهم بالعبيد ونعلمهم أن ليس لهم عندنا من القدر شيء فما نقاتلهم بأنفسنا إلا
أن يخرجوا إلينا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه: افعل ما شئت فالله تعالى يوفقك
فعند ذلك أمرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بالزحف على الأسوار وكانوا أربعة آلاف
عبد وأمر خالد الفا من العرب أن تترجل معهم ففعلوا ذلك وزحفوا على السور وقد
استتروا بالحجف والعرب من ورائهم فرموا بالنبل وضربوا بسيوفهم فمنها ما تثلم ومنها
ما إنكسر.
قال الواقدي: واشرف عليهم هربيس صاحب حمص وقد دارت
بطارقته وأصحاب الرتب فجعلوا يتأملون إلى أفعالهم فقال هربيس يا معاشر البطارقة
وحق المسيح ما ظننت أن العرب بهذه الصفة وإذا هم كلهم سودان فقال له بعض من لحقه
بأجنادين وسائر المواطن: لا أيها السيد بل هؤلاء عبيدهم وهذه من بعض مكايد العرب
في الحرب وقد قدم هؤلاء السودان والعبيد إلى حربنا وقتالهم معنا وأن ليس لنا عندهم
من القدر أن يلقونا بأنفسهم أو نخرج إليهم فقال هربيس وحق المسيح أن هؤلاء أشد من
العرب بأسا وأقوى مراسا واعلموا إنه ما لزق قوم بسور مدينتنا ولا دنوا منها إلا
وقد هان عليهم أمرها واقترب على ايديهم فتحها.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن العبيد قاتلوا يومهم قتالا
شديدا وهجموا على الأبواب مرارا ولم يزالوا بقية يومهم حتى اقبل الليل ورجعت
الموالي إلى عسكر المسلمين وبعث هربيس من ليلته رسولا إلى الأمير أبي عبيدة رضي
الله عنه فأقبل الرسول والظلام معتكر فأحس جيوش المسلمين به فهموا به فقال أنا رسول
من البطريق هربيس صاحب حمص وأريد الجواب عن هذا الكتاب فسلم إليهم كتاب هربيس
فأخذه أبو عبيدة رضي الله عنه وقرأه فإذا فيه يا معاشر العرب أنا ظننا أن عندكم
عقلا تدبرون به الحرب وتستعينون به على الأمور وإذا انتم بخلاف ذلك لانكم في أول
حربكم لنا تفرقتم على الأبواب فقلنا هذا اشد ما يكون من الحصار وأعظم ما يقدرون
عليه من الأضرار.
فلما كان الغد تأخرتم عن حربنا وبعثتم هؤلاء المساكين إلى
حربنا يقطعون أسيافهم ويكسرون سلاحهم فيا ليت شعري هل تصبر سوفهم على فساد سورنا
وقد بان لنا عجز رايكم وتدبيركم في القتال وملاقاة الرجال والآن فأنا اشير عليكم
بأمر فيه الصلاح لنا ولكم وهو أن تسيروا إلى الملك هرقل وتفتحوا ما بين أيديكم كما
فتحتم ما وراءكم وإياكم واللجاج والبغي فانهما قاتلان لمن أتبعهما وراجعان على من
بدأ بهما أو نحن نخرج إليكم صبيحة هذه الليلة والله ينصر من يشاء منا ومنكم ممن
على الحق قال فلما قرأ الأمير أبو عبيدة كتاب هربيس صاحب حمص استشار المسلمين فيما
يصنع وكان قد حضر عنده رجل كبير من أكابر خثعم وسيد من ساداتهم اسمه عطاء بن عمرو
الخثعمي وكان كبير السن قديم الهجرة سديد الرأي قد قاد الرجال وولى أمر الجيش وحزم
العساكر فلما سمع كتاب هربيس وثب قائما على قدميه وقال للأمير أبي عبيدة رضي الله
عنه اقسمت عليك أيها الأمير برسول الله ﷺ إلا ما سمعت مقالي فإن فيه صلاحا
للمسلمين فالله وفقني لمقالة أريد المسلمين بها قال أبو عبيدة رضي الله عنه: قل:
يا أبا عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين قال فدنا من الأمير ابي عبيدة وسارره وقال
له: اصلح الله الأمير اعلم أن خبرك عند هؤلاء منذ نزلت على هؤلاء اللئام وهذا
البطريق اشد منعة واعظم جولة ممن كان قبله وقد علم بفتوح بعلبك وإنك لا بد أن تنزل
على حصارها وقد استدعى بالطعام والعلوفة وآلة الحصار وقد شحنا بالرجال وما ترك في
رساتيقها وقراها طعاما إلا وقد خزنوه عندهم ما يكفيهم أعواما وأن نحن حاصرناهم
يطول الأمر كما طال أمرنا على دمشق والرأي عندي أن تخدعهم بخديعة وتحتال عليهم
بحيلة فإن تمت لنا عليهم الحيلة فتحنا المدينة عن قريب أن شاء الله تعالى قال أبو
عبيدة رضي الله عنه: وما الحيلة عندك يا ابن عمرو فقال الرأي عندي أن نكتب إلى هولاء
القوم أن يجبرونا بالزاد والعلوفة ونضمن لهم أن نرتحل عنهم إلى أن يفتح الله تعالى
عليك غير مدينتهم ونرجع إليهم وقد قل: زادهم وانتشروا في سوادهم وتفرقوا في
امصارهم وتجاراتهم ونشن عليهم غارة فنملك ما ظهر منهم ويهون عليك أمر من بقي في
حمص مع قلة الزاد والعلوفة فقال أبو عبيدة: اصبت بالرأي يا ابن عمرو إني سوف افعل
ما ذكرته ونرجوا من الله التوفيق والعون.
ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بدواة وبياض وكتب جواب
الكتاب يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاني رأيت في قولك صلاحا لنا
ولكم ولسنا نريد البغي على أحد من عباد الله عز وجل وقد علمت أن عسكرنا كثير
وخيلنا وابلنا كثير فإن أردتم أن نرتحل عنكم فابعثوا لنا ميرة خمسة ايام وانتم
تعلمون أن الطريق الذي امامنا بعيد وما نلقي بعدكم إلا كل حصن منيع وابواب حديد
فإذا مونتمونا رحلنا عنكم إلى بعض مدائن الشام فإذا فتح الله علينا بعض مدائن الشام
رجعنا عنكم كما زعمتم فإن فعلتم ذلك كان صلاحا لكم وطوى الكتاب وسلمه إلى الرسول
وسار إلى حمص فلما قرأ هربيس الكتاب فرح بذلك وجمع الرؤساء والرهابين وقال لهم: اعلموا
أن العرب قد بعثوا يطلبون منكم الزاد والميرة حتى يرحلوا عنكم فإن العرب مثلهم
كمثل السبع إذا وجد فريسته لم يرجع إلى غيرها وهم قد لحقهم الجوع في مدينتكم وإذا
اشبعناهم انصرفوا عنا فقالوا: أيها الأمير نخاف من العرب أن يأخذوا الزاد والعلوفة ولا
يرحلوا عنا فقال أنا نأخذ لكم عليهم العهود والمواثيق إنكم إذا امرتموهم يرحلون
عنكم فقالوا: افعل ما بدا لك واستوثق لنا ولك قال فبعث هربيس واحضر القسوس والرهبان
وامرهم أن يخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ويأخذوا عليهم العهود
والمواثيق إذا أمرناهم يرحلون عنا.
قال فخرجوا وقد فتح لهم باب الرستن فساروا حتى وصلوا إلى
الأمير ابي عبيدةة وأخذوا عليهم ميثاقا وعهدا أن يرحلوا عنهم إذا هم ماروهم ولا
يرجع عليهم حتى يفتح الله على يديه مدينة من مدائن الشام شرقا او غربا سهلا كان او
جبلا فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد رضيت بذلك وتم الصلح على ذلك وأخرج
لهم أهل حمص مما كانوا قد ادخروه من الزاد والعلوفة شيئا عظيما له ولعسكره ما
يكفيهم مدة خمسة أيام فأقبل أبو عبيدة عليهم وقال: يا أهل حمص قبلنا ما حملتموه لنا
من الزاد والعلوفة فإذا رأيتم الآن أن تبيعوا من الزاد والعلوفة فقالوا: نحن نفعل
ذلك فعندها نادى الأمير أبو عبيدة بشراء الزاد والعلوفة ولتكثروا من ذلك فإن
قدامكم طريقا واسعا قليل الزاد والعلوفة فقالوا: أيها الأمير بماذا نشتري الزاد
وعلى أي شي نحمله فقال أبو عبيدة: من كان معه شيء من الذي غنمتموه من الروم فليشتر
به الزاد والعلوفة قال حسان بن عدي الغطفاني خفف الله عن أبي عبيدة الحساب كما خفف
عنا ما كنا نحمله من البسط والطنافس مما كان قد أثقلنا واثقل دوابنا فأخذنا به
الزاد والعلوفة من القوم وكانت العرب تسمح لهم في البيع والشراء ويشتري منهم أهل
حمص ما يساوي عشرين دينارا بدينارين ورغب أهل حمص في شراء الرخيص ولم يزل أهل حمص
كذلك ثلاثة أيام وأهل حمص فرحون برحيل العرب عنهم قال وكان للروم في عسكر العرب جواسيس
وعيون يأخذون لهم الأخبار فلما نظرت الجواسيس إلى أهل حمص وقد فتحوا مدينتهم وهم
يميرون العرب ظنوا إنهم دخلوا في طاعتهم فسارت الجواسيس إلى انطاكية طالبين وجعلوا
كلما اجتازوا ببلد من البلد أو حصن من الحصون يقولون أن أهل حمص قد دخلوا في طاعة
العرب وفتحوا مدينتهم صلحا فكان يعظم ذلك على الروم ويزيدهم خوفا ورعبا وكان ذلك
توفيقا من الله عز وجل للمسلمين وكانت الجواسيس أربعين رجلا فدخل ثلاثة رجال منهم
إلى شيزر فأشاعوا ذلك وأشيع فيها ذلك.
ذكر فتح الرستن
قال الواقدي: وسار الأمير أبو عبيدة بالعسكر حتى نزل على
الرستن فرآها حصنا منيعا وماؤها غزير وهي مشحونة بالرجال والعدد العديد فبعث إليهم
رسولا يأمرهم أن يكونوا في ذمته فأبوا ذلك وقالوا: لا نفعل حتى نرى ما يكون من
أمركم مع الملك هرقل وبعد ذلك يكون ما شاء الله تعالى فقال الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه فانا متوجهون إلى قتال الملك هرقل ومعنا رجال وامتعة وقد أثقلتنا
واشتهينا أن نودعها عندكم إلى وقت رجوعنا قال فأتى أهل الرستن إلى بطريقهم وكان
اسمه نقيطاس وشاوروه في ذلك فقال: يا قوم ما زالت الملوك والعساكر يودع بعضهم بعضا
وما يضرنا ذلك.
ثم بعث إلى الأمير أبي عبيدة يقول له: مهما كان لك من
حاجة فنحن نقضيها ونريد منكم المراعاة لاهل سوادنا حتى نرى ما يكون من امركم مع الملك
هرقل فقال الأمير أبو عبيدة ونحن نفعل أن شاء الله تعالى.
قال الواقدي: عن ثابت بن قيس بن علقمة قال كنت ممن حضر
عند ابي عبيدة رضي الله عنه فعند ذلك دعا أهل الرأي والمشورة من أصحاب رسول الله ﷺ
وقال لهم: أن هذا حصن شديد منيع ليس لنا إلى فتحه سبيل إلا بالحيلة والخديعة وأريد
أن أجعل منكم عشرين رجلا في عشرين صندوقا وتكون الأقفال عندهم من باطنها فإذا صاروا
في المدينة فثوروا على اسم الله تعالى فانكم تنصرون على من فيها من المشركين فقال
خالد بن الوليد: فإذا عزمت على ذلك فلتكن الأقفال ظاهرة ويكون اسفل الصناديق انثى
في ذكر من غير شيء يمسكها فإذا حل أصحابنا في حصن من هؤلاء القوم يخرجون جملة
واحدة ويكبرون فإن النصر مقرون بالتكبير فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك وأخذ صناديق
الطعام المنتخبة عند الروم ففض أسافلها وجعلها ذكرا في انثى فأول من دخل في
الصناديق ضرار بن الأزور والمسيب أبن نجيبة وذو الكلاع الحميري وعمرو بن معد يكرب
الزبيدي والمرقال وهاشم بن نجعة وقيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
ومالك بن الاشتر وعوف بن سالم وصابر بن كلكل ومازن بن عامر والأصيد بن سلمة وربيعة
بن عامر وعكرمة بن أبي جهل وعتبة بن العاص ودارم بن فياض العبسي وسلمة بن حبيب
والفازع بن حرملة ونوفل بن جرعل وجندب بن سيف وعبد الله بن جعفر الطيار وجعله
أميرا عليهم وسلموا الصناديق إلى الروم فلما حطت الصناديق في الرستن القاها نقيطاس
في قصر امارته وارتحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وسار حتى نزل في قرية يقال
لها: السودية فلما أظلم الليل بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف إلى
الرستن ينظر ما يكون من أصحابه وما فعلت الصحابة رضي الله عنه فسار خالد بن الوليد
برجاله حتى وصل القنطرة وإذا بالصياح قد علا والتهليل والتكبير من داخل مدينة
الرستن.
قال الواقدي: كان من أمر الصحابة إنه لما تركهم نقيطاس
في دار امارته ركب إلى البيعة مع بطارقته وأهل مدينته ليصلوا صلاة الشكر لاجل رحيل
المسلمين عنهم وارتفعت اصواتهم بقراءة الإنجيل وسمع اصواتهم أصحاب رسول الله صلى
الله عليهم وسلم فخرجوا من الصناديق وشدوا على أنفسهم وشهروا سلاحهم وقبضوا على امرأة
نقيطاس وحريمه وقالوا: نريد مفاتيح الأبواب فسلمتها إليهم فلما حصلت المفاتيح في
أيديهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير وكبس
القوم على أبواب مدينتهم فلم يجسروا عليهم لانهم بدون عدة وسلاح وبعث عبد الله بن
جعفر الطيار ربيعة بن عامر والأصيد بن سلمة وعكرمة ابن ابي جهل وعتبة بن العاص
والفارع بن حرملة وسلم إليهم المفاتيح وقال افتحوا الأبواب وارفعوا أصواتكم
بالتهليل اخوانكم المسلمين من حول المدينة كاملون فتبادر الخمسة إلى الباب القبلي
وهو باب حمص وفتحوه ورفعوا اصواتهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة وإذا هم
بعسكر الزحف وعلى المقدمة خالد بن الوليد رضي الله عنه فأجابوهم بالتهليل والتكبير
ودخلوا المدينة وسمع أهل الرستن أصوات أصحاب رسول الله ﷺ فعلموا إنهم في قبضتهم وأن
مدينتهم قد أخذت من ايديهم فاستسلموا جميعا وخرجوا إليهم وقالوا: لهم أنا لا
نقاتلكم ونحن الآن اسرى لكم فاعدلوا فينا فأنتم أحب إلينا من قومنا.
قال فعرض خالد بن الوليد رضي الله عنه الإسلام عليهم
فأسلم منهم كثير وبقي الأكثر يؤدون الجزية واما أميرهم نقيطاس فإنه قال: لا أريد
بديني بدلا فقال له خالد بن الوليد: الآن فاخرج باهلك عنا وحدث قومك بعدلنا فأخرجوه
من الرستن فتوجه بأهله وأمواله إلى حمص وأعلم أهلها بفتح الرستن فصعب ذلك على أهل
حمص وعلموا أن العرب تصبحهم أو تمسيهم بالغارة وبعث عبد الله بن جعفر الطيار إلى
أبي عبيدة يخبره بالفتح والنصر فسجد لله شكرا وبعث إليهم ألف رجل من اليمن ووصاهم
بحفظ الرستن وأمر عليهم هلال بن مرة اليشكري فلما استقروا بالرستن رحل خالد بن
الوليد رضي الله عنه وعبد الله بن جعفر وأهلهم وعساكرهم وتوجهوا إلى حماة وكان أهل
حماة في صلح المسلمين كما ذكرنا وكذلك أهل شيزر إلا أن بطريق أهل شيزر مات وبعث
إليهم الملك هرقل بطريقا عاتيا جبارا اسمه نكس ففسخ الصلح وأذاق أهل شيزر ضرا وشرا
وكان يصادرهم ويأخذ أموالهم ويحتجب عنهم لاهيا في أكله وشربه فلما بلغ الخبر الأمير
أبا عبيدة بعث خيلا جريدة إلى شيزر فغارت الخيل على بلدهم ووقعت الضجة بشيزر وسمع
البطريق نكس الضجة فنزل إليهم من قلعته واظهر لهم بعض حجابه وجلس في بيعتهم
المعظمة عندهم وجمع الرؤساء منهم وقال لهم: يا أهل شيزر أنتم تعلمون أن الملك هرقل
قد استخلفني عليكم أحفظ مدينتكم وامنع عن حريمكم وأموالكم ثم فتح خزانة السلاح
وفرق عليهم العدد وامرهم بالحرب والقتال فبينما القوم كذلك إذ أشرف عليهم خالد بن
الوليد في أصحابه ومعه جيش الزحف فنزلوا بأزائهم واشرف بعده يزيد بن أبي سفيان
بأصحابه فنزل عليهم واشرف بعد الأمير أبو عبيدة في عساكره جميعهم فلما نظر أهل
شيزر تلاحق العساكر بهم هالهم ذلك وعظم عليهم وحارت أبصارهم.
قال الواقدي:
فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه كتب إلى أهل شيزر كتابا
يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أهل شيزر فإن حصنكم ليس بأمنع من حصن
بعلبك ولا من الرستن ولا رجالكم أشجع فإذا قرأتم كتابي هذا فادخلوا في طاعتي ولا تخالفوني
فيكون وبالا عليكم وقد بلغكم عدلنا وحسن سيرتنا فكونوا مثل سائر من صالحنا ودخل في
طاعتنا من سائر بلاد الشام والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وبعثه
إليهم فلما وصل الكتاب إليهم أعطوه بطريقهم نكس فقرىء عليه فلما فهم ما فيه قال:
ما تقولون يا أهل شيزر فيما ذكرت العرب فقالوا: صدقت العرب أيها البطريق الكبير
فإن حصننا ليس بأمنع من الرستن ولا بعلبك ولا دمشق ولا بصرى وأنت اعلم شدة أهل حمص
وحدة شجاعتهم وقد صالحوا العرب وكذلك أهل فلسطين ومدنها والأردن وحصنها فكيف تمنع
عنهم شيزر وهي حصن لطيف فإن عصيت هؤلاء العرب فانك معول على هلاكنا وخراب مدينتنا.
قال الواقدي: وكثر فيهم الخطاب وعلا الكلام واقبل
البطريق نكس بسبب أهل شيزر وامر غلمانه بضربهم فلما نظر أهل شيزر ذلك غضبوا
واظهروا سلاحهم عليه وعلى غلمانه ووقع القتال بين الفريقين فعرف المسلمون ذلك
وقالوا: اللهم اهلكهم ببأسهم ولم يزل أهل شيزر في القتال حتى نصروا على البطريق
وعلى غلمانه وقتلوهم عن آخرهم ثم اخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه رجالا
إلى لقائه بغير سلاح فلما وقفوا بين يدي الأمير أبي عبيدة سلموا عليه وقالوا: أيها الأمير أنا
قتلنا بطريقنا في محبتكم قال: يا أهل شيزر بيض الله وجوهكم وادر رزقكم فقد
كفيتمونا الحرب والقتال ثم قال للمسلمين إلا ترون إلى حسن طاعة هؤلاء الروم
وفعالهم ببطريقهم في محبتكم والدخول في طاعتكم وقد رأيت من الرأي أن أحسن إلى
القوم وانعم عليهم فقال المسلمون: نعم ما رأيت حتى يصل ما تصنع إلى غيرهم ويفتح
الله علينا البلاد أن شاء الله تعالى.
قال الواقدي: فأقبل على أهل شيزر وقال أبشروا فاني لست
اكره أحدا منكم فمن أحب منكم الدخول في ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا والخراج
موضوع عنكم سنتين ومن اقام على دينه فعليه الجزية وقد وضعنا عنه الخراج سنة كاملة
ففرح الروم بذلك وقالوا: أيها الأمير سمعنا واطعنا وهذا قصر بطريقنا فأنت أحق بما
فيه وهو هدية منا إليك فدونك وإياه وما فيه من الرجال والآنية والأموال فأخرج أبو
عبيدة رضي الله عنه منها الخمس وقسم الباقي على المسلمين بالسوية ونادى أبو عبيدة
رضي الله عنه يا معاشر المسلمين قد فتح الله على ايديكم هذه المدينة ايسر فتح
واهونه وقد خرج أهل حمص من ذمتكم ووفيتم لهم ما عاهدوكم عليه فارجعوا بنا عليهم
رحمكم الله تعالى قال الواقدي: فركب المسلمون ظهور خيولهم وهموا بالمسير واذ قد
لاح لهم غبرة مرتفعة من وراء النهر المقلوب وهي منقلبة من طريق انطاكية وقد أخذت
عرضا فاسرعت خيل المسلمين إليها فإذا معها قسيس كبير من قسوس الروم ومعه مائة
برذون موسوقة بالأحمال ومن حولها مائة علج من علوج الروم يحفظونها.
قال الواقدي:
ولم يكن للقسيس خبر بنزول المسلمين على شيزر فصاح بهم
خالد بن الوليد رضي الله عنه وكبر المسلمون معه واحدقوا بهم من كل جانب وأخذوا
العلوج اسرى وأخذوا البراذين واقبل خالد على القسيس وقال له: يا ويلك من اين اقبلت
بهذه الأحمال قال فرطن القسيس بالرومية فلم يدر خالد ما يقول: هذا القسيس الميشوم
فبدا إليه رجل من أهل شيزر وقال: يا أيها الأمير إنه يذكر إنه من القسوس المعظمة
عند الملك هرقل وقد بعثه وبعث معه إلى هربيس هذه الأحمال فيها ديباج أحمر منسوج
بقضبان الذهب وعشرة أحمال مملوءة دنانير وباقي الأحمال مملوءة من الثياب والدنانير
فأخذوها واخرجوا منها مالا عظيما وغنم المسلمون غنيمة غظيمة لم يغنموا مثلها وساق
خالد بن الوليد الأحمال إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فوجده على النهر
المقلوب مما يلي شيزر وتحته عباءة قطوانية وعلى رأسه مثلها تظله من حر الشمس فأقبل
خالد بن الوليد رضي الله عنه بالقسيس فأوقفه بين يديه فقال أبو عبيدة: ما هذا يا
أبا سليمان فقال خالد: إنهم قوم من انطاكية ومعهم هدية لهربيس صاحب حمص من ملك
الروم هرقل.
قال الواقدي: وعرض عليه الغنيمة ففرح الأمير أبو عبيدة
بها فرحا شديدا وقال: يا أبا سليمان لقد كان فتح شيزر علينا مباركا ثم دعا بترجمان
كان معه لا يفارقه وقال اسال هؤلاء عن ملك الروم الطاغية هرقل هل هو في جمع كثير
أم لا فكلم الترجمان القسيس ساعة فقال القسيس قل للامير: أن الملك هرقل قد بلغه
إنكم فتحتم دمشق وبعلبك وجوسية وأنكم لم تنزلوا على حمص فبعث معي هذه الهدية إلى
هربيس البطريق وكتب إليه يأمره بقتالكم ويعده بالنجدة وقدوم العساكر إليه لأن
الملك هرقل قد استنجد عليكم كل من يعبد الصليب ويقرأ الإنجيل فأجابته الرومية
والصقالبة والافرنج والأرمن والدقس والمغليط والكرج واليونان والعلف والغزنة وأهل
رومية وكل من يحمل صليبا والعساكر قد وصلت إلى الملك هرقل من كل جانب ومكان قال
فحدث الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بكل ما أعلمه القسيس به فعظم ذلك على
الأمير أبي عبيدة وعرض على القسيس الإسلام فقال القسيس للترجمان قل للامير: أبي عبيدة
إني البارحة رأيت رسول الله ﷺ في المنام وقد أسلمت على يديه ففرح الأمير أبو عبيدة
بذلك وعرض على الأعلاج الإسلام فأبوا ذلك فضربت رقابهم ورحل أبو عبيدة رضي الله
عنه متوجها إلى حمص وقد سير الخيل جريدة في مقدمته فما يشعر أهل حمص إلا والخيل قد
أغارت عليهم فرجع القوم إلى المدينة وقد غلقوا الأبواب وقالوا: غدرت العرب وحق
المسيح قال: ونزل المسلمون حول حمص وداروا بها من كل جانب ومكان وقد نفذ الزاد من
المدينة واكثر اهلها قد خرجوا إلى تجارتهم وفي طلب الميرة وقد تفرقوا في البلاد
فلما نزل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على حمص دعا بالعبيد والموالي وأمرهم أن
يتفرقوا على الطرقات والمحارس وقال لهم: كل من وجدتموه قد رجع إلى حمص بزاد أو تجارة
فاتوني به ففعل العبيد ذلك وصعب على هربيس صاحب حمص وكتب إلى الأمير أبي عبيدة
كتابا يقول فيه: أما بعد يا معاشر العرب فانا لم نخبر عنكم بالغدر ولا بنقض العهد
ألستم صالحتمونا على الميرة فمرناكم فطلبتم منا البيع فابتعناكم فلم نقضتم ما
عاهدناكم عليه فكتب الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يقول: أريد أن ترسل إلى القسوس
والرهبان الذين أرسلتهم الي حتى أوقفهم على ما عاهدتهم عليه ليعلموك أننا لم نغدر
ولا مثلنا من يفعل ذلك أن شاء الله تعلى فلما قرأ هربيس الكتاب أحضر القسوس
والرهبان وبعث بهم إلى الأمير أبي عبيدة فخرجوا إليه وفتح لهم باب حمص وساروا إلى
أن وصلوا للأمير ابي عبيدة فسلموا عليه وجلسوا بين يديه فقال لهم أبو عبيدة رضي
الله عنه: ألم تعلموا إني عاهدتكم وحلفت لكم إني منصرف عنكم حتى افتح مدينة من مدائن
الشام سهلا كان أو جبلا ثم يكون الرأي لي أن شئت رجعت إليكم او سرت إلى غيركم
فقالوا: بلى وحق المسيح فقال لهم: أن الله تعالى قد فتح علينا شيزر والرستن في
اهون وقت وقد غنمنا الله مال بطريقهم نكس وغيره مما لم نؤمله في هذه المدة اليسيرة
والآن فلا عهد لكم عندنا ولا صلح إلا أن تصالحونا على فتح المدينة وتكونوا في
ذمتنا وأمانتنا فقال القسوس والرهبان لقد صدقت أيها الأمير ليس عليكم لوم وقد
وفيتم بذمتكم وقد بلغنا فتحكم شيزر والرستن والخطا كان منا إذ نستوثق لأنفسنا
والآن الأمر بيد بطريقنا ونحن نرجع إليه ونعلمه بذلك ثم رجعوا إلى مدينتهم ودعا
الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه بالرجال والأبطال وأهل الحرب وقال خذوا أهبتكم فإن
القوم بلا زاد ولا مدد يأتي إليهم من عند طاغيتهم ولا نجدة فاستعينوا بالله
وتوكلوا على الله.
فلبس المسلمون السلاح والعدد ورجعوا إلى الأبواب
والاسوار واجتمع أهل أحمص ببطريقهم هربيس وقالوا: ما عندك من الرأي في أمر هؤلاء
العرب فقال الأمر عندي أن نقاتلهم ولا نريهم منا ضعفا قالوا: فإن الزاد قد نفد من
مدينتنا وقد أخذه القوم منا وما سمعنا بمثل هذه الحيلة فقال هربيس ما لكم تعجزون
عن حرب عدوكم وما قتل منكم قتيل ولا جرح منكم جريح ولم تصبكم شدة ولا جوع وإنما
اصابوا منكم على غرة ولو دخلوا المدينة لما قدروا عليكم وأقل الرجال على السور
يكفيكم إياهم وعندي من الزاد في قصري ما يعم كثيركم المدة الطويلة وما أحسب أن
الملك هرقل يغفل وسيبلغه خبركم ويوجه العساكر.
قال الواقدي: وكان عند البطريق هربيس في قصره جب عظيم
مملوء طعاما ففتحه وفرق الطعام على أهل حمص فسكنت بذلك نفوسهم وجعل البطريق يفرق
على كبيرهم وصغيرهم بقية يولمهم ذلك وقد انحصر أهل حمص جميعهم فنفذ ذلك اليوم نصف
ما في الجب وقال لهم: اقنعوا بما أعطيتكم ثلاثة ايام وابرزوا إلى حرب عدوكم ثم أخذوا
أهبة الحرب وعرض عسكره وانتخب منهم خمسة آلاف فارس من أولاد الزراوزة والعمالقة لا
يساويهم غيرهم فيهم ألف مدبجة ملكية وفتح خزانة جده جرجيس وفرق عليهم الدروع
والجواشن والبيض والمغافر والقسى والنشاب والحراب واقبل يحرضهم على القتال ويوعدهم
بالمدد والنجدة من الملك هرقل ثم دعا بالقسوس والرهبان وقال لهم: خذوا أهبتكم
وادعوا المسيح أن ينصرنا على العرب فإن دعاءكم لا يحجب ولا يرد قال فدخلوا كنيستهم
المعظمة عندهم وهي كنيسة جرجيس وهي الجامع اليوم ونشروا المزأمير وضجوا بالتهمير
واقبلوا يبتهلون بكلمة الكفر وباتوا بقية ليلتهم على مثل ذلك فلما كان الصباح دخل
هربيس إلى البيعة وتقرب وصلوا عليه صلاة الموتى فدخل قصره وقدم له خنوص مشوي فاكله
حتى أتى على آخره وقدم بين يديه باطية الذهب والفضة فشرب حتى انقلبت عيناه في أم
رأسه ثم لبس ديباجا محشوا بالفرو والزرد الصغار المضعف العدد ولبس فوقها درعا من
الذهب الأحمر وعلق في عنقه صليبا من الياقوت وتقلد بسيف من صنعة الهند وقدم له مهر
كالطود العظيم فاستوى على ظهره وخرج من قصره طالبا باب الرستن فأحاطت به بطارقته
من الروم من كل جانب ومكان وفتحت أبواب حمص وخرجت الروم من كل جانب ومكان في عددهم
وعديدهم وراياتهم وصلبانهم وبين يدي هربيس خمسة آلاف فارس من علوج الروم وهم
بالعدد العديد والزرد النضيد فصفهم هربيس أمام المدينة كأنهم سد من حديد او قطع
الجلمود وقد وطنوا نفوسهم على الموت دون أموالهم وذراريهم فتبادر المسلمون إليهم
مثل الجراد المنتشر وحملوا عليهم حملة عظيمة والعلوج كأنهم حجارة ثابتة ماولوا عن مواضعهم
ولا فكروا فيما نزل بهم فعندها صاح البطريق هربيس على رجاله وزجرهم فتبادرت الروم
وصاح بعضهم ببعض وركب المسلمون وحملوا عليهم ورشقوا الرجال بالسهام واشتبكت الحرب
واختلط الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا ما عليه من مزيد إلا أن المسلمين رجعوا
القهقري وقد فشا فيهم القتال والجراح.
فلما نظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك من هزيمة المسلمين
عظم عليه وكبر لديه وصاح فيهم بصوته يا بني القرآن الرجعة الرجعة بارك الله فيكم
فهذا يوم من ايام الله تعالى فاحملوا معي بارك الله فيكم فتراجع الناس وحملوا على
أهل حمص حملة عظيمة وشدوا عليهم الحملة وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع كثير
من بني.
مخزوم وجعلوا يضربون فيهم بسيوفهم ويطعنون برماحهم حتى
طحنوهم طحن الحصيد ووضع المسلمون فيهم السيف وحمل ابن مسروق العبسي في طائفة من
قومه من بني عبس وقد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير وصدموا الروم صدمة عظيمة
فتراجعت الروم إلى الاسوار وقد فشا فيهم القتل فبربرت الروم بلغاتها وتراجعت على
المسلمين واحاطوا بهم من كل جانب ومكان ورشقت العلوج بالنشاب وطعنوا في المسلمين
بالحراب وقد استتروا بالدرق والطوارق قال فلما نظر خالد بن الوليد إلى ذلك برز
باللواء وكان هو صاحب اللواء يوم حمص وصاح خالد بأصحابه وقال شدوا عليهم بالحملة
بارك الله فيكم فإنها والله غنيمة الدنيا والآخرة قال فبينما خالد بن الوليد يحرض
أصحابه على القتال إذ حمل عليه بطريق من عظماء الروم وعليه لامة مانعة وهو يهدر
كالاسد فحمل خالد بن الوليد عليه وضربه على رأسه فوقع سيفه على البيضة فطار السيف
من يد خالد بن الوليد وبقيت قبضته في يده فطمع العلج فيه وحمل عليه ولاصقه حتى حك
ركابه بركاب خالد وتعانقا جميعا بالسواعد والمناكب فضم خالد العلج إلى صدره
واحتضنه بيده وشد عليه بقوته فطحن أضلاعه وأدخل بعضها في بعض فارداه قتيلا وأخذ
خالد سيف العلج وهزه في يده حتى طار منه الشرر ووضع رأسه في قربوس سرجه وحمل وصاح
في بني مخزوم فحملوا حملة عظيمة وهاجوا في أوساطهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه
يفرقهم يمينا وشمالا وهو ينادي برفيع صوته.
أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد صاحب رسول الله ﷺ
ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد حتى توسطت الشمس في كبد السماء
وحمى الدرع على خالد بن الوليد رضي الله عنه فخرج من المعركة وبنو مخزوم يتقاطرون
من خلفه والدم يسيل ملء درعهم وسواعدهم كأنها شقائق الأرجوان وخالد بن الوليد رضي
الله عنه في أوائلهم وهو يقول:
ويل لجمع الروم من يوم شغب
...
إني رأيت الحرب فيه تلتهب
وكم لقوا منا مواقع النصب
...
وكم تركت الروم في حال العطب
قال فناداه الأمير أبو عبيدة لله درك يا أبا سليمان لله
ربك لقد جاهدت في الله حق جهاده فلما نظر المرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى
غفلة الروم صاح في بني زهرة وحملوا في ميمنة الروم وحمل ميسرة بن مسروق العبسي في
قومه وحمل عكرمة بن أبي جهل وحوله جمع كثير من بني مخزوم وحمل المسلمون بأجمعهم وقد
اطلعوا على الشهادة وأيقنوا بالعناية.
معركة حمص
قال الواقدي: فلم يكن يوم حمص أشد حربا ولا اقوى جلدا من
بني مخزوم غير أن عكرمة بن ابي جهل كان أشدهم بأسا واقداما وهو يقصد الاسنة بنفسه
فقيل له اتق الله وارفق بنفسك فقال: يا قوم أنا كنت اقاتل عن الأصنام فكيف اليوم وأنا
أقاتل في طاعة الملك العلام وإني أرى الحور متشوقات الي ولو بدت واحدة منهن لاهل
الدنيا لاغنتهم عن الشمس والقمر ولقد صدقنا رسول الله ﷺ فيما وعدنا ثم سل سيفه
وغاص في الروم ولم يزدد إلا اقداما وقد عجبت الروم من حسن صبره وقتاله فبينما هو
كذلك إذ حمل عليه البطريق هربيس صاحب حمص وبيده حربة عظيمة تضيء وتلتهب وهزها في
كفه وضربه بها فوقعت في قلبه ومرقت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله تعالى بروحه
إلى الجنة فلما نظر خالد بن الوليد إلى ابن عمه وقد وقع صريعا اقبل حتى وقف عليه
وبكى وقال: يا ليت عمر بن الخطاب نظر إلى ابن عمي صريعا حتى يعلم أنا إذا لاقينا
العدو ركبنا الاسنة ركوبا قال ولم يزالوا في الأهوال الشديدة حتى هجم الليل عليهم وتراجعت
الروم إلى مدينتهم وغلقوا الأبواب وطلعوا على الاسوار ورجعت المسلمون إلى رحالهم
وخيامهم وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما اصبح الصباح قال الأمير أبو عبيدة رضي الله
عنه يا معاشر المسلمين ما بالكم قد صدكم هؤلاء القوم وبعد الطمع فيهم ما بالكم
هزمتم وجزعتم منهم والله ألبسكم عافية مجللة وسلامة سابغة وأظفركم على بطارقة
الروم وفتح لكم الحصون والقلاع فما هذا التقصير والله تعالى مطلع عليكم.
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: هؤلاء فرسان الروم
اشد الرجال ليس فيهم سوقة ولا جبان وقد تعلم إنهم يكونون اشد في الحرب لانهم
يمنعون عن الذراري والنسوان فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه فما الرأي عندك يا أبا
سليمان يرحمك الله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير قد رأيت من
الرأي اننا ننكشف للقوم غدا وندع لهم سوائمنا وابلنا فإذا تباعدنا عن مدينتهم
وتبعتنا خيلهم وتباعدوا عن مدينتهم وصاروا معنا عطفنا عليهم ومزقناهم بالاسنة
ونقطع ظهورهم لبعدهم عن مدينتهم فقال أبو عبيدة: نعم الرأي ما رأيت يا أبا سليمان
ولقد اشرت واحسنت قال وتواعد المسلمون على أن ينكشفوا بين أيدي الروم وأن يتركوا
لهم سوائمهم فلما اصبح الصباح فتحت أبواب حمص وخرجت الروم من جميع الأبواب وزحفوا
يريدون القتال فسألهم العرب كفوا القتال واروهم التقصير والخوف واطمعوهم في أنفسهم
وجعلوا ينحرفون عن قتالهم حتى تضاحى النهار وانبسطت الشمس وطاب الحرب وطمعت الروم
في المسلمين لما بان لهم من تقصيرهم فشد الروم بالحملة عليهم فانهزمت العرب من بين
أيديهم وتركوا سوائمها.
قال نوفل بن عامر حدثنا عرفجة بن ماجد النميمي عن سراقة
النخعي وكان ممن حضر يوم حمص قال لما انهزمت العرب أمام الروم وتبعنا هربيس
البطريق في خمسة آلاف اشهب وكانوا اشد الروم قال سراقة بن عامر وانهزمنا أمام
القوم كاننا نطلب الزراعة وجوسية وأدركتنا البطارقة وبعضهم مال إلى السواد طمعا في
الزاد والطعام.
قال الواقدي: وكان بحمص قسيس كبير السن عظيم القدر عند
الروم قد حنكته التجارب وعرف أبواب الحيل والخداع وكان عالما من علماء الروم وقد
قرأ التوراة والإنجيل والزبور والمزأمير وصحف شيث وابراهيم وأدرك حواري عيسى ابن
مريم عليه السلام فلما أشرف ذلك القسيس ونظر إلى العرب وقد ملك الروم سوادهم جعل
يصيح ويقول وهو ينادي: وحق المسيح أن هذه خديعة ومكر ومكيدة من مكايد العرب وأن
العرب لا تسلم اولادها وابلها ولو قتلوا عن آخرهم قال وجعل القسيس يصيح وأهل حمص
قد وقعوا في النهب وليس يغنيهم سوى الزاد والطعام والبطريق هربيس قد الح في طلب
المسلمين في خمسة آلاف فارس فلما أبعدوا عن المدينة صاح الأمير أبو عبيدة رضي الله
عنه برفيع صوته اعطفوا على الروم كالسباع الضارية والعقبان الكاسرة فردوا عليهم
كردوسا واحدا حتى أحاطوا بالبطريق وأصحابه من كل جانب وداروا بهم مثل الحلقة المستديرة
واحدقوا بهم كاحداق البياض بسواد العين وبقيت الروم في اوساطهم كالشامة السوداء في
الثور الأبيض فعند ذلك نصبت العلوج نشابها على العرب والمسلمون يكرون عليهم مثل
الأسود الضارية ويحومون عليهم كما تحوم النسور ويضربونهم بالسيوف ويصرعونهم يمينا
وشمالا حتى إنكسر أكثرهم.
قال عطية بن فهر الزبيدي فلما نظرت الروم إلى فعلنا بهم
تكالبت علينا فلما حميت الحرب ابتدر خالد بن الوليد رضي الله عنه من وسط العسكر
وهو على جواد اشقر وعليه جوشن مذهب كان لصاحب بعلبك اهداه له يوم فتح بعلبك وكان
خالد بن الوليد رضي الله عنه قد عمم نفسه بعمامة حمراء وكانت تلك العمامة عمامته
في الحرب وجعل يهدر كالاسد الحردان وقد انتضى سيفه من غمده وهزه حتى طار منه الشرر
ونادى برفيع صوته رحم الله رجلا جرد سيفه وقوى عزمه وقاتل أعداءه فعندها انتضب
المسلمون سيوفهم وصدموا الروم صدمة عظيمة ونادى الأمير أبو عبيدة يا بني العرب
قاتلوا عن حريمكم ودينكم واموالكم فإن الله مطلع عليكم وناصركم على عدوكم قال وكان
معاذ بن جبل قد انفرد في خمسمائة فارس إلى السواد والأموال وانقض على الروم فما
شعرت الروح والعلوج ممن انغمس في الغارة وحمل الزاد والرحال والأمتعة إلا والطعن
قد أخذهم بأسنة الرماح من كل جانب كأنها ألسنة النار المضرمة ونادى مناد يا فتيان
العرب اطلبوا الباب لئلا ينجوا أحد من الروم برحالنا وأولادنا فجعل المسلمون
يطلبون الأبواب وكانت علوج الروم قد غرقت في رحال المسلمين فلما نظروا إلى معاذ وقد
حمل عليهم في رحاله عادت وقد رمت الرحال وطلبت الهرب فانفلت منهم ما انفلت وقتل من
قتل قال صهيب بن سيف الفزاري فوالله ما انفلت من الخمسة آلاف الذين كانوا مع هربيس
صاحب حمص إلا ما ينوف عن مائة فارس قال واتبعنا القوم إلى الأبواب فكان اعظم
المصيبة قتلنا إياهم على الأبواب لأن أكثر الرجال من العواصم وغيرهم كانوا في
المدينة قال سعيد بن زيد شهدت يوم حمص وكنت ممن أولع بعدد القتلى فعددت خمسة آلاف
وستة غير أسير وجريح فدنوت من الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقلت البشارة: أيها
الأمير فاني عددت خمسة آلاف وستة غير اسير وجريح فقال الأمير أبو عبيدة بشرت بخير
يا سعيد يا ابن زيد فهل ترى قتل بطريقهم هربيس فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إذا
كان قتل بطريقهم هربيس فما قتله غيري فقال الأمير أبو عبيدة وكيف علمت إنه قتيلك
يا سعيد فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إني رأيت فارسا عظيم الخلقة طويلا ضخما أحمر
اللون وبيده سيف وعليه لامة حربه صفتهما كذا وكذا وهو في وسط الروم كأنه البعير
الهائج فحملت عليه وقلت في حملتي: اللهم إني اقدم قدرتك على قدرتي وغلبتك على
غلبتي اللهم اجعل قتله على يدي وارزقني اجره فقال له أبو عبيدة: إما أخذت سلبه يا
سعيد قال: لا ولكن علامتي فيه نبلة من كنانتي أثبتها في قلبه فخر يهوي عن جواده
ونفرت عنه أصحابه فلحقته فضربته بسيفي ضربة فصرمت حقوته ونبلتي في قلبه قال أبو
عبيدة رضي الله عنه: أدركوه رحمكم الله وسلموا سلبه إلى سعيد ففعلوا ذلك.
قال الواقدي: فلما أخذت الحرب اوزارها أخذ المسلمون
الإسلاب والدروع والشهابي ومثلوا الجميع أمام الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأخرج
منها الخمس لبيت مال المسلمين وقسم الباقي على المجاهدين قال ووقع الصياح والبكاء
في حمص على من قتل منهم من فرسان الكفار ورجالهم قال واجتمع مشايخ حمص ورؤساؤهم
إلى بيعتهم وتحدثوا مع القسوس والرهبان على أن يسلموا حمص إلى المسلمين وخرج علماء
دينهم ورؤساؤهم إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وصالحوه على تسليم المدينة إليه وأن
يكونوا تحت ذمامه وأمانة فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لست أدخل مدينتكم حتى
نرى ما يكون بيننا وبين الملك هرقل وأراد أهل حمص أن يكرموا المسلمين بالإقامة
والعلوقة فنهاهم الأمير أبو عبيدة عن ذلك ولم يدخل أحد من المسلمين إلى حمص إلا
بعد وقعة اليرموك كل ذلك ليتقرب المسلمون إلى الروم بالعدل وحسن الصحبة.
قال جرير بن عوف حدثنا حميد الطويل قال حدثني سنان بن
راشد اليربوعي قال حدثنا سملة بن جريج قال حدثنا النجار وكان ممن يعرف فتوح الشام
قال لما صالحنا أهل حمص بعد قتل هربيس خرج أهل حمص ودفنوا قتلاهم فافتقدنا القتلى
الذين استشهدوا من أصحاب رسول الله ﷺ فوجدنا من استشهد من المسلمين مائتين وخمسة
وثلاثين فارسا كلهم من حمير وهمدان إلا ثلاثين رجلا من أهل مكة وهم عكرمة بن أبي
جهل وصابر بن جرىء والريس بن عقيل ومروان بن عامر والمنهال بن عامر السلمي ابن عم
العباس رضي الله عنه وجمح بن قادم وجابر بن خويلد الربعي فهؤلاء من المسلمين الذين
استشهدوا يوم حمص والباقون من اليمن وهمدان ومن اخلاط الناس.
ذكر وقعة اليرموك
قال الواقدي: واتصلت الأخبار إلى الملك هرقل أن المسلمين
قد فتحوا حمص والرستن وشيزر وقد أخذوا الهدية التي بعثها إلى هربيس البطريق فبلغ
ذلك منه دون النفس وأقام ينتظر الجيوش والعساكر من أقصى بلاد الروم لانه قد كان
كاتب كل من يحمل الصليب فما مضى عليه إلا أيام قلائل حتى صار أول جيوشه عنده بانطاكية
وآخرها في رومية الكبرى وانه بعث جيشا إلى قيسارية ساحل الشام يكون حفظه على عكاء
وطبرية وبعث بجيش آخر إلى بيت المقدس وأقام ينتظر قوم ماهان الأرمني ملك الأرمن
وقد جمع من الأرمن ما لا يجمعه أحد من أهالي الملك هرقل وبعد أيام قدم على الملك
هرقل للقائه في أرباب دولته فلما قرب منه ترجل ماهان وجنوده وكفروا بين يديه ورفعا
اصواتهم بالبكاء والنحيب مما وصل إليهم من فتح المسلمين بلادهم فنهاهم عن ذلك
وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد حذرتكم وخوفتكم من هؤلاء العرب
ولم تقبلوا مني فوحق المسيح والإنجيل الصحيح والقربان ومذبحنا المعمدان لا بد
لهؤلاء العرب أن يملكوا ما تحت سريري هذا والآن البكاء لا يصلح إلا للنساء وقد اجتمع
لكم من العساكر ما لم يقدر عليه ملك من ملوك الدنيا وقد بذلت مالي ورجالي كل ذلك
لاذب عنكم وعن دينكم وعن حريمكم فتوبوا للمسيح من ذنوبكم وانووا للرعية خيرا ولا
تظملوا وعليكم بالصبر في القتال ولا يخامر بعضكم بعضا وإياكم والعجب والحسد فانهما
ما نزلا بقوم إلا ونزل عليهم الخذلان وإني أريد أن أسألكم وأريد منكم الجواب عما
أسألكم عنه فقالت العظماء من الروم والملوك: اسأل أيها الملك عما شئت.
قال إنكم اليوم أكثر عددا وأغزر مددا من العرب وأكثر
جمعا وأكثر خياما وأعظم قوة فمن أين لكم هذا الخذلان وكانت الفرس والترك والجرامقة
تهاب سطوتكم وتفزع من حربكم وشدتكم وقد قصدوا إليكم مرارا ورجعوا منكسرين والآن قد
علا عليكم العرب وهم أضعف الخلق عراة الأجساد جياع الاكباد ولا عدد ولا سلاح وقد
غلبوكم على بصرى وحوران وأجنادين ودمشق وبعلبك وحمص قال فسكت الملوك عن جوابه
فعندها قام قسيس كبير عالم بدين النصرانية وقال: أيها الملك أما تعلم لم نصرت
العرب علينا قال: لا وحق المسيح فقال القسيس أيها الملك لأن قومنا بدلوا دينهم وغيروا
ملتهم وجحدوا باجابة المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه وظلموا بعضهم
وليس فيهم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وليس فيهم عدل ولا احسان ولا يفعلون
الطاعات وضيعوا أوقات الصلوات وأكلوا الربا وارتكبوا الزنا وفشت فيهم المعاصي
والفواحش وهؤلاء العرب طائعون لربهم متبعون دينهم رهبان بالليل صوام بالنهار ولا
يفترون عن ذكر ربهم ولا عن الصلاة على نبيهم وليس فيهم ظلم ولا عدوان ولا يتكبر
بعضهم على بعض شعارهم الصدق ودثارهم العبادة وأن حملوا علينا لا يرجعون وأن جملنا
عليهم فلا يولون وقد علموا أن الدنيا دار الفناء وأن الآخرة هي دار البقاء.
قال الواقدي: فلما سمع القوم والملك هرقل ما قاله القسيس
قالوا: وحق المسيح لقد صدقت بهذا نصرت العرب علينا لا محالة وإذا كان فعل قومنا ما
ذكرت فلا حاجة لي في نصرتهم وإني قد عولت أن أصرف هذه الجيوش والعساكر إلى بلادها
وآخذ أهلي ومالي وأنزل من أرض سورية وأرحل إلى أسبوك يعني القسطنطينية فأكون هناك آمنا
من العرب قال فلما سمع القوم ذلك من الملك صفوا بين يديه وقالوا: أيها الملك لا
تفعل ولا تخذل دين المسيح فيطالبك بذلك يوم القيامة وتعيرك الملوك بذلك ويستضعفون
رأيك وأيضا تشمت بنا أعداؤنا إذا أنت خرجت من جنة الشام وسكن بعدنا فيها العرب وقد
اجتمع لنا مثل هذا الجيش الذي ما اجتمع لملك من ملوك الدنيا ونحن نلقى العرب ونصبر
على قتالهم ولعل المسيح أن ينصرنا عليهم فاعزم وقدم من شئت واتركنا ننهض إلى قتال
العرب.
قال ففرح الملك هرقل بقولهم ونشاطهم وعول على أن يبعث
الجيش مع خمسة ملوك من الروم فأول ما عقد لواء من الديباج المنسوج بالذهب الأحمر
وعلى رأسه صليب من الجوهر وسلمه إلى قناطير ملك الروسية وضم إليه مائة ألف فارس من
الصقالبة وغيرهم وخلع عليه وتوجه ومنطقه وسوره ثم عقد لواء آخر من الديباج الأبيض
فيه شمس من الذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الزبرجد الأخضر وسلمه إلى جرجير وهو
ملك عمورية وملورية وخلع عليه وسوره ومنطقه وضم إليه مائة ألف فارس من الروم
والفردانة ومن سائر الأجناس الرومية ثم عقد لواء ثالثا من الدستري الملون عليه
صليب من الذهب الأحمر وسلمه إلى الديرجان صاحب القسطنطينية وضم إليه مائة ألف فارس
من المغليط والإفرنج والقلن وخلع عليه ومنطقه وسوره.
ثم عقد لواء رابعا مرصعا بالدر والجوهر عليه قبضة من الذهب
وعليه صليب من الياقوت الأحمر وسلمه إلى ماهان ملك الأرمن وكان يحبه محبة عظيمة
لانه كان من أهل الشجاعة والتدبير وقد قاتل عساكر الفرس والترك وهزمهم مرارا فلما
عقد له لواء خلع عليه الثياب التي كانت عليه وتوجه وسوره ومنطقه وقلده بالقلائد
التي لا يتقلد بها إلا الملوك الاكابر وقال له: يا ماهان قد وليتك على هذا الجيش
كله ولا أمر على أمرك ولا حكم على حكمك ثم قال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين
وهم ملوك الجيش اعلموا أن صلبانكم تحت صليب ماهان وأمركم إليه فلا تصنعوا أمرا إلا
بمشورته ورأيه واطلبوا العرب حيث كانوا ولا تفشلوا وقاتلوا عن دينكم القديم وشرعكم
المستقيم وافترقوا على أربع طرق فانكم أن أخذتم على طريق واحدة لم تسعكم وتهلكوا
الأرض ومن عليها ثم خلع على جبلة بن الأيهم الغساني وضم إليه العرب المتنصرة من
غسان ولخم وجذام وقال لهم: كونوا في المقدمة فإن هلاك كل شيء بجنسه والحديد لا
يقطعه إلا الحديد ثم أمر القسوس أن يغمسوهم في ماء المعمودية ويقرءوا عليهم ويصلوا
عليهم صلاة الموتى.
قال: حدثنا نوفل بن عدي عن سراقة عن خالد قال: أخبرنا
قاسم مولى هشام بن عمرو ابن عتبة وكان ممن حضر فتوح الشام كله قال فكانت جملة من
بعث الملك هرقل إلى اليرموك من العساكر ستمائة ألف فارس من سائر طوائف أهل الكفر
ممن يعتقد الصليب.
قال: وحدثنا جرير بن عبد الله عن يونس بن عبد الأعلى أن جملة
من بعث الملك هرقل سوى جيش انطاكية إلى اليرموك سبعمائة ألف فارس قال راشد بن سعيد
الحميري كنت أحضر اليرموك من أوله إلى آخره فلما اشرفت علينا عساكر الروم باليرموك
نحونا صعدت على محل من الأرض مرتفع واقبلت الروم بالرايات والصلبان فعددت عشرين
راية فلما استقرت الروم باليرموك بعث الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه روماس صاحب
بصرى ليحزر عدد القوم قال فتنكر روماس وغاب عنا يوما وليلة ثم عاد إلينا فلما
رأيناه اجتمعنا عنده وسأل أبو عبيدة روماس عن ذلك فقال: أيها الأمير سمعت القوم
يذكرون أن عددهم ألف ألف فلا أدري أهم يتحدثون بذلك ليسمع جواسيسنا ويحدثوا بذلك
أم لا فقال أبو عبيدة: يا روماس كم عهدك بهم وكم يكون تحت كل راية من عساكر الروم
فقال: أيها الأمير أما ما عهدت في عساكر الروم فتحت كل راية خمسون ألف فارس فلما
سمع أبو عبيدة ذلك قال الله أكبر أبشروا بالنصر على الأعداء ثم قرأ الآية: {كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} [البقرة: 24] .
قال الواقدي: ثم أن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان
ملك الأرمن وأمره بالنهوض إلى قتال المسلمين ركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق
الرحيل وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره على باب فارس وسار معهم يوصيهم وقال لقناطير
وجرجير والديرجان وقورين ليأخذ كل رجل منكم طريقا وأمر كل واحد منكم نافذ على جيشه
فإذا لقيتم العرب فالأمر فيكم لماهان ولا يد على يده واعلموا إنه ليس بينكم وبين هؤلاء
إلا هذه الوقعة فإن غلبوكم فلا يقنعوا ببلادكم بل يطلبونكم حيث سلكتم ولا يقنعون
بالمال دون النفس ويتخذون حريمكم واولادكم عبيدا فاصبروا على القتال وانصروا دينكم
وشرعكم.
قال الواقدي: ثم وجه قناطير بجيشه على طريق جبلة
واللاذقية وبعث جرجير على طريق الجادة العظمى وهي أرض العراق وسومين وبعث قورين
على طريق حلب وحماة وبعث الديرجان على أرض العواصم وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه
والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة وكانوا لا يمرون على بلد
ولا مدينة إلا اضروا بأهلها ويطالبونهم بالعلوفة والاقامات ولا قدرة لهم بذلك
فيدعون عليهم ويقولون لاردكم الله سالمين قال وجبلة بن الأيهم في مقدمة ماهان ومعه
العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام.
قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الطاغية هرقل لما بعث
جيوشه إلى قتال المسلمين وكان للأمير أبي عبيدة في جيوش الروم عيون وجواسيس من
المعاهدين يتعرفون له الأخبار فلما وصل جيش الروم إلى شيزر فارقتهم عيون أبي عبيدة
وساروا طالبين عسكر المسلمين فلم يجدوهم على حمص فسألوهم عنهم فأخبروهم إنهم رحلوا
لأن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما فتح حمص ترك عندهم من يأخذ الخراج والذي
تركه عندهم رجال من أهل حمص من كبرائهم ورؤسائهم وجعل الجواسيس يسيرون حتى وصلوا
إلى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه واخبروه بما رأوه من
عظم الجيوش والعساكر فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال: لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم وبات قلقا لم تغمض له عين خوفا على المسلمين فلما طلع
الفجر أذن فصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته أقسم على المسلمين أن لا يبرحوا حتى
يسمعوا ما يقول: ثم قام فيهم خطيبا وحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي ﷺ وترحم
على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودعا للمسلمين بالنصر وقال: يا معاشر المسلمين
اعلموا رحمكم الله أن الله ابتلاكم ببلاء حسن لينظر كيف تعملون وذلك عندما صدقكم
الوعد وأيدكم بالنصر في مواطن كثيرة واعلموا أن عيوني أخبروني أن عدو الله هرقل
استنجد علينا من كبار بلاد الشرك وقد سيرهم إليكم وأثقلهم بالزاد والسلاح:
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:] واعلموا إنهم قد ساروا إليكم في طرق
مختلفة ووعدهم طاغيتهم أن يجتمعوا بازائكم على قتالكم واعلموا أن الله معكم وليس
بكثير من يخذله الله تعالى وليس بقليل من يكون الله تعالى معه فما عندكم من الرأي رحمكم
الله تعالى ثم قال لبعض عيونه قم وأخبر المسلمين بما رأيت فقام الرجل وأخبر الناس
بما رأى من الجيوش الثقيلة وعددها وعديدها فعظم ذلك على المسلمين وداخل قلوب رجال
منهم الهيبة والجزع وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ولم يرد أحد منهم جوابا فقال أبو
عبيدة: رضي الله عنه ما هذا السكوت عن جوابي رحمكم الله فاشيروا على أيديكم فإن
الله عز وجل يقول لنبيه محمد ﷺ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 15] .
قال الواقدي: فتكلم رجل من أهل السبق وقال: أيها الأمير
أنت رجل لك رفعة ومكان وقد نزلت فيك آية من القرآن وانت الذي جعلك رسول الله ﷺ
أمين هذه الأمة فقال عليه السلام "لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة
رضي الله عنه عامر بن الجراح" أشر أنت علينا بما يكون فيه الصلاح للمسلمين
فقال الأمين أبو عبيدة رضي الله عنه انما أنا رجل منكم تقولون وأقول وتشيرون وأشير
والله الموفق في ذلك فقام إليه رجل من أهل اليمن وقال: أيها الأمير الذي نشير به
عليك أن تسير من مكانك وتنزل في فرجة من وادي القرى فيكون المسلمون قريبا من
المدينة والنجدة تصل إلينا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا طلب القوم أثرنا
وأقبلوا إلينا كنا عليهم ظاهرين فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه اجسلوا رحمكم
الله فقد أشرتم بما عندكم من الرأي وإني أن برحت من موضعي هذا كره لي عمر بن الخطاب
ذلك وأخذ يعنفني ويقول: تركت مدائن فتحها الله على يديك ونزحت عنها وكان ذلك هزيمة
منك ثم قال: أشيروا علي برأيكم رحمكم الله تعالى.
فقام إليه قيس بن هبيرة المرادي وقال: يا أمير المؤمنين
لاردنا الله إلى أهلنا سالمين أن خرجنا من الشام وكيف ندع هذه الأنهار المتفجرة
والزروع والأعناب والذهب والفضة والديباج ونرجع إلى قحط الحجاز وجد به وأكل خبز
الشعير ولباس الصوف ونحن في مثل هذا العيش الرغد فإن قتلنا فالجنة وعدنا ونكون في
نعيم لا يشبه نعيم الدنيا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه صدق والله قيس بن هبيرة وبالحق
نطق ثم قال: يا معاشر المسلميي أترجعون إلى بلاد الحجاز والمدينة وتدعون لهؤلاء
الأعلاج قصورا وحصونا وبساتين وأنهارا وطعاما وشرابا وذهبا وفضة ما لكم مع ما لكم
عند الله عز وجل في دار البقاء من حسن الطعام ولقد صدق قيس بن هبيرة في قوله لنا
ولسنا ببارحين منزلنا هذا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال فوثب قيس بن
هبيرة وقال صدق الله قولك أيها الأمير وأعانك على ولايتك ولا تبرح من مكانك وتوكل
على الله وقاتل أعداء الله فإن فاتنا فتح عاجل فما يفوتنا ثواب آجل فقال أبو
عبيدة: رضي الله عنه شكر الله فضلك وغفر لنا ولك والرأي رأيك وتتابع قول المسلمين
بحسن رأيهم إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه ساكت لا يقول شيئا فقال أبو
عبيدة: رضي الله عنه يا أبا سليمان أنت الرجل الجريء والفارس الشهم ومعك رأي وعزم
فما تقول فيما قال قيس بن هبيرة فقال خالد رضي الله عنه: نعم ماأشار به قيس إلا أن
الرأي عندي غير رأيه ولكن لا اخالف المسلمين فقال أن كان عندك رأي فيه صلاح فائت
به وكلنا لرأيك تبع فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلم أيها الأمير إنك أن
أقمت في مكانك هذا فانك تعين على نفسك لأن هذه الجابية قريبة من قيسارية وفيها
قسطنطين ابن الملك هرقل في أربعين ألف فارس وأهل الأردن قد اجتمعوا إليه خوفا منكم
والذي أشير به عليكم أن ترحلوا من منزلكم هذا وتجعلوا أذرعات خلف ظهوركم حتى
ينزلوا اليرموك ويكون المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قريبا
منكم متلاحقا بكم وأنتم على فتح لقتال عدوكم وهي أرض واسعة لمجال الخيل قال فلما
نطق خالد بن الوليد بهذا الكلام قال المسلمون: نعم ما أشار به خالد وقال أبو سفيان
بن حرب أيها الأمير افعل برأي خالد بن الوليد رضي الله عنه وابعثه إلى ما يلي
الرمادة فيكون بين عساكرنا وعساكر الروم المقيمة بالأردن لئلا ندهي منهم عند
رحيلنا فإنه سيكون لرحيلنا ورحيل عسكرنا بين هذه الاشجار ضجة عظيمة وجلبة هائلة فيداخل
عدوكم فيكم الطمع فإن اقبلوا يريدون غارة ومكيدة لقيهم خالد بن الوليد رضي الله
عنه بمن معه فقال خالد بن الوليد: والله يا ابن حرب لقد نطقت عن ضميري وهكذا الرأي
عندي.
فعند ذلك أمر أبو عبيدة الناس بالرحيل من الجابية فرحلوا
ودعا أبو عبيدة بجيش خالد بن الوليد الذي أقبل به من أرض العراق وهو جيش الزحف وهو
يومئذ أربعة آلاف فارس وأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يسير بهم ويكون على
طلائع المسلمين وحرسهم من وراء ظهورهم قال ووقعت الضجة للمسلمين عند رحيلهم حتى
سمع ضجيجهم من مسيرة فرسخين وطلبوا اليرموك وسمع الروم المجتمعة بالأردن ضجة
المسلمين عند رحيلهم فظنوا إنهم هاربون إلى الحجاز لما بلغهم من جيش هرقل فطمعوا
فيهم وهموا بالغارة على أطرافهم فلقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فصاح في رجاله
وقال دونكم والقوم فهذه علامة النصر قال فانتضى المسلمون السيوف ومدوا الرماح وحمل
خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه والمرقال وطلحة بن
نوفل العامري وزاهد بن الأسد وعامر بن الطفيل وابن أكال الدم وغير هؤلاء من
الفرسان المعدودين للبراز فلم يكن للروم طاقة بهم فولوا منهزمين والمسلمون يقتلون
ويأسرون حتى وصلوا إلى الأردن فغرق منهم خلق كثير ورجع خالد بن الوليد رضي الله
عنه وأما الأمير أبو عبيدة فإنه نزل باليرموك وجعل أذرعات من خلفه وكان هناك تل
عظيم فعمد أبو عبيدة رضي الله عنه إلى نساء المسلمين وأولادهم فأصعدهم على ذلك التل
وأقام الحراس والطلائع على سائر الطرقات فلما وصل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالأسارى
والغنائم فرح أبو عبيدة رضي الله عنه فرحا شديدا وقال أبشروا رحمكم الله تعالى هذه
علامة النصر والظفر وأقام المسلمون باليرموك وهم مستعدون لقتال عدوهم كأنهم
ينتظرون وعدا وعدوا به وبلغ الخبر إلى قسطنطين ابن الملك هرقل بأن المسلمين قد
نزلوا باليرموك وأن ملوك الروم سائرون لقتالهم فبعث رسولا إلى الملوك يستضعف رأيهم
في ابطاء أمرهم ويحثهم على قتال المسلمين فلما ورد رسوله إلى ماهان دعا بالملوك
والبطارقة وقرأ عليهم كتاب قسطنطين ابن الملك هرقل وأمرهم بالمسير فسارت جيوش
الروم يتلو بعضها بعضا لا يمرون ببلد من مدائن الشام التي فتحها المسلمون إلا
ويعنفون أهلها ويقولون لهم يا ويلكم تركتم أهل دينكم وملتكم وملتم إلى العرب
فيقولون لهم أنتم أحق بالملامة منا لانكم هربتم منهم وتركتمونا للبلاء فصالحنا عن أنفسنا
فيعرفون الحق فيسكتون ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى اليرموك فنزلوا بدير يقال
له دير الجبل وهو بالقرب من الرمادة والجولان وجعلوا بينهم وبين عسكر المسلمين
ثلاثة فراسخ طولا وعرضا فلما تكاملت الجيوش باليرموك أشرفت سوابق الخيل على أصحاب
رسول الله ﷺ وكان جبلة بن الأيهم في المقدمة في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة
من غسان ولخم وجذام وهم على مقدمة ماهان فلما نظر أصحاب رسول الله ﷺ إلى كثرة جيوش
الروم قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال عطية بن عامر فوالله ما
شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذا سد بكثرته الوادي قال ونظرت إلى
المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 25] قال وأخذ
المسلمون أهبتهم ودعا الأمير أبو عبيدة بجواسيسه من المعاهدين وأمرهم أن يدخلوا
عساكر الروم يجسون له خبر القوم وعددهم وعديدهم وسلاحهم وقال أبو عبيدة رضي الله
عنه: أنا أرجو من الله تعالى أن يجعلهم غنيمة لنا.
قال الواقدي: فلما نزل ماهان بعساكره بإزاء المسلمين على
نهر اليرموك اقام اياما لا يقاتل ولا يثير حربا.
جبلة بن الأيهم
قال الواقدي: وكان تأخير ماهان لامر وذلك أن رسولا ورد
عليه من الملك هرقل يقول له: لا تنجز الحرب بينك وبين المسلمين حتى نبعث إليهم
رسولا ونعدهم منا كل سنة بمال كثير وهدايا لصاحبهم عمر بن الخطاب ولكل أمير منهم
ويكون لهم من الجابية إلى الحجاز فلما وصل الرسول إلى ماهان قال هيهات هيهات أن كانوا
يجيبون إلى ذلك أبدا فقال له جرجير وهو من بعض ملوك الجيش وما عليك وما عليك في
هذا الذي ذكره الملك هرقل من المشقة فقال ماهان: اخرج أنت إليهم وادع منهم رجلا
عاقلا وخاطبه بالذي سمعت واجتهد في ذلك قال فلبس جرجير ثياب الديباج وتعصب بعصابة
من الجوهر وركب شهباء عالية بسرج من الذهب الأحمر المرصع بالدر والجوهر وخرج معه
ألف فارس من المدبجة وسار حتى أشرف على عساكر المسلمين أوقف جرجير أصحابه وقرب من
المسلمين ووقف بازائهم وقال: يا معاشر العرب أنا رسول من الملك ماهان فليخرج الي أميركم
والمقدم عليكم حتى نعرض عليه مقالنا ولعلنا نصطلح ولا نسفك دم بعضنا قال فسمعه
المسلمون فأعلموا الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فخرج بنفسه إليه وعليه ثوب
من كرابيس العراق وعلى رأسه عمامة سوداء وهو متقلد بسيفه وسار إلى أن وصل إلى جرجير
ورفس فرسه حين التقت عنق فرسيهما والناس ينظرون إليهما فقال أبو عبيدة: رضي الله
عنه يا أخا الكفر قل: ما أنت قائل واسأل عما تريد فقال جرجير: يا معاشر العرب لا
يغرنكم أن تقولوا هزمنا عساكر الروم في مواطن كثيرة وفتحنا بلادهم وعلونا أكثر
أرضهم فانظروا الآن ما قد أتاكم من العساكر فإن معنا من سائر الأجناس المختلفة وقد
تحالف الروم أن لا يفروا ولا ينهزموا وأن يموتوا عن آخرهم وليس لكم على ما ترون من
طاقة فانصرفوا إلى بلادكم وقد نلتم ما نلتم من بلاد الملك هرقل وقد عول الملك أن
يتعود الأحسان إليكم وهو يهب لكم ما أخذتم من بلادهم منذ ثلاث سنين وقد أخذتم السلاح
والذهب والفضة وقد كنتم من الهالكين فقال الأمير أبو عبيدة أما ما ذكرت من عساكر
الروم وإنهم لا يفرون ولا ينهزمون فلو رأت الروم شفار سيوفنا هربت ناكصة على
أعقابها وأما تهويلك لنا بكثرة عددكم فقد رأيت قلتنا وضعف أجسامنا وكيف لقينا
جموعكم وكثرتها وعظم عددها وسلاحها وأحب الاشياء إلينا يوم مشاجرتكم بالحرب
والقتال حتى يعرف من الذي يثبت للحرب فلما سمع جرجير كلام الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه التفت إلى رجل من أصحابه يقال له بهيل فقال: يا بهيل:
الملك هرقل كأنه أعرف بهؤلاء العرب منا ثم لوى رأس جواده
ورجع إلى ماهان واخبره بما قال أبو عبيدة: فقال له ماهان: دعوتهم إلى الموعد فقال:
لا.
وحق المسيح إني لم أفاتحه في شيء من ذلك لكن أبعث لهم
بعض العرب المتنصرة فإن العرب يميل بعضهم إلى بعض قال فعندها دعا ماهان بجبلة بن
الأيهم الغساني وقال: يا جبلة اخرج إلى هؤلاء وخوفهم من كثرتنا وتواتر عددنا وألق
في قلوبهم الرعب وأحط بهم مكرك قال فخرج جبلة بن الأيهم وسار حتى قرب من عساكر
المسلمين ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب ليخرج الي رجل من ولد عمرو بن عامر
لاخاطبه بما أرسلت به.
فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه كلام جبلة بن
الأيهم قال قد بعث إليكم القوم بأبناء جنسكم يريدون الخديعة بصلة الرحم والقرابة
فابعثوا إليه رجلا من الأنصار من ولد عمرو بن عامر فأسرع إليه بالخروج عبادة بن
الصامت الخزرجي رضي الله عنه وقال لأبي عبيدة: أيها الأمير أن أخرج إليه وأنظر ماذا
يقول: فأجيب عنه ثم خرج عبادة نحوه بجواده إلى أن وقف أمام جبلة بن الأيهم فنظر
جبلة إلى رجل أسمر طويل شديد السمرة كأنه من رجال شنوءة فهابه ودخل الرعب في قلبه
من عظم خلقته وكان عبادة بن الصامت من الخطاط رضي الله عنه فقال له جبلة: يا فتى
من أي الناس أنت فقال عبادة أنا من من ولد عمرو بن عامر فقال جبلة حييت فمن أنت
فقال عبادة بن الصامت صاحب رسول الله ﷺ فاسأل عما تريد فقال جبلة يا ابن العم انما
خرجت إليكم لاني أعلم أن أكثركم من الرحم والقرابة فخرجت إليكم ناصحا ومشيرا واعلم
أن هؤلاء القوم الذين قد نزلوا بازائكم معهم جنود لا قبل لكم بها وخلفهم عساكر
وحصون وقلاع وأموال ولا تقولوا كسرنا وهزمنا عساكر الروم وأعلم أن الحرب دول وسجال
وأن هزمكم هؤلاء القوم لا يكون لكم ملجأ غير الموت وهؤلاء القوم أن انهزموا يرجعون
إلى بلادهم وعساكرهم والخزائن والحصون وما قد نلتم نيلا فخذوه وامضوا إلى بلادكم
سالمين.
قال عبادة بن الصامت: يا جبلة أما علمت ما لقينا من
جموعكم المتقدمة باجنادين وغيرها وكيف نصرنا الله عليكم وهرب طاغيتكم ونحن نعلم من
بقي من جموعكم قد تيسر علينا أمره ونحن لا نخاف ممن يقدم علينا من جموعكم وقد
ولغنا في الدماء فلم نجد أحلى من دماء الروم وأنا يا جبلة أدعوك إلى دين الإسلام
وأن تدخل مع قومك في ديننا وتكون على شرفك في الدنيا والآخرة ولا تكون تابع علج من
علوج الروم تفديه بنفسك من المهالك وأنت رجل من سادات العرب وملوكهم وأن ديننا ظهر
أوله وآخره يظهر كما ظهر أوله فاتبع سبيل من أناب إلى الحق وصدق به فقل لا إله إلا
الله محمد رسول الله اللهم صل عليه وعلى إله وصحبه وسلم.
قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم من كلام عبادة بن
الصامت وقال لست مفارقا ديني فقال عبادة بن الصامت فإن أبيت إلا ما أنت عليه من
الكفر فإياك أن تلقاني في الموعد الأول فإن لنا وقعة عظيمة فإن أخذتك شفار سيوفنا
فلا تخلص من شفارها ودعنا وعساكر الروم فهم أهون علينا فإن أبيت إلا ما أنت عليه
حل بك مثل ما حل بهم.
قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم وقال لماذا تخوفني من سيوفكم
أما نحن عرب مثلكم رجل لرجل فقال عبادة بن الصامت قد علمنا إنك أنما خرجت إلينا
مخادعا ومعينا ولسنا كأنتم يا ويلكم نحن على قلتنا نوحد ربنا ونتبع سنة نبينا محمد
وأن ورائنا عسكرا يعلوا الأقطار ويسد القفار فقال جبلة لست أعرف وراءكم جيشا غير
هذا الجيش ولا من ينصركم غيرهم فقال عبادة بن الصامت كذبت والله يا أبن الأيهم في
قولك وأن وراءنا رجالا انجادا وأبطالا شدادا يرون الموت مغنما والحياة مغرما كل
واحد بنفسه يلقي جيشا حافلا يا ويلك أنسيت عليا وسطوته وعمر وشدته وعثمان وبراعته
والعباس وطلعته والزبير مع ما يجتمع إليهم من فرسان المسلمين من مكة والطائف
واليمن وغير ذلك قال فلما سمع جبلة ذلك من كلام عباة بن الصامت قال: يا أبن العم
أنا ما خرجت إلا أريد النصحية لكم فإن أبيتم ذلك فاسال قومك يجيبونا إلى الصلح فقال
عبادة بن الصامت لا صلح بيننا إلا باداء الجزية أو الإسلام أو السيف وهو حكم بيننا
وبينكم والله لولا أن الغدر يقبح بنا لعلوتك بسيفي هذا فلما سمع جبلة كلام عبادة
وانه قد حاف عليه في الكلام لم يرد عليه جوابا غير إنه ثنى رأس جواده وأتى إلى
ماهان فزعا مرعوبا وقد امتلأ قلبه رعبا من كلام عبادة بن الصامت فلما وقف بين يدي
ماهان تبين في وجهه الجزع والفزع فقال لجبلة ما وراءك فقال: أيها الملك إني خوفت
وأرعبت ومنيت فكان ذلك كله عندهم بالسواء وقالوا: ما بيننا إلا الحرب والقتال فقال
له ماهان: فما هذا الفزع الذي أراه في وجهك وهم عرب مثلكم وأنتم عرب مثلهم وقد
بلغني إنهم ثلاثون ألف فارس وأنتم ستون ألف فارس أما يقاتل الرجلان منكم الرجل
الواحد منهم دونك يا جبلة فسر أنت وابناء عمك من العرب المتنصرة إلى قتالهم وأنا
وراءكم فإن ظفرتم بهم كان الملك مشتركا بيننا وبينكم وتكون أقرب الناس إلينا ويسلم
إليكم ما فتحه العرب من بلاد الشام.
قال الواقدي: وجعل ماهان يرغب جبلة في العطاء ويلينه
ويحرضه على القتال في المسلميي حتى أجابه إلى ذلك وأخبر قومه وبني عمه من بني غسان
ولخم وجذام وغيرهم من العرب المتنصرة وأمرهم بأخذ الأهبة للحرب والقتال ففعل القوم
ذلك وركبوا في سابغ الحديد والزرد النضيد وهم ستون ألف فارس ما يخالطهم من غير
العرب أحد يقدمهم جبلة بن الأيهم وعليه درع من الذهب الأحمر متقلد بسيف من عمل
التبابعة وعلى رأسه الراية التي عقدها له الملك هرقل فسار جبلة نحو الصحابة في
ستين ألف فارس حتى أشرف على عساكر المسلمين وأبو عبيدة يتحدث مع عبادة بن الصامت
بما جرى بينه وبين جبلة بن الأيهم إذ أشرفت عليهم العرب المتنصرة فلما رآهم المسلمون
صاح بعضهم على بعض يا معاشر المسلمين قد أقبلت عليكم العرب المتنصرة لقتالكم فما
أنتم قائلون.
قالوا: نقاتلهم ونرجو من الله تعالى الظهور عليهم
والمعونة وعلى غيرهم وهموا بالحملة فصاح عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال
اصبروا رحمكم الله ولا تعجلوا حتى اكيدهم بمكيدة يهلكون بها وقال لابي عبيدة رضي
الله عنه: أيها الأمير أن القوم قد استعانوا علينا بالعرب المتنصرة وهم اضعاف
عددنا وأن نحن نقاتلهم بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا وضعفا وأريد أن أبعث لهم رسولا
من بني عمهم يكلمهم في شأن ردهم عنا فإن فعلوا كان ذلك كسرا لهم وللمشركين ووهنا
عظيما وأن أبوا إلا الحرب والقتال خرج منا نفر يسير يردونهم على أعقابهم بعزة الله
عز وجل قال فتعجب أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان افعل ما تريد.
فعند ذلك دعا خالد بن الوليد بقيس بن سعد وعبادة بن
الصامت الخزرجي وجابر بن عبد الله وأبي أيوب بن خالد بن يزيد رضي الله عليهم
أجمعين فلما وقفوا بين يديه قال لهم: يا أنصار الله تعالى ورسوله هؤلاء العرب
المتنصرة يريدون قتالكم وهم غسان ولخم وجذام وهم بنو عمكم في النسب فاخرجوا إليهم
وخاطبوهم واجتهدوا في ردهم عن حربكم وقتالكم فإن فعلوا ذلك وإلا أخذهم السيف منا ومنكم
وكنا لقتالهم كفؤا.
قال الواقدي: فخرج أصحاب رسول الله ﷺ إلى العرب المتنصرة
فوجدوا جبلة بن الأيهم قد نزل بإزاء المسلمين يريد حربهم وقتالهم فلما قربوا من
بني غسان نادى جابر ابن عبد الله وقال: يا معاشر العرب من لخم وغسان وجذام اننا
بنو عمكم ونريد الدنو إليكم قال فأذن لهم جبلة بالدنو إليه فدخلوا عليه فإذا هو في
مضرب من الديباج وقد فرش بالحرير الأصفر وهو جالس وحوله ملوكه وملوك جفنة فحيوه
بتحية ملوك العرب فرفع جبلة أقدارهم وأدنى مزارهم وقال: يا بني العم أنتم من الرحم
ومن القرابة وإني خرجت إليكم من جهة هذا الجيش الذي يرهقكم فخرج الي رجل منكم
فأفرط علي في المقال فما الذي أتى بكم الي فكان أول من كلمه جابر بن عبد الله
وقال: يا ابن العم لا تؤاخذنا فيما تكلم به صاحبنا فإن ديننا لا يقوم إلا بالحق والنصيحة
وأن النصيحة لك منا واجبة لانك ذو قرابة ورحم وقد أتينا إليك ندعوك إلى دين
الإسلام وتكون من أهل ملتنا ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا فإن ديننا شريف ونبينا
ظريف فقال وما أحب ذلك ولا غيره انني ضنين بديني وأنتم يا معاشر الأوس والخزرج
رضيتم لأنفسكم أمرا ونحن رضينا لأنفسنا أمرا لكم دينكم ولنا ديننا فقال له
الأنصاري: إن كنت لا تحب أن تفارق دينك الذي أنت عليه فاعتزل عن قتالنا لتنظر من
تكون العاقبة والغلبة فإن كانت لنا وأردت الدخول في ديننا قبلناك وكنت منا وأخانا
وأن أقمت على دينك قنعنا منك بالجزية وأقررناك على بلدك وعلى مواطن كثيرة لآبائك
وأجدادك.
فقال جبلة أخشى أن تركت حربكم وقتالكم وكانت الدائرة
للقوم لا آمن أن يتقووا على بلدي لأن الروم لا ترضى مني إلا أن أكون مقاتلا لكم
وقد رأسوني على جميع العرب وأنا لو دخلت دينكم كنت دنيئا ولا اتبع فقال الأنصاري
فإن أبيت ما عرضناه عليك فإن ظفرنا بك قتلناك فاعتزل عنا وعن سيوفنا فإنها تفلق الهام
وتبري العظام فتكون الوقعة بغيرك أحب إلينا من الوقعة بك وبمن معك قال وكانت
الأنصار يريدون بهذا الكلام تخويفه وترغيبه كي ينصرف عنهم وجبلة يأبى ذلك فقال وحق
المسيح والصليب لا بد أن أقاتل عن الروم ولو كان لجميع الأهل والقرابة فقال له قيس
بن سعد: يا جبلة أبيت إلا أن يحتوي الشيطان على قلبك فيهوى بك في النار فتكون من
الهالكين وإنما أتينا لندعوك إلى دين الإسلام لأن رحمك متصلة برحمنا فإن أبيت
فستعاين منا حربا شديدا يشيب فيه الطفل الصغير ثم وثب قيس بن سعد وقال لقومه
انهضوا على بركة الله تعالى وعونه وحسن طاعته فبعدا له وسحقا فقام جبلة فاستعد
للقتال بعدته قال فركب الأنصار خيولهم ورجعوا إلى الأمير أبي عبيدة وخالد بن
الوليد رضي الله عنه وأعلموهما بمقالة جبلة وأنه ما يريد إلا القتال فقال خالد بن
الوليد رضي الله عنه: أبعده الله تعالى فوعيش عاش فيه رسول الله ﷺ سيد المرسلين
لينظرن منا جبلة ما ينظر.
ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلموا معاشر
المسلمين أن القوم في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة وهم حزب الشيطان ونحن
ثلاثون ألف فارس من حزب الرحمن ونريد أن نلقي هذا الجمع الكبير فإن قاتلنا جبلة
بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا ولكن ينتدب منا أبطال ورجال إلى قتال هؤلاء العرب
المتنصرة فقال أبو سفيان صخر بن حرب لله درك يا أبا سليمان فلقد أصبت الرأي فاصنع
ما تريد وخذ من الجيش ما أحببت فقال إني قد رأيت من الرأي أن نندب من جيشنا ثلاثين
فارسا فيلقى كل واحد ألفي فارس من العرب المتنصرة.
قال الواقدي: فلم يبق أحد من المسلمين إلا عجب من مقالة
خالد بن الوليد رضي الله عنه وظنوا إنه يمزح بمقالته وكان أول من خاطبه في ذلك أبو
سفيان صخر بن حرب وقال: يا ابن الوليد هذا كلام منك جد أو هزل فقال خالد بن الوليد
رضي الله عنه: لا وعيش عاش فيه رسول الله ﷺ ما قلت إلا جدا فقال أبو سفيان فتكون
مخالفا لامر الله تعالى ظالما لنفسك وما أظن أن لك في هذه المقالة مساعدا ولو قاتل
الرجل منا مائتين كان ذلك أسهل من قولك يقاتل الرجل منا ألفين وأن الله عز وجل
رحيم بعباده فرض رجلا منا تلقى الستين ألف فارس فما يجيبك أحد إلى ذلك وأن أجابك
رجل لما قلته فإنه ظالم لنفسه معين على قتله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا
أبا سفيان كنت شجاعا في الجاهلية فلا تكن جبانا في الإسلام وانظر لمن أنتخب من
رجال المسلمين وأبطال الموحدين فإنك إذا رأيتهم علمت إنهم رجال قد وهبوا أنفسهم لله
عز وجل وما يريدون بقتالهم غير الله تعالى ومن علم الله عز وجل ذلك من ضميره كان
حقا على الله أن ينصره ولو سلك مفظعات النيران فقال أبو سفيان يا أبا سليمان الأمر
كما ذكرت وما أردت بقولي إلا شفقة على المسلمين فإذا قد صح عزمك على ذلك فاجعل
القوم ستين رجلا ليقاتل الرجل منهم ألف فارس من العرب المتنصرة.
فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: نعم ما أشار به أبو
سفيان يا أبا سليمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عن والله: يا أيها الأمير ما
أردت بفعلي هذا إلا مكيدة لعدونا لانهم إذا رجعوا إلى أصحابهم منهزمين بقوة الله
عز وجل ويقولون لهم من لقيكم فيقولون لقينا ثلاثون رجلا يداخلهم الرعب منا ويعلم ماهان
أن جيشنا كفء له فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه أن الأمر كما ذكرت إلا إنه إذا كان
ستون رجلا منا يكونون عصبة ومعينا بعضهم بعضا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه:
أنا أنتدب من المسلمين رجالا أعرف صبرهم وقرارهم واقدامهم في الحرب وأعرض عليهم هذه
المقالة فإن أحبوا لقاء الله ورغبوا في ثواب الله عز وجل فإنهم يستتجيبون إلى ذلك
وأن أحبوا الحياة الدنيا والبقاء فيها ولم يكن فيهم من تطيب نفسه للموت فما بخالد
إلا أن يبذل مهجته لله عز وجل والله الموفق لما يحبه ويرضاه.
قال أبو عبد الله حدثنا عمرو بن سالم عن جده برعي بن عدي
قال كنت بين يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه فدعا بستين رجلا من أصحاب رسول الله
ﷺ فأول ما دعا خالد بن الوليد قال: أين عمر التميمي اين شرحبيل بن حسنة كاتب وحي
رسول الله ﷺ أين خالد أبن سعيد بن العاص أين يزيد بن أبي سفيان الأموي أين صفوان
بن أمية الجمحي أين سهل ابن عمرو العامري أين ضرار بن الأزور الكندي أين رافع بن
عميرة الطائي أين زيد الخيل أبيض الركابين أين حذيفة بن اليمان أين قيس بن سعد أين
كعب بن مالك الأنصاري أين سويد بن عمرو الغنوي أين عبادة بن الصامت أين جابر بن
عبد الله أين أبو أيوب الأنصاري أين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم
أجمعين أين عبد الله ابن عمرو بن الخطاب العدوي أين رافع بن سهل أين يزيد بن عامر
أين عبيد بن أوس أين مالك بن نصر أين نصر بن الحرث أين عبد الله بن ظفر أين أبو لبابة
بن المنذر أين عوف أين عابس بن قيس أين عبادة بن عبد الله الأنصاري أين رافع بن
عجرة أين عبيد بن عبد الله أين معقب بن قيس أين هلال أين الصابرون يوم أحد وقد
ذكرهم الله تعالى في كتابه: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 6] أين أسيد الساعدي أين كلال بن الحرث المازني أين حمزة
بن عمر الاسلمي أين يزيد بن عامر.
قال الواقدي: وقد سمى خالد بن الوليد رضي الله عنه
الرجال الذين دعاهم لقتال جبلة بن الأيهم إلا إني اختصرت في ذكرهم وقدمت ذكر
الأنصار رضي الله عنه لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه انتخب أكثر الرجال من
الأنصار فلما كثر النداء فيهم قالت الأنصار: إن خالدا اليوم يقدم ذكر الأنصار
ويؤخر المهاجرين من ولد المغيرة بن قصي ويوشك إنه يختبرهم أو يقدمهم للمهالك ويشفق
على ولد المغيرة.
قال الواقدي: فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك
من قولهم أقبل يخطو بجواده حتى توسط جميع الأنصار وقال لهم: والله يا أولاد عامر ما دعوتكم إلا لما
ارتضيته منكم وحسن يقيني بكم وبايمانكم فأنتم ممن رسخ الإيمان في قلبه فقالوا: إنك
صادق في قولك يا أبا سليمان ثم صافحه القوم.
قال الواقدي: فلما انتخب خالد بن الوليد من فرسان
المسلمين ستين رجلا كل واحد منهم يلقى جيشا بنفسه قال لهم خالد بن الوليد رضي الله
عنه: يا أنصار الله ما تقولون في الحملة معي على هذا الجيش الذي قد أتى يريد حربكم
وقتالكم فإن كان لكم صبر وأيدكم الله بنصره مع صبركم وهزمتم هؤلاء العرب المتنصرة
فاعلموا إنكم لجيش الروم غالبون فإذا هزمتم هؤلاء العرب وقع الرعب في قلوبهم
فينقلبون خاسرين فقالوا: يا أبا سليمان افعل بنا ما تريد والق ما تشاء فوالله
لنقاتلن أعداءنا قتال من ينصر دين الله ونتوكل على الله تعالى وقوته ونبذل في طلب
الآخرة مهجنا فجزاهم خالد بن الوليد رضي الله عنه خيرا وكذلك الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه وقال لهم: تأهبوا رحمكم الله وخذوا أسلحتكم وعدتكم وليكن قتالكم بالسيف
ولا يأخذ أحد منكم رمحا فإن الرمح خوان ربما زاغ عن الطعن ولا تأخذوا السهام فإنها
منايا منها المخطىء ومنها المصيب والسيف والحجف عليهما تدور دوائر الحرب واركبوا
خيولكم السبق النواجي ولا يركب الرجل منكم إلا جواده الذي يصبر به وتواعدوا أن
الملتقى عند قبر المصطفى ﷺ قال فقدموا على أهاليهم وودعوهم فأما ضرار بن الأزور
فإنه عمد إلى خيمته ليستعد بما يريد ويسلم على أخته خولة رضي الله عنها بنت الأزور
فلما لبس لأمة حربه قالت له أخته خولة: يا أخي مالي أراك تودعني وداع من أيقن
بالفراق اخبرني ماذا عزمت عليه فأخبرها ضرار بما قد عزم عليه وانه يريد أن يلقى
العدو مع خالد بن الوليد رضي الله عنه فبكت خولة وقالت: يا أخي افعل ما تريد أن
تفعل والق عدوك وانت موقن بالله تبارك وتعالى فإنه لكم ناصر وأن عدوك لا يقرب إليك
أجلا بعيدا ولا يبعد عنك أجلا قريبا فإن حدث عليك حدث أو لحقك من عدوك نائبة
فوالله العظيم شأنه لا هدأت خولة على الأرض أو تأخذ بثأرك فبكى ضرار بن الأزور لبكائها
واعد آلة الحرب وكذلك الستون من أصحاب رسول الله ﷺ ولم يناموا طول ليلتهم حتى
ودعوا أولادهم وأهاليهم وباتوا في بكاء وتضرع وهم يسألون الله تعالى النصر على
الأعداء إلى أن أصبح الصباح فصلى بهم الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه صلاة الفجر
فلما فرغ من صلاته كان أول من أسرع إلى الخرج خالد بن الوليد رضي الله عنه وحرض
أصحابه على الخروج وهو ينشد ويقول:
هبوا جميع اخوتي أرواحا
...
نحو العدو نبتغي الكفاحا
نرجو بذاك الفوز والنجاحا
...
إذا بذلنا دونه أرواحا
ويرزق الله لنا صلاحا
...
في نصرنا الغدو والرواحا
قال الواقدي: وأنشد بيتا آخر لم أدر ما هو وخرج أمام
المسلمين وأصحابه يقدمون إليه واحدا بعد واحد حتى اجتمع إليه الستون رجلا الذين
انتخبهم وكان آخر من أقبل عليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ومعه زوجته أسماء
بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وهي سائرة إلى جانب أيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه وهي تدعو لهم بالسلامة والنصر وتقول لاخيها يا أخي لا تفارق ابن عمة
رسول الله ﷺ ووقت الحملة اصنع كما يصنع ولا تأخذكم في الله لومة لائم قال وودع
المسلمون الستين أصحابهم وساروا بأجمعهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوساطهم
كأنه أسد قد احتوشته الأسود ولم يزالوا حتى وقفوا بازاء العرب المتنصرة.
قال الواقدي: ونظرت العرب المتنصرة إلى أصحاب رسول الله
ﷺ وقد أقبلوا نحوهم وهم نفر يسير فظنوا إنهم رسل يطلبون الصلح والمواعدة فصاح جبلة
بالعرب المتنصرة وحرضهم ليرهب المسلمين ونادى يا آل غسان أسرعوا إلى نصرة الصليب
وقاتلوا من كفر به فبادروا بالإجابة وأخذوا الأهبة للحرب ورفعوا الصليب واصطفوا
للقتال وقد طلعت الشمس على لأمة الحرب فلمع شعاعها على الحديد والزرد والبيض كأنها
شعل نار ووقفوا يبصرون ما يصنع أصحاب رسول الله ﷺ إلى أن قاربوا صلبان العرب المتنصرة
ونادى خالد بن الوليد رضي الله عنه يا عبدة الصلبان ويا أعداء الرحمن هلموا إلى
الحرب والطعان فلما سمع جبلة كلام خالد رضي الله عنه علم إنهم ما خرجوا رسلا وإنما
خرجوا للقتال فخرج جبلة من بين أصحابه وقد اشتمل بلامة حربه وهو يقول:
أنا لمن عبدوا الصليب ومن به
...
نسطو على من عابنا بفعالنا
ولقد علونا بالمسيح وأمه
...
والحرب تعلم إنها ميراثنا
أنا خرجنا والصليب أمامنا
...
حتى تبددكم سيوف رجالنا
ثم قال جبلة من الصائح بنا والمستنهض لنا في قتالنا فقال
خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا فاخرج إلى حومة الحرب فقال جبلة نحن قد رتبنا
أمورنا لحربكم وقتالكم وأنتم تتربصون عن قتالنا فوحق المسيح لا أجبناكم إلى الصلح
أبدا فارجعوا إلى قومكم وأخبروهم اننا ما نريد إلا القتال قال فأظهر خالد التعجب من
قوله وقال له: يا جبلة أتظن أننا خرجنا رسلا إليك فقال جبلة أجل فقال خالد بن
الوليد رضي الله عنه: لا تظن ذلك أبدا فوالله ما خرجنا إلا لحربكم وقتالكم فإن
قلتم اننا شرذمة فإن الله ينصرنا عليكم فقال جبلة يا فتى قد غررت بنفسك وبقومك إذ
خرجت إلى قتالنا ونحن سادات غسان ولخم وجذام فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا
تظن ذلك واننا قليلون فقتالكم رجل منا لالف منكم وتخلف منا رجال أشهى إليهم الحرب
من العطشان إلى الماء البارد فقال جبلة يا أخا بني مخزوم لقد كنت أفضلك في عقلك
وأروم بك مرام الأبطال حتى سمعت منك هذا الكلام إنك أنت والستين رجلا ترومون
قتالنا ونحن سادات غسان وأبطال الزمان ها أنا أحمل بهذه الستين ألف فارس فلا يبقى
منكم أحد ثم صاح جبلة بقومه يا آل غسان الحملة.
فلما سمعوا كلام سيدهم حملت الستون ألف فارس في وجه خالد
بن الوليد والستين رجلا فثبت لهم أصحاب رسول الله ﷺ واشتبك الحرب بينهم فما كنت
تسمع إلا زئير الرجال وزمجرة الأبطال ووقع السيف على البيض الصقال حتى ما ظن أحد
من المسلمين ولا من المشركين أن خالدا ومن معه ينجو منهم أحد فبكى المسلمون وأخذهم
القلق على أخوانهم وجعل بعضهم يقول: لقد غرر خالد بن الوليد بأصحاب رسول الله ﷺ
وأهلكهم والروم تقول أن جبلة أهلك هؤلاء القوم فهلاك العرب حاصل بأيدينا لا محالة
ولم يزل القوم في الحرب والقتال حتى قامت الشمس في كبد السماء قال عبادة بن الصامت
فلله در خالد بن الوليد رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه والفضل بن العباس وضرار بن الأزور وعبد الله بن عمر بن الخطاب
رضوان الله عليهم اجمعين لقد رأيت هؤلاء الستة قد قرنوا مناكبهم في الحرب وقام
بعضهم بجنب بعض وهم لا يفترقون وزادت الحرب اشتعالا وخرقت الأسنة صدور الليوث حتى
بلغت إلى خزائن القلوب لانقطاع الآجال ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه
من مزيد قال عبادة بن الصامت فحملت معهم وكنت في جملتهم وقلت: يصيبني ما يصيبهم
ونادى خالد بن الوليد وقال: يا أصحاب رسول الله ﷺ ههنا المحشر وقد أعطى خالد القلب
مناه فلما حمى بينهم القتال حمل خالد بن الوليد وهاشم والمرقال وتكاثرت عليهم
الرجال فلله در الزبير ابن العوام والفضل بن العباس وهم ينادون أفرجوا يا معاشر
الكلاب وتباعدوا عن الأصحاب نحن الفرسان هذا الزبير بن العوام وأنا الفضل بن العباس
أنا أبن عم رسول الله ﷺ قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه فوحق رسول الله ﷺ لقد
أحصيت للفضل بن العباس عشرين حملة يحملها عن خالد بن الوليد حتى أزال عنه الرجال
والأبطال وحملوا على المشركين حملة عظيمة ولم يزالوا في القتال يومهم إلى أن جنحت
الشمس إلى الغروب والمسلمون قد جهدهم القلق على اخوانهم أما الأمير أبو عبيدة رضي
الله عنه فإنه صاح بالمسلمين وقال:
يا أصحاب رسول الله ﷺ هلك خالد بن الوليد ومن معه لا
محالة وذهبت فرسان المسلمن فاحملوا بارك الله فيكم لننظر ما كان من أر اخواننا فكل
اجاب إلى قوله واشارته إلا أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه فإنه قال للأمير أبي
عبيدة رضي الله عنه لا تفعل أيها الأمير فإنه لا بد للقوم أن يتخلصوا ونرى ما يكون
من أمرهم قال فلم يلتفت أبو عبيدة رضي الله عنه إلى كلامه وهم أن يحمل وقد أخذه
القلق فبينما هو كذلك وإذا جيش العرب المتنصرة منهزمون وأصوات الصحابة رضي الله
عنهم قد ارتفعت بالتهليل والتكبير كل ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأن محمدا عبده ورسوله والعرب المتنصرة منهزمة على أعقابهم كأنما صاح بهم صائح
من السماء فبدد شملهم وأقبل خالد بن الوليد من وسط المعمعة يلتهب بما لحقه من
التعب وكذا أصحابه الذين كانوا معه.
قال وأن خالد بن الوليد افتقد أصحابه الستين رجلا فلم
يجد منهم إلا عشرين فجعل يلطم على وجهه وهو يقول: أهلكت المسلمين يا ابن الوليد فما
عذرك غدا عند الرحمن وعند الأمير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبينما هو متحير في
ذلك إذ أقبل عليه الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وفرسان المسلمين وأبطال الموحدين
فنظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وما يصنع بنفسه وقد اشتغل عن
متابعة المشركين فقال أبو عبيدة: يا أبا سليمان الحمد لله على نصر المسلمين ودمار
المشركين فقال خالد بن الوليد: اعلم أيها الأمير أن الله قد هزم الجيش ولكن أعقبتك الفرحة
ترحة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وكيف ذلك فقال خالد: أيها الأمير فقدت أربعين رجلا
من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله ﷺ وفيهم الفضل بن
العباس وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه يسمي فرسان المسلمين واحدا بعد واحد حتى
سمى أربعين رجلا فاسترجع أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم وقال لخالد لا بد لعجبك يهلك المسلمون فقال سلامة بن الأحوص السلمي
أيها الأمير دونك والمعركة فاطلب فيها أصحاب رسول الله ﷺ فإن رأيتموهم وإلا فالقوم
أسرى أو قد تبعوا المشركين فأمر أبو عبيدة فأتوا بهوادى النيران وكان الظلام قد
اعتكر فافتقدوا المعركة بين القتلى فإذا قتل من العرب المتنصرة خمسة آلاف فارس
وسيدان من ساداتهم وهما رفاعة بن مطعم الغساني والآخر شداد بن الأوس ووجدوا من قتل
المسلمين عشرة رجال منهم اثنان من الأنصار أحدهما عامر الأوسي والآخر سلمة الخزرجي
فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يوشك أن بعض الصحابة قد تبع المشركين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه
اللهم ائتنا بالفرج القريب ولا تفجعنا بابن عمة نبيك الزبير بن العوام ولا بابن
عمه الفضل ابن العباس ثم قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين من يقفو لنا أثر القوم
ويتعرف خبر الصحابة واجره على الله عز وجل فكان أول من أجابه خالد بن الوليد رضي
الله عنه فقال له الأمير أبو عبيدة: لا تفعل يا أبا سليمان لانك تعبت من شدة الحرب
فقال خالد: والله لا يمضي في طلبهم غيري ثم غير جواده بفرس من خيول المسلمين وهو
فرس حازم بن جبير بن عدي من بني النجار فركبه خالد ابن الوليد رضي الله عنه وطلب
آثار القوم وتبعه جماعة من المسلمين فما سار خالد بعيدا حتى سمع خالد التهليل
والتكبير فأجابهم بمثله فأقبل القوم وفي أوائلهم الزبير بن العوام والفضل ابن
العباس وهاشم والمرقال فلما نظر خالد إليهم فرح فرحا شديدا ورحب بهم وسلم عليهم وقال
خالد بن الوليد رضي الله عنه للفضل بن العباس: يا ابن عم رسول الله ﷺ ما كان أمركم.
فقال: يا أبا سليمان هزم الله المشركين وردهم على أدبارهم
خائبين فتبعنا آثارهم وأن رجالا منا أسروا فرجونا خلاصهم فلم نرهم ولا شك إنهم
قتلوا فقال خالد رضي الله عنه: أن القوم في الأسر لا محالة فقال الزبير بن العوام
من أين علمت ذلك يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه: أنا لم نجد في المعركة غير
عشرة رجال ونحن عشرون وأنتم خمسة وعشرون وقد أسر خمسة رجال لا محالة وكان الأسرى
رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان
فعظم ذلك على المسلمين ورجعوا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى الفضل بن
العباس والى الزبير بن العوام والمرقال بن هاشم وقد رجعوا سالمين فرحين بما نصرهم
الله على الكافرين سجد على قربوس سرجه شكرا لله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله
عنه: معاشر المسلمين لقد بذلت مهجتي أن أقتل في سبيل الله تعالى فلم أرزق الشهادة
فمن قتل من المسلمين كان أجله قد حضر ومن أسر كان خلاصه على يدي إن شاء الله تعالى
قال وباتت الفرسان في فرح وسرور وبات الروم في نوح عظيم حين كسرت حامية عسكرهم.
قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الأمير أبا عبيدة رضي
الله عنه لما نظر إلى عساكر الروم معولة على قتاله كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله
عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من
أبي عبيدة عامر بن الجراح عامله سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو
وأصلي على نبيه محمد ﷺ وأعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفز علينا
كل من يحمل الصليب وقد سار القوم إلينا كالجراد المنتشر وقد نزلنا باليرموك بالقرب
من أرض الرماة والخولان والعدو في ثمانمائة ألف مقاتل غير التبع وفي مقدمتهم ستون
ألف من العرب المنتصرة من غسان ولخم وجذام فأول من لقينا جبلة بن الأيهم في ستين ألف
فارس وأخرجنا إليه ستين رجلا فهزم الله تعالى المشركين على أيديهم {وما النصر إلا
من عند الله العزيز الحكيم} وقتل من أصحابنا عشرة رجال وهم راعلة وجعفر بن المسيب
ونوفل بن ورقة وقيس بن عامر وسلمة بن سلامة الخزرجي وأسر منهم خمسة رجال وهم رافع
بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان ونحن
على نية الحرب والقتال فلا تغفل عن المسلمين وأمدنا برجال من الموحدين ونحن نسأل
الله تعالى أن ينصرنا وينصر الإسلام وأهله والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة
الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط الأزدي وأمره أن يتوجه إلى
مدينة يثرب قال عبد الله بن قرط فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة
بعد العصر وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور فوصلت يوم الجمعة
في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس فأنخت ناقتي على باب جبريل عليه السلام
وأتيت الروضة وسلمت على رسول الله ﷺ وعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وصليت فيها
ركعتين ونشرت الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فضجت المسلمون عند رؤيته وتطاولت
إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبلت يديه وسلمت عليه فلما فتح عمر الكتاب انتقع
لونه وتزعزع كونه وقال أنا لله وأنا إليه راجعون فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي
طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة يا أمير المؤمنين أطلعنا
على ما في هذا الكتاب من أمر اخواننا المسلمين فقام عمر رضي الله عنه ورقى المنبر خطيبا
وقرأ الكتاب على الناس فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقا إلى اخوانهم وشفقة
عليهم وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: يا أمير
المؤمنين ابعث بنا إليهم ولو قدمت أنت إلى الشام لشدت بك ظهور المسلمين فوالله ما
أملك إلا نفسي ومالي وما ابخل بهما على المسلمين قال: فلما سمع عمر بن الخطاب كلام
عبد الرحمن بن عوف ونظر إلى اشفاق المسلمين وجزعهم على إخوانهم أقبل على عبد الله
وقال: يا بن قرط من المقدم على عساكر الروم فقلت: خمسة بطارقة أحدهم ابن أخت الملك
هرقل وهو قورين والديرجان وقناطير وجيرجير وصلبانهم تحت صليب ماهان الأرمني وهو
الملك على الجميع وجبلة بن الأيهم الغساني مقدم على ستين ألف فارس من العرب
المتنصرة فاسترجع عمر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ عمر: {يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:]
.
ثم قال: ما تشيرون به علي رحمكم الله تعالى فقال له علي
بن أبي طالب رضي الله عنه: ابشروا رحمكم الله تعالى فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات
الله تعالى يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم فمن صبر واحتسب كان عند
الله من الصابرين واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله صلى الله ليه
وسلم التي يبقى ذكرها إلى الأبد هذه الدائرة المهلكة فقال العباس علي من هي يا أبن
اخي فقال: يا عماه علي من كفر بالله واتخذ معه ولدا فثقوا بنصر الله عز وجل ثم قال
لعمر يا أمير المؤمنين اكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتابا وأعلمه فيه أن نصر الله خير
له من غوثنا ونجدتنا فيوشك إنه في أمر عظيم فقام عمر ورقى المنبر وخطب خطبة وجلت
منها القلوب وذرفت منها العيون وذكر فضل الجهاد ثم نزل وصلى بالمسلمين فلما فرغ من
صلاته كتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر
أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح ومن معه من المهاجرين والأنصار
سلام عليكم فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ أما بعد فإن
نصر الله خير لكم من معونتنا واعلموا إنه ليس بالجمع الكثير يهزم الجمع القليل
وإنما يهزم الجمع القليل وإنما يهزم بما أنزل الله من النصر وأن الله عز وجل يقول:
{وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ
مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:
1] وربما ينصر الله العصابة القليل عددها على العصابة
الكثيرة وما النصر إلا من عند الله وقد قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 2] رالآية يا طوبى للشهداء ويا
طوبى لمن يتكل على الله فالق العدو بمن معك من المسلمين ولا تيأس بمن صرح من المسلمين
فقد رأيت من صرع بين يدي رسول الله ﷺ وما عجزوا عن عدوهم في مواطن كثيرة حتى قتلوا
في سبيل الله ولم يهابوا لقاء الموت في جنب الله تعالى بل جاهدوا في سبيل الله حق
جهاده: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:14] .
فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقرأه على المسلمين وأمرهم أن
يقاتلوا العدو في سبيل الله عز وجل واقرأ عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[آل عمران:20] والسلام عليك.
ورحمة الله وبركاته ثم طوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن
قرط وقال له: يا ابن قرط إذا اشرفت على المسلمين وقد استوت الصفوف فسر بين صفوف
الموحدين وقف على أصحاب الرايات منهم وخبرهم إنك رسولي إليهم وقل لهم أن عمر بن
الخطاب يسلم عليكم ويقول لكم: يا أهل الإيمان أصدقوهم الحرب عند اللقاء وشدوا
عليهم شد الليوث وأضربوا هاماتهم بالسيوف وليكونوا عليكم أهون من الذباب فانكم
المنصورون عليهم أن شاء الله تعالى ثم اقرأ عليهم: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المائدة: 5] قال عبد الله بن قرط قلت له: يا أمير المؤمنين ادع
الله تعالى لي بالسلامة والسرعة في السير.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم احمه وسلمه واطو
له البعيد إنك على كل شيء قدير قال عبد الله بن قرط وخرجت من المسجد من باب الحبشة
فقلت في نفسي: لقد أخطأت في الرأي إذ لم أسلم على قبر رسول الله ﷺ فما أدري أراه
بعد اليوم أم لا قال عبد الله فقصدت حجرة رسول الله ﷺ وعائشة رضي الله عنها جالسة
عند قبره وعلى بن ابي طالب كرم الله وجهه والعباس جالسان عند القبر والحسين في حجر
علي والحسن في حجر العباس رضي الله عنه وهم يتلون سورة الأنعام وعلي رضي الله عنه
يتلو سورة هود فسلمت على رسول الله ﷺ فقال علي رضي الله عنه يا ابن قرط عولت على المسير
إلى الشام فقلت: نعم يا ابن عم رسول الله ﷺ وما أظن أن أصل إليهم إلا والجيش قد
التقى والحرب دائرة وإذا أشرفت عليهم لا يرون معي مدادا ولا نجدة خشيت عليهم أن
يهنوا ويجزعوا وكنت أحب أن أصل إليهم قبل التقائهم بعدوهم حتى أعظهم وأصبرهم فقال
علي رضي الله عنه فما منعك أن تسأل عمر بن الخطاب أن يدعو لك أما علمت يا أبن قرط
أن دعاءه لا يرد ولا يحجب وأن رسول الله ﷺ قال فيه: "لو كان نبي ثان بعدي
لكان عمر بن الخطاب" أليس هو الذي يوافق حكمه حكم الكتاب حتى قال المصطفى ﷺ:
"لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب" أما
علمت أن الله تعالى انزل فيه آيات بينات أما هو الزاهد التقى أما هو العابد أما هو
المشبه بنوح النبي فإن كان هو قد دعا لك فقد قرن دعاؤه بالإجابة فقال عبد الله بن
قرط ما ذكرت شيئا إلا وأنا عارف به من فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكني أردت
الزيادة من دعائك ودعاء العباس عم رسول الله ﷺ ولا سيما عند قبر الرسول المعظم
المكرم قال فرفع العباس رضي الله عنه عند يديه وعلي رضي الله عنه كذلك وقالا: اللهم أنا نتوسل
بهذا النبي المصطفى والرسول المجتبى الذي توسل به آدم فأجبت دعوته وغفرت خطيئته
إلا سهلت على عبد الله طريقه وطويت له البعيد وأيدت أصحاب نبيك بالنصر إنك سميع
الدعاء ثم قال: سر يا عبد الله بن قرط فالله تعالى اكرم من أن يرد دعاء عمر وعباس
وعلي.
والحسن والحسين وأزواج رسول الله ﷺ وقد توسلوا إليه
بأكرم الخلق عليه قال عبد الله بن قرط فخرجت من الحجرة وأنا فرح مستبشر واستويت
على كور المطية وركبت الفلاة وأنا فرح بدعاء علي والعباس وعمر رضي الله عنهم
أجمعين قال عبد الله خرجت من المدينة بعد العصر من يومي ذلك الذي دخلت فيه المدينة
وأنا أرقب الطريق فلما اختلط الظلام وأسبل الليل سجفه أرخيت زمام المطية فحسبت
إنها تطير بي ولم أزل سائرا ثلاثة أيام فلما كانت صلاة العصر من اليوم الثالث
أشرفت على اليرموك وسمعت ضجيج أذان المسلمين قال عبد الله فقصدت خيمة الأمير أبي عبيدة
رضي الله عنه وأنخت ناقتي وسلمت عليه وكان لي منذ فارقته عشرة أيام فأخبرته بدعاء
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال أبو
عبيدة: صدقت يا أبن قرط وإنهم لكرام على الله عز وجل وأن دعاءهم لا يرد ثم قرأ
الكتاب على المسلمين فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أيها الأمير ما منا إلا من يطلب
الشهادة فالله تعالى يبلغنا إياها.
قال الواقدي: حدثني عمرو بن العلاء قال حدثنا ماجد عن
الثقات قال لما سار عبد الله ابن قرط من المدينة يوم الجمعة فلما كان يوم السبت
وقد صلينا الصبح خلف عمر بن الخطاب ونحن نقرأ من القرآن ما تيسر إذ سمعنا ضجة
عظيمة وجلبة هائلة ففزعت قلوبنا فخرجنا مبادرين وإذا نحن بقوم من اليمن من صدوان
وأرض سبأ وحضرموت واجتمعوا للجهاد وهم ستة آلاف يقدمهم جابر بن خول الربعي فترجلت
ساداتهم وسلموا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرهم بالنزول فلما
أقل الظلام جاء ألف فارس من مكة والطائف ووادي نخلة وثقيف يقدمهم سعيد بن عامر
وسلموا على عمر ونزلوا بأزاء أهل اليمن فلما كان يوم الأحد حمل عمر ضعيفهم وزودهم
وعقد راية حمراء على قناة تامة وسلمها إلى سعيد بن عامر قال سعيد بن عامر فهممت
بالمسير فقال عمر على رسلك يا ابن عامر حتى أوصيك ثم أقبل عمر بن الخطاب يمشي
راجلا ومعه عثمان بن عفان والعباس وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف فلما قربوا
من الجيش وقف عمر والناس حوله وقال لسعيد بن عامر يا سعيد إني وليتك على هذا الجيش
ولست بخير رجل منهم إلا أن تتقي الله فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم
أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المفاوز واقطع
بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من
المسلمين فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: اسمع وصية أمامك أمير المؤمنين
الذي ختم الله تعالى به الأربعين وسميت به الأمة مؤمنين وهو الذي قال فيه رسول
الله ﷺ: "أن تطيعوه تهتدوا وترشدوا" فسر يا سعيد وإذا وصلت إلى أبي
عبيدة والتقى بكم الجيش الذي لا تلقون مثله وصعب عليكم.
أمره فاكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر حتى يوجهني إليكم
حتى أقلب أرض الشام على من فيها من المشركين أن شاء الله تعالى قال فسار بن عامر
وهو يقول:
نسير بجيش من رجال أعزة
...
على كل عجعاج من الخيل يصبر
إلى شبل جراح وصحب نبينا
...
لننصره والله للدين ينصر
على كل كفار لعين معاند
...
تراه على الصلبان بالله يكفر
قال وسار يجد السير قال سعيد بن عامر وكنت عارفا ببلاد
الشام وطرقه وكنت أسير إليه في السنة مرة أو مرتين عسفا من غير جادة طريق اسير على
الكواكب فلما سرت من المدينة وأنا بين يدي المسلمين سلكت بهم على طريق بصرى فضللت
عن الطريق وعدلت عن الجادة وأنا محترز من العدو وخائف على المسلمين فجعلت أحيد عن
العمارات وأسلك الفلاة توفيقا من الله واكراما ولطفا بعباده المؤمنين فلما ضللت
أشكل علي الطريق كأني ما سلكته يوما قط فوقفت حائرا حتى تلاحق بي المسلمون فلم
أعلمهم بأمري ولا إني ضللت عن الطريق وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم فسرت يومين وليلتين وأنا أتيه بالناس والمسلمون يسألونني عن ذلك وأنا أقول
لهم إني على طريق فلما كان في اليوم العاشر من مسيرنا من المدينة لاح لي جبل عظيم
فنظرت إليه وحققته فلم أعرفه فقلت: غررت والله بالمسلمين وأنا أقول في نفسي أترى
هذا جبل بعلبك وقد سهل علينا الطريق وكان الجبل قد لاح لنا من بعيد من أول النهار
وما أدركناه إلا والليل قد أقبل فلما صرنا بقربه اعترضنا واد عظيم فيه شجرة عظيمة
كبيرة قال فلما تاملت الشجرة عرفتها وقلت لأصحابي: أبشروا فقد وصلنا إلى بلاد
الشام وفتح المسلمين ودخلنا الوادي وإذا به وعر ليس فيه جادة ولا طريق فلحق المسلمين
من هوله تعب عظيم قال سعيد بن عامر وكان أكثر المسلمين رجالة وإنما كان يحمل بعضهم
بعضا ويتعقبون على ظهور الخيل والإبل.
فلما نظرت المسلمون إلى وحشة ذلك الوادي ووعورة مسلكه
قالوا: يا سعيد أنا نظنك إنك قد أخطأت الطريق وسلكت بنا غير طريقنا فأرحنا في هذا
الوادي قليلا فقد اضر بنا المسير قال فأجبتهم إلى ذلك وكان في الوادي عين ماء
غزيرة فنزل المسلمون عليها فشربوا وسقوا خيلهم وابلهم ورعت الخيل والجمال ورق
الشجر ونام أكثر الناس وبعضهم يصلي على محمد قال سعيد بن عامر وكنت جلست في آخر الناس
أحرسهم وأنا أتلوا القرآن العظيم وأدعو الله لنا بالسلامة إذ غلبتني عيني فنمت
فرأيت في منامي كأني في جنة خضراء كثيرة الاشجار والثمار وكأني آكل من ثمرها وأشرب
من أنهارها وأجني من ثمرها وأنأول أصحابي وهم يأكلون وأنا فرح مسرور فبينما أنا
كذلك إذ خرج من بين تلك الشجر أسد عظيم فزأر في وجهي وهم أن يفترسني. وأنا من ذلك
فزع مرعوب إذ خرج على الأسد أسدان عظيمان فصرعاه في موضعه فسمعت له خوارا عظيما
فانتبهت من نومي وحلاوة ذلك الثمر في فمي الأسود تتمثل بين يدي قال سعيد بن عامر
ففسرتها إنها غنيمة يأخذها المسلمون ويمنعنا منها مانع ونظفر به فقلت في نفسي
الجنة هي الشهادة قال سعيد بن عامر ولم أزل جالسا أتلو القرآن وأنا قلق إذ سمعت
هاتفا يهتف بي عن يمين الوادي وهو يقول:
يا عصبة الهادي إلى الرشاد
...
لا تفزعوا من وعر هذا الوادي
ما فيه من جن ولا معادي
...
ستعلمون معشر العباد
لطف الذي يرفق بالأولاد
...
ويطرح الرحمة في الاكباد
سيصنع الله بكم رشاد
...
وتغنموا المال مع الأولاد
قال سعيد بن عامر فلما سمعت شعر الهاتف وما يشير به من
الغنيمة سجدت لله تعالى شكرا واستيقظ المسلمون لصوت الهاتف قال سعيد بن عامر وكنت
قد حفظت من الهاتف بيتا وحفظ سماح ثلاثة أبيات وأنشدني إياها وفرح المسلمون بما
سمعوا من الهاتف وطابت قلوبهم بالغنيمة وأقام المسلمون في الوادي حتى أصبح الصباح وصلى
بهم سعيد بن عامر صلاة الفجر فلما طلعت الشمس خرج المسلمون من الوادي وحققت تلك
الأرض والجبل وإذا به جبل الرقيم فلما رأيته عرفته فرفعت صوتي بالتكبير وقلت: الله
أكبر وكبرت المسلمون لتكبيري وقالوا: ما الذي رأيت يا ابن عامر فقلت: وصلنا إلى
بلاد الشام وهذا جبل الرقيم قال سعيد وأكثر من معي طماعو العرب قالوا: يا سعيد وما
الرقيم أما تعرفه فحدثتهم بحديث الرقيم قال سعيد فعجبوا من ذلك ثم أقبلت بهم إلى
الغار فصلوا فيه ثم سرنا حتى أشرفنا على بلاد عمان قال سعيد بن عامر فعدلت إلى
قرية هناك يقال لها الجنان فنظرت إلى دهاقين القرية وهم خارجون منها ومعهم الأهل
والأولاد فلما رآهم المسلمون حملوا عليهم من غير اذن لهم وأخذوا بعضهم أسارى فرجع
القوم إلى القرية وكان فيها حصن منيع فتحصنوا فيها منا قال سعيد بن عامر فقربت من الحصن
وصحت بهم وقلت: يا ويلكم ما بالكم كنتم خارجين من قريتكم فرجعتم فأشرف علي واحد
منهم وقال لي يا معاشر العرب أعلموا أننا كنا خارجين من المدينة ففزعنا منكم وذلك
أن صاحب عمان بعث إلينا وأمرنا بالمسير إلى عمان لنكون من تحت كنفه في عمان والآن
يا معاشر العرب هل لكم أن نكون في ذمامكم وأمانكم قال سعيد: نعم فوقع الصلح بيننا
على عشرة آلاف دينار وكتبت لهم كتاب الصلح فلما هممت بالمسير قالوا: يا معاشر
العرب قد صالحناكم ونحن خائفون من قومنا وأعلموا أن نقيطاس صاحب عمان لا بد أن
نلقى منه شدة عظيمة فلو ظفرتم به لكان خيرا لنا ولكم فقلت: فكيف نظفر به فقالوا:
إن الملك ماهان.
مقدم العساكر قد بعث بذلك إليه وأن أنتم ظفرتم بصاحب
عمان ملكتم غنيمة جسيمة فقال سعيد بن عامر رضي الله عنه وفي كم يكون جيش عمان فقالوا:
في خمسة آلاف فارس ولكن قد وقع خوفكم في قلوبهم فلن يفلحوا إذا أبدا فقال سعيد بن
عامر يا معاشر المسلمين ما تقولون في لقاء هذا البطريق صاحب عمان وأخذ غنيمته
فقالوا: افعل ما تريد فإن قتله الله على أيدينا كان ذلك صلاحا للمسلمين ووهنا على
المشركين فقال سعيد بن عامر لاهل القرية على أي طريق يأتي القوم فقالوا: على هذا
الطريق.
قال فدلونا على طريق عمورية فسرنا إلى واد عظيم وكمنا
فيه يوما وليلة فلم يأتنا أحد فلما أصبح الصباح قال سعيد يا معاشر المسلمين أن
الذي وجهنا إليه عمر بن الخطاب من نجدة أبي عبيدة والمسلمين أفضل من مقامنا هنا
فاخرجوا رحمكم الله فانا إذا أشرفنا على المسلمين في سبعة آلاف فارس كان ذلك وهنا
على المشركين وذلة للكافرين فقال المسلمون يا ابن عامر أن قلوبنا توقن بالغنيمة
فلا تحرمنا ذلك قال فبينما هم في المحاورة إذا أشرف عليهم جماعة من القسوس
والرهبان وعليهم ثياب الشعر وفي أيديهم الصلبان وقد حلقوا أوساط رؤوسهم فابتدر المسلمون
إليهم وأخذوهم وأوقفوهم بين يدي سعيد بن عامر فقال لهم: من أنتم وكان فيهم قس كبير
فكلم سعيدا وقال نحن رهبان هذه الأديرة والصوامع ونريد أن نصل إلى قسطنطين ولد
الملك هرقل حتى ندعو للعساكر بالنصر قال سعيد فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في
ضلال فما وراءكم من الأخبار قالوا: وراءنا صاحب عمان في خمسة آلاف فارس من فرسان
النصرانية وعباد الصليب فقال سعيد اللهم اجعلهم غنيمة لنا ثم قال سعيد للقسيس الذي
خاطبه أسمع أيها الشيخ أن نبينا أمرنا أن لا نتعرض لراهب حبس نفسه في صومعة ولولا
إنكم تنذرون العدو لخلينا سبيلكم ثم أمر المسلمين أن يؤثقوهم كتافا فأوثقوهم
بزنانيرهم التي في أوساطهم فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا جيش عمان والرجالة
أمامهم يعزلون لهم الحجر من الدروب فلما أشرفوا علم المسلمين حمل عليهم المسلمون
من غير أهبة ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكيبير ووضعوا فيهم السيف فقتلوا الرجالة عن
آخرهم فأخبر صاحب عمان بذلك فلما نظر إلى صنع المسلمين أمر أصحابه بالحملة فحملوا
عليهم حملة عظيمة واقتتلوا قتالا شديدا قال سعيد بن عامر ونظرت إلى المسلمين وهم
يقتلون الروم قتلا ذريعا ويضجون بالتهليل والتكبير فلما نظر البطريق صاحب عمان ما
صنع المسلمون بأصحابه ولى منهزما طالب عمان وتبعه قومه وتبعهم المسلمون وبعضهم مال
إلى الغنيمة والبطريق نقيطاس صاحب عمان في الهرب وكان قد سبق فوقف حتى تلاحق به
المنهزمون من قومه قال فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم خيل من ورائهم تسرع بركابها
وقد اطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وهم زهاء من ألف.
فارس يقدمهم فارسان كأنهما أسدان أحدهما الزبير بن
العوام والآخر الفضل بن العباس فحملوا على الروم فقتلوهم قتلا ذريعا وحمل الزبير
بن العوام على نقيطاس بطريق عمان وهو واقف تحت الصليب فطعنه الزبير فقلبه عن جواده
وعجل الله بروحه إلى النار وأقبل الفضل بن العباس يجندل الفرسان وينكس الأبطال قال
وأشرف سعيد بن عامر على الموضع فرأى الحرب قائمة فظن إنه وقع بينهم الخلف فلما
قربوا منهم سمعوا التهليل والتكبير فقالوا: هذه دعوة الحق لمن قالها فاقتحم سعيد
ابن عامر المعركة فسمع الفضل بن العباس وهو ينتمي باسمه ويقول: أنا ابن عم رسول
الله ﷺ.
قال سعيد بن عامر فوالله ما أنفلت من القوم أحد فقلت له:
لله درك يا ابن العباس ومن معك من أصحاب رسول الله ﷺ فقال معي الزبير بن العوام
ابن عمة رسول الله ﷺ قال سعيد بن عامر فوالله ما انفلت من القوم أحد إلا بين أسير وقتيل
وغنم المسلمون غنيمة عظيمة وسلم بعضهم على بعض وأقبل الزبير على سعيد بن عامر
وقال: يا ابن عامر ما الذي حبسك عن المسير جهتنا وقد جاءنا سالم بن نوفل العدوي
وأخبرنا بمسيرك إلينا وقد ساءت بك ظنوننا فأرسلنا أبو عبيدة لنغير على عمان والحمد
لله على سلامة المسلمين ودمار المشركين ثم أمر الزبير برؤوس القتلى فسلخت وحملتها
العرب على أسنة الرماح فكانت الرؤوس أربعة آلاف رأس والأسرى ألف أسير قال وأطلق
سعيد بن عامر الرهبان وسار المسلمون حتى اشرفوا على أبي عبيدة رضي الله عنه ورفعوا
أصواتهم بالتهليل والتكبير واجابهم حيش المسلمين بمثل ذلك فانزعجت قلوب الروم لذلك
ونظروا إلى ثمانية آلاف فارس والرؤوس معهم على الأسنة فبهتوا لذلك وحدث سعيد بن عامر
أبا عبيدة بالنصر وغنيمتهم من الروم فسجد شكرا لله عز وجل وأمر بالألف أسير فضربت
أعناقهم والروم ينظرون إليهم قال قطبة بن سويد واخبرت الروم إنه لم ينج أحد من جيش
عمان.
قال الواقدي: لما أسر الخمسة من أصحاب رسول الله ﷺ اغتم
لفقدهم أصحاب رسول الله ﷺ وكان أكثرهم غما أبو عبيدة بن الجراح وأقبل على البكاء
والتضرع يدعو لمن أسر بالخلاص وأما الخمسة فانهم مثلو بين يدي ماهان لعنه الله
تعالى وغضب عليه فلما نظر إليهم استحقر شأنهم وقال لجبلة بن الأيهم من هؤلاء قال:
أيها الملك هؤلاء قوم من جيش المسلمين وقد كانوا ستين رجلا فقتلت أكثرهم وأسرت
هؤلاء وما بقي في عسكرهم من تخاف غائلته الأرجل واحد وهو الذي يثبتهم ويرمي بهم كل
المرامي وهو الذي فتح أركة وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وهو الذي كسر عساكر أجنادين
وتبع توما وهربيس وقتلهم في مرج الديباج وأسر ابنة الملك هرقل وهو خالد بن الوليد
قال فلما سمع ماهان ذلك قال: لا بد لي أن أحتال على هذا الرجل.
حتى أحصله عندي وأقتله مع هؤلاء الخمسة الأسرى ثم دعا
ماهان برجل من الروم اسمه جرجة وكان حكيما فاضلا عند الروم فصيحا بلسان العرب
فقال: يا جرجة أريد أن تمضي إلى هؤلاء العرب وتقول لهم يبعثوا لنا رسولا وليكن هذا
الرسول الرجل المسمى بخالد قال فركب جرجة وسار نحو عساكر المسلمين فالتقى بخالد بن
الوليد فقال له: ما الذي تريد فقال أن الملك ماهان قد بعثني إليكم حتى تبعثوا رجلا
منكم فلعل الله أن يحقن دماءنا ودماءكم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا
أكون الرسول إليه وأوقف رسول الروم بين يديه ويدي أبي عبيدة رضي الله عنه وأخبره
إنه يريد المسير إلى ماهان فقال أبو عبيدة: امض يا أبا سليمان سلمك الله تعالى
فلعل الله تعالى أن يهديهم أو يدعونا للصلح واداء الجزية فتحقن الدماء على يدك
فحقن دم رجل واحد أحب إلى الله تعالى من أهل الشرك جميعا فقال خالد بن الوليد رضي
الله عنه: أنا أطلب من الله تعالى العون.
ثم وثب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى خيمته ولبس خفين
حجازيين وتعمم بعمامة سوداء وشد وسطه بمنطقة من الأديم وتقلد سيفه الذي استلبه من
مسيلمة الكذاب يوم اليمامة وأمر عبده عمان أن يأخذ قبته الحمراء وكانت من الأديم
الطائفي وفيها شمعات من الذهب الأحمر وحليتها من الفضة البيضاء وكان خالد قد
أشتراها من أمرأة ميسرة بن مسروق العبسي بثلثمائة دينار فحملها على بغل وركب خالد
جواده فلما هم بالمسير قال له أبو عبيدة: يا أبا سليمان خذ معك رجالا من المسلمين
يكونون لك عونا فقال خالد: أيها الأمير أحب ذلك ولكن لا اكراه في الدين وليس لي عليهم
طاعة فأمر من شئت فلما سمع المسلمون كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه قال معاذ بن
جبل يا أبا سليمان إنك من أهل الفضل ولو أمرتنا بأمر امتثلناه لانك سائر في طاعة
الله تعالى ورسوله.
قال الواقدي: فاستركب معه مائة فارس من المهاجرين
والأنصار منهم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة وسعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل العدوي وميسرة بن مسروق العبسي وقيس بن هبيرة المرادي وسهل بن عمرو
العامري وجرير بن عبد الله البجلي والقعقاع بن عمرو التميمي وجابر بن عبد الله
الأنصاري وعبادة بن الصامت الخزرجي والأسود بن سويد المازني وذو الكلاع الحميري
والمقداد بن الأسود الكندي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنهم أجمعين ولم
يزل خالد ينتخب مثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم حتى كمل منهم مائة فارس كل فارس
منهم يرد جيشا وحده فاخذوا زينتهم واشتملوا بلباس الحرب وتوشحوا بالأبراد وتعمموا
بالعمائم وتمنطقوا بالخناجر وتقلدوا بالسيوف وركبوا الخيل العتاق وسار خالد بن
الوليد رضي الله عنه.
وعن يمينه معاذ بن جبل وعن شماله المقداد بن الأسود الكندي
والمائة فارس محدقون به قال معاذ بن جبل رضي الله عنه وسرنا ونحن نعلن بالتهليل
والتكبير قال نصر بن سالم المازني فنظرت إلى أبي عبيدة رضي الله عنه حين سار خالد
بمن معه يقرأ آية من القرآن ودموعه جارية على خده فقلت: أيها الأمير ما يبكيك
فقال: يا بن سالم هؤلاء والله أنصار الدين فإن أصيب رجل منهم في امارة أبي عبيدة
فما يكون عذري عند رب العالمين وعند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الواقدي: فلما اشرف خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن
معه على عساكر الروم نظر المسلمون إلى عساكر الروم وهم خمسة فراسخ في العرض وعن
نوفل بن دحية أن خالد بن الوليد لما ترجل عن جواده وترجل المائة جعلوا يتبخترون في
مسيرهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الحجاب والبطارقة ولا يهابون أحدا إلى
أن وصلوا إلى النمارق والفراش والديباج ولاح لهم ماهان وهو جالس على سريره فلما
نظر أصحاب رسول الله ﷺ إلى ما ظهر من زينته وملكه عظموا الله تعالى وكبروه وطرحت
لهم الكراسي فلم يجلسوا عليها بل رفع كل واحد منهم ما تحته وجلسوا على الأرض فلما
نظر ماهان إلى فعلهم تبسم وقال: يا معاشر العرب لم تأبون كرامتنا ولم أزلتم ما
تحتكم من الكراسي وجلستم على الأرض ولم تستعملوا الأدب معنا ودستم على فراشنا قال
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن الأدب مع الله تعالى افضل من الأدب معكم
وبساط الله اطهر من فرشكم لأن نبينا محمد ﷺ قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ثم قرأ
قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى} [طه:5] .
قال حدثني عاصم بن رواح الزبيدي قال حدثنا بن عبد الله
الشيباني قال حدثنا طرفة بن شيبة الخولاني عن عمه جرير وكان محالفا لخالد بن
الوليد رضي الله عنه قال لم يكن بين خالد وماهان ترجمان يبلغ عنهما بل كانا
يتحدثان كلاهما فقال خالد: يا ماهان إني اكره أن أبداك بالكلام فتكلم أنت بما تريد
فاني لست ابالي بما تتكلم ولكل كلام جواب فإن شئت فتكلم وأن شئت بدأتك قال ماهان
أنا أبدؤكم الحمد لله الذي جعل سيدنا الروح المسيح كلمته وملكنا أفضل الملوك
وأمتنا خير الأمم قال فعظم ذلك على خالد بن الوليد وقطع خالد كلامه فقال الترجمان
لا تقطع كلام الملك يا أخا العرب واستعمل حسن الأدب فأبى خالد أن يسكت بل قال
خالد: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الانبياء وجعل أميرنا الذي
وليناه أمورنا كبعضنا لو زعم إنه يملك علينا لعزلناه فلسنا نرى أن له فضلا علينا
إلا أن يكون أتقى لله عز وجل منا وقد جعل الله أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر
وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله تعالى وحده لا شريك له قال فاصفر وجه ماهان
وسكت قليلا.
ثم قال الحمد لله الذي أبلانا وأحسن البلاء إلينا
وعافانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا ومنعنا من الضيم ولسنا فيما خولنا الله
فيه من نعيم الدنيا بطرين ولا باغين على الناس وقد كان يا معاشر العرب طائفة منكم
يغشوننا ويلتمسون نائلنا ورفدنا وجوائزنا ونحن نحسن إليهم ونكرمهم ونكرم ضعيفهم
ونعظم قدرهم ونتفضل عليهم ونفي لهم بالوعد وكنا نظن أن العرب كلها تعرف لنا ذلك من
جميع القبائل وتشكرنا عليه لما أسدينا من عطايانا الجميلة لهم فما شعرنا حتى
جئتمونا بالخيل والرجل وظننا إنكم تطلبون منا طلب اخوانكم فإذا انتم على خلاف رأي
أولئك جئتم تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون الأموال وتهدمون الأطلال وتطلبون
أن تخرجونا من أرضنا وتغلبونا على بلادنا وقد طلب منا ذلك من كان قبلكم ممن هو أكثر
منكم عددا واكثر أموالا وسلاحا وظهرا فرددناهم خائفين وجلين خائبين بين قتيل وجريح
وطريد وطريح فأول ما فعلنا ذلك بملك فارس فرده الله على عقبيه بالخيبة والذل وكذلك
فعلنا بملك الترك وملك الجرامقة وغيرهم وانتم لم يكن في أمة من الأمم أصغر منكم
مكانا ولا أحقر شانا لانكم أهل الشعر والوبر والبؤس والشقاء وإنكم مع ذلك تظلمون
في بلادكم وبلادنا وحوالينا أمة كثيرة العدد وشوكتنا شديدة وعصبتنا عظيمة وإنما
قبلتم علينا لانكم خرجتم من جدوبة الأرض وقحط المطر فانجليتم إلى بلادنا وأفسدتم
كل الفساد وركبتم مراكب ليست كمراكبكم ولبستم ثيابا ليست كثيابكم وتمتعتم ببنات
الروم البيض الأوانس فجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما ليس كطعامكم وملئت أيديكم من
الذهب والفضة والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن ومعكم أموالنا وما غنمتموه من
قومنا وأهل ديننا وقد تركناه لكم لا نطالبكم به ولا ننازعكم فيه ولا نعتب عليكم
فيما تقدم من فعالكم والآن فاخرجوا من بلادنا فإن أبيتم الانصراف عنا عزمنا عليكم
عزمة فنترككم كأمس الدابر وأن جنحتم للصلح نأمر لكل واحد من عسكركم بمائة دينار
وثوب ولاميركم أبي عبيدة بألف دينار ولخليفتكم عمر بن الخطاب بعشرة آلاف دينار
وعلى إنكم تحلفون لنا أن لا تعودوا إلى حربنا.
قال الواقدي: وماهان يرغب تارة ويرهب اخرى وخالد مطرق لا
يتكلم حتى فرغ ماهان من كلامه فقال خالد: أن الملك قد تكلم فأحسن وسمعنا كلامه
ونتكلم ويسمع كلامنا ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما سمع
ماهان ذلك مد يده إلى السماء وقال:
نعم ما قلت: يا عربي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى ﷺ فقال ماهان ما أدري أمحمد
رسول الله أم لا ولعله كما تقول وتزعم وتذكر فقال خالد رضي الله عنه: حسب الرجل
دينه ثم قال أفضل الساعات وخيرها الساعات التي يطلع فيها الله رب العالمين فالتفت ماهان
إلى قومه وقال بلسانه إنه رجل عاقل يتكلم بالحكمة فقال خالد: ما الذي قلت لقومك:
فأخبره بمقالته فقال خالد: أن كنت أوتيت العقل فالله تعالى المحمود على ذلك وقد
سمعنا نبينا محمدا ﷺ يقول: "لما خلق الله تعالى العقل وصوره وقدره قال أقبل
فأقبل ثم قال له: أدبر فادبر فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب الي
منك بك تنال طاعتي وتدخل جنتي" فقال ماهان اذا كنت بهذا العقل والفهم فلم جئت
بهؤلاء معك قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئت بهم لاشاورهم قال ماهان وأنت مع
جودة عقلك وحسن رأيك وبصيرتك تحتاج إلى مشورة غيرك قال خالد: نعم بهذا أمر الله عز
وجل نبينا محمدا صلى الله عنه فقال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 15] وقال
ﷺ: "ما ضاع امرؤ عرف قدره ولا ضاع مسلم استشار" فأنا وأن كنت ذا رأي
وعقل كما تزعم وكما بلغك فاني لا استغني عن رأي ذي رأي ومشورة أصحابي قال ماهان
وهل في عسكركم من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال: نعم أن في عسكرنا أكثر من ألف
فارس لا يستغني عن رأيهم ولا عن مشورتهم فقال له ماهان: ما كنا نظن ذلك فيكم وإنما
كان يبلغنا عنكم إنكم طماعون جهال لا عقول لكم بغير بعضكم على بعض وينهب بعضكم
أموال بعض فقال له خالد رضي الله عنه: ذلك كان شأن أكثرنا حتى بعث الله عز وجل
فينا نبينا محمدا صلى لاله عليه وسلم فهدانا لرشدنا وعرفنا سبيلنا وفهمنا الخير من
الشر والهدى من الضلال فقال ماهان يا خالد إنك قد أعجبتني بما أراه من رأيك
وبصيرتك وقد أحببت أن اؤاخيك فتكون أخي وخليلي فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه:
وافرحاه أن تمم الله مقالتك فتكون إذا سعيدا ولا نفترق فقال ماهان وكيف ذلك قال
خالد: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله الذي بشر به عيسى ابن
مريم فإذا فعلت ذلك كنت أخي وكنت أخاك وتكون خليلي وأكون خليلك ولا نفترق إلا لامر
يحدث فقال ماهان أما ما دعوتني إليه من الترك لديني والدخول في دينكم فمالي إلى ذلك
من سبيل فقال خالد بن الوليد: وكذلك أيضا لا سبيل إلى مؤاخاتي لك وأنت مقيم على
دينك دين الضلال قال ماهان أريد أن ألقى الحشمة بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ لاخيه
فأجبني عن كلامي الذي دعوتك إليه حتى أسمع ما تقول.
قال خالد: أما بعد فانك تعلم أن الذي ذكرته مما فيه قومك
من الغنى والعز ومنع الحريم والظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن عارفون به
وكل ما ذكرته من انعامكم على جيرانكم من العرب فقد عرفنا ولكن انما فعلتم ذلك
ابقاء لنعمتكم ونظرا منكم لأنفسكم وذراريكم وزيادة لكم في مالكم وعزا لكم فتستكثرون
جموعكم وتلقون الشوكة على من أرادكم وأما ما ذكرته من فقرنا ورعينا الإبل والشاة
فما منا من لم يرع وأكثرنا رعاة ومن رعى منا كان له الفضل على من لم يرع وأما قولك
بأننا أهل فقر.
وفاقة وبؤس وشقاء فنحن لا ننكر ذلك وإنما ذلك من أجل أنا
معاشر العرب أنزلنا الله تعالى منزلا ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا زرع إلا قليل
وكنا أهل جاهلية جهلاء لا يملك الرجل منا إلا فرسه وسيفه وأباعره وشياهه ويأكل
قوينا ضعيفنا ولا يأمن بعضنا بعضا إلا في الأربع الاشهر الحرم نعبد دون الله
الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ونحن عليها مكبون ولها حاملون
فبينما نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وصار إلى النار ومن
بقى منا كان كافرا بربه قاطعا لرحمه حتى بعث الله لنا نبيا نعرف حسبه ونسبه هاديا
مهديا رسولا نبيا واماما تقيا اظهر الإسلام بدعوته ودحض المشركين بكلمته جاءنا
بقرآن مبين وصراط مستقيم ختم الله تعالى به النبيين وأمرنا بعباده رب العالمين نعبده
ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ من دونه وليا ولا نجعل لربنا صاحبة ولا ولدا لا شريك له
ولا ضد ولا ند له ولا نسجد للشمس ولا للقمر ولا للنور ولا للنار ولا للصليب ولا
للقربان ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة نبينا محمد ﷺ وعلى إله وصحبه
انزل الله عليه كلامه الذي هدانا به مولانا فاستجبنا له واطعنا أمره فكان مما
أمرنا به أن نجاهد من لا يدين بديننا ولا يقول: بقولنا ممن كفر بالله واتخذ معه
شريكا جل ربنا وتعالى عن ذلك لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان اخانا وصار له
ما لنا وعليه ما علينا ومن ابى الإسلام كانت عليه الجزية يؤديها إلينا عن يد وهو صاغر
فإذا اداها حقن بها ماله ودمه وولده ومن أبى الإسلام وأن يؤدي الجزية فالسيف حكم
بيننا وبينه حتى يقضي الله جل جلاله بحكمه وهو خير الحاكمين ونحن ندعوكم إلى هذه
الخصال الثلاث ليس غيرها اما أن تقولوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأن محمدا عبده ورسوله أو الجزية في كل عام على كل محتلم من الرجال وليس على من لم
يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته قال ماهان فهل بعد
قول لا إله إلا إله غير هذا فقال خالد: نعم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا
البيت الحرام وتجاهدوا من كفر بالله تعالى وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر
وتوالوا في الله تعالى وتعادوا في الله فإن أبيتم ذلك فالحرب بيننا وبينكم حتى
يورث الله أرضه من يشاء والعاقبة للمتقين قال ماهان فافعل ما تشاء فاننا لا نرجع
عن ديننا ولا نؤدي الجزية وأما ما ذكرت من أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فلقد
صدقت فإنها لم تكن لنا ولا لكم بل كانت لقوم غيرنا وغيركم فقاتلناهم عليها حتى
ملكناها منهم والحرب بيننا وبينكم فابرزوا على اسم الله تعالى فقال خالد بن الوليد
رضي الله عنه: ما أنتم بأشهى منا إلى الحرب وكأني بحيوشكم وقد انهزمت والنصر
يقدمنا وتساق أنت والحبل في عنقك ذليلا حقيرا وتقدم بين يدي عمر بن الخطاب فيضرب
عنقك قال فلما سمع ماهان كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا قال فلما نظرت
البطارقة والحجاب والهرقلية والقياصرة إلى غضب ماهان هموا بقتل خالد إلا.
أنهم صبروا ينظرون امره فقال ماهان لخالد: وقد اسشاظ
غضبا وحق المسيح لاحضرن أصحابك الخمسة الأسارى وأضربن أعناقهم وأنت تنظر إليهم
فقال له خالد: اسمع ما اقول لك يا ماهان أنت أقل وأذل وأحقر من ذلك واعلم أن هؤلاء
الذين في يدك هم منا ونحن منهم فوحق الدعوة المستجابة وحق بيعة أبي بكر الصديق رضي
الله عنه وخلافة عمر بن الخطاب لئن قتلتهم لاقتلنك بسيفي هذا ويقتل كل رجل منا من
قومك بعددهم وزيادة ثم وثب خالد رضي الله عنه من موضعه وانتضى سيفه من غمده وفعل
أصحاب رسول الله ﷺ كفعله وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وجردوا سيوفهم وهاجوا
كالجمال أو كالسباع الضواري واستقتلوا وأيقنوا بالشهادة في ذلك المكان.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد الواقدي مؤلف هذا الكتاب والله
الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح إلا الصدق
وما نقلت: أحاديثها إلا عن ثقات وعن قاعدة الحق لاثبت فضائل أصحاب رسول الله ﷺ
وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين عن السنة والفرض إذ لولاهم بمشيئة الله
لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق
جهاده ونصروا دينه وثبتوا للقاء الأعداء وبذلوا جهدهم ونصروا الدين حتى زحزحوا
الكفر عن سريره وتقهقر لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 2] .
قال الواقدي: حدثني مسلم بن عبد الحميد عن جده رافع بن
مازن قال كنت مع خالد يوم سرنا إلى ماهان وكنا في سرادقة فلما جذبنا السيوف وهممنا
بالقوم وما في اعيننا من جيوش الروم شيء وقد ايقنا بالحشر من ذلك الموضع.
قال الواقدي: فلما رأى ماهان الحقيقة منا ومن خالد وتبين
الموت في شفار سيوفنا نادى ماهان مهلا يا خالد لا تكن بهذه العجلة تهلك وأنا أعلم
إنك ما قلت ذلك القول إلا إنك رسول والرسول يحمل ولا يقتل وأنا انما تكلمت بما
تكلمت لاختبركم وانظر ما عندكم والآن فما أواخذك فارجع إلى عسكرك واعزم على القتال
حتى يعطي الله تعالى النصر لمن يشاء فلما سمع ذلك أغمد سيفه وقال: يا ماهان ما
تصنع في هؤلاء الأسرى فقال ماهان أطلقهم كرامة لك وأخلي سبيلهم فيكونون عونا لك
ولن تعجزونا في الحرب غدا ففرح خالد بذلك وأمر ماهان بتخلية أصحاب رسول الله ﷺ قال
فاطلقوا من وثاقهم وهم خالد بالمسير فقال ماهان يا خالد إني كنت أحب أن يصلح الأمر
بيني وبينكم وإني أسألك حاجة فقال خالد: سل ما تريده فقال أن قبتك هذه الحمراء قد
أعجبتني وإني أريد أن تهبها لي وانظر في عسكري ما أعجبك من شيء فأهبه لك فقال
خالد: والله لقد فرحتني إذ طلبت ما أملكه وهي موهوبة لك وأما ما عرضت.
علي من عسكرك فلا حاجة لي فيه فقال ماهان: لله درك أنت
تكرمت وأجملت فقال خالد رضي الله عنه: وأنت أيضا قد تكرمت علينا بما صنعت من اطلاق
أصحابي من الأسر ثم انثنى خارجا من عند ماهان وأصحابه من حوله وقدم له جواده فركبه
وركب أصحابه أصحاب رسول الله ﷺ وأمر ماهان أصحابه وحجابه أن يسيروا معهم حتى
يبلغوهم قال ففعل القوم ذلك ووصل خالد وأصحابه إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم
أجمعين وسلموا عليه وفرح المسلمون بخلاص أصحاب رسول الله ﷺ وحدث خالد أبا عبيدة
بكل ما جرى لهم ثم قال خالد: وحق المنبر والروضة ما كان ماهان ليطلق لنا أصحابنا
إلا فزعا من سيوفنا.
فقال أبو عبيدة: حين سمع ما مر لخالد ولماهان من الخطاب والجدال
هذا رجل حكيم إلا أن الشيطان غلب على عقله فعلام افترقتم قال على أننا نلتقي معهم
ويعطي الله النصر لمن يشاء فلما سمع أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك جمع عظماء
المسلمين وقام فيهم خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي ﷺ وأخبرهم أن
العدو يصبحهم بالقتال في غداة غد وأمرهم بالأهبة وأقبل فرسان المسلمين يحرض بعضهم
بعضا وأقبل خالد على أصحابه وهم عسكر الزحف وقال لهم: علموا أن هؤلاء الكفرة الذين
نصركم الله عليهم في المواطن الكثيرة قد حشدوا لكم جموع بلادهم وإني دخلت إلى
عسكرهم ونظرت إليهم فكانهم النمل ولكنهم أصحاب عدة بلا قلوب ولا لهم من ينصرهم
عليكم وهذه الوقعة بيننا وبينهم وقد أيقنا أن القتال في غداة غد وانتم أهل البأس
والشدة فما عندكم رحمكم الله تعالى قال فتكلم أصحاب خالد وقالوا: أيها الأمير
القتال بغيتنا والقتل في سبيل الله تعالى مسرتنا ولا نزال نصبر لهم على الحرب والطعن
والضرب حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ففرح خالد بقولهم وقال لهم: وفقكم
الله تعالى وأرشدكم.
قال الواقدي: فلم يبق أحد منهم تلك الليلة إلا وقد أخذ
عدته واهبته واستعد بآلة الحرب والقتال وباتوا فرحين بالجهاد والثواب وخائفين من
العقاب فلما أصبح القوم ولاج الفجر أذن المؤذنون في عسكر المسلمين حتى ارتفعت لهم
جلبة عظيمة بالتوحيد واسبفوا الوضوء لصلاتهم خلف أبي عبيدة فلما صلوا ركبوا خيولهم
إلى قتال عدوهم وعبوا صفوفهم للقتال وكانوا ثلاثة صفوف متلاصقة أول الصف لا يرى
آخره وأقبل خالد بن الوليد على أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الأمير من تجعل
في الميسرة قال كنانة بن مبارك الكناني أو قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي والله أعلم
أيهما كان فولاه الميسرة وأمره أن يكون مكانه في الميسرة ففعل وضم إلى كنانة قيسا
قال فسار لما أمره أبو عبيدة رضي الله عنه.
قال الواقدي: حدثني فضالة بن عامر قال حدثني موسى بن عوف
عن جده يوسف بن معن قال كان هذا الغلام كنانة عارفا بالحرب صاحب شجاعة وغارة وقد
ذكر إنه كان من شجاعته وشدة فراسته إنه كان يخرج من حي قومه بني كنانة وحده ويسير
حتى يأتي أحياء العرب المعادين له فإذا أشرف عليهم صرخ بهم وانتمى باسمه فتثور الرجال
على أعناق الخيل فلا يزال يقاتلهم ويقاتلونه فإن ظفر بهم كان مراده وأن رأى منهم
غلبة وعظم عليه أمرهم نزل عن جواده وسعى بين أيديهم فلا يلحقون منه إلا الغبار.
قال الراوي لما ولاه أبو عبيدة رضي الله عنه وقف حيث
أمره والتفت أبو عبيدة إلى خالد وقال: يا أبا سليمان قد وليتك على الخيل والرجل
فول أمر الرجالة من شئت فقال خالد ابن الوليد رضي الله عنه: سأولي أمرهم رجالا لا
يؤتي المسلمون من قبلهم ثم نادى بهاشم بن عتبة ابن أبي وقاص وقال له: ولاك الأمير
على الرجالة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه انزل يا هاشم وكن معهم رحمك الله وأنا
أوافقك.
قال الواقدي:
ورتب أبو عبيدة صفوف المسلمين وعبأهم قال خالد بن الوليد
رضي الله عنه: ابعث الآن إلى أصحاب الرايات وقل لهم يسمعوا مني فدعا أبو
عبيدة رضي الله عنه بالضحاك بن قيس وقال له: يا بن قيس اسرع إلى أصحاب الرايات وقل
لهم أن الأمير أبا عبيدة يأمركم أن تسمعوا لخالد وتطيعوا أمره ففعل الضحاك ذلك وجعل
يدور على أصحاب الرايات حتى انتهى إلى معاذ بن جبل وقال له: مثل ذلك قال معاذ بن
جبل سمعا وطاعة ثم اقبل معاذ على الناس وقال: أما إنكم قد امرتم بطاعة رجل ميمون
الغرة مبارك الطلعة فإن أمركم بأمر فلا تخالفوه فيما يأمركم به فما يريد غير صلاح
المسلمين والأجر من رب العالمين قال فقلت لمعاذ بن جبل: إنك لتقول في خالد قولا
عظيما فقال: ما أقول إلا ما قد عرفته فالله رده وقال الضحاك فرجعت إلى خالد واخبرته
بما تكلم به معاذ بن جبل وبما أثنى به عليه فأثنى وقال هو أخي في الله تعالى ولقد
سبقت له ولأصحابه سوابق لا يفعلها خالد بن الوليد فمن يناله قال الضحاك فرجعت إلى
معاذ بن جبل وأخبرته بما قال خالد: وبما أثنى به عليه وما ذكره من أمره وبما أورده
من علي شأنه فقال معاذ والله إني أحبه في الله تعالى وأرجو من الله أن يكون قد
اثابه بحسن نيته ونصيحته للمسلمين.
قال الواقدي: فلما وصى الضحاك بن قيس أصحاب الرايات بقول
أبي عبيدة بالطاعة لخالد بن الوليد رضي الله عنه جعل خالد يسير بين الصفوف ويقف
على كل راية ويقول: يا أهل الإسلام أن الصبر قد عزم أن شاء الله تعالى على صحبتكم.
والفشل والجبن سببان من أسباب الخذلان فمن صبر كان حقا
على الله نصره على عدوه لأن الله معه ومن صبر على حد السيوف فإنه إذا قدم على الله
تعالى أكرم منزلته وشكر له فعله وسعيه الله يحب الشاكرين قال وما زال خالد رضي
الله عنه يقول: هذا الكلام لأهل كل راية حتى مر بجماعة الناس ثم أن خالدا جمع إليه
خيل المسلمين من أهل الشدة والصبر ومن شهد معه الزحف فقسمهم أربعة ارباع فجعل على
أحدهم قيس بن هبيرة المرادي وقال له: أنت فارس العرب فكن على هذه الخيل واصنع كما
أصنع وجعل على الربع الآخر ميسرة بن مسروق العبسي وأوصاه بمثل ذلك ودعا عامر بن
الطفيل على الربع الثالث وأوصاه بمثل ذلك ووقف خالد مع عسكر الزحف.
قال الواقدي: فلم تطلع الشمس إلا وقد فرغوا من تعبية صفوفهم
للحرب وأما ماهان الأرمني فإنه أمر الروم بالزينة والأهبة للحرب ففعلوا ذلك إلا أن
المسلمين كانوا اسرع في التعبية قال وزحف الروم إلى أصحاب رسول الله ﷺ ونظر الروم
إلى تعبيتهم فكان عسكر المسلمين صفوفا كالبنيان المرصوص وكان الطير تظلهم والصفوف
متلاصقة والرماح مشرعة مشتبكة قال فلما رأى الروم ذلك داخلهم الفزع والجزع وألقى
الله الرعب في قلوبهم ثم أن ماهان عبى عسكره فجعل العرب المتنصرة من غسان ولخم
وجذام في مقدمة الصفوف وجعل عليهم جبلة وقدم أمامهم صليبا من الفضة وزنه خمسة
أرطال وهو مطلي بالذهب وفي أربعة أركانه أربع جواهر تضيء كأنها الكواكب.
قال الواقدي: حدثني سنان بن أوس الربعي قال حدثني عدى بن
الحرث الهمداني وكان ممن حضر الفتوح من أولها إلى آخرها قال وكانت الصفوف التي
صفها ماهان ثلاثين صفا كل صف منها مثل عسكر المسلمين كله وقد أظهر ماهان بين
الصفوف القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل ويترنمون وأكثر من الرايات والأعلام والصلبان
فلما تكاملت صفوفهم وإذا ببطريق عظيم الخلقة قد برز وعليه درع مذهب ولامة حرب
مليحة وفي عنقه صليب من الذهب مرصع بالجوهر وتحته فرس أشهب وكان البطريق من عظماء
الروم ممن يقف عند سرير الملك فلما برز جعل يرطن بكلام الروم بصوت كالرعد فعلم
المسلمون إنه يطلب البراز فتوقف المسلمون عن الخروج إليه فصاح خالد وقال: يا أصحاب
رسول الله هذا العلج الأغلف يدعوكم لقتاله وأنتم تتأخرون فإن لم تخرجوا إليه وإلا
خرج خالد وهم بالخروج وإذا بفارس قد خرج من المسلمين على برذون أشهب عظيم الخلقة
يشبه برذون المشرك وعلى المسلم لامة حسنة وعدة سابغة وقصد نحو البطريق فلم يكن في
رجال خالد من يعرف الفارس الذي خرج فقال خالد لهمام مولاه: أخرج إلى هذا الفارس
وانظر من هو من المسلمين ومن أي.
العرب هو ومن قومه فمضى همام يهتف به وقد هم أن يقرب من
البطريق فصاح به من أنت يا ذا الرجل من السلمين رحمك الله فقال أنا روماس صاحب
بصرى فلما أخبر خالد به قال: اللهم بارك فيه وزد في نيته فلما صار بازاء العلج
كلمه بلسانه فقال الرومي وقد عرفه يا روماس كيف تركت دينك وصبأت إلى هؤلاء القوم
فقال روماس هذا الدين الذي دخلت فيه دين جليل شريف فمن تبعه كان سعيدا ومن خالفه
فقد ضل.
ثم حمل روماس على العلج وحمل العلج على روماس وتقاتلا
ساعة حتى عجب الجمعان منهما فوجد العلج من روماس غفلة فضربه ضربة أسال دمه قال
فأحس روماس بالضربة وقد وصلت إليه فانثنى راجعا نحو المسلمين فأتبعه العلج طالبا
له لا يقصر عن طلبه وكاد أن يدركه فصاح به فرسان المسلمين من الميسرة والميمنة
فقوي قلب روماس وداخل العلج الجزع والخوف من صياحهم والهلع وقصر عن طلبه ودخل
روماس عسكر المسلمين والدم على وجهه فائر فأخذه جماعة من المسلمين فشدوا جراحه
وشكروه على فعله ووعدوه بالغفران من الله تعالى وهنئوه بالسلامة قال: ولما رجع روماس
منهزما أعجب العلج بنفسه وأظهر عناده وأغلظ في كلامه وطلب البراز فهم أن يخرج إليه
ميسرة بن مسروق العبسي فقال له خالد: يا ميسرة أن وقوفك في مكانك أحب الي من خروجك
إلى هذا العلج وانت شيخ كبير وهذا علج عظيم الخلق والشاب شجاع ولا أحب أن تخرج
إليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقاوم الشاب الحدث ولا سيما أن شعرة من مسلم أحب
إلى الله تعالى من جميع أهل الشرك فرجع ميسرة إلى مكانه وهم أن يخرج إليه عامر بن
الطفيل وقال: أيها الأمير إنك قد عظمت قدر هذا الرومي الذميم وادخلت في قلوب
المسلمين منه الرعب فقال خالد: أن الفرسان تعرف أكفاءها في الحرب وما يخفى علي ما
هو فيه من الشجاعة والشدة وأنت لا تقاومه لانه ما برز بين أصحابه وبين شجاعته إلا
وهو فارس في قومه فقف في مكانك فوقف عامر بن الطفيل في مكانه ولم يخالف قال والعلج
يدعو إلى البراز والحرب فأقبل إلى خالد الحرث بن عبد الله الأزدي فلما وقف بين
يديه قال: أيها الأمير اخرج إليه قال خالد لعمري: أن لك جسارة وقوة وشدة وما علمتك
إلا شهما فإن شئت أن تخرج فاخرج على اسم الله واعزم فاخذ الأزدي أهبته وهم أن يخرج
فقال خالد رضي الله عنه: على رسلك يا عبد الله حتى أسألك فقال أسأل قال خالد: هل
بارزت أحدا قبله قال: لا قال فارجع يا ابن أخي ولا تخرج فانك غير مجرب الحروب وهذا
فارس قد جرب الحرب وجربته وعرف مصادرها وما أحب أن يخرج إليه إلا رجل مثله بصير
بالحروب وجعل خالد يقول: ذلك وينظر إلى قيس بن هبيرة فقال: يا أبا سليمان إني أظنك تعرض
بي واياي تعني أنا ابرز إليه.
قال خالد: ابرز على اسم الله تعالى فانك كفء والله تعالى
يعينك عليه وخرج قيس بن هبيرة واجرى جواده حتى لين عريكته وكسر حدته ثم سرحه نحو
البطريق وهو يقول: بسم الله وعلى بركة رسول الله ﷺ وقرب من البطريق فلما نظر العلج
إلى فعاله علم إنه فارس شديد من فرسان المسلمين فعدل نحوه وقصد إليه وتحاملا قال
فبادره قيس بن هبيرة وضربه على هامته فتلقاها العلج في حجفته فقد سيف ابن هبيرة
الحجفة ووصل إلى البيضة فاشتبك فيها وهم أن يخرج سيفه فامتنع عليه وضرب العلج قيس
بن هبيرة على حبل عاتقه فثبت للضربة والتقيا بعد الضربتين فطرح العلج نفسه عليه
يريد أسره وهو جبار من الجبابرة وكان قيس بعد رجوعه من قتال أهل الردة قد عود نفسه
الصيام والقيام وهو نحيف الجسم فلما نظر قيس إلى العلج وقد ظهر عليه انجذب من يده وبعد
عنه وجعل ينظر إليه شزرا ويضمه له مكرا إلى أن سيفه قد خرج من يده فثنى عنان فرسه
يريد عسكر الملسمين ليأخذ سيفا ويعود إلى القتال وقد ايس من نفسه فلما عطف راجعا
صاح العلج في أثره وسعى في طلبه فقصر قيس بن هبيرة في سيره وقال في نفسه أنت مرادك
الشهادة وتهرب من هذا العلج فرجع إلى العلج فصاح به خالد يا قيس سألتك بالله
ورسوله إلا رجعت وتركت حدتها علي فقال:
قيس يا خالد لقد اقسمت علي بعظيمين ولكن أن رجعت إليك
أتزيد في أجلي قال: لا قال فلم اختار الفرار وأكون من أصحاب النار بل أصبر وافوز
بالغفران من الله تعالى ثم عطف على قرنه وليس في يده سيف بل استل خنجرا كان معه
على وسطه قال ونظر خالد إلى قيس بن هبيرة وليس في يده سيف فقال من يأخذ هذا السيف
ويدفعه إلى قيس أبتغاء ثواب الله تعالى قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه أنا يا أبا سليمان.
فقال خالد: أنت والله لها يا ابن الصديق ثم أخذ عبد
الرحمن سيفه ولحق قيس بن هبيرة يريد أن يناوله السيف فلما نظرت الروم إلى عبد
الرحمن وقد لحق بقيس ظنوا إنه يريد أن يعاون قيسا لى صاحبهم فخرج عليه بطريق آخر
وأقبل إلى صاحبه ووقف بإزائه قال فدفع عبد الرحمن السيف إلى ابن هبيرة ووقف معه وجعل
البطريق الاخر يتكلم بكلام لا يفهمه عبد الرحمن فقال عبد الرحمن يا ويلك ما الذي
تقول فما نعرف كلامك فخرج إليه ترجمان وقال له: يا معشر العرب ألستم ذكرتم إنكم
أصحاب نصفة وحق قال عبد الرحمن بلى وقال الترجمان فما رأينا من نصفتكم شيئا يخرج
فارسان إلى فارس قال عبد الرحمن إنما خرجت لاعطي صاحبي هذا السيف وارجع ولو خرج إلينا
منكم مائة لواحد ما كبر علينا ولا عظم لدينا وها أنتم ثلاثة وأنا واحد وأنا لكم
كفء قال فأخبر الترجمان صاحبه بذلك فجعل ينظر إليه شزرا فقال عبد الرحمن يا قيس قد
تعبت فقف وتفرج علي وانظر ما يكون مني ومنهم ثم حمل عبد الرحمن بن أبي بكرالصديق
رضي الله عنه على الذي كان يخاطبه فطعنه في نحره.
فأخرج السنان يلمع من ظهره فوقع منجدلا ونظر العلجان إلى
صاحبهما مجندلا فحملا على عبد الرحمن وقصداه فأراد قيس بن هبيرة أن يعاونه عليهما
فقال له عبد الرحمن: سألتك برسول الله ﷺ وبحق أبي بكر إلا تركت عبد الرحمن يصطلي
بهما فإن قتلت فأنت شريكي في الثواب وأقرىء عائشة مني السلام وقل لها أخوك قد لحق
ببعلك وأبيك فتأخر قيس عنه وقد عجب من فعاله فحمل عبد الرحمن على أحد العلجين وهو
الأول فطعنه برمحه فاشتبك السنان في درعه فرمى عبد الرحمن الرمح من يده وانتضى
سيفه وقام في الركاب وضرب العلج بسيفه ضربة طرحه بها نصفين ونظر العلج الثالث
الىعبد الرحمن وجراءته فبقى حائرا متعجبا من حاله ونظر إلى البطريق وهو متحير باهت
فبانت له فيه غفلة فقال: ما يوقفك يا قيس وحمل على البطريق وضربه ضربة هشم بها هامته
فسقط إلى الأرض صريعا فلما نظرت الروم إلى أصحابهم قال بعضهم لبعض ما هؤلاء العرب
إلا شياطين.
قال الواقدي: وأخبر ماهان بفعالهم فقال لقومه أن الملك
كان أخبر بهؤلاء القوم وحق المسيح لقد أعلم أن لكم أمرا فإن لم تحملوا عليهم بكثرتكم
وإلا فما تقوم لكم قائمة قال فأتاه بطريق من البطارقة وسارر ماهان في اذنه طويلا
ثم انزاح عنه وقد اصفر وجه ماهان وسكت كأنه اخرس فاستخبروا ماهان عما حدثه البطريق
فلم يخبرهم قال فحدث من رأى ذلك إنه سأل جبلة بن الأيهم فقال لما أخبر ماهان بخبر
الثلاثة وفيهم البطريق الأول قال ماهان إنهم منصورون عليكم فقال له البطريق في
اذنه: أيها الملك الحق ما قلت: أعلم إني رأيت البارحة في منامي كأن رجالا نزلوا من
السماء إلى الأرض وهم على دواب بلق وشهب وعليهم كامل السلاح واحدقوا بهؤلاء العرب
ونحن قيام بازائهم لا يخرج أحد من عسكرنا إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وأظن إنهم
هؤلاء الذين نراهم في اليقظة لأن واحدا منهم قتل ثلاثة منا وما هم إلا منصورون علينا
من السماء قال فكسر بهاذا قلب ماهان فلم يرد جوابا فاجتمع القوم يسألونه عما قاله
البطريق فلم يخبرهم فلما أكثروا عليه السؤال تكلم فيهم كالخطيب وقال: يا أهل هذا
الدين إنكم أن لم تقاتلوا كنتم من الخاسرين وغضب عليكم المسيح وأن الله عز وجل لم
يزل لدينكم ناصرا ومظهرا وأن لله الحجة عليكم إذ بعث فيكم رسولا وانزل عليه كتابا
ولم يتبع رسولكم الدنيا وأمركم أن لا تتبعوها وفي كتابه لا تظلموا فإنه لا يحب
الظلم ولا الظالمين فلما اتبعتم الدنيا وظلمتم وخالفتم نصر اعداؤكم عليكم فما
عذركم عند خالقكم وقد تركتم أمر نبيكم وما انزل عليكم في كتاب ربكم وهؤلاء العرب
بازائكم يريدون قتل فرسانكم وسبي ذراريكم ونسائكم وأنتم على المعاصي والذنوب ولا
تخافون من علام الغيوب فإن نزع الله سلطانكم من ايديكم واظهر عدوكم عليكم فذلك بحق
منه وعدل لانكم لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر.
قال الواقدي: وكان ماهان لما سمع كلام البطريق الذي رآه
في المنام أمره أن يكتمه واما قيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فأخذا
سلاحهم واسلابهم ورجعا إلى المسلمين فدفعا السلب إلى أبي عبيدة فقال هو لكما ومن قتل
فارسا فله سلبه فكذا عهد إلينا عمر بن الخطاب فأخذا السلب ووقف قيس في موضعه الذي
اقامه خالد فيه ورجع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى ميدان الحرب فجال بين
الصفين وكان قد ركب اشهب البطريق الذي قتله فرآه لا ينبعث تحته كما عهد من خيل
العرب فرجع وغيره من تحته بفرس غيره وحمل على ميمنة الروم فشوش صفوفهم وقتل منهم
فارسين ورجع فحمل على القلب ثم انثنى على الميسرة فرشق بالسهام فرجع حتى وقف في
صدر الجيش وجعل يفزع الروم باسمه ويدعوا إلى البراز فخرج إليه علج من علوج الروم
فما جال غير ساعة حتى قتله فخرج إليه آخر فقتله فقال خالد: اللهم ارعه بعينك
واحفظه فإن عبد الرحمن قد اصطفى اليوم الحرب بنفسه ثم أن خالدا صاح به يا عبد
الرحمن بحق شيبة ابيك وبيعته إلا رجعت إلى مكانك فرجع حين أقسم عليه قال حزام بن
غنم قلت لرجل ممن شهد اليرموك: أكانت النساء معكم مشاهدات القتال قال: نعم أحداهن
أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام وخولة بنت الأزور ونسيبة بنت كعب وأم أبان
زوجة عكرمة بن أبي جهل وعزة بنت عامر بن عاصم الضمري مع زوجها مسلمة بن عوف الضمري
ورملة بنت طليحة الزبيري ورعلة وأمامه وزينب وهند ويعمر ولبنى وأمثالهن رضي الله
عنهن فلقد كن يقاتلن قتالا يرضين به الله ورسوله.
نساء المسلمين في المعركة
قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن عبد الحميد وكان قد شهد
وقعة اليرموك وقال أولها شرر نار وآخرها ضرام الحرب وأن كل يوم يأتي من القتال
اصعب من اليوم الآخر قال عمرو بن جرير فشهدنا في اليوم الأول حربا يسيرا وذلك أن
ماهان أمر عشرة من الصفوف أن تحمل على المسلمين بعد أن قتل عبد الرحمن من قتل وحمل
المسلمون عليهم فالتقت الرجال بالرجال فنظر أبو عبيدة وكان واقفا إلى ماهان ولم
يحمل على المسلمين فعلم أن الأمر يصعب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم وجعل يتلون قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أن النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:17]
قال ولم يزل الحرب بين الفريقين من قيام الشمس في قبة
السماء إلى أن همت بالغروب ولم ينفصل الجمعان حتى فرق الليل بينهم فحينئذ افترق
الجمعان وهم ما يعرفون إلا ب ==الشعار== وخرج كل قوم من العرب يهتفون بشعارهم
وينادون بأنسابهم ورجعت كل فئة إلى مكانها واستقبل المسلمين نساؤهم فصارت تجعل المرأة
مرطها تمسح به عن وجه زوجها وتقول له أبشر بالجنة يا ولي الله وبات المسلمون في
خير وسرور وأوقدوا النيران وذلك أن القتل في أول يوم لم.
يتبين في الفريقين بل قتل من الروم يسير ومن المسلمين
عشرة رجلان من حضرموت أحدهما يقال له مازن: والثاني يقال له: صارم وثلاثة من عسفان
رافع ومجلي وعلي وواحد من الأنصار وهو عبد الله بن الأخرم وثلاثة من بجيلة وواحد
من مراد وهو سويد أبن أخي قيس بن هبيرة فحزن عليه قيس لما فقده فعلم إنه في القتلى
فخرج قيس وخرج معه رجال من قومه حتى أتوا موضع المعركة وفتشوا عليه فلم يروه فلما
هم بالرجوع نظر إلى نار قد أقبلت من جهة الروم يطلبون مكان الوقعة وهم يطلبون
بطريقا كان معظما عندهم فقال قيس لجماعته أخمدوا ناركم فوالله لآخذن بثأر ابن أخي
من هؤلاء القوم قال فأخمدوا نارهم ورقدوا بين القتلى وتأهبوا للقتال وإذا بالروم
قد أتوا وهم نحو مائة وهم في زينة عظيمة وآلة وعدة وكان مع قيس سبعة من قومه
فقالوا له: إن القوم مائة ونحن سبعة وقد تولانا التعب فقال قيس ارجعوا أنتم وإني
والله أطلب الموت لا أريد غيره وأجاهد في الله حق جهاده فعجبوا من قوله ووقفوا معه
وقفة الكرام وأقبلت الأعلاج يريدون المعركة ويدورون بين القتلى وقد وقفوا بالعلج
وهو الذي برز أولا وقتله ابن أبي بكر الصديق فلما احتملوه وولوا يريدون عسكرهم صاح
فيهم قيس من ورائهم وتابعه أصحابه بالصياح فذهلوا ورموا البطريق ووضع المسلمون السيف
فيهم وجعلوا يقتلونهم قتلا ذريعا وكان قيس إذا ضرب فيهم يقول: هذا عن ابن اخي قال
فقتل منهم ستة عشر رجلا وقتل أصحابه أكثر القوم وانفلت الباقون فلما فرغ قيس من
القوم عاد يطلب ابن اخيه نحو عسكر الروم فسمع انينا فأقبل نحوه فإذا هو ابن اخيه
سويد بن بهرام المرادي فلما عرفه بكى فقال: ما أبكاك يا ابن اخي فقال: يا عماه إني
تبعت القوم فرجع الي واحد منهم وطعنني في صدري وإني لاعالج منها أمرا عظيما وهؤلاء
الحور العين في حذائي ينتظرون خروج روحي قال فبكى قيس وقال: يا ابن اخي لكل أجل
كتاب ولعل أن يكون في أجلك طول فقال هيهات والله يا عم أفتقدر أن تحملني إلى عسكر المسلمين
فأموت هناك قال أجل قال ثم احتملته على ظهري وأقبلت به إلى عسكر المسلمين وقصدت به
إلى رحله وسجيته وسمع أبو عبيدة بمجيء قيس فأتى إليه ورأى الغلام يجود بنفسه فجلس
عند رأسه وبكى وبكت المسلمون فقال له أبو عبيدة: كيف تجدك يا ابن اخي فقال بخير
والله وغفران وجزى الله محمدا عنا خيرا ولقد صدقنا في قوله وهذه الحور تنادي وتشخص
فمات قال فما برحنا حتى واريناه بالتراب قال وخبره قيس بمن قتل في تلك الليلة من
المشركين ففرح فرحا شديدا وعلم أن ذلك علامة النصر قال وبات الناس في ليلتهم
يقرأون القرآن ويصلون ويسألون المعونة والنصر.
قال وأما ماهان فإنه لما رجع إلى عسكره اجتمع إليه
البطارقة والرهبان والقسوس فقدموا له طعاما ومدوا له سماطا فلم يأكل منه شيئا مما
وقع في نفسه من الرؤيا التي رآها.
البطريق وكان ماهان يود لو ترك الأمر وصالح على أداء
الجزية ولكنه كان مغلوبا على أمره وأقبلت الملوك والقسوس والبطارقة والرهبان على
ماهان وقالوا: ما بال الملك امتنع من الطعام فإن كان ذلك من غمه على من مات وعلى
ما جرى عليه من الحرب فإن الحرب سجال فيوم لك ويوم عليك واعلم أيها الملك أن القوم
بنا ظافرون وما نملكهم إلا أن نحمل عليهم فلا يبقى منهم أحد قال ماهان ما أظنكم غير
منصورين إلا من تغير اديانكم والجور في سلطانكم فبهذا نصرت العرب عليكم فقام إليه
رجل وقال: أيها الملك عشت الدهر وأنا رجل من أهل دينكم وكان لي مائة رأس من الغنم
وكان فيها ولدي يرعاها فضرب عظيم من عظماء أصحابك الفسطاط إلى جانبها ثم إنه عدا
عليها فأخذ منها حاجته وأخذ بقيتها أصحابه فجاءته زوجتي تشكو إليه انتهاب غنمي
فلما رآها أمر بها فأدخلت إليه فطال مكثها عنده فلما رأى ولدها ذلك دنا من الفسطاط
فإذا هو يجامع أمه فصاح الغلام فأمر البطريق بقتل الغلام فقتل فأتيت أريد خلاص
ولدي وزوجتي فامر بي فضربت بالسيف فتلقيت الضربة بيدي فقطعها ثم إنه أخرج يده فإذا
هي مقطوعة قال فغضب ماهان عند ذلك غضبا شديدا وقال للمعاهد أتعرف هذا البطريق الذي
فعل بك ذلك قال: نعم هو هذا وأومأ بيده إلى بطريق من البطارقة فنظر إليه ماهان
مغضبا قال فغضب البطريق وغضب البطارقة لغضبه ومالوا على المعاهد فضربوه بأسيافهم
حتى قطعوه وماهان ينظر إليهم فزاد غضبه وقال خذلتم وهلكتم وحق المسيح يا ويلكم
ترجون النصر وأنتم تفعلون هذا الفعال أما تخافون القصاص غدا وأن الله ينتقم منكم
وينزع منكم صالح ما أعطاكم ويعطيه غيركم ممن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فوالله
انتم الآن عندي كالكلاب وسوف ترون عاقبة هذا كله والي أي مصير مصيركم يكون قال ثم
إنه قام وتركهم فلما انصرف القوم ولم يبق عنده إلا بطريق واحد قال له: أيها الملك
والله أن القوم لكما تقول وما أظن إلا أننا مغلوبون وأعلم إني رأيت في منامي كان رجالا
نزلوا من السماء على خيل شهب فاحدقوا بهؤلاء العرب وعليهم كامل السلاح ونحن وقوف
بازائهم فنظرت إليهم ولا يخرج منا أحد إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وذكر له كما
قال ذاك الأول فأقبل ماهان يفكر طول ليلته فيما يصنع في أمر المسلمين فلما اصبح
الصباح عبى المسلمون صفوفهم ونظروا إلى عسكر الروم وإذا فيه ارتعاد وانزعاج فعلموا
أن لهم أمرا.
قال أبو عبيدة: دعوهم ولا تبقوا عليهم فإن الباغي مخذول
قال واجتمعت البطارقة والملوك الأربعة إلا ماهان وهم قناطر وجرجير والديرجان
وقورين وهم أصحاب الجيش يستأذنونه في الحرب فقال ماهان وكيف لي أن أقاتل بقوم
يظلمون أن كنتم احرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا عن حريمكم فقالوا: الآن أحببنا
الحرب فوحق المسيح لا نفارقهم حتى ننفيهم من الشام إلى بلادهم أو يقتلونا أو نقتلهم
فثق بقولنا.
وانهض بنا إليهم فإذا عزمت على القتال فدع كل واحد منا
يقاتل يوما حتى تعرف منا من هو أفرس وأشد ويضجر المسلمون من المطاولة ونجمع عيالنا
وأطفالنا وأموالنا فإن كانت على العرب رددنا كل شيء إلى مكانه وأن كانت للعرب
علينا الحقوا ببلادهم وقومهم ويكون الأمر بيننا وبينهم في يوم واحد أو يومين فقال
له: ماهان لعنه الله هذا هو الرأي أمهلوا إلى أن أكتب إلى الملك بمثل ذلك ثم إنه
كتب إلى هرقل أما بعد فأسأل الله لك أيها الملك ولجيشك النصر ولاهل سلطانك العز
والنصر وإنك بعثتني فيما لا يحصى من العدد وإني قدمت على هؤلاء العرب فنزلت
بساحتهم وأطمعتهم فلم يطمعوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت لهم جعلا على أن
ينصرفوا فلم يفعلوا وقد فزع جند الملك منهم فزعا شديدا وإني خشيت أن يكون الفشل قد
عمهم والرعب قد دخل في قلوبهم وذلك لكثرة الظلم فيهم وقد جمعت ذوي الرأي من أصحابي
وذوي النصيحة للملك وقد أجمع رأينا على النهوض إليهم جميعا في يوم واحد ولا
نزايلهم حتى يحكم الله بيننا فإن اظهر الله عدونا علينا فارض بقضاء الله واعلم أن
الدنيا زائلة عنك فلا تأسف على ما فات منها ولا تغتبط منها بشيء في يدك والحق بمعاقلك
وبدار ملكك بالقسطنطينية وأحسن إلى رعيتك يحسن الله إليك وارحم ترحم وتواضع لله
يرفعك الله فإنه لا يحب المتكبرين ولقد عملت حيلة في احضار أميرهم خالد ومنيته
ورغبته فما أجاب ورأيته على الحق مقيما فأردت أن أفتك به وأمكر فخفت عاقبة المكر
والغدر وما نصر هؤلاء إلا بالعدل واتباع الحق بينهم والسلام ثم طوى الكتاب وبعث به
مع أصحابه من العلوج.
قال الواقدي: وبقي ماهان سبعة أيام اخر بعد الوقعة
الأولى لم يقاتل المسلمين ولم يقاتلوه وبعث أبو عبيدة برجل من عيونه ينظر ما الذي أخر
الروم عن القتال فغاب الرجل يوما وليلة ثم عاد وأخبر أبا عبيدة أن ماهان قد كاتب
الملك وهو منتظر الجواب فقال خالد ابن الوليد: ما تأخر ماهان عن قتالنا إلا وقد
وقع الفزع في قلبه فازحف بنا إليهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لا تعجل فإن
العجلة من الشيطان.
قال الواقدي: وكان أبو عبيدة رجلا لين العريكة يحب الرفق
فلما كان في اليوم الثامن نظر ماهان إلى تلهف أصحابه على الحرب والقتال فعزم أن
يلقى بهم المسلمون وقد فرح بنشاطهم فدعا برجل من المتنصرة من لخم وقال له: اذهب
فادخل هؤلاء العرب وتجسس لي أخبارهم وانظر ما عندهم قال فمضى اللخمي حتى دخل عسكر
أصحاب رسول الله ﷺ فاقام فيهم يوما وليلة يطوف في عسكرهم وليس أحد من المسلمين
ينكره وهم آمنون وليس لهم همة إلا اصلاح شأنهم والصلاة والقرآن والتسبيح وليس فيهم
عدوان ولا ظلم ولا أحد يتعدى على أحد وقصد الموضع الذي فيه أبو عبيدة رضي الله.
عنه فنظر إليه كأنه أضعف ضعيف في العرب ساعة يجلس على
الأرض وساعة ينام عليها فإذا كان وقت الصلاة قام واسبغ الوضوء وأذن المؤذنون وصلى بالناس
ونظر المتنصر إلى المسلمين وهم يصنعون كصنعه فقال المتنصر أن هذه طاعة حسنة ويوشك
إنهم ينصرون قال فرجع إلى ماهان وحدثه بما رأى من القوم وما عاينه وقال: أيها الملك
إني جئتك من قوم يصومون النهار ويقومون الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
رهبان في الليل ليوث بالنهار ولو سرق واحد منهم ولو كان كبيرهم قطعوه ولو زنا
رجموه لا يغلب هواهم على الحق بل الحق عندهم غالب وأميرهم كاضعف من فيهم إلا إنه
مطاع عندهم أن قام قاموا وأن قعد قعدوا مناهم القتال وشهوتهم النزال ومرادهم أن
يموتوا شهداء في قتالكم وما تأخروا عن قتالكم إلا ليكون البغي منكم إذا بدأتموهم
فقال ماهان هؤلاء القوم منصورون غير إني قد وجدت حيلة أعملها عليهم فقال المتنصر
ما الحيلة أيها الملك.
فقال ماهان ألست زعمت إنهم لا يبدأون بالقتال حتى
نقاتلهم فنكون نحن الباغين قال: نعم قال فانا لا نطلب الحرب بل نطول بيننا وبينهم
وندهمهم على حين غفلة دون عدة منهم ولا أخذ حذرهم فعسى أن نظفر بهم قال ثم أن
ماهان جمع الملوك وجعل يعقد لهم الرايات والصلبان حتى عقد ستين ومائة صليب تحت كل
صليب عشرة آلاف وكان أول صليب عقد لقناطر وكان نظيره في الرتبة وأمره أن يكون في
الميمنة ثم عقد صليبا للديرجان وضم إليه الأرمن والنجد والنوبة والروسية والصقالبة
ثم عقد لابن أخت الملك صليبا على الافرنج والهرقلية والقياصرة والير والدوقس وعقد
لجبلة بن الأيهم عقدا وضم إليه المتنصرة من لخم وجذام وغسان وضبة وأمره أن يكون
على المقدمة وقال أنتم عرب وأعداؤنا عرب والحديد لا يقطعه إلا الحديد ثم فرق
الأعلام في أجناد عسكره فما انفجر الفجر وبان الصباح وأضاء بنوره ولاح حتى فرغ من تعبية
جيوشه وترتيب طلائعه وأمر بمضرب له فضرب على كثيب عال على جانب اليرموك يشرف منه
على العسكرين وأوقف عن يمينه ألف فارس عتاة حماة الروم شاكين السلاح وعن يساره
كذلك وهم الملكية وأصحاب السرير وأمرهم باليقظة وقال: أي كرب يكون على العرب أعظم
من هذه فانكم على تعبية وهم على غير أهبة فإذا طلعت الشمس ورأيتم المسلمين على غير
تعبية فاحملوا عليهم من كل جانب ومكان فما هم في عسكرنا إلا كالشامة البيضاء في
جلد الثور الأسود هكذا سمعت اياد بن غالب الحميري يذكر وكان من المعمرين قال حدثني
جواد ابن أسيد السكاسكي عن ابيه أسد بن علقمة فلما انشق الفجر أذن المؤذن وتقدم
أبو عبيدة وصلى بالناس وهو لا يعلم بمكيدة ماهان فقرأ في أول ركعة: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ
عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2] حتى قرأ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:1] إذ
هتف بهم هاتف وهم في الصلاة وهو يقول:
ظفرتم بالقوم ورب العزة وما يغني عنهم كيدهم شيئا وما
أجرى الله هذه الآية على لسان أميركم إلا بشارة لكم فلما سمع المسلمون كلام الهاتف
عجبوا مما سمعوا ثم قرأ في الركعة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:] إلى
قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلا يَخَافُ
عُقْبَاهَا} [الشمس: 1] وإذا بالهاتف يقول: تم الفال وصح الزجر وهذه علامة النصر
فلما فرغ أبو عبيدة من صلاته قال: يا معاشر المسلمين هل سمعتم الهاتف قالوا: نعم
سمعنا قائلا يقول: كذا وكذا فقال أبو عبيدة: والله هذا هاتف النصر وبلوغ الأمل
فابشروا بنصر الله ومعونته فوالله لينصرنكم الله وليرسلن عليهم سوط عذاب كما أنزل
على القرون الأول ثم قال أبو عبيدة:
معاشر القوم إني رأيت الليلة في منامي رؤيا تدل على
النصر على الأعداء والمعونة من الملأ الأعلى فقالوا: أصلح الله شأن الأمير فما
الذي رأيت.
قال رأيت كأني واقف بازاء اعدائنا من الروم إذ حف بنا
رجال وعليهم ثياب بيض لم أر كهيئتها حسنا لبياضها اشراق ونور يغشى الأبصار وعلى
رؤوسهم عمائم خضر وبأيديهم رايات صفر وهم على خيول شهب فلما اجتمعوا حولي قالوا:
تقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فانكم غالبون فإن الله ناصركم ثم دعوا برجال منكم
وسقوهم بكاس كان معهم فيه شراب وكأني أنظر عسكرنا وقد دخل في عسكر الروم فلما رأونا
ولوا بين أيدينا منهزمين فقال رجل من المسلمين أصلحك الله أيها الأمير وأنا رايت
الليلة رؤيا فقال أبو عبيدة: خيرا تكون أن شاء الله تعالى ما الذي رايت يرحمك الله
فقال رأيت كأنا خرجنا نحو عدونا فصاففناهم الحرب وقد انقضت عليهم من السماء طيور
بيض لها أجنحة خضر ومخاليب كمخاليب النسور فجعلت تنقض عليهم كانقضاض العقبان فإذا
جاءت للرجل ضربته ضربة فيقع قطعا قال ففرح المسلمون بتلك الرؤيا وقال بعضهم لبعض
ابشروا فقد امنكم الله وأيدكم بالنصر وأمدكم بملائكته تقاتل معكم كما فعل بكم يوم
بدر قال فسر أبو عبيدة بذلك وقال هذه رؤيا حسنة وهي حق تأويلها النصر وإني أرجو من
الله تعالى النصر وعاقبة المتقين فقال رجل من المسلمين أيها الأمير ما وقوفنا عن هؤلاء
الكلاب الأعلاج وما انتظارك للحرب وعدو الله يريد كيدنا بمطاولته وما تأخر عنا إلا
لبلية يريد أن يوقعنا بها قال أبو عبيدة: أن الأمر أقرب مما تظنون قال سعيد بن
رفاعة الحميري فبينما نحن كذلك إذ سمعنا الأصوات قد علت والزعقات قد ارتفعت من كل
جانب يهتفون بالقتال وأن الروم قد زحفت إلينا فظن أبو عبيدة أن المسلمين قد كبسوا
في وجه السحر فقام ليرى وكان على حرس المسلمين تلك الليلة سعيد بن زيد وعمرو بن
نفيل العدوي رضي الله عنهما إذ أقبل سعيد وهو ينادي النفير النفير حتى وقف أمام
أبي عبيدة ومعه رجل من المتنصرة فقال: أيها الأمير ماهان كاد المسلمين بتخلفه عن
الحرب وها هو قد عبى عساكره وصف جيوشه وزحف علينا زحف من يريد الكبسة بنا ونحن على
غير أهبة ولا عدة وهذا الرجل قد أقبل إلينا راغبا في الإسلام محذرا لنا من بأسه ويزعم
أن ماهان قد قدم إلينا حماة البطارقة وقد أتفق رأيهم على أن يقاتلنا كل ملك من
ملوكهم بمن معه وهذا أصعب القتال ونظر المسلمون إلى رايات الروم تقرب منهم
والصلبان تدنو فقال أبو عبيدة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال: أين
أبو سليمان خالد بن الوليد فأجابه بالتلبية فقال له: أنت لي يا أبا سليمان فابرز في أبطال
المسلمين وصد عن الحريم إلى أن تأخذ الرجال صفوفها وتستعد بآلات حربها فقال حبا
وكرامة.
فنادى خالد اين الزبير بن العوام أين عبد الرحمن بن أبي
بكر أين الفضل بن العباس أين يزيد بن ابي سفيان أين ربيعة بن عامر أين ميسرة بن
مسروق العبسي اين ميسرة بن قيس أين عبد الله بن أنيس الجهني أين صخر بن حرب الأموي
أين عمارة الدوسي أين عبد الله بن سلام أين غانم الغنوي أين المقداد بن الأسود
الكندي اين أبو ذر الغفاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي أين عمار بن ياسر العبسي
أين ضرار بن الأزور أين عامر بن الطفيل أين أبان بن عثمان بن عفان وجعل خالد يدعوهم
رجلا بعد رجل من أصحاب رسول الله ﷺ وكل رجل منهم يلقى جيشا فاجتمعوا إلى خالد
بأجمعهم واشتغلوا بالحرب واشتغل أبو عبيدة بترتيب الصفوف وتعبية العساكر فأقبل أبو
سفيان إلى ابي عبيدة وقال له: أيها الأمير مر نساءنا أن يعلون على هذا التل قال:
نعم الرأي ما رأيت فأمرهن بذلك ففعلن وعلون على التل وحصن أنفسهم وأولادهن ومعهن
الأطفال والأولاد فقال لهن أبو عبيدة خذن بأيديكن أعمدة البيوت والخيام وأجعلن
الحجارة بين ايديكن وحرضن المؤمنين على القتال فإن كان الأمر لنا والظفر فكن على
ما أنتن عليه وأن رأيتن أحدا من المسلمين منهزما فاضربن وجهه بأعمدتكن واحصبنه
بحجارتكن وارفعن إليه أولادكن وقلن له قاتل عن أهلك وعن دين الإسلام فقال النساء
أيها الأمير أبشر بما يسرك.
قال الواقدي: فلما حصن أبو عبيدة النساء على التل أقبل
يعبي جيشه وقد والعدة وقسم الخيالة ثلاثة فرق فجعلها في الثلاثة صفوف واستعمل
عليهم ثلاثة من وابتدر الناس القتال بعدما عباهم ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وقدم
أصحاب الرايات وكانت راية المهاجرين صفراء وفيها ابيض وأخضر واسود وسائر القبائل
ايضا راياتهم مختلفة وجعل المهاجرين والأنصار في القلب واظهر المسلمون العدة
والسلاح وجعل عسكره ثلاثة صفوف فصف فيه النبلة من أهل اليمن وصف فيه أصحاب الخيل
المسلمين أحدهم غياث بن حرملة العامري والثاني مسلمة بن سيف اليربوعي والثالث
القعقاع بن عمرو التميمي ووقف المسلمون تحت راياتهم ووقف أبوعبيدة تحت رايته التي
عقدها له أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مسيره إلى الشام وهي راية رسول الله ﷺ
الصفراء التي سار بها يوم خيبر قال ومع خالد راية العقاب وكانت سوداء وجعل على الرجالة
شرحبيل بن حسنة وعلى الجناح الإيمن يزيد بن ابي سفيان وعلى الايسر قيس بن هبيرة
فلما ترتبت الصفوف سار أبو عبيدة بين الصفوف وجعل يحرض المؤمنين على القتال ويقول:
{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]
والزموا الصبر فإن الصبر منجاة من الكرب ومرضاة للرب ومقمعة للعدو فلا تزايلوا
صفوفكم ولا تنقضوا نيتكم ولا تخطوا خطوة إلا وأنتم تذكرون الله ولا تبدأوهم
بالقتال حتى يبدأوكم وشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله
ولا تحدثوا حدثا حتى آمركم ثم رجع إلى مقامه من القلب فوقف فيه ثم خرج من بعده
معاذ بن جبل فطاف على الناس محرضا لهم يقول: يا أهل الدين ويا أنصار الهدي والحق
اعلموا رحمكم الله تعالى أن رحمة الله لا تنال إلا بالعمل والنية ولا تدرك بالمعصية
والتمني بغير عمل مرضي ولا تدخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة مع رحمة الله ولا يؤتي
الله الرحمة والمغفرة الواسعة إلا الصابرين والصادقين ألم تسمعوا قوله جل من قائل:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:5] واستحيوا من الله
أن يراكم في فرار من عدوكم وأنتم في قبضته ليس لكم ملجا من دونه ولم يزل معاذ يقول:
ذلك إلى أن رجع إلى مقامه ثم خرج سهل بن عمرو فمشى بين الصفوف وهو شاكي السلاح
وراكب فرسه متقلد سيفه وهو يقول: مثله ثم رجع وخرج من بعده أبو سفيان فطاف بين
الصفوف وهو شاكي السلاح راكب فرسه متقلد سيفه معتقل رمحه وهو يقول: معاشر العرب
الكرام السادة العظام قد أصبحتم في ديار الأعلاج منقطعين عن الأهل والأوطان ووالله
لا ينجيكم منهم إلا الطعن الصائب في أعينهم والضرب المتدارك في هاماتهم وبذلك
تبلغون أربكم وتنالون الفوز من ربكم واعلموا أن الصبر في مواطن البأس مما يفرج
الله به الهم وينجي به من الغم فاصدقوا القتال فإن النصر ينزل مع الصبر فإن صبرتم
ملكتم بلادهم وأمصارهم واستعبدتم ابناءهم ونساءهم وأن وليتم فليس بين ايديكم إلا
مفاوز لا تنقطع إلا بالزاد الكثير والماء الغزير ولا ترجعوا إلى دور ولا إلى قصور فامنعوا
بسيوفكم وجاهدوا في الله حق جهاده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون قال ثم خرج من بين
الصفوف واقبل على النساء وهن على التل وفيهن المهاجرات وبنات الأنصار وغيرهن من
نساء المسلمين ومعهن أولادهن فقال لهن أن رسول الله ﷺ والجنة أمامكم والشيطان
والنار وراءكم واقبل حتى وقف.
مكانه ولم تغن مكيدة ماهان شيئا ورجعت الروم إلى ورائها
حين نظروا خالدا زحف إليهم في خمسمائة فارس فخافوا لذلك ورجعوا حتى اصطفت الصفوف
وعبى المسلمون كتائبهم فقال ماهان: ما يوقفكم عن قتالهم فازحفوا إليهم فزحف الروم
إلى المسلمين فنظر خالد إلى جيش عرمرم قال: وكان ماهان قد انفذ ثلاثين ألفا من عظمائهم
فحفروا لهم في الميمنة حفائر ونزلوا فيها وشدوا ارجلهم بالسلاسل واقترن كل عشرة في
سلسلة التماسا لحفظ عسكرهم وحلفوا بعيسى بن مريم والصليب والقسيسين والرهبان
والكنائس الأربع أن لا يفروا حتى يقتلوا عن آخرهم فلما نظر خالد إلى ما صنعوا قال
لمن حوله من جيش الزحف هذا يوشك أن يكون يوما عظيما ثم قال اللهم أيد المسلمين
بالنصر ثم أقبل على أبي عبيدة وقال: أيها الأمير أن القوم قد اقترنوا في السلاسل
وزحفوا إلينا بالقواضب ويوشك أن يكون على الناس يوما عظيما فقال لهم: أن العدو
عدده كثير وما ينجيكم إلا الصبر ثم قال لخالد فما الذي ترى من الرأي يا أبا سليمان.
قال الواقدي: وكان ماهان قدم من الروم من عرفت شجاعته
وعلمت براعته واشتهر بالثبات في بلادهم وهم مائة ألف فلما نظر خالد إليهم شهد لهم
بالفروسية وإنهم من أهل الشدة وقال لابي عبيدة: أن الرأي عندي أن توقف في مكاننا
الذي أنت فيه سعيد بن زيد وتقف أنت من وراء الناس في مائتين وفي ثلثمائة من أصحاب
رسول الله ﷺ فإذا علم الناس إنك من ورائهم استحيوا من الله ثم منك أن يفروا قال
فقبل أبو عبيدة مشورته ودعا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود
لهم بالجنة فأوقفه أبو عبيدة مكانه ثم انتخب أبو عبيدة مائتي فارس من اليمن وفيهم
رجال من المهاجرين والأنصار ووقف بهم من وراء الجيش بحذاء سعيد بن زيد.
قال حدثني ورقة بن مهلهل التنوخي وكان صاحب راية أبي
عبيدة يوم اليرموك قال وكان أول من فتح باب الحرب يوم اليرموك في جيش السلاسل غلام
من الأزدحدثا كيسا فقال لابي عبيدة: أيها الأمير إني أردت أن أشفي قلبي واجاهد
عدوي وعدو الإسلام وابذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق الشهادة فهل تأذن لي
في ذلك وأن كان لك حاجة إلى رسول الله ﷺ فأخبرني بها قال فبكى أبو عبيدة وقال
اقرىء رسول الله ﷺ وأخبره أنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا قال ثم دفع الغلام الأزدي
جواده وحمل يريد الحرب فخرج إليه علج من الروم قام من الرجال على فرس اشهب فلما
رآه الغلام قصد نحوه وقد احتسب نفسه في سبيل الله تعالى فلما قرب منه قال:
لا بد من طعن وضرب صائب
...
بكل لدن وحسام قاضب
عسى أنال الفوز بالمواهب
...
في جنة الفردوس والمراتب
قال وبعد شعره حمل كل منهما على صاحبه وابتدأ الغلام
الأزدي الرومي بطعنة فجندله صريعا وأخذ عدته وجواده وسلم ذلك لرجل من قومه وعاد
إلى البراز فخرج إليه.
آخر فقتله وثالث ورابع فقتلهم فخرج إليه خامس فقتل
الأزدي فغضبت الأزد عند ذلك ودنت من صفوف المشركين فعندها أقبلت الروم وزحفت كالجراد
المنتشر حتى دنا طرفهم من ميمنة المسلمين فقال أبو عبيدة: أن أعداء الله قد زحفوا
عليكم فنكلوهم واعلموا أن الله معكم وثبتوا نفوسكم بالصبر والصدق واللقاء والنصر
من الله ثم رمق إلى السماء بطرفه وقال اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ولك نوحد ولا
نشرك بك شيئا وأن هؤلاء أعداؤك يكفرون بك وبآياتك ويتخذون لك ولدا اللهم زلزل
أقدامهم وأرجف قلوبهم وأنزل علينا السكينة والزمنا كلمة التقوى وآمنا عذابك يا من
لا تخلف الميعاد اللهم انصرنا عليهم يا من قال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا
بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 7]
قال فبينما هو يدعو بهذه الدعوات إذ حملت الروم على ميمنة المسلمين وكان فيها
الأزد ومذحج وحضرموت وخولان فحملت عليهم الروم حملة منكرة فصبروا لهم صبر الكرام وقاتلوا
قتالا شديدا وثبتوا ثباتا حسنا وحملت عليهم كتيبة ثانية فصبروا صبرا جميلا وحملت
عليهم كتيبة ثالثة فأزالوا المسلمين عن الميمنة فابتدر منهم عمرو بن معد يكرب
الزبيدي وهو المقدم على زبيد والأمير عليهم وهم يعظمونه لما سبق من شجاعته في
الجاهلية وكان يوم اليرموك قد مر له من العمر مائة وعشرون سنة إلا أن همته الشجاعة
فلما نظر إلى قومه وقد إنكشفوا صاح في قومه يا آل زبيد يا آل زبيد تفرون من
الأعداء وتفزعون من شرب كاس الردى أترضون لأنفسكم بالعار والمذلة فما هذا الأنزعاج
من كلاب الأعلاج أما علمتم أن الله مطلع عليكم وعلى المجاهدين والصابرين فإذا نظر
إليهم وقد لزموا الصبر في مرضاته وثبتوا لقضائه أمدهم بنصره وأيدهم بصبره فأين
تهربون من الجنة أرضيتم بالعار ودخول النار وغضب الجبار قال فلما سمعت زبيد كلام سيدهم
عمرو بن معد يكرب رجعوا إليه وعطفوا عليه عطفة الإبل على أولادها فاجتمعوا حوله
زهاء من خمسمائة فارس وراجل وشدوا على القوم شدة واحدة وحملت معهم حمير وحضرموت
وخولان وحملوا حملة صعبة فازالوا الروم عن أماكنهم وحملت دوس مع أبي هريرة وهز
رايته وهو يحرض قومه على القتال ويقول: أيها الناس سارعوا إلى معانقة الحور العين
في جوار رب العالمين وما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين قد
فضلهم الله على غيرهم الذين لم يشهدوا مشهدهم فلما سمعت دوس كلامه طافوا به وحملوا
على الروم حملة منكرة ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى وتكاثرت جموع الروم على
ميمنة المسلمين فعادت الخيل تنكص باذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم
بين أيدي الاسد ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها فنادت النساء يا بنات
العرب دونكن والرجال ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب قالت سعيدة بنت عاصم
الخولاني: كنت في جملة النساء يؤمئذ على التل فلما إنكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا
عفيرة بن غفار وكانت من المترجلات البازلات ونادت يا نساء العرب دونكن والرجال
واحملن اولادكن على ايديكن واستقبلنهم بالتحريض فأقبلت النسوة يرجمن وجوه الخيل
بالحجارة وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادى قبح الله وجه رجل يفر عن حليلته وجعل
النساء يقلن لازواجهن لستم لنا ببعولة أن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج قال العباس
بن سهل الساعدي كانت خولة بنت الأزور وخولة بن ثعلبة الأنصارية وكعوب ابنة مالك بن
عاصم وسلمى ابنة هاشم ونعم ابنة فياض وهند ابنة عتبة بن ربيعة ولبنى ابنة جرير الحميرية
متحزمات وهن أمام النساء والمزاهر معهن وخولة تقول هذه الأبيات:
يا هاربا عن نسوة ثقات
...
لها جمال ولها ثبات
تسلموهن إلى الهنات
...
تملك نواصينا مع البنات
أعلاج سوق فسق عتاة
...
ينلن منا أعظم الشتات
قال ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال فرجع
المنهزمون رجعة عظيمة عندما سمعوا تحريض النساء وخرجت هند ابنة عتبة وبيدها مزهر
ومن خلفها نساء من المهاجرين وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد وهو هذا:
نحن بنات طارق
...
نمشي على النمارق
مشي القطا الموافق
...
قيدي مع المرافق
ومن أبى نفارق
...
أن تغلبوا نمالق
أو تدبروا نفارق
...
فراق غير واثق
هل من كريم عاشق
...
يحمي عن العواتق
قال ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين فراتهم منهزمين فصاحت
بهم إلى أين تنهزمون اين تفرون من الله ومن جنته وهو مطلع عليكم ونظرت إلى زوجها
ابي سفيان منهزما فضربت وجه حصانه بعمودها وقالت له: إلى أين يا أبن صخر ارجع إلى القتال
وابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله ليه وسلم قال
الزبير بن العوام فلما سمعت كلام هند لابي سفيان ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول
الله عليه وسلم قال فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند وعطف المسلمون معه ونظرت
إلى النساء وقد حملن معهم وقد رأيتهن يسابقن الرجال وبأيديهن العمد بين ارجل الخيل
ولقد رأيت منهن امراة وقد اقبلت إلى علج عظيم وهو على فرسه فتعلقت به وما زالت به
حتى نكسته عن جواده وقتلته وهي تقول هذا بيان نصر الله المسلمين قال الزبير بن
العوام وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله ورسوله وقاتلت الأزد مع
أبي هريرة وفشا فيهم القتل واصيب منهم خلق كثير لانهم تلقوأ الصدمة الأولى بأنفسهم
واستشهد منهم ما لم يستشهد من غيرهم قال سعيد بن زيد كان القتال في الميمنة شديدا وكان
المسلمون ينهزمون تارة ويعودون مرة وساعة نصبر وساعة نتأخر قال ونظر خالد بن
الوليد إلى الميمنة وقد وصلت إلى القلب فصاح بمن معه من الخيل ومال عليهم فمالوا
وكانوا زهاء ستة آلاف فكبر وحمل على الروم فنكى بهم نكاية عظيمة حتى كشف أعداء
الله عن الميمنة والقلب إلى أن ردت إلى مواضعها ووقف خالد أمامهم يطارد من كان
قريبا للمسلمين قال فانكسر الروم أمام خالد ونظر خالد إلى فرسانه فرآهم متبددين
فنادى يا أهل الإسلام والإيمان ويا حملة القرآن ويا أصحاب محمد ﷺ قد تبينت في
الروم الكسرة العظيمة ولم يبق عند القوم من الجلد والقتال إلا ما رأيتم وقد كسر
الله حدثتهم فردوا عليهم الكسرة وشدوا عليهم الكرة رحمكم الله فوالذي نفس خالد
بيده إني لارجو أن يمنحكم الله اكتافهم فنادى المسلمون من كل جانب احمل حتى نحمل
معك قال فانتضى خالد سيفه وحمل وحملت أصحابه معه قال عبد الرحمن بن الحميدي الجمحي
كنت ممن حمل مع خالد فوالله لقدانكشفت الروم بين أيدينا وولت كما تولي الغنم بين
يدي الاسد وتبعهم المسلمون وكانت الحملة على ميمنة الروم فانكشفوا إنكشافا قبيحا
وأما المسلسلة فما برحوا من مواضعهم وكانوا يرمون بالسهام وهم حماة القوم.
الشعار
قال عبد الرحمن وكان خالد أمامنا في حملته ونحن من ورائه
وكان شعارنا يا محمد يا منصور أمتك أمتك فلم يزل خالد في حملته ونحن من ورائه حتى
وصل إلى الديرجان وكان قائما في موضعه الذي أقامه فيه ماهان معه صليب من الجوهر
ومعه أصحابه ينتظرون حملته فيحملون معه فلما وصلت خيل خالد إلى موضعه قال له
البطارقة: أيها الملك أما أن لك أن تحمل نحمل معك أو تولي فقد خالطتنا خيل العرب
فقال لأصحابه: اعلموا أن يوم السوء لا أحبه ولا أحب أن أراه ولا أحضره وقد
أحضرني الملك إلى هذا الموقف وأنا كارهه ولكن لفوا وجهي ورأسي في هذا الثوب حتى لا
ارى الحرب قال فلفوا وجهه ورأسه في ثوب ديباج والناس يقتتلون حتى انهزمت الروم بين
أيدي المسلمين ووصلوا إلى الديرجان وهو ملفوف الرأس فحمل عليه ضرار بن الأزور
فقتله.
قال الواقدي: وكان أحسن صنع الله تعالى بالمسلمين أن جرجير
وقناطر اختلفا وتنازعا وكان جرجير في الميمنة مع الأرمن وقناطر في الميسرة تحته
فقال جرجير لقناطر احمل على العرب فما هذا وقت الوقوف فقال قناطر تأمرني أن أحمل
وكيف لا تحمل أنت فقال جرجير لقناطر وكيف لا آمرك وأنا أمير عليك فقال قناطر كذب
أنت أمير وأنا أمير عليك وفوقك وأنت مأمور لي بالطاعة فاختلفا وغضب جرجير من قول
قناطر فحمل على المسلمين حملة شديدة وكانت حملته على كنانة وقيس وخثعم وجذام
وقضاعة وعاملة وغسان وهم يؤمئذ فيما بين الميسرة والقلب فكشف الروم المسلمين حتى
زالت عن مصافهم ولم يبق منهم إلا أصحاب الرايات فقاتلوا من يليهم قتالا شديدا وركب
الروم اكتاف المسلمين المنهزمين إلى أن دخلوا معهم إلى معسكرهم فاستقبلهم النساء
بالعمد يضربن وجوه الخيل ويرمين وجوهها بالحجارة وينادين بهم إلى أين تنهزمون يا أهل
الإسلام عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات أتريدون أن تسلمونا للاعلاج قال
منهال الدوسي فلقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم فرجع المسلمون عن الهزيمة
ونادى بعضهم بعضا: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]
وعطفوا على الروم عطفة عظيمة قال وكان قتامة بن أيشم الكناني أمام المسلمين يضرب
في عراض المشركين تارة بالسيف وتارة بالرمح حتى كسر ثلاثة رماح وهو يقول:
ساحمل في الروم الكلاب النوابح
...
وأضربهم ضربا بحد الصفائح
وأرضي رسول الله خير مؤمل
...
نبي الهدى للدين أشرف ناصح
قال الواقدي: ثم حمل حتى كسر سيفين وجعل كلما كسر رمحا
أو سيفا يقول: من يعيرني سيفا أو رمحا في سبيل الله وأجره على الله ثم نادى يا
معاشر قيس خذوا نصيبكم من الأجر والصبر فإن الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي الآخرة رحمة
وفضيلة ف {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 20] قال فاجابه قومه ونشطوا للقتال قال قتامة بن أيشم
الكناني فما رأيت مثل حملة قناطر وقومه ولقد اختلطوا بنا واختلطنا بهم قال ورجع
خالد من دهمته ومعه ألفان من أصحابه وقد وضعوا السيوف في الروم وقتلوهم قتلا ذريعا
والقتل لا يبين فيهم لكثرتهم واقبل خالد على الناس من كرته فرأى الناس يقولون جزى
الله قتامة بن الايشم خيرا عن الإسلام فشكره وجزاه خيرا قال وأقبلت ذرعه ابنة
الحرث منحدرة عن التل وهي تقول ما فعل خالد حتى وقفت بين يديه وقالت: يا ابن
الوليد أنت من العرب الكرام وإنما الرجال بامرائها فإن ثبتوا ثبتت الرجال معهم وأن
انهزموا انهزمت الرجال معهم فقال لها خالد: ما كنت من المنهزمين وما كنا إلا نقاتل
في الأعلاج فقالت: قبح الله وجه عبد نظر إلى أميره ثابتا وهو منهزم عنه.
قال الواقدي: ونظر ماهان لعنه الله إلى الميمنة من عسكره
وقد عركت عراك الأديم فبعث إليهم يحرضهم على القتال فعندها خرج علج من الروم وعليه
درع سابغ السلاح كأنه قطعة جبل وهو على شهباء عظيمة الخلقة فبرز بين الصفين وجال
على شهبائه وسال القتال فخرج إليه غلام من الأزد فما جال معه جولة حتى قتله العلج
ثم دعا بالبراز فهم أن يخرج إليه معاذ بن جبل فقال أبو عبيدة: يا معاذ سألتك بحق
رسول الله ﷺ إلا ما ثبت مكانك ولزمت رايتك ولزومك الراية أحب الي من برازك إلى هذا
العلج فوقف معاذ بالراية ونادى يا معاشر المسلمين من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل
الله فهذا فرسي وسلاحي فجاءه ولده عبد الرحمن فقال أنا يا ابت وكان غلاما لم يحتلم
قال فلبس السلاح وركب الجواد وقال: يا أبت أنا خارج إلى هذا العلج فإن صبرت فالمنة
لله علي وأن قتلت فالسلام عليك وأن كان لك إلى رسول الله ﷺ حاجة فاوصني بها فقال
له معاذ: يا بني أقرئه مني السلام وقل له جزاك الله عن أمتك خيرا ثم قال: يا بني
أخرج وفقك الله لما يحب ويرضي فخرج عبد الرحمن بن معاذ إلى العلج كأنه شعلة نار وحمل
على العلج وضربه بالسيف فمال عنه العلج ومال إليه وضربه على رأسه فقطع العمامة
وشجه شجة فاضحة أسالت دمه فلما رأى العلج ذلك الدم ظن إنه قتل فتأخر إلى ورائه
لينظر كيف يسقط عن جواده فلما نظر عبد الرحمن إلى العلج وقد تأخر عنه انثنى راجعا
إلى المسلمين فقال له معاذ: ما بك يا بني قال قتلني العلج قال له: ما الذي تريد من
الدنيا يا بني ثم إنه شد جرحه قال فعندها صال العلج وحمل فردته الأزد قال أبو
عبيدة: فمن له منكم فخرج إليه عامر بن الطفيل الدوسي وكان من أصحاب الرايات ممن
شهد اليمامة مع خالد بن الوليد وكان قد رأى يوم اليمامة في منامه في قتال مسيلمة
الكذاب كأن امرأة لقيته ففتحت له فرجها فدخل فيه ونظر إليه ابنه فأسرع ليدخل مكانه
ثم استيقظ وقص ذلك على المسلمين فلم يدر أحد ما تأويله فقال ابن الطفيل أما أنا فأعرف
تأويلها قالوا: وما تأويلها يا أبن الطفيل قال تأويله إني أقتل لأن المرأة التي
أدخلتني فرجها هي الأرض وابني سيصيبه جراح ويوشك أن يلتقي بي قال فقاتل يوم
اليمامة وابلى بلاء حسنا وسلم ولم يلحقه أذىلا فلما كان يوم اليرموك شهد فيه الحرب
وخرج إلى قتال العلج وهو كأنه شعلة حريق أو صاعقة وطعن البطريق وكانت قناته قد
شهدت معه المشاهد فاندقت بين يديه وانتضى سيفه وهزه وضرب به العلج على عاتقه فخالط
أمعاءه فتنكس العلج صريعا عن جواده وأسرع عامر بن الطفيل فرمى به إلى المسلمين وسلمه
إلى ولده وانثنى راجعا نحو الروم وحمل على الميمنة وعلى الميسرة وعلى القلب.
ثم قصد المتنصرة فقتل منهم فارسا ودعا للبراز وخرج إليه
جبلة بن الأيهم وعليه درع من الديباج المثقل بالذهب وتحتها درع من دروع التبابعة
وعليه بيضة تلمع كشعاع الشمس وتحته فرس من نسل خيول عاد فلما خرج جبلة إلى عامر بن
الطفيل قال له: من أي الناس أنت قال أنا من دوس قال جبلة إنك من القرابة فابق على نفسك
وارجع إلى قومك ودع عنك الطمع فقال له عامر: قد أخبرتك من أنا ومن قبيلتي فأنت من
أي العرب قال أنا من غسان وأنا سيدها جميعها أنا جبلة بن الأيهم الغساني وإنما
خرجت إليك حين نظرت إليك وقد قتلت هذا البطريق الشديد وهو نظير ماهان وجرجير في
الشجاعة فعلمت إنك كفؤ فخرجت لاقتلك وأحظى عند ماهان وهرقل بقتلك فقال عامر بن
الطفيل أما ما ذكرت من شدة القوم وعظم خلقهم فالله أشد منعة وهو مهلك الجبابرة
وأما قولك إنك تحظى بقتلي عند مخلوق مثلك فاني أريد أن أحظى بجهادي عند رب
العالمين بقتلك وحمل عامر على جبلة بن الأيهم والتقيا بضربتين فخرجت ضربة عامر بن
الطفيل غير ممكنة وخرجت ضربة جبلة ممكنة فقطعت من قرنه إلى كتفه فسقط عامر قتيلا
فجال جبلة على مصرعه ووقف يعجب بنفسه وبما صنع وطلب البراز فخرج إليه ولد المقتول
وهو جندب بن عامر بن الطفيل وكانت معه راية أبيه فاقبل إلى ابي عبيدة وقال: أيها الأمير أن
أبي قد قتل وأريد أن أخذ بثأره أو أقتل فادفع رايتك لمن شئت من دوس فأخذ أبو عبيدة
الراية ودفعها لرجل من دوس فحملها وخرج جندب إلى قتال جبلة بن الأيهم وهو ينشد
ويقول:
سأبذل مهجتي أبدا لاني
...
أريد العفو من رب كريم
وأضرب في العدا جهدي بسيفي
...
وأقتل كل جبار لئيم
فإن الخلد في الجنات حق
...
تباح لكل مقدام سليم
قال ودنا من جبلة وقال له: اثبت يا قاتل أبي لاقتلك به فقال
جبلة ومن أنت من المقتول قال ولده قال جبلة ما الذي حملكم على قتل نفوسكم وأولادكم
وقتل النفوس محرم قال جندب أن قتل النفس في سبيل الله محمود عند الله وننال به الدرحة
العالية فقال له جبلة: إني لا أريد قتلك فقال جندب وكيف أرجع وأنا المفجوع بأبي
والله لا رجعت أو أخذ بثأر أبي أو الحق به ثم حمل على جبلة وجعلا يقتتلان وقد شخصت
نحوهما الأبصار ونظر جبلة إلى الغلام وما أبدى من شجاعته فعلم إنه شديد الباس صعب
المراس فأخذ منه حذره وغسان ترمق صاحبها فرأت الغلام جندبا وقد ظهر على صاحبهم
وقارنه في الحرب فصاح بعضهم على بعض وقالوا: إن هذا الغلام الذي برز إلى سيدكم
غلام نجيب وأن تركتموه ظهر عليه فانجدوه ولا تدعوه فتأهب غسان للحملة ليستنفذوه
ونظر المسلمون إلى جندب وما قد ظهر منه ومن شجاعته وشدته ففرحوا بذلك ونظر الأمير
أبو عبيدة إلى ذلك وما فعل فبكى وقال هكذا يكون من يبذل مهجته في سبيل الله اللهم
تقبل له فعله.
قال جابر بن عبد الله شهدت قتال اليرموك فيما رأيت غلاما
كان أنجب من جندب بن عامر بن الطفيل حين قاتله جبلة وبعد ذلك حمل على جبلة وضربه
ضربة.
أوهته بها وضربه جبلة فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة وتحقق
منام ابيه عامر بن الطفيل وجال جبلة على مصرعه وطلب البراز فصاح به قومه ارجع
إلينا فقد قضيت ما يجب عليك فرجع وهو معجب بنفسه حتى وقف تحت صليبه قال وبعث إليه
ماهان يشكره وأصيب المسلمون بعامر بن الطفيل وولده جندب قال فعندها صاحت دوس الجنة
الجنة خذوا بثأر سيدكم عامر وساعدتها الأزد وكانوا احلافهم وحملوا على غسان ولخم
وجذام وتناشدوا الاشعار فصاح أبو عبيدة بالمسلمين وقال: أيها الناس: {وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 13] الآية ومعانقة الحور
العين في جنات النعيم فما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين
فضلهم الله على غيرهم ممن لم يشهد مشهدهم هذا ولما سمعت الأزد ذلك حملت مع دوس وكان
شعارهم يؤمئذ الجنة الجنة.
قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد عن عطاء بن مراد قال
سألت رجالا عدة ما كان شعار المسلمين يوم اليرموك فأخبرت أن شعار ابي عبيدة أمت
أمت وشعار عبس يا لعبس وشعار اليمن من أخلاط الناس يا أنصار الله وشعار خالد ومن
معه يا حزب الله وشعار حمير الفتح وشعار دارم والسكاسك الصبر الصبر وشعار بني مراد
يا نصر الله أنزل فهذه كانت شعار المسلمين يوم اليرموك قال فلما حملت دوس تبعها
الأزد وقصدت العرب المتنصرة وطلبت صليبهم وفرقتهم تفريقا صعبا حتى وصلوا إلى
الصليب فطلب رجل منهم حامل العلم الذي لفسان فأرداه عن فرسه ووقع الصليب من يده
منكوسا وقتل من الأزد ودوس رجال إلا إنهم كانوا مثل الشامة البيضاء في جلد البعير الأسود
ثم كرت غسان تريد أخذ صليبهم فاقتتلوا عنده قتالا شديدا حتى قتلوا خلقا كثيرا.
قال الواقدي: حدثني هسام بن عمارة عن ابي الجريري عن نافع
عن جبير بن الحويرث عن عبد الله بن عدي قال شهدت اليرموك فكان المسلمون خمسة
وعشرين ألفا فغضب الحويرث وقال كذب من حدثك بهذا الحديث فإن المسلمين كانوا يوم
اليرموك أحدا وأربعين ألفا وقد أديت إليك ما سمعته ممن أثق به من الرواة.
قال الواقدي: وهذا اثبت الأقاويل لأن المسلمين كانوا يوم
أجنادين اثنين وثلاثين ألفا وجاءت الأمداد بعد ذلك.
قال الواقدي: حدثني ابن أبي نمرة عن عبد الحميد بن سهل
عن جده قال لما حملت الأزد يوم اليرموك ودوس ودوخت المشركين دوخة عظيمة وحمل
المشركون حملة هائلة إنكشف المسلمون وكان صاحب لوائهم عياض بن غنم الاشعري فولى
منهزما واللواء بيده فصاح به الناس إنما ثبات القوم وأهل الحرب بألويتهم فابتدر لأخذه.
عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كلاهما يتسابق إليه فأخذه
عمرو ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم وفتح الله على أيدي المسلمين وكان اليوم
الثالث من اليرموك يوما شديدا انهزمت فيه فرسان المسلمين ثلاث مرات كل مرة تردهم
النساء بالحجارة والعمد ويلوحون بالأطفال إليهم فيرجعون إلى القتال ولم يزل القتال
قائما إلى أن اقبل الليل بسواده ورجعت الروم إلى مواضعها والقتل فيهم كثير وفي
المسلمين قليل إلا أن الجراح فيهم فاشية من النشاب فلما دخل الليل بسواده رجعت كل
فرقة إلى أماكنها وباتوا تحت السلاح قال وأما المسلمون فما كانت همتهم إلا الصلاة
وبعد ذلك شدوا الجراح وصلى أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الناس إذا عظم
البلاء فانتظروا الفرج فإنه يأتي من عند الله فاضرموا نيرانكم وتحارسوا وأظهروا
التهليل والتكبير وقام أبو عبيدة يمشي في الناس هو وخالد بن الوليد يتفقدان الجرحى
ويقولان أيها الناس أن عدوكم يألم كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وباتا
طول ليلهم كله وهما طائفان على المسلمين إلى أن أصبح الصباح قال وانحازت الروم إلى
جانب اليرموك مع ماهان الأرمني فجمع بطارقته ووبخهم وزجرهم وقال لهم: قد علمت أن هذا
يكون منكم وقد رأيت فشلكم وخوفكم وجزعكم من هؤلاء العرب الضعاف قال فاعتذروا إليه
وقالوا: غدا نبارزهم فإن فينا فرسانا وشجعانا لم يقاتلوا أصلا وغدا نصدقهم الحرب
فتكون لنا العاقبة قال فسكت عن توبيخهم وأمرهم أن يتأهبوا لذلك وبات الفريقان
يتحارسون وقد رعبت الروم من كثرة القتل فيهم واما المسلمون فانهم أقوى قلوبا لشدة
دينهم ويقينهم.
قال فلما أصبح الصباح صلى بهم أبو عبيدة صلاة الخوف وإذا
بالصلبان قد بدت وبرايات القوم قد طلعت في عدد الشوك والشجر كأنهم لم يلاقوا قتالا
قط فوقفوا في مصافهم ونصب ماهان سريره على الكثيب الذي كان عليه بالأمس وهو يشرف
منه على العساكر فامرهم أن يعبوا مصافهم فلما نظر أمير المؤمنين إلى سرعة الروم
صاح كل أمير برجاله وحرضهم على القتال فانقلبوا من الصلاة إلى خيولهم ولبسوا
السلاح وركبوا خيولهم ورجع كل أمير إلى مكانه وهو يعظ أصحابه ويوصيهم ويعدهم من
الله بالنصر وسار أبو عبيدة بين الصفوف وهو يصف لهم فضل الجهاد وما أعد الله
للمجاهدين الصابرين وخلف على الذرارى والنساء والأموال والأولاد عمرو بن سعيد ابن
عبد الله الأنصاري وجعل من الرماة خمسمائة في الميسرة وخمسمائة في القلب وطاف أبو
عبيدة عليهم وقال لهم: معاشر الرماة الزموا مراكزكم فإن رأيتم القوم زحفوا إلينا
فارشقوهم بالنبل واذكروهم عند رميكم ولا تتركوها مفرقة ولتخرج سهامكم كأنها من كبد
قوس واحدة فإن هم زحفوا إليكم فاثبتوا مكانكم حتى يأتيكم امري ففعلوا ما امرهم به
الأمير وتقدم أبو سفيان إلى ولده يزيد والراية في يده وحوله أصحابه وقد عزم على
الحملة والجهاد فقال: يا بني أن احسنت أحسن الله إليك عليك بتقوى الله والصبر فاتق
الله حق تقاته وانصر دين الله وشرع نبيه ﷺ وإياك والجزع فما قضاه ربنا قد أمضاه
فاصبر مع أصحابك صبر أولى العزم وإياك ثم إياك أن يراك الله منهزما فتبوء بغضب من
الله قال يزيد سأصبر جهدي وطاقتي والله أسأله أن يكون معينا لي وناصرا.
ثم صاح يزيد برجاله وهز الراية وندبهم إلى القتال وحمل
على من يليه من الروم فقاتلوا قتالا عظيما ولم يزالوا حتى إنكوا العدو نكاية عظيمة
وأبلوا بلاء حسنا وكان قتالهم من جانب القلب ولم يزالوا كذلك حتى برز إليهم بطريق
من البطارق وبيده رمح عظيم وعليه صليب من الذهب وحوله زهاء من عشرة آلاف فارس من
الروم فحملوا على الميمنة وكان فيهم عمرو بن العاس ومن معه فرجعوا على أعقابهم
منهزمين حتى دخلت الروم في أوائل عسكر المسلمين مما يلي عمرا ومن معه وهم يتراجعون
على الرجال فيكرون تارة ويرجعون تارة حتى تكاثرت عليهم الروم فكشفوهم حتى الصقوهم
بالتل الذي عليه النساء وأحاطوا بالتل فصاحت امرأة اين أنصار الدين اين حماة
المسلمين وكان الزبير ابن العوام جالسا عند زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق يداوى
عينه وكان ارمد فلما سمع صوت المرأة وهي تنادي أين انصار الدين قال: يا أسماء ما
لهذه المرأة تصيح اين انصار الدين فقالت له عفرة ابنة عثمان: يا ابن عمة رسول الله
ﷺ انهزمت ميمنة المسلمين حتى الجاهم الروم إلينا وأحاط بنا الأعلاج وهذه نساء
الأنصار مستصرخة بانصار الدين فقال الزبير والله إني أنا من انصار الدين ولا يراني
الله جالسا في مثل هذا الوقت قال ثم طرح الخرقة عن عينه واستوى جالسا على متن
جواده فأخذ قناته وتسمى باسمه وقال في حملته أنا الزيبر بن العوام أنا ابن عمة
رسول الله ﷺ وجعل يطعن فيهم طعنا متداركا حتى ردهم على أعقابهم وخيلهم تنكص بأذنابها
قال ليث بن جابر فلله در الزبير بن العوام لقد رد الروم بنفسه وحده إذ حمل عليهم
وما كان معه من العرب أحد حتى ردهم إلى عسكرهم وتراجعت خيل عمرو ورجاله وهو ينادي
الرجعة الرجعة الحزم الحزم يا أهل الإسلام الصبر الصبر فتراجعوا بعد أدبارهم.
قال الواقدي: وحمل جرجير الأرمني في ثلاثين ألفا من
الأرمن على شرحبيل ابن حسنة كاتب وحي رسول الله ﷺ فانكشف أصحاب شرحبيل بن حسنة ولم
يثبت غيره لقتال الروم في عصبة من قومه دون الخمسمائة فجعل شرحبيل يحمل على الأرمن
وهو يقول: يا أهل الإسلام لا فرار من الموت الصبر الصبر قال فتراجع أصحابه إليه
وحملوا على الأرمن فردوهم على أعقابهم وجعلوا يضربون فيهم حتى أصابوا من الأرمن ما
لم يصبه الأرمن منهم فرجع شرحبيل إلى مكانه ودار به أصحابه فجعل يعنفهم بالقتال
ويقول لهم: ما الذي أصابكم حتى انهزمتم أمام هؤلاء الكفرة وأنتم الحماة البررة
وأهل القرآن وعباد الرحمن أما سمعتم قوله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:1]
وقال وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 11] وأنتم تهربون فقالوا: يا
صاحب رسول الله ﷺ زلة من الشيطان مثل يوم أحد وحنين وها نحن معك فاحمل حتى نحمل
معك فجزاهم خيرا ووقف مكانه وكان موقفه مما يلي سعيد بن زيد وقد لزموا مواقفهم لم
يتحركوا التماسا للحفيظة ونظر قيس بن هبيرة إلى خيل شرحبيل وقد تراجعت فحمل بمن
معه ونادى هو وأصحابه بشعارهم وكان شعارهم يا نصر الله انزل يا منصور أمت أمت وكان
هذا شعارهم يوم بدر وأحد وحمل خالد بن الوليد بمن معه ذات اليمين وحمل قيس من ذات
الشمال فقاتلوهم قتالا شديدا ولله در الزبير بن العوام وهاشم بن المرقال وخالد بن
الوليد لقد حملوا حملة عظيمة حتى قربوا من سرادقات ماهان وتواقعت الروم على
سرادقات ماهان وخيامه فلما نظر ماهان إلى ذلك نزل عن سريره هاربا وصاح بالروم
وعنفهم فتراجعوا يطلبون القتال وصاح أبو عبيدة بسعيد بن زيد فحمل بمن معه وهو
ينادي لا إله إلا الله يا منصور أمت أمت فأقبلوا يقتلون في الروم قتلا ذريعا
فبينما المسلمون في حملتهم إذ سمعوا قائلا يقول: يا نصر الله انزل يا نصر الله
اقرب أيها الناس الثبات الثبات قال عامر بن أسلم فتأملنا الصارخ فإذا هو أبو سفيان
وتحت رايته ابنه يزيد قال وشدت الأمراء بأجمعهم على من يليهم وقاتلوا قتالا شديدا
ولم يكن في الروم اثبت من أصحاب السلاسل فانهم ثبتوا في أماكنهم يمنعون من أتاهم
وأما الرماة وهم مائة ألف رام فكانوا إذا رشقوا سهامهم نحو العرب يسترون الشمس فلولا
النصر والمعونة من الله لكان المسلمون هلكوا وانفصل المسلمون فرحين مستبشرين
والمشركون قد هلك أكثرهم وبرز علج من أعلاج الروم كأنه نخلة باسقة وعليه درع مذهب
وعلى رأسه بيضة مذهبة وعليها صليب من ذهب مرصع بالجوهر وهو راكب على شهباء وعليه
زرد من حديد وبيده رمح فجال وأشهر نفسه وسأل البراز فنظر المسلمون إلى عظم خلقته
وهول جثته فجعلوا ينظرون إليه فقال أبو عبيدة: لا يهولنكم ما ترون من خلقته فكم رأيتم
من هو عظيم خلقة ولا قلب له فمن له منكم يخرج إليه واستعينوا بالله عليه.
قال فخرج إليه عبد من عبيد العرب وبيده سيفه وحجفته وهو
زاجل فلما أراد أن يدنو من العلج صاح به مولاه ذو الكلاع الحميري فلما رجع خرج
إليه ذو الكلاع وجال عليه وكان ذو الكلاع من أهل الشدة والبأس فتواقعا وكل منهما
رامح فتطاعنا طعنا شديدا أشد من الجمر ثم انهما تجاذبا سيوفهما والتقيا فضرب ذو
الكلاع العلج ضربة وضرب العلج ضربة وكان سيف العلج قاطعا وساعده قويا فقطع سيفه
درقة ذي الكلاع وسيفه.
ودرعه وما تحته من الثياب ووصلت الضربة إلى عضده الايسر فجرحته
جرحا بليغا وثقلت: يده فلما نظر ذو الكلاع إلى ما لحقه من العلج عطف بجواده يريد
المسلمين ونظر العلج إلى ذي الكلاع سابقا فلم يلحقه حتى لحق بالمسلمين فاتى قومه
والدم يفور من جرحه فاجتمع فرسان قومه فقال لهم: يا فرسان حمير إياكم أن تتكلوا في
قتالكم على السلاح ومنعته ولكن اتكلوا في قتالكم على الله عز وجل قالوا: وكيف ذلك
أيها السيد قال: لاني رددت عبدي عن القتال شفقة عليه إذ ليس معه لامة حرب وقلت:
إني أفرس منه وأجود عدة ولامة فصنع بي هذا الأغلف ما ترون والله ما لحقني قبلها في
حرب مثلها قط فشدوا جرحه ووقف مكانه ثم إنه صاح بقومه يا رجال حمير أن كان سيدكم
قد رجع كلالا فما منكم من يأخذ بثأره فانتدب فارس من فرسان حمير وعليه صبائغ اليمن
من الأبراد والحبر كأنه جمرة نار وحمل نحو العلج مصمصما وجال جولة عظيمة وطعنة طعنة
أثبتها في صدره فأرداه قتيلا وعجل الله روجه إلى النار فهم الحميري أن ينزل عن
جواده ويأخذ سلبه فحمل عليه كردوس من الروم ليكشفوه عنه فردهم الحميري صاغرين ثم
رجع إليه وأخذ سلسة وأقبل به على أبي عبيدة فأعطاه إياه فدفع السلب إلى قومه ورجع
إلى مقامه في القتال فخرج إليه آخر فقتله وآخر فقتله فخرج إليه علج رابع فقتل
الحميري ونزل ليأخذ سلب الحميري فرماه رجل من رماة الأنصار بنبلة فوضعها في لبته
فجندله صريعا وعجل الله بروحه إلى النار قال فأنقلبت الروم على وجوهها وهابوا جميع
المسلمين وكان ذلك البطريق الذي قتل بالنبلة من عظمائهم ويقال إنه كان صاحب نابلس
فصاح بهم ماهان وسكنهم عن اضطرابهم وخرج إلى القتال ملك اللان واسمه مريوس وعليه
لامة الملوك وعليه ديباجة وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر فجال بين الصفين وشهر نفسه
وقال أنا ملك اللان فلا يبرز لي إلا أميركم فخرج إليه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي
رسول الله ﷺ وبيده لواؤه وعليه درع من حديد وهو ممنطق بمنطقة من الأديم وهو على
جواده فقال أبو عبيدة: من هذا الذي خرج قالوا له: شرحبيل بن حسنة فبعث إليه أبو
عبيدة يقول له: ادفع الراية لمن شئت واخرج من غير راية فلما سمع ذلك سلم الراية
لرجل من قومه وقال له: قف بها موضعي فإن قدر علي فسلم الراية إلى الأمير أبي عبيدة
يدفعها لمن يريد وأن رجعت أخذتها فأخذها الرجل وخرج شرحبيل كاتب وحي رسول الله ﷺ
نحو ملك اللان وهو يقول:
سأحمل في اللئام بني الأعادي
...
بكل مثقف لدن حداد
فيا بؤسا لقيصر يوم نأتي
...
وجمع الروم شرد في البلاد
قال فسمع البطريق شعر شرحبيل فلم يفهمه وكان يفهم قليلا
بالعربية.
فقال له: يا عربي ما الذي تقول قال أقول كلاما تقوله
العرب عند الحرب تشجع به نفوسها وتثق بوعد الله الذي وعد به نبينا فقال ملك اللان
وما الذي وعدكم به نبيكم فقال شرحبيل وعدنا الله أن يفتح لنا الأرض في الطول
والعرض ونملك الشام ونكون من الظافرين بنصر الله لنا قال ملك اللان أن الله لا
ينصر من يبغي وأنتم تبغون علينا وتطلبون ما ليس لكم بحق فقال شرحبيل نحن قوم أمرنا
الله أن نفعل ذلك والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وإني أراك
تعرف كلام العرب فلو تركت ما أنت عليه من عبادة الصليب ودخلت في دين الإسلام كنت من
أهل الجنة وسعدت فقال ملك املان ما أترك دين المسميح أبدا فإن دينه حق فقال شرحبيل
لا تقل إنه إله معبود ولا تقل صلب وقتل فإن الله سبحانه وتعالى احياه في الأرض ما
شاء ثم رفعه إلى السماء ثم قال ملك اللان لن أرجع عن قولي ثم استخرج صليبا من عنقه
فرفعه ووضعه على عينه وأقبل يستنصر به فغضب شرحبيل من فعاله فقال له: يا ويلك تبا
لك ولمن معك ولمن يقول بقولك ثم حمل عليه وأخذا في القتال وجالا جولانا عظيما
فرمقتهما الأبصار وجعل المسلمون يدعون لشرحبيل بالنصر والمعونة ونظر شرحبيل إلى
شدة الكافر ففر بين يديه كأنه منهزم فتبعه عدو الله فلما علم شرحبيل إنه قد قاربه
ثنى عنان جواده فطعنه بقناته يريد أن يجعلها في نحره فزاغ المشرك عن الطعنة ونجا
منها سالما ثم قال معاشر العرب أنتم لا تدعون الخديعة والمكر فقال شرحبيل ويلك أما
علمت أن الحرب خدعة والمكر رأسها فقال العلج فما الذي نفعك من حيلتك قال فتضاربا
حتى انقطع السيفان في أيديهما فاعتنقا معانقة شديدة وكان المشرك أعظم جثة وأشد
منعة وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام فضغط عليه المشرك ضغطة أوجعه
بها وهم أن يقتله في سرجه والفريقان ينظران إليهما قال ضرار بن الأزور فداخلني
والله الغيظ فقلت في نفسي: ويحك يا ضرار يقتل هذا العلج كاتب وحي رسول الله ﷺ وأنت
تنظر إليه فما يمنعك من نصرته.
قال الواقدي: فخرج ضرار نحوهما يسعى على قدميه كالظبية
الخمصاء حتى قرب منهما ولا يعلمان به جميعا وكان في يده خنجر فضرب به العلج من
ورائه فأطلع الخنجر من قلبه فسقط العلج قتيلا وخلص شرحبيل من الضغطة قال فلما سقط
العلج عن ظهر جواده نزل إليه شرحبيل وسلب ما كان عليه من لامة حربه وركب ضرار
جواده وانثنى راجعا هو وشرحبيل نحو المسلمن فهنأ المسلمون شرحبيل وشكروا ضرارا على
فعله قال ثم أن شرحبيل أخذ سلب العلج فنازعه ضرار فيه فقال السلب لي وأنا قتلته
وقال شرحبيل أنا أخذ السلب فأتيا أبا عبيدة فخاف أبو عبيدة أن يحكم بينهما فلا
يرضون بحكمه فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أمير المؤمنين أن رجلا
خرج إلى البراز وقاتل علجا من الأعلاج وبلغ معه الجهد جهيد فخرج آخر من المسلمين
فأعان الرجل وقتل العلج قال ولم يسم أبو عبيدة الرجلين فلمن السلب منهما فجاء
الجواب من عمر بن الخطاب أن السلب للقاتل فأخذ السلب أبو عبيدة من شرحبيل وأعطاه ضرارا
فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 5] .
قال الواقدي: ولما قتل ضرار ملك اللان غضبت الروم فخرج
فارس شجاع وطلب البراز فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فقتله وأخذ سلبه
وخرج إليه ثان وثالث ورابع فقتلهم وأخذ أسلابهم فقال خالد لأبي عبيدة: أن الزبير
قد تجرد للروم وبذل نفسه لله ولرسوله وأخاف عليه من التعب فصاح عليه أبو عبيدة
وأقسم عليه فرجع الزبير إلى مقامه قال وخرج من الروم بطريق فخرج إليه خالد بن
الوليد وكان ملك الروسية فقتله خالد وكان زوج بنت ملك اللان فقوم سلبه وتاجه
ومنطقته وصليبه ودرعه بخمسة عشر ألفا قال فأخبر ماهان بذلك فغضب وقال سيدان منا
قتلا في يوم واحد وإني أظن أن المسيح لا ينصرنا ثم أمر الرماة أن يرموا عن يد
واحدة فرموا سهامهم وأطلقوا نحو المسلمين دفعة واحدة مائة ألف سهم فكان النشاب يقع
في عساكر المسلمين كسقوط البرد من السماء فكثرت الجراح في الناس وأعور من المسلمين
سبعمائة عين فسمى ذلك اليوم يوم التعوير وكان ممن أصيب بعينه المغيرة ابن شعبة
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل التميمي وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن سعيد وكان
الرجل بعد ذلك يلقي الرجل فيقول له: ما الذي أصاب عينك فيقول الآخر: لا تقل مصيبة
بل هي محنة من الله قال وعظم وقع السهام في عسكر المسلمين حتى ما كنت تسمع إلا من
يصيح واعينا وابصراه واحدقتاه وعظم اضطراب المسلمين من ذلك قال فجذبت العرب أعنة
خيولها راجعة قال ونظر ماهان اللعين إلى اضطراب جيش المسلمين فحرض الرماة والروم
وصاح برجاله وزحفت المسلسلة نحو المسلمين فهالهم ذلك وحمل جرجير وقناطر وقورين
وقال ماهان اثبتوا على الحملة وارموا العرب بالنشاب فزادت الرماة في رميها وزحفت
على ساق وأخذ المسلمون على أنفسهم اشفاقا مما نزل بهم ووصل إليهم من قلع الأحداق
قال عبادة بن عامر فنظرت إلى جيش الشرك وهو نحونا سائر وفرسان المسلمين متأخرة
وخيولهم ناكصة فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم انزل علينا نصرك
الذي نصرتنا به في المواطن كلها ثم صحت في رجال حمير تهربون من الجنة إلى النار ما
هذا الفرار أما تخافون العار أما أنتم بين يدي الجبار أما هو عالم الأسرار فررتم
من الكفار قال فما أجابني والله أحد كأنهم صم لا يسمعون قال فقلت: كان قبيلتك خرست
عن الجواب فجعلت أهتف بقبائل العرب فكل قد شغل بنفسه عن اجابتي فجعلت أكثر من قولا
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فما كان غير بعيد حتى نزل النصر من الله
وذلك أن المسلمين قد انقلبوا راجعين نحو تل النساء ولم يثبت غير أصحاب الرايات قال
عبد الله بن قرط الاسدي شهدت القتال كله فلم أر قتالا أشد من يوم التعوير ورجعت
الخيل على أذنابها وقاتلت الأمراء بأنفسها والرايات بأيديهم حتى كان أبو عبيدة
ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمسبب بن نجيبة الفزاري وعبد الرحمن بن أبي
بكر الصديق والفضل بن العباس يقاتلون قتالا شديدا قال عبد الله بن قرط فقلت في نفسي:
وكم مقدار ما يقاتلون هؤلاء وهم نفر يسير حتى ساعدتنا النساء اللاتي شهدن مع رسول
الله ﷺ المشاهد يداوين الجرحى ويسقين الماء ويبرزن إلى القتال ولم أر امرأة من
نساء قريش قاتلت بين يدي رسول الله ﷺ ولا في اليمامة مع خالد مثل ما قاتلت نساء
قريش يوم اليرموك حين دهمهن القتال وخالط الروم المسلمين فضربن بالسيوف ضربا وجيعا
وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد انضم النساء المهاجرات لغيرهن
وقامت الحرب على ساق وتنادى النساء بأنسابهن وأمهاتهن والقابهن وجعلن يقاتلن قتال
الموت ويضربن وجوه الخيل بالعمد ويلوحن بالأطفال وجعل النساء بعضهن يقاتل المشركين
وبعضهن يقاتل المسلمين حتى رجعوا إلى قتال المشركين وبعضهم يسقي الماء وبعضهن يشد الجراح
قال فبينما هن يقاتلن وقد هجمت الرجال إذ انهزمت نساء لخم وجذام وخولان فخرجت خولة
بنت الأزور وأم حكيم ابنه حكيم بنت الحرث وسلمى بنت لؤي وجعلهن يضربن في وجوههن
ورؤوسهن بالعمد ويقلن اخرجن من بيننا فانتن توهن جمعنا قال فرجعت نساء لخم وجذام
يقاتلن قتال الموت وقاتلت أم حكيم بنت الحرث أمام الخيل بالسيف وما نسمع يومئذ صوت
واحدة من النساء غير صوت واعظة تعظ وأما أم حكيم فإنها جعلت تنادي يا معاشر العرب
احصدوا الغلف بالسيوف وأما أسماء بنت ابي بكر فإنها قرنت عنانها بعنان زوجها
الزبير ابن العوام فما كان يضرب إلا ضربت مثله قال فتراجع المسلمون إلى القتال حين
رأوا النساء يقاتلن قتال الموت ويقول الرجل لمن يليه: أن لم نقاتل نحن هولاء وإلا
فنحن أحق بالخدور من النساء فلله در نساء قريش يوم اليرموك.
قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن الفضل عن يزيد بن أبي
سفيان عن مكحول قال كانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة من الهجرة قال أبو عامر
وحملت خولة بن الأزور على علج من الأعلاج كان قد حمل علينا فاستقبلته وجعلت تشالشه
بالسيف فضربها العلج بسيفه على قصتها فأسال دمها وسقطت إلى الأرض فصاحت عفيرة بن
عفان حين نظرتها صريعة ونادت فجع والله ضرار في أخته فأخذت راسها على ركبتها والدم
قد صبغ شعرها كالشقائق فقالت لها: كيف تجدك قالت: أنا بخير أن شاء الله تعالى
ولكني هالكة لا محالة فهل لك على بأخي ضرار فقالت عفيرة: يا ابنة الأزور ما رأيته
فقالت خولة: اللهم اجعلني فداء لاخي ولا تفجع به الإسلام قالت عفيرة: فجهدت أن
تقوم معي فلم تقم فحملناها إلى أن أتينا بها موضعها فلما كان الليل رايتها وهي
تدور تسقي الرجال وكان ليس بها ألم قط ونظر إليها أخوها والضربة في رأسها فقال
لها: ما بك فقالت: ضربني علج قتلته عفيرة فقال لها: يا أختاه ابشري بالجنة فقد
أخذت لك بثأر الضربة مرارا وقتلت منهم أعدادا قال ولم يزل الحرب من أول النهار
وكلما قرب الليل يزيد ويشتعل ضرامها وأبو عبيدة يقاتل برايته والأمراء يفعلون
كفعله إلى أن فصل بينهما الظلام وقد قتل من الروم يوم التعوير أربعون ألفا أو
يزيدون ونقل عن خالد إنه انقطع في يده ذلك اليوم تسعة أسياف ولقد أخبرنا عن خالد بن
الوليد ممن حضر قتال اليرموك وشاهده قال كان يعد قتال خالد بمائة رجل من شجعان
الرجال قال حازم بن معن وبرز من المشركين في قلب الوقعة أصحاب الديباج والحرير
والتجافيف على الخيول الشهب والبلق كأنها من الجبال الراسيات فلما برزوا غاصوا في
القلب وكروا كرة واحدة ورفعوا في وسطهم صليبا من الجوهر وحملت ميمنتهم على ميسرتنا
وميسرتهم على ميمنتنا وقد شردوا إلى النساء والنساء يضربن وجوههم فجعلن يصحن بهم
الله الله لا تغموا الإسلام بهزيمتكم واتقوا ربكم قال كان بين يدي ابي عبيدة رجل
من محرز أسمه نجم بن مفرح وكان من خطباء العصر وأفصح العرب لسانا واجرئها جنانا
وكان رفيع الصوت حسنه جدا فقصده العرب والفصحاء يسمعون ما ينطق به من نظمه ونثره.
قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه عن حسان
بن كعب عن عبد الواحد عن عوف عن موسى بن عمران اليشكري قال رأيت نصر بن مازن وهو
بجامع النيل يحدث عن وقعة اليرموك قال مارد الناس عن الهزيمة بعد قضاء الله إلى
نصرة الإسلام إلا غلام رجل من بني محارب يقال له: نجم بن مفرح وكان لا يتكلم إلا بالسجع
يؤلفه بحسن نظمه ولقد حفظنا منه يوم اليرموك ما نحن نذكره عنه ولقد بلغني أن البلغاء
الفصحاء المتأخرين مثل الأصمعي وأبي عبيدة اللغوي ينسجان على منواله في حسن كلامه
فكان من جملة ما وعظ به المسلمين يوم اليرموك وقت هزيمتهم أيها الناس هذا يوم له
ما بعده وقد عاينتم قربه من بعده ولن تنال الجنة إلا بالصبر على المكاره وتالله لا
ينالها من هو للجهاد كاره وينشد:
ولله في عرض السموات جنة
...
ولكنها محفوفة بالمكاره
واعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا عالم الغيب والشهادة
وهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أستواقه وأخفى نفاقه في نفاقه وأنتم
أصحاب نبي العصر فأيستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقوموا العزم
بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا عذاب النار وغضب الجبار فوالذي قدر
الأقدار وأدار الفلك الدوار وكل شيء عنده بمقدار لقد تزينت لكم الحور العين
بأيديهن أباريق وكأس من معين فمن طلب دار البقاء هان عليه ما يلقى فحققوا حملتكم
تنالوا بغيتكم واطعنوا الصدور تنالوا الحور وشرعوا الاسنة تنالوا الجنة واغتنموا
الصبر يكتب لكم الأجر بشروا المؤمنين بحسن عملكم وإياكم أن تضلوا عن سبيلكم لا
توافقوا الكفار في جهنم واعدلوا عن طريق قولهم ووافقوا من سلف من أسلافكم في فعلهم
واسمعوا ما نزل في القرآن من أجلهم. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} [النور:5] سيروا فقد سبق المفردون واجتهدوا فقد فاز المجتهدون:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:10] قال وحمل خالد بن الوليد
بعصابة حمراء وهو يفزع الروم باسمه ويقول: أنا خالد ابن الوليد فبرز إليه بطريق
يقال له النسطور وعليه الديباج فأقبل يدعو خالد ويهمهم وخالد في القتال لا يشعر به
ولا يدري ما يقول: فعندما سمعه يرطن عطف عليه فاقتتلا قتالا شديدا فبينما هما في
أشد القتال إذ كبا بخالد الجواد فوقع الفرس على يديه وهوى خالد على أم رأسه فقال
الناس لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الواقدي: وخالد يقول: حي حي فعلا البطريق على ظهر خالد في
عثرته وقد سقطت قلنسوته من رأسه فصاح قلنسوتي رحمكم الله فأخذها رجل من قومه من
بني مخزوم وناوله إياها فأخذها خالد ولبسها فقيل له فيما بعد يا أبا سليمان أنت في
مثل هذا الحال من القتال وأنت تقول قلنسوتي فقال خالد: أن رسول الله ﷺ لما حلق
راسه في حجة الوداع أخذت من شعره شعرات فقال لي ما تصنع بهؤلاء يا خالد فقلت:
أتبرك بها يا رسول الله واستعين بها على القتال قتال أعدائي فقال لي النبي ﷺ لا
تزال منصورا ما دامت معك فجعلتها في مقدمة قلنسوتي فلم ألق جمعا قط إلا انهزموا ببركة
رسول الله ﷺ قال ثم شدها بعصابة حمراء وحمل على النسطور وضربه على عاتقه أخرج
السيف من علائقه وانسر من بقي من ملوكهم وكرهوا البراز بعد ذلك فكان يدعوهم إلى
البراز فلا يخرج إليه أحد ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى كل فاشفق عليه الحرث بن
هشام المخزومي فقال لأبي عبيدة: أيها الأمير لقد قضى خالد ما يجب عليه وأدى السيف
حقه فلم لا أمرته أن يريح نفسه قال فمشى أبو عبيدة إليه وجعل يعزم عليه أن لا
يتقدم ويسأله أن يريح نفسه فقال خالد:
أيها الأمير أما والله لأطلبن الشهادة بكل وجه فإن
أخطاتني فالله يعلم نيتي وحمل فلم يرجع عن حملته حتى جلاها وذلك أن كل المسلمين استعفوه
في حملته وأقبلوا على القتال من بعد هزيمتهم والنساء أمام الرجال ولم يزل الحرب
بين الفريقين حتى انقلب الروم على أعقابها وقد قتل منهم ألوف عديدة وأما أصحاب السلاسل
فانحطم أكثرهم ووطئتهم الخيل بحوافرها ولم يزل القتال بينهم حتى مالت الشمس
بغروبها وانفصل الجمعان وقد جرت الدماء بينهم وفرشت الأرض بالقتلى والجراح فاشية
في الجمعين لكن في الروم أكثر ورجع كل قوم إلى اصلاح شأنهم ومداواة جرحاهم واما
النساء فأصلحن الطعام وشددن الجروح وداوين السقام ولم يقل أبو عبيدة لاحد من
المسلمين من يكون الليلة على حرس المسلمين لما عندهم من التعب بل إنه تولى الحرس
بنفسه ومعه جماعة من المسلمين قال فبينما هو يدور إذ راى فارسين قد لقياه وهما
يدوران بدورانه فكلما قال: لا إله إلا الله قالا محمد رسول الله فقرب أبو عبيدة
منهما فإذا هما الزبير بن العوام وزوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق فسلم عليهما
وقال: يا أبن عمة رسول الله ﷺ ما الذي أخرجكما قال الزبير نحرس المسلمين وذلك أن
أسماء قالت لي: يا ابن عمة رسول الله ﷺ أن المسلمين مشتغلون بأنفسهم في هذه الليلة
عن الحرس بما لحقهم من التعب في الجهاد طول يومهم فهل لك أن تساعدني على حرس
المسلمين فأجبتها إلى ذلك فشكرهما أبو عبيدة وعزم عليهما أن يرجعا فلم يفعلا ولم
يزالا كذلك إلى الصباح.
قال الواقدي: حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو عن عبد
الرحمن ابن حبيران أبا الجعيد كان رئيسا من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على
المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمى الزراعة وكان أبو الجعيد
هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها فنزل عسكر الروم على
الزراعة عنده وكان فيها عرس لابي الجعيد وزوجته تزف عليه في تلك الليلة قال فتكلف
أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قال
هات امراتك إلينا فأبى ذلك وسبهم فأبوا إلا أخذ العروس فلما شنع عليهم بذلك عمدوا
إلى العروس واخذوها كرها منه وعبثوا بها بقية ليلتهم فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا
عليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها
في خمارها وأقبلت به إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت له:
انظر ما صنع أصحابك بولدي فخذ بحقي فلم يعبأ بكلامها فقالت له أم الفتى: والله
لتنصرن العرب عليكم ورجعت وهي تدعو عليه فما كان إلا يسير حتى هلكوا في أيدي
المسلمين قال فلما كان يوم اليرموك بعدها قتل النسطور أتى أبو الجعيد إلى عساكر
المسلمين وقال لخالد أعلم أن هذا الجيش النازل بازائكم جيش عظيم ولو سلموا أنفسهم
إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم إلا في المدة الطويلة فإن كدتهم لكم في هذه الليلة
مكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني قالوا: نعطيك كذا وكذا تؤدي جزية أنت وولدك
وأهل بيتك ونكتب لك بذلك عهدا إلى آخر عقبك.
قال الواقدي:
فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون
وأتى إلى واد عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم: أن هذا المنزل به
العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها قال وجعل الناقوصة فيما بين الروم والعرب
ولم يعلم أحد من الروم ما عمقها قال فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد أن
النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون جاء أبو الجعيد إلى أبو عبيدة فوجده يطوف تلك
الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم: ما قعودكم قالوا: وما نصنع قال
إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة فلما كانت
الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل
إليهم أبو الجعيد فقالوا: قد أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك قال أريد منكم
خمسمائة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعون.
قال الواقدي: فاختار من المسلمين خمسمائة رجل من جملتهم
ضرار بن الأزور وعياض ورافع وعبد الله بن ياسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر
وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات فلما اجتمعوا سار
بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصدبهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم أخذ أبو
الجعيد منهم رجالا ودلهم على المخاضة ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك
وقال لهم: ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا
ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته يا معاشر الروم
دونكم ومن انهزم فهؤلاء المسلمون قد اوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب قال فأقبلت
الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق فبعضهم ركب جواجه عريانا وبعضهم راجل وساروا
في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن اوقفهم على الناقوصة وقال
لهم: هذه المخاضة دونكم وإياهم فاقبلوا يتساقطون في الماء كتساقط الجراد حتى هلك
في الماء ما لا يعد.
ولا يحصى عددا ولا يدركه جنان فسمتها العرب الناقوصة
لنقص الروم قال الواقدي: هذا ما جرى للروم ولا يعلم الأول بما جرى للآخر حتى
أصبحوا فنظروا المسلمين في أماكنهم فعلموا إنهم قد دهموا في الليل وقل عددهم وتبدد
شملهم فقال بعضهم لبعض من كان الصائح في ليلتنا قال الرجل الذي عبثتم بزوجته
وقتلتم ولده وقد أخذ بثاره منكم قال فلما أصبح ماهان وعلم الحقيقة وعلم ما نزل
بأصحابه علم إنه هالك لا محالة وأن العرب ظافرون عليه فبعث إلى قورين فقال: ما ترى
أن أصنع وقد ظهرت العرب علينا وأن حملوا علينا حملة لم ينفلت منا أحد فهل لك أن تسألهم
أن يأخروا القتال حتى نفعل الحيلة في خلاص أنفسنا قال قورين أفعل ذلك.
قال: فدعا ماهان برجل من لخم وبعثه إلى المسلمين يقول
لهم: اعلموا
أن الحرب سجال والدنيا زوال وقد مكرتم بنا فلا تبغوا فالبغي له مصرع واخروا الحرب
عنا يومنا هذا فإذا كان غد يكون الانفصال بيننا وبينكم قال فأقبل اللخمي إلى أبي
عبيدة وبلغه الرسالة فهم أبو عبيدة أن يجيبهم إلى ذلك فمنعه خالد من ذلك وقال له:
لا نفعل أيها الأمير فما عند القوم خير بعد ذلك فقال أبو عبيدة: ارجع إلى صاحبك
وقل له لا نؤخر عنك القتال وأنا على عجل من أمرنا فرجع الرسول إلى ماهان فأعلمه
بجواب أبي عبيدة فعظم عليه وكبر لديه وكفر وتجبر وقال لقد كنت أتربص بنفسي عن
العرب أرجو بذلك الصلح فوحق الصليب لا يبرز لهم غيري ثم صرخ بالروم وأصحاب سرير
الملك ومن كان يتكل عليه في الشدائد وأمرهم أن يأخذوا الأهبة فاستعدوا وخرج ماهان
في مقدمة الجيش والصليب أماه وإذا بالمسلمين أخذوا مصافهم للقتال وذلك أن أبا
عبيدة صلى بالمسلمين صلاة الفجر وأمرهم بالسرعة للقتال وأخذوا مواضعهم للحرب ففعلوا
وقد ايقنوا إنهم منصورون على عدوهم وصف أبو عبيدة أصحاب الرايات ووقف هو وخالد في
الخيل المعروفة بخيل الزحف وطلعت الشمس وخرج جرجير هو وبعض ملوك الروم ودعا
بالبراز وقال: لا يبرز لي إلا أمير العرب فسمعه أبو عبيدة فسلم الراية إلى خالد
وقال أنت للراية يا أبا سليمان فإن عدت من قتاله فالراية لي وأن هو قتلني فامسك
رايتك حتى يرى عمر رأيه فقال خالد:
أنا لقتاله دونك فقال أبو عبيدة: لا هو طلبني ولا بد لي
من الخروج إليه وأنت شريكي في الأجر فخرج أبو عبيدة وما أحد من المسلمين إلا وهو
كاره لذلك فأقبلوا يسألونه فلج في الخروج فتركوه ورأيه فلما قرب أبو عبيدة من
جرجير وعاينه قال له: أنت أمير هذا الجيش فقال أبو عبيدة: أنا ذلك وقد أجبتك إلى ما
طلبت من أمر البراز فدونك وعرض الميدان فأما هزمتكم أو قتلتك واقتل ماهان بعدك
فقال جرجير امة الصليب تغلبكم وحمل جرجير على أبي عبيدة وحمل أبو عبيدة على جرجير
وطال بينهما القتال وبقي خالد ينظر إلى أبي عبيدة ويدعو له بالسلامة والنصر وجميع
المسلمين يدعون له قال وفر جرجير أمام أبي عبيدة وأخذ في عرض الجيش وطلب في فراره
جيش المشركين في الميمنة وتبعه أبو عبيدة على أثره فعندها عطف عليه جرجير وخرج
كأنه البرق والتقيا بضربتين فكان أبو عبيدة أسبق فوقعت الضربة على عاتق جرجير
فخرجت من علائقه فكبر عند ذلك أبو عبيدة وكبر المسلمون ووقف أبو عبيدة على مصرع
جرجير وجعل يتعجب من عظم جثته ولم يأخذ من سلبه شيئا فناداه به خالد لله درك أيها
الأمير ارجع إلى رايتك فقد قضيت ما يجب عليك فلم يرجع أبو عبيدة فاقسم عليه
المسلمون أن يرجع فرجع وأخذ الراية من يد خالد ونظر ماهان إلى جرجير فعظم ذلك عليه
وكبر لديه لانه كان ركنا من أركانهم فهم بالهزيمة ثم قال في نفسه ماذا يكون عذري
عند هرقل ولا بد أن أبرز إلى الحرب فإن قتلت فقد.
استرحت من العار وأن سلمت كان لي عند الملك عذر أحسن من
أن أولي الأدبار ثم إنه أعلم رجاله إنه يريد المبارزة بنفسه وأخذ عدته ولبس زينته
وخرج كأنه جبل ذهب يلمع ثم جمع إليه البطارقة والقسوس والرهبان وقال لهم: أن الملك
هرقل كان أعلم منكم بهذا الأمر وانه أراد الصلح فخالفتموه فها أنا أبرز إليهم
بنفسي فتقدم إليه بطريق من بطارقة السرير وكان فيه نسك ودين وكان يعظم الكنائس والرهبان
ويتبع ما فرض عليه في الإنجيل وكان يقرب من جرجير في النسب فلما علم بقتله عظم
عليه وقال وحق الصليب لابرزن إلى المسلمين وآخذ بالثأر فاما أن الحق به واما أن
أقتل قاتله.
ثم قال ماهان قد تعين علي الجهاد وأنا أؤدي فرض المسيح
ولا بد لي من المبارزة قال فتركه ماهان فخرج وكان أسمه جرجيس وكان عليه درع وعلى
الدرع ثوب حديد متقلد بسيفه ومعه فنطارية وعوذته القسوس وبخروه ببخور الكنائس
واقبل إليه راهب عمورية وأعطاه صليبا كان في عنقه وقال هذا الصليب من أيام المسيح
يتوارثه الرهبان ويتمسحون به فهو ينصرك فأخذه جرجيس ونادى البراز بكلام عربي فصيح
حتى ظن الناس إنه عربي من المتنصرة فخرج إليه ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار فلما
قاربه ونظر إليه والى عظم جثته ندم على خروجه بالعدة التي أثقلته فقال في نفسه وما
عسى يغني هذا اللباس إذا حضر الأجل ثم رجع موليا فظن الناس إنه ولى فزعا فقال قائل
منهم أن ضرار قد انهزم من العلج وما ضبط عنه قط إنه انهزم وهو لا يكلم أحدا حتى
صار إلى خيمته ونزع ثيابه وبقي بالسراويل واخذ قوسه وتقلد بسيفه وجحفته وعاد إلى
الميدان كأنه الظبية الخمصاء فوجد مالكا النخعي قد سبقه إلى البطريق وكان مالك من
الخطاط إذا ركب الجواد تسحب رجلاه على الأرض فنظر ضرار فإذا بمالك ينادي العلج تقدم
يا عدو الله يا عابد الصليب إلى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب فلم يجبه العلج لما
داخله من الخوف منه قال: فجال عليه وهم أن يطعنه فلم يجد للطعنة مكانا لما عليه من
الحديد فقصد جواده وطعنه في خاصرته فأطلع السنان يلمع من الجانب الآخر فنفر الجواد
من حرارة الطعنة وهم مالك أن يخرج الرمح فلم يقدر لانه قد اشتبك في ضلوع الجواد
وهو على ظهره لم يقدر أن يتحرك لانه مزرر في ظهر الجواد بزنانير إلى سرجه فنظر المسلمون
إلى ضرار وقد أسرع إليه مثل الظبية حتى وصل إليه وضربه بسيفه على هامته فشطرها
نصفين واخذ سلبه فأتاه مالك وقال: ما هذا يا ضرار تشاركني في صيدي فقال: ما أنا
بشريكك وإنما أنا صاحب السلب وهو لي فقال مالك: أنا قتلت جواده فقال ضرار رب ساع
لقاعد آكل غير حامل فتبسم مالك وقال خذ صيدك هناك الله به قال ضرار انما أنا مازح
في كلامي خذه إليك فوالله ما أخذ منه شيئا وهو لك وأنت أحق به مني ثم انتزع سلب
العلج وحمله على عاتقه وما كاد أن يمشي به وهو يتصبب عرقا قال زهير بن عابد: ولقد
رايته وهو يسير به وهو راجل ومالك فارس حتى طرحه في رحل مالك فقال أبو عبيدة: بأبي
وأمي والله قوم وهبوا أنفسهم لله وما يريدون الدنيا قال فلما قتل البطريق قص جناح
ماهان فصاح بقومه وجمعهم إليه وقال لهم: اسمعوا يا أصحاب الملك وبلغوه عني إني ما تركت
جهدي في نصرة هذا الدين وحاميت عن الملك وقاتلت عن نعمته وما أقدر أن أغالب رب
السماء لانه قد نصر العرب علينا وملكهم بلدنا والآن مالي وجه ارجع به إلى الملك
حتى أخرج إلى الحرب وأبرز إلى مقام الطعن والضرب وعزمت أن أسلم الصليب إلى أحدكم
وأبرز إلى قتال المسلمين فإن قتلت فقد استرحت من العار ومن توبيخ الملك لي وأن
رزقت النصر وأثرت في المسلمين أثرا ورجعت سالما علم الملك إني لم أقصر عن نصرته
فقالوا: أيها الملك لا تخرج إلى الحرب حتى نخرج نحن إلى القتال قبلك فإذا قتلنا
فافعل بعدنا ما شئت قال فحلف ماهان بالكنائس الأربع لا يبرز أحد قبله قال فلما حلف
أمسكوا عنه وعن مراجعته ثم إنه دعا بابن له فدفع إليه الصليب وقال: قف مكاني وقدم
لماهان عدة فأفرغت عليه.
قال الواقدي: وبلغنا أن عدته التي خرج بها إلى الحرب
تقومت بستين ألف دينار لأن جميعها كان مرصعا بالجوهر فلما عزم على الخروج تقدم له
راهب من الرهبان فقال: أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلا ولا أحبه لك قال ولم
ذلك قال: لاني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز فقال ماهان لست أفعل والقتل أحب
الي من العار قال فبخروه وودعوه وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق
وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن
الوليد فقال هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج ووالله ما عندهم شيء من الخير قال
وماهان يرعب باسمه فخرج إليه غلام من الأوس وقال والله أنا مشتاق إلى الجنة وحمل
ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلى
الجنة قال أبو هريرة رضي الله عنه فنظرت إلى الغلام عندما سقط وهو يشير باصبعه نحو
السماء ولم يهله ما لحقه فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين قال: فجال
ماهان على مصرعه وقوي قلبه ودعا إلى البراز فسارع المسلمون إليه فكل يقول: اللهم
اجعل قتله على يدي وكان أول من برز مالك النخعي الاشتر رضي الله عنه وساواه في
الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له: أيها العلج الأغلف لا تغتر بمن قتلته
وإنما أشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه وما منا إلا من هو مشتاق إلى الجنة فإن أردت
مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فانت هالك لا
محالة فقال له ماهان: أنت صاحبي خالد بن الوليد قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول
الله ﷺ فقال ماهان: لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة
فاجتهدا في القتال فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكا على البيضة التي على رأسه
فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه فمن ذلك اليوم سمي بالاشتر قال: فلما رأى مالك ما
نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ثم فكر فيما عزم عليه فدبر نفسه وعلم أن الله
ناصره قال والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن إنه قتل مالكا وهو ينظره متى يقع عن
ظهر فرسه وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك استعن بالله يعينك على
قرينك قال مالك فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله ﷺ وضربته ضربة عظيمة فقطع
سيفي فيه قطعا غير موهن فعلمت أن الأجل حصين فلما احسن ماهان بالضربة ولى ودخل في
عسكره.
قال الواقدي: ولما ولى ماهان بين يدي مالك الاشتر منهزما
صاح خالد بالمسلمين يا أهل النصر والباس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ثم
حمل خالد ومن معه من جيشه وحمل كل الأمراء بمن معهم وتبعهم المسلمون بالتهليل
والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتى إذا غابت الشمس وأظلم الافق إنكشف الروم
منهزمين بين أيديهم وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا فقتلوا منهم زهاء من
مائة ألف وأسروا مثلها وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى وتفرق منهم في الجبال
والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون ويأتون من الجبال بالاسارى ولم
يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق الليل فقال أبو عبيدة: أتركهم إلى الصباح
فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والسرادقات وآنية الذهب والفضة
والزلازل والنمارق والطنافس.
قال الواقدي: ووكل أبو عبيدة رجالا من المسلمين بجمع
الغنائم وبات المسلمون فرحين بنصر الله حتى اصبحوا فإذا ليس للروم خبر ووقع أكثرهم
في الناقوصة في الليل.
قال عامر بن ياسر حدثني نوفل بن عدي عن جابر بن نصر عن حامد
بن مجيد قال أراد أبو عبيدة أن يحصى عدد المشركين فلم بقدر أن يحصي ذلك فأمر بقطع
القصب من الوادي وجعل على كل قتيل قصبة ثم عدوا القصب فإذا القتلى مائة ألف وخمسة
آلاف والاسارى أربعون الفا غير من غرق في الناقوصة وقتل من المسلمين أربعة آلاف
ووجد أبو عبيدة رؤوسا في اليرموك فلم يعلم أهم من العرب أم من الروم قال ثم إنه
صلى على قتلى المسلمين وسار في طلبهم إلى الجبال والأودية وإذا هم براع قد
استقبلهم فسألوه هل مر بك أحد من الروم قال: نعم مر بي بطريق ومعه زهاء من أربعين
ألفا.
قال الواقدي: وكان ذلك ماهان لعنه الله فاتبعهم خالد بن
الوليد وجعل يقفو أثرهم ومعه عسكر الزحف فأدركهم على دمشق ولما أشرف عليهم كبر
وكبر المسلمون وحملوا ووضعوا فيهم السيف فقتل مقتلة عظيمة وكان ماهان قد ترجل عن
جواده وقيل إنه ترجل ينكر نفسه ويسلم من القتل فأتاه رجل من المسلمين فحامى عن
نفسه فقتله الرجل وكان قاتله النعمان ابن جهلة الأزدري وعاصم بن خوال اليربوعي وقد
اختلفوا في أيهما قتل ماهان.
قال الواقدي: وخرج أهل دمشق إلى لقاء خالد وقالوا له:
نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم قال خالد: أنتم على عهدكم ومضى في طلب الروم
يقتلهم حيث وجوهم حتى انتهى إلى ثنية العقاب وأقام تحتها يوما ثم مضى إلى حمص ونزل
بها وبلغ ذلك أبا عبيدة فسار حتى لحق به فيمن معه قال والأمراء في طلب الروم من كل
جهة من الشام ثم اجتمعوا وعادوا إلى دمشق وجمع أبو عبيدة الغنائم واخرج منها الخمس
وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب البشارة والفتح بسم الله الرحمن الرحيم
وصلوات الله على نبيه المصطفى ورسوله المجتبي ﷺ من أبي عبيدة عامر بن الجراح أما
بعد فأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأشكره على ما أولانا من النعم وخصنا به من
كرمه ببركات بني الرحمة وشفيع الأمة ﷺ وأعلم يا أمير المؤمنين إني نزلت اليرموك ونزل
ماهان مقدم جيوش الروم بالقرب منا ولم ير المسلمون أكثر جمعا منه فأقصى الله تلك
الجموع ونصرنا عليهم بمنه وكرمه وفضله فقتلنا منهم زهاء من مائة ألف وخمسة آلاف
وأسرنا منهم أربعين ألفا واستشهد من المسلمين أربعة آلاف ختم الله لهم بالشهادة
ووجدت في المعركة رؤوسا مقطوعة لم أعرفها فصليت عليها ودفنتها وقتل ماهان على دمشق
قتله عاصم بن خوال وقد كان قبل وقعة الانفصال نصب عليهم رجل منهم يقال له أبو
الجعيد: من أهل حمص حيلة فالقاهم في موضع يقال له الناقوصة فغرق منهم ما لا يحصى
عددهم إلا الله تعالى وأما من قتل من المشركين في الأودية والجبال من المنهزمين
وغيرهم وأخذت عدتهم فتسعون الفا وقد ملكنا أموالهم وخيولهم وحصونهم وبلادهم وكتبنا
إليك هذا الكتاب بعد الفتح ونزلنا في دمشق والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلى جميع
المسلمين وطوى الكتاب وختمه ودعا بحذيفة بن اليمان ودفع الكتاب إليه وضم إليه عشرة
من المهاجرين والأنصار وقال لهم: سيروا بكتاب الفتح والبشرى إلى أمير المؤمنين
وبشروه بذلك وأجركم على الله فأخذ حذيفة الكتاب وسار هو والعشرة من وقتهم وساعتهم
يجدون السير ليلا ونهارا حتى قربوا من المدينة.
قال الواقدي: قال عبد الله بن عوف المالكي عن أبيه قال
لما هزم الله الروم في اليرموك وكان من أمرهم ما كان رأى عمر بن الخطاب ليلة هزيمة
الروم رسول الله صلى لله عليه وسلم جالسا في الروضة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله
عنه وكان عمر يسلم عليهما ويقول: يا رسول الله أن قلبي مشغول على المسلمين وما يصنع
الله بهم وقد بلغني أن الروم في ألف ألف وستين ألف فقال: يا عمر أبشر فقد فتح الله
على المسلمين وقد انهزم عدوهم وقتل كذا وكذا ثم تلا رسول الله ﷺ: {تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا
فَسَاداً} [القصص: 8] الآية قال فلما كان من الغد صلى عمر بالناس صلاة الفجر وأعلم
الناس بما رأى في منامه قال فاستبشر المسلمون وفرحوا وعلموا أن الشيطان لا يتمثل
بالنبي ﷺ وأرخوا تلك الليلة فكانت كما ذكره النبي ﷺ فسجد عمر لله شكرا ووصله
الكتاب فقرأه عمر على الناس فارتفعت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والصلاة على
البشير النذير ثم قال: يا حذيفة فهل قسم أبو عبيدة الغنائم فقال: يا أمير المؤمنين
هو منتظر كتابك وأمرك فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام سلام عليك أما
بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد ﷺ وقد فرحت بما فتح
الله على المسلمين من نصرتهم وانهزام عدوهم فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقسم الغنيمة
بين المسلمين وفضل أهل السبق وأعط كل ذي حق حقه واحفظ المسلمين واكلأهم واشكرهم
على صبرهم وفعالهم وأقم بموضعك حتى يأتيك أمري والسلام عليك وعلى جميع المسلمين
ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه لحذيفة ابن اليمان فأخذه حذيفة وسار حتى ورد
على أبي عبيدة فوجده على دمشق فسلم عليه وعلى المسلمين وناوله الكتاب فلما قرأه
على المسلمين قسم الغنائم فاصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر والراجل
ثمانية آلاف وكذلك من الفضة وأعطى الفرس الهجين سهما والفرس العتيق سهمين وألحق
القادمين على الخيل بالعراب فلما فعل أبو عبيدة ذلك قال أصحاب الحمر الحقنا
بالعراب فقال أبو عبيدة: إني قسمت عليكم بما قسم النبي ﷺ الغنيمة بين أصحابه فلم
يقبلوا قوله فكتب إلى عمر بذلك يعلمه باختلاف الناس في الخيل والهجين والعراب فكتب
إليه عمر يقول: أما بعد فقد عملت بسنة رسول الله ﷺ ولم تتعد حكمه فاعظ الفرس
العربي سهمين والهجين سهما واعلم أن رسول الله ﷺ عرب العربين وهجن الهجين يوم خيبر
فجعل للهجين سهما وللعربي سهمين فلما ورد الكتاب على أبي عبيدة وقرأه على المسلمين
قال: ما أراد أبو عبيدة أن يحقر رجلا منكم ولكن تبعت سنة رسول الله ﷺ.
قال الواقدي:
فلما قسم أبو عبيدة الغنائم على المسلمين قال له خالد بن
الوليد: إن رجلا من المسلمين تشفع بي إليك أن تلحق فرسه الهجين بفرسه العتيق
العربي وتعطيه سهمين فابى أبو عبيدة وقال والله أن سف التراب أحب الي من ذلك وروى
عثمان أن ابن الزبير قال شهدت جدي الزبير بن العوام يوم اليرموك ومعه فرسان يتعقب عليهما
للقتال يركب هذا يوما وهذا يوما فلما كان وقت قسم الغنائم أعطاه أبو عبيدة ثلاثة
أسهم له سهم ولفرسه سهمان فقال الزبير أما تصنع بي كما صنع بي رسول الله ﷺ يوم
خيبر كان معي فرسان فأسهمني رسول الله ﷺ يوم خيبر خمسة أسهم لفرسي أربعة وأعطاني
سهما وقال المقداد ابن عمرو كنت أنا وأنت يوم بدر ومعنا فرسان لا غيرهما فأعطى
رسول الله ﷺ سهمين سهمين للفرسين قال أبو عبيدة: إنك لصادق يا مقداد أنا أتبع فعل
رسول الله ﷺ وأعطي الزبير وأقبل جابر بن عبد الله الأنصاري فشهد عند أبي عبيدة أن
رسول الله ﷺ أعطى الزبير يوم خيبر خمسة أسهم فلما فعل ذلك أتى رجال من رجال العرب
لكل واحد منهم أربعة أفراس وخمسة أفراس فقالوا: الحقنا بالزبير قال فاستأذن عمر في
ذلك فقال صدق الزبير أن رسول الله ﷺ اعطاه يوم خيبر خمسة أسهم فلا تعط غيره مثله.
وروى عروة عن أبي الزبير قال لقي الزبير غلاما كان قد
وقع بيده يوم غنيمة عمان فهرب منه فلما كان يوم اليرموك قبل قسم الغنائم عرفه فقبض
عليه وأخذ بيده فقال له الموكل على حفظ الغنيمة: لست أدعك فبينما هما في المحاورة
إذ أقبل أبو عبيد فقال: ما بالكما فقال الزبير أيها الأمير هذا غلامي وصل إلي من
غنيمة عمان وهرب مني وقد رأيته الآن فلا بد لي منه فقال أبو عبيدة: صدق ابن عمه
رسول الله ﷺ هو له وأنا سلمته له من غنيمة عمان فسلمه إليه فاخذه الزبير قال زيد
المرادي هربت منا جارية إلى العدو وظفرنا بها يوم اليرموك في قسم الغنائم فكلمنا
أبا عبيدة فيها فكتب إلى عمر فرد إليه الجواب أن كانت جارية حربية ففيها السهام
وإلا فلا سبيل إليها وأن كانت لم تجر فيها السهام فردوها فكان القوم لا يرضون بهذا
من ابي عبيدة فقال أبو عبيدة: والله الذي لا إله إلا هو هذا كتاب أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب يحكم بما أمرتكم فقبل قوله ودفع الجارية إلى القسم.
قال الواقدي: حدثني لؤي بن عبد ربه عن سالم مولى حذيفة
بن اليمان عن القاسط بن سلمة بن عدي بن عاصم عمن حدثه عن فتوح الشام قال لما هزم
الله الروم باليرموك على يد أصحاب رسول الله ﷺ وبلغ الخبر إلى هرقل بهزيمة جيشه
وقد قتل ماهان وجرجير وغيرهما قال علمت أن الأمر يصل إلى هنا ثم اقام ينتظر ما يجري
من المسلمين.
ذكر فتح مدينة بيت المقدس
قال الواقدي:
واما ما كان من المسلمين فانهم اقاموا على دمشق شهرا
فجمع أبو عبيدة امراء المسلمين وقال لهم: أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه فاتفق
رأي المسلمين أما إلى قيسارية وأما إلى بيت المقدس فقال فما الذي ترون منهما
فقالوا: أنت الرجل الأمين وما تسير إلى موضع إلا ونحن معك فقال معاذ بن جبل اكتب
إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فحيث أمرك فسر واستعن بالله فقال أصبت الرأي يا
معاذ فكتب إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يعلمه إنه قد عزم على قيسارية أو إلى
بيت المقدس وانه منتظر ما يأمره به والسلام وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي
وأمره بالمسير فسار حتى وصل المدينة فأرسل الكتاب لعمر رضي الله عنه فقرأه على المسلمين
واستشارهم في الأمر فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين مر صاحبك أن يصير إلى
بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره وإذا فتحت بيت المقدس
فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعد أن شاء الله تعالى كذا أخبرني رسول الله ﷺ
قال صدقت يا أبا الحسن فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن
الخطاب إلى عامله بالشام ابي عبيدة أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي
على نبيه وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها وقد اشار ابن
عم رسول الله ﷺ بالسير إلى بيت المقدس فإن الله سبحانه وتعالى يفتحها على يديك
والسلام عليك ثم طوى الكتاب ودفعه إلى عرفجة وأمره أن يعجل بالمسير فسار حتى قدم
على على أبي عبيدة فوجده على الجابية فدفع الكتاب إليه فقرأ على المسلمين ففرحوا
بمسيرهم إلى بيت المقدس فعندها دعا أبو عبيدة بخالد بن الوليد وعقد له راية وضم
إليه خمسة آلاف فارس من خيل الزحف وسرحه إلى بيت المقدس ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان
وعقد له راية على خمسة آلاف وأمره أن يلحق بخالد إلى بيت المقدس وقال له: يا ابن
أبي سفيان ما علمتك إلا ناصحا فإذا أشرفت على بلد ايلياء فارفعوا أصواتكم بالتهليل
والتكبير واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها
على أيدي المسلمين فأخذ يزيد الراية وسار يريد بيت المقدس فسار ثم دعا شرحبيل بن
حسنة كاتب وحي النبي ﷺ وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن وقال
له: سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس وانزل بعسكرك عليها ولا تختلط بعسكر من تقدم
قبلك ثم دعا بالمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع
من المسلمين وسرحه على أثر شرحبيل ابن حسنة وقال له: انزل على حصنها وانت منعزل عن
أصحابك ثم عقد راية خامسة فسلمها للمسيب ابن نجية الفزاري وأمره أن يلحق بأصحابه
وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل وعقد راية سادسة وسلمها إلى
قيس بن هبيرة المرادي وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءه ثم عقد راية سابعة
وسلمها إلى عروة بن مهلهل بن يزيد الخيل وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم
فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين الفا وسارت السبعة أمراء
في سبعة أيام في كل يوم أمير وذلك كله يرهب به اعداء الله فبقي كل يوم ينزل عليهم
أمير بجيشه.
فكان أول من طلع عليهم بالراية خالد بن الوليد فلما أشرف
عليهم كبر وكبر أصحابه فلما سمع أهل بيت المقدس ضجيج اصواتهم انزعجوا وتزعزعت
قلوبهم وصعدوا على أسوار بلدهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين استحقروهم وظنوا أن
ذلك جميع المسلمين فنزل خالد ومن معه مما يلي باب أريحاء واقبل في اليوم الثاني
يزيد بن أبي سفيان وفي اليوم الثالث شرحبيل بن حسنة وأقبل في اليوم الرابع المرقال
وأقبل في اليوم الخامس المسيب بن نجيبة وأقبل في اليوم السادس قيس بن هبيرة فنزل
وأقبل في اليوم السابع عروة بن مهلهل بن زيد الخيل فنزل مما يلي طريق الرملة قال
عبد الله بن عامر بن ربيعة الغطفاني ما نزل أحد من المسلمين علىبيت المقدس إلا
وكبر وصلى ما قدره الله عليه ودعا بالنصر والظفر على الأعداء ويقال أن خالدا كان هو
وأبو عبيدة قال فلما مضى العسكر قام أبو عبيدة وخالد وبقية المسلمين والذراري
والسواد والغنم وما أفاء الله على المسلمين من المواشي والأموال فلم يبرحوا من
مكانهم قال واقام العسكر على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب ولا ينظرون
رسولا يأتي إليهم ولا يكلمهم أحد من أهلها إلا إنهم قد حصنوا أسوارهم بالمجانيق
والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة قال المسيب بن نجية الفزاري ما
نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس وما نزلنا
بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل بيت المقدس نزلنا
بازائهم ثلاثة أيام فلم يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم
كاملة فلما كان في اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة أيها الأمير
كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون ازحفوا بنا إليهم
فلما كان في اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين
من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان فشهر سلاحه وجعل يدنو من سورهم
وقد أخذ معه ترجمانا يبلغه عنهم ما يقولون فوقف بازاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم
صامتون.
فقال لترجمانه قل: لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون
فيإجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد
رسول الله حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم وأن أبيتم ولم
تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما صالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة واشد منكم وأن
أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار قال فتقدم الترجمان
إليهم وقال لهم: من المخاطب عنكم فكلمه قس من القساوسة عليه مدارع الشعر وقال أنا
المخاطب عنهم ماذا تريد فقال الترجمان أن هذا الأمير يقول: كذا وكذا ويدعوكم إلى
أحدى هذه الخصال الثلاث أما الدخول في الإسلام او اداء الجزية واما السيف قال فبلغ
القس من وراءه ما قال الترجمان قال فضجوا بكلمة كفرهم وقالوا: لا نرجع عن دين العز
والقبول وأن قتلنا اهون علينا من ذلك فبلغ الترجمان ذلك ليزيد قال فمشى إلى
الأمراء وأخبرهم بجواب القوم قال لهم: ما انتظاركم بهم فقالوا: إن الأمير أبا
عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم ولكن نكتب إلى أمين الأمة
فإن امرنا بالزحف زحفنا فكتب يزيد بن ابي سفيان إلى ابي عبيدة يعلمه بما كان من
جواب القوم فما الذي تأمر فكتب إليهم أبو عبيدة يأمر بالزحف وانه وأصل في أثر
الكتاب فلما وقف المسلمون على كتاب ابي عبيدة فرحوا واستبشروا وباتوا ينتظرون
الصباح.
قال الواقدي: ولقد بلغني أن المسلمين باتوا تلك الليلة
كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس وكل أمير يريد
أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء قال فلما أضاء
الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر قال فقرأ يزيد لأصحابه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} [المائدة: 2]
الآية فيقال أن الأمراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرأوا هذه الآية
كأنهم على ميعاد واحد فلما فرغوا من الصلاة نادوا النفير النفير يا خيل الله اركبي
قال فأول من برز للقتال حمير ورجال اليمن وبرز المسلمون للحرب كأنهم أسود ضارية
ونظر إليهم أهل بيت المقدس وقد انشرحوا لقتالهم فنشطهم ورشقوا المسلمين بالنشاب
فكانت كالجراد فجعل المسلمون يتلقونها بدرقهم فلم تزل الحرب بينهم من الغد إلى
الغروب يقاتلون قتالا شديدا ولم يظهروا فزعا ولا رعبا ولم يطمعوهم في بلدهم فلما
غربت الشمس رجع الناس وصلى المسلمون ما فرض الله عليهم وأخذوا في اصلاح شأنهم وعشائهم
فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران واستكثروا منها لأن الحطب عندهم كثير فبقي قوم
يصلون وقوم يقرأون وقوم يتضرعون وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل فلما كان
الغد بادر المسلمون إليهم وذكروا الله كثيرا وأثنو عليه وصلوا على رسول الله ﷺ
وتقدمت رماة النبل وأقبلوا يرمون ويذكرون الله وهم يضجون إلى الله بالدعاء.
قال الواقدي: ولم يزل المسلمون على القتال عدة أيام وأهل
بيت المقدس يظهرون الفرح وانه ليس على قلوبهم من هم ولا جزع فلما كان اليوم الحادي
عشر أشرفت عليهم راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها فرسان المسلمين
وابطال الموحدين وقد أحدقوا بأبي عبيدة وخالد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن
يساره وجاءت النسوان والأموال وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير فاجابتهم
القبائل ووقع الرعب في قلوب أهل بيت المقدس فانقلب كبارهم وعظماؤهم وبطارقتهم إلى
البيعة العظمى عندهم وهي الغمامة فلما وقفوا بين يدي جئليقهم وكانوا يعظمونه ويبجلونه
فلما سمعوا تلك الضجة دخلوا عليه ووقفوا بين يديه وخضعوا له وقالوا: يا ابانا قد
قدم أمير القوم إلينا ومعه بقية المسلمين وهذه الضجة بسببه فلما سمع بتركهم
وجائليقهم تغير لونه وتغير وجهه وقال هي هي قالوا: ما ذلك أيها البترك والاب الكبير قال
وحق الإنجيل أن كان قدم اميرهم فقد دنا هلاككم والسلام قالوا: وكيف ذلك قال: لانا
نجد في العلم الذي ورثناه عن المتقدمين أن الذي يفتح الأرض في الطول والعرض هو
الرجل الاسمر الأحور المسمى بعمر صاحب نبيهم محمد فإن كان قد قدم فلا سبيل لقتاله
ولا طاقة لكم بنزاله ولا بد لي أن اشرف عليه وانظر إليه والى صورته فإن كان إياه
عمدت إلى مصالحته واجبته إلى ما يريد وأن كان غيره فلا نسلم إليه قط لأن مدينتنا لا
تفتح إلا على يد من ذكرته لكم والسلام ثم إنه وثب قائما والقسوس والرهبان
والشمامسة من حوله وقد رفعوا الصلبان على رأسه وفتحوا الإنجيل بين يديه ودارت
البطارقة من حوله وصعد على الصور من الجهة التي فيها أبو عبيدة فنظر إلى المسلمين
وهم يسلمون عليه ويعظمونه ثم يرجعون إلى القتال كأنهم الاسد الضارية فناداهم رجل
ممن كان يمشي بين يدي البترك فقال: يا معاشر المسلمين كفوا عن القتال حتى نستخبركم
ونسألكم قال فأمسك الناس عن القتال فناداهم رجل من الروم بلسان عربي فصيح اعلموا
أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا فإن كان هو أميركم فلا
نقاتلكم بل نسلم إليكم وأن لم يكن إياه فلا نسلم إليكم أبدا.
قال الواقدي: فلما سمع المسلمون ذلك أقبل نفر منهم إلى
ابي عبيدة وحدثه بما سمعوه قال فخرج أبو عبيدة إليهم إلى أن حاذاهم فنظر البترك
إليه وقال ليس هو هذا الرجل فابشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم فلما سمعوا
قوله رفعوا أصواتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وأقبلوا يقاتلون القتال الشديد وعاد
البترك إلى القمامة ولم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة بل أمر قومه بالحرب والقتال
وعاد أبو عبيدة إلى أصحابه فقال خالد: ما كان منك أيها الأمير فقال: لا علم لي غير
إني خرجت إليهم كما رايت وأشرفت علي شيطان من شياطينهم الذي يضلهم فما هو غير أن
نظر لي وتاملني حتى ضجوا ضجة واحدة وولى عني ولم يكلمني فقال خالد: يوشك أن يكون لهم
في ذلك تأويل ورأي فنقف عليه ونعلم نبأه ثم قال شدوا عليهم الحرب والقتال فشد
عليهم المسلمون.
قال الواقدي: وكان نزول المسلمين على بيت المقدس في أيام
الشتاء والبرد وظنت الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت قال: وزحف
المسلمون إليهم وبرزت النبالة من أهل اليمن وصمم أصحاب القسي ورشقوهم بالنبل
وكانوا غير محترزين من النبل لقلة أكتراثهم به حتى رأوا النبل ينكسهم على رؤوسهم
من وراء ظهورهم وهم لا يشعرون قال مهلهل لله در عرب اليمن فلقد رأيتهم يرمون
بالنبل الروم فيتهافتون من سورهم كالغنم فلما رأوا ما صنع بهم النبل احترزوا منه
وستروا السور بالحجف والجلود وبما يرد النبل قال ونظرت الروم إلى ضرار بن الأزور
وقد اقبل نحو الباب الأعظم وعليه بطريق كبير وعلى رأسه صليب من الجوهر وحوله غلمان
وعليهم الطوارق وبأيديهم القسي الموترة والعمد وهو يحرص القوم على القتال قال عوف
بن مهلهل إلى ضرار وقد قصد نحوه وهو يختفي ويستتر إلى أن قرب من البرج الذي عليه
البطريق ثم أطلق إليه نبلة قال عوف فنظرت الىالنبلة مع علو هذا الجدار وقد خرجت من
قوس ضرار والبرج عال رفيع فقلت: وما تكون هذه النبلة مع علو هذا الجدار وما الذي
تصنع في هذا العلج وعليه هذه اللامة اللامعة فاقسم بالله لقد وقعت هذه النبلة في
فيه فتردى إلى أسفل برجة فسمعت للقوم ضجة عظيمة ورجولة هائلة فعلمت إنه قتل قال
ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة وما من يوم إلا ويقاتلهم
قتالا شديدا والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر فلما نظر أهل بيت المقدس
إلى شدة الحصار وما نزل بهم من المسلمين قصدوا القمامة ووقفوا بين يدي بتركهم وسجدوا
بين يديه وعظموه وقالوا له: يا ابانا قد دار علينا حصار هؤلاء العرب ورجونا أن
يأتينا مدد من قبل الملك ولا شك إنه اشتغل عنا بنفسه من أجل هزيمة جيشه وإنهم أشهى
منا للقتال وإنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا
منا لهم والآن قد عظم علينا الأمر وأنا نريد منك أن تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما
الذي يريدون منا فإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون وأن كان صعبا
فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فاما أن نقتل عن آخرنا واما أن نهزمهم عنا فأجابهم
البترك إلى ذلك واشتمل بلباسه وصعد معهم على السور وحمل الصليب بين يديه واجتمع
القسوس والرهبان حوله وبايديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى اشرف على المكان الذي فيه
أبو عبيدة فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية يا معاشر العرب أن عمدة دين
النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم فأخبروا أبا عبيدة
بمقالهم فقال والله إني لاجيبه حيث دعاني ثم قام أبو عبيدة وجماعة من الأمراء
والصحابة ومعه ترجمان فلما وقف بازائه قال لهم الترجمان: ما الذي تريدون منا في
هذه البلدة المقدسة ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه فأخبره الترجمان بذلك
فقال قل لهم: نعم إنها شريفة ومنها أسرى بنبينا إلى السماء ودنا من ربه كقاب قوسين
أو أدنى وإنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها أو
يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها قال البترك فما الذي تريدون منا قال أبو عبيدة:
خصلة من ثلاث أولها أن تقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا قال البترك إنها كلمة
عظيمة ونحن قائلوها إلا أن نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول قال أبو عبيدة: كذبت يا
عدو الله إنك لم توحد قط وقد أخبرنا الله في كتابه إنكم تقولون: المسيح ابن الله
لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال: البترك هذه خصلة
لا نجيبكم إليها فما الخصلة الثانية فقال أبو عبيدة: تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون
الجزية إلينا عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام.
قال البترك: هذه الخصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا
بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا فقال أبو عبيدة: ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا
الله بكم ونستعبد أولادكم ونساءكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة
الكفر فقال البترك: فأنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا وكيف نسلمها وقد
استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم
من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية فإنهم قوم غضب عليهم المسيح فأدخلهم تحت
طاعتكم ونحن في بلد من إذا سأل المسيح ودعاه أجاب دعوته فقال أبو عبيدة: كذبت
والله يا عدو الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 7] فقال: أنا
أقسم بالمسيح إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبدا وإنما تفتح لرجل
صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبدا فقال أبو عبيدة: وما صفة من
يفتح مدينتكم قال البترك: لا نخبركم بصفته لكن نجد في كتبنا وما قرأناه من علمنا
إنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر يعرف بالفاروق وهو رجل شديد لا تأخذه في
الله لومة لائم ولسنا نرى صفته فيكم قال: فلما سمع أبو عبيدة ذلك من كلام البترك
تبسم ضاحكا وقال فتحنا البلد ورب الكعبة ثم أقبل عليه وقال له: إذا رأيت الرجل
تعرفه قال: نعم وكيف لا أعرفه وصفته عندي وعدد سنينه وأيامه قال أبو عبيدة: هو
والله خليفتنا وصاحب نبينا فقال البترك أن كان الأمر كما ذكرت فقد علمت صدق قولنا
فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك يأت فإذا رأيناه وتبيناه وعرفنا صفته ونعته فتحنا له
البلد من غير هم ولا نكد وأعطينا الجزية فقال أبو عبيدة: فاني أبعث إليه بأن يقوم
علينا أفتحبونا القتال أم نكف عنكم فقال البترك معاشر العرب إلا تدعون بغيكم
أنخبركم باننا قد صدقناكم في الكلام طلبا لحقن الدماء وانتم تأبون إلا القتال قال
أبو عبيدة: نعم لأن ذلك اشهى إلينا من الحياة نرجو به العفو والغفران من ربنا قال
فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم وانصرف البترك.
قال الواقدي: فجمع أبو عبيدة الأمراء والمسلمين إليه
وأخبرهم بما قال البترك فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: افعل
أيها الأمير واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا ويفتح هذا البلد علينا
فقال شرحبيل بن حسنة اصبر حتى نقول لهم أن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا
إليه فتحوا الباب وكفينا التعب وكان خالد اشبه الناس بعمر بن الخطاب رضي الله عنه
فلما أصبح الصباح قال له الترجمان: قد جاء الخليفة وكان قد قال أبو عبيدة لخالد:
فركبوا جميعا وقالوا: قد جاء الرجل الذي تطلبونه فعرفوا البترك فأقبل إلى أن وقف
على السور وقال له: قل له: يتقدم بحيث نراه عيانا فتقدم خالد فتبينه وقال وحق
المسيح كأنه هو ولكن باقي العلامات ما هي فيه فبحق دينك من أنت فقال أنا من بعض
أصحابه فقال البترك يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم وحق المسيح لئن لم نر
الرجل الموصوف ما نفتح لكم ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة ثم
ولى ولم يتكلم فقال المسلمون عند ذلك اكتبوا إلى أمير المؤمنين وعرفوه بذلك فعسى
أن يأتي ويتشرف بهذه البقعة فكتب أبو عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن
الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح
أما بعد السلام عليك فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ
وأعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لاهل مدينة ايلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم
نقاتلهم ويقاتلوننا ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار إلا
إنهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه
اشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه وقال إنهم يجدون في كتبهم إنه لا يفتح بلدهم إلا
صاحب نبينا واسمه عمر وانه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم وقد سألنا حقن
الدماء فسر إلينا بنفسك وانجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك ثم
إنه طوى الكتاب وختمه وقال: يا معاشر المسلمين من ينطلق بكتابي هذا وأجره على الله
فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي وقال أنا أكون الرسول وأرجع مع عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن شاء الله تعالى.
قال أبو عبيدة: فخذ الكتاب بارك الله فيك فأخذه ميسرة
واستوى على ناقة له كوماء ولم يزل سائرا إلى أن دخل المدينة فدخلها ليلا وقال
والله لا نزلت عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها ودخل المسجد
وسلم على قبر رسول الله ﷺ وعلى قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أتى مكانا في
المسجد فنام وكان له ليال عدة لم ينم فأخذته عيناه فما استيقظ إلا على أذان عمر
وكان يغلس في الأذان فلما أذن دخل المسجد وهو يقول: الصلاة رحمكم الله قال ميسرة
فقمت وتوضأت وصليت خلف عمر صلاة الفجر فلما انحرف عن محرابه قمت إليه وسلمت عليه
فلما نظر الي صافحني واستبشر وقال ميسرة ورب الكعبة ثم قال: ما وراءك يا ابن مسروق
قلت: الخير
والسلامة يا أمير المؤمنين ثم ناولته الكتاب فقراه على المسلمين فاستبشروا به
فقال: ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة فكان أول من تكلم عثمان بن عفان
رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أن الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر
المسلمين عليهم وقد حاصر أصحابنا مدينا ايلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون
ذلا وضعفا ورعبا فإن أنت اقمت ولم تسر إليهم رأوا إنك بأمرهم مستخف ولقتالهم
مستحقر فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية فلما سمع عمر
ذلك من مقال عثمان جزاه خيرا وقال هل عند أحد منكم رأي غير هذا فقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه نعم عندي غير هذا الرأي وأنا ابديه لك رحمك الله فقال عمر وما
هو يا أبا الحسن قال أن القوم قد سألوك وفي سوالهم ذلك فتح للمسلمين وقد اصاب
المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام وإني ارى إنك أن سرت إليهم فتح الله
هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد
وصعود جبل حتى تقدم إليهم فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية
والصلاح والفتح ولست آمن أن يياسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من
بلادهم وطاغيتهم فيدخل فلا يتخلفون عنه والصواب أن تسير إليهم أن شاء الله تعالى
قال ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي رضي الله عنه وقال: لقد أحسن عثمان النظر في
المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا ولست أخذ إلا بمشورة
علي فما عرفناه إلا محمود المشورة ميمون الغرة ثم أن عمر رضي الله عنه أمر الناس
بأخذ الأهبة للمسير معه والاستعداد فأسرع المسلمون إلى ذلك واستعدوا وتأهبوا وأمر
عمر أن يكونوا خارج المدينة ففعلوا ذلك وأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات ثم
قام إلى قبر رسول الله ﷺ فسلم عليهم وعلى ابي بكر رضي الله عنه واستخلف على
المدينة علي بن أبي طالب وخرج من المدينة وأهلها يشيعونه ويودعونه.
قال الواقدي: وخرج عمر من المدينة وهو على بعير له أحمر
وعليه غرارتان في أحداهما سويق وفي الأخرى تمر وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه
جفنة للزاد وخرج ومعه جماعة من الصحابة قد شهدوا اليرموك وعادوا إلى المدينة منهم الزبير
وعبادة بن الصامت وسار عمر نحو بيت المقدس فكان إذ نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي
الصبح فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وقال الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام
واكرمنا بالإيمان وخصنا بنبيه عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة وجمعنا بعد
الشتات على كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده
وجعلنا اخوانا متحابين فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن
الظاهرة فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين فيما لديه ويتم نعمته على الشاكرين ثم
يأخذ الجفنة فيملؤها سويقا ويصف التمر حولها ويقرب للمسلمين ويقول: كلوا هنيئا
مريئا فياكل ويأكل المسلمون معه ثم يرحل فلم يزل كذلك في مسيره قال عمرو بن مالك العبسي
كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمر على ماء لجذام وعليه طائفة منهم نزول
والماء يدعى ذات المنار فنزل بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله ﷺ
حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين أن عندنا رجلا له أمرأتان
وهما أختان لاب وأم قال فغضب عمر وقال علي به فاتى بالرجل إليه فقال له عمر: ما
هاتان المرأتان قال الرجل زوجتاي قال فهل بينهما قرابة قال: نعم هما اختان قال عمر
فما دينك ألست مسلما قال بلى قال عمر وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في
كتابه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:
2] فقال الرجل ما علمت وما هما علي حرام فغضب عمر وقال كذبت والله إنه لحرام عليك ولتخلين
سبيل أحداهما وإلا ضربت عنقك قال الرجل افتحكم علي قال: أي والله الذي لا إله إلا
هو فقال الرجل أن هذادين ما اصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه قال عمر
ادن مني فدنا منه فخفق راسه بالدرة خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو
نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه خل يا ويلك سبيل
أحداهما وإلا جلدتك جلدة المفثري فقال الرجل كيف اصنع بهما وإني أحبهما ولكن اقرع
بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وأن كنت لهما جميعا محبا فأمر عمر
فاقترع فوقعت القرعة على أحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية ثم أقبل عليه عمر وقال
له: اسمع يا ذا الرجل وع ما أقول لك إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك
أن تفارق الإسلام وإياك يبلغني أن قد اصبت أخت أمرأتك التي فارقتها فانك أن فعلت
ذلك رجمتك.
قال الواقدي: وسار عمر حتى مر على حي من بني مرة فإذا
بقوم منهم قد أقاموا في الشمس يعذبون فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون فقيل
عليهم خراج فهم يعذبون قال فما يقولون قال يقولون ما نجد نؤدي فقال عمر دعوهم ولا
تكلفوهم ما لا يطيقون فاني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تعذبوا الناس في
الدنيا يعذبكم الله يوم القيامة" فخلى سبيلهم ثم سار حتى إذا كان بواد القرى
أخبروه أن شيخا على الماء وله صديق يوده فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك
نصيبا وأكفيك رعي أبلك والقيام عليها ولي فيها يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة قال
له الشيخ: قد فعلت ذلك ورضي فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال ويلكما ما
دينكما قالا الإسلام قال عمر فما الذي بلغني عنكما قالا وما هو فأخبرهما عمر بما
سمعه من العرب فقال الشيخ قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فقال عمر أما علمتما أن ذلك
حرام في دين الإسلام قالا لا والله ما علمنا ذلك فقال عمر للشيخ وما دعاك أن صنعت
هذا القبيح قال أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به ولاأتكل عليه فقلت: يا هذا
أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وأنا أجعل لك نصيبا في امرأتي والآن علمت
إنه حرام فلا أفعله فقال لي عمر خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها ثم قال للشاب
إياك أن تقرب منها فإنه أن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر يريد بيت المقدس حتى
دنا من أول الشام وأشرف عليه قال أسلم ابن برقان مولى عمر فلما أشرفنا على الشام
واشرف عليه المسلمون نظرنا إلى طائفة من خيل المسلمين فقال عمر للزبير اسرع وانتظر
ما هذه الخيل فأسرع الزبير إليها فلما قرب منها وإذا هي خيل من اليمن قد بعث بها
أبو عبيدة يأخذون له خبر عمر رضي الله عنه قال الزبير فسلموا علي وقالوا: يا فتى
من أين أقبلت فقلت: من مدينة رسول الله ﷺ قالوا: كيف خلفت أهلها قلت بخير قالوا:
فما فعل عمر هل قدم علينا أم قال الزبير من أنتم قالوا: نحن من عرب اليمن قد وجهنا
أبو عبيدة لنأخذ له خبر عمر قال فرجع الزبير إلى عمر وحدثه قال أصبت يا أبا عبد
الله فاقبل علينا جمع آخر فسلموا علينا وسألونا عن عمر فقال لهم: ها أنا عمر فما
تريدون قالوا: يا أمير المؤمنين قد ذرفت العيون وطالت الأعناق بطول قدومك فلعل
الله أن يفتح بيت المقدس على يدك.
قال الواقدي: ثم رجعوا على اعقابهم حتى أشرفوا على عسكر
المسلمين وابي عبيدة ونادوا بأصواتهم أبشروا يا مسلمون بقدوم عمر قال فأرتج الناس
وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم فقال لهم أبو عبيدة: عزيمة على كل رجل أن لا
يخرج من مركزه ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار حتى أشرف بمن معه
على عمر قال ونظر عمر إلى أبي عبيدة وهو لابس سلاحه متنكب قوسه وهو راكب على قلوصه
مغطى بعباءة قطوانية وخطام قلوصة من شعر فلما نظر أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه
أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره وترجل كلاهما ومد أبو عبيدة يده فصافح عمر وتعانقا
جميعا وسلم بعضهما على بعض واقبل المسلمون يسلمون على عمر ثم ركبا جميعا وجعلا
يسيران أمام الناس وهما يتحادثان ولم يزالا كذلك حتى نزلا ببيت المقدس فلما نزل
صلى عمر رضي الله عنه بالمسلمين صلاة الفجر ثم خطبهم خطبة حسنة فقال في خطبته
الحمد لله الحميد المجيد القوي الشديد الفعال لما يريد ثم قال أن الله تعالى قد
أكرمنا بالإسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام وازاح عنا الضلالة وجمعنا
بها الفرقة والف بين قلوبنا من بعد البغضاء فاحمدوه على هذه النعمة تستوجبوا منه
المزيد فقد قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] ثم قرأ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} قال
فلما تلا عمر ذلك قام قس من النصارى كان حاضرا بين يديه فقال أن الله لا يضل أحدا
فلما كررها قال عمر انظروا أن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه فعرف القس ما قال عمر
فأمسك ومضي عمر في خطبته فقال:
أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله عز وجل الذي يبقي ويغني
كل شيء سواه الذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يفني أعداءه أيها الناس أدوا زكاة
أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورا أفهموا ما
توعظون به فإن الكيس من احرز دينه وأن السعيد من اتعظ بغيره إلا أن شر الأمور
مبتدعاتها وعليكم بالسنة سنة نبيكم ﷺ فالزموها فإن الاقتصاد في السنة خير من
الاجتهاد في البدعة والزموا القرآن فإن فيه الشفاء والثواب أيها الناس إنه قام
فينا رسول الله ﷺ كقيامي فيكم وقال الزموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يظهر الكذب حتى يشهد من لم يستشهد ويحلف من لم يحلف فمن أراد بحبوحة الجنة
فليلزم الجماعة وتعوذوا من الشيطان ولا يخلون أحد منكم بامرأة فانهن من حبائل
الشيطان ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن والصلاة الصلاة فلما فرغ من خطبته
جلس فجعل أبو عبيدة يحدثه بما لقي من الروم وعمر باهت فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم
يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر فقال الناس يا أمير المؤمنين اسأل بلالا أن يؤذن
لنا وكان بلال مقيما ببلد فلما بلغه أن عمر قد وصل سار مع أبي عبيدة حتى سلم على
عمر فعظم قدره فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون عمر أن يسأل بلالا فقال له: يا بلال
أن أصحاب رسول الله ﷺ يسالون أن تؤذن لهم وتذكرهم اوقات نبيهم ﷺ فقال بلال نعم
فلما قال الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم قال فلما قال: أشهد أن لا إله
إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع
عند ذكر الله ورسوله فلما فرغ بلال من أذانه وجلس قال بلال: يا أمير المؤمنين أن
أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي وما لا يلحق ضعفاء
الناس وما لاتناله أيديهم وأن الكل يفني وما له إلى التراب ومصيرنا إليه فقال له
يزيد بن أبي سفيان: إن سعر بلادنا هذه رخيص وأنا لنصيب ما قاله بلال ههنا مثل ما
كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز فقال عمران الأمر كما ذكرت فكلوا
هنيئا مريئا ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا الي من في المنازل وأن تكتبوا إلى
فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لكل أهل بيت ما يجزيهم من البر والشعير والعسل
والزيت وما يحتاجون إليه ولا بد لهم منه ثم قال عمر هذا لكم من أمرائكم غير ما
يأتيكم مني من بيت مال المسلمين فإن قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى أعزلهم عنكم ثم
أمرهم بالرحيل فلما هم بالركوب على بعيره وعليه مرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة
بعضها من أدم.
قال الواقدي:
بلغني ممن أثق به إنها كانت مرقعة من صوف فقال له
المسلمون: يا أمير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا قال ففعل
قال الزبير احسب إنها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهما وطرح على عاتقه
منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة وقدم إليه برذون أشهب من
براذين الروم فلما صار عمر على ظهره جعل البرذون يهملج به فلما نظر عمر إلى البرذون
وفعاله نزل عنه مسرعا وقال: أقيلوا عثرتي اقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد
اميركم أن يهلك بما دخل من العجب والكبر وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا
يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر" ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض
وبرذونكم المهملج ثم أن عمر رضي الله عنه نزع ما كان عليه ثم عاد إلى لبس مرقعته.
قال الواقدي: كنا يوم نقرأ فتوح الشام وفتوح بيت المقدس
عند قبر أبي حنيفة وكان الفتوح يقرأ على عبادة بن عوف الدينوري وكان من أهل الفضل
وكان يسجع كلامه فلما وصل إلى ما ذكرناه من لبس عمر لمرقعته قال قد سمح خاطري بما
أنا قائله.
قال الواقدي: قلت: قل: ولا تخف الصدق فتهوى في النار وأن
الصدق أمانة والكذب خيانة قال لما لبس عمر مرقعته وجعل يتميز في شمائل فقره
والكائنات تتعجب من زهده وصبره عندما تزينت له الدنيا بملابسها وتراءت له في حلل
أمنيتها بواسطة حدثان مشيئتها وقد جعلت أشباح شهواتها على قمة رأس مرآتها وأقبلت
رافلة في حلة مراودته مطلقة عند الطمع في طلب زوال مجاهدته معرضة بملابس جمالها
على سوق معارضته في سناء قبلة مرآة تبهرجها في عين مشاهدته واقفة على قدم
الاستدراج إلى ترك خدمته جاعلة ودادها ذريعة إلى وصلته وعمر قد أمسك عرا طاعته بيد
عصمته فلما نصبت له حبائل بلاها ولم تره وقع في أشراك هواها اسمعت في معناها قد
شغفها حبا أنا لنراها وقالت: يا عمر قد وليت أرضي فلا بد من القيام بفرضي فالولاية
لا تقوم إلا بالملابس الهنية والمآكل الشهية والظلم في الرعية فقال عمر اذهبي فلست
من رجالك ولا ممن يقع في حبالك ولا في أوحالك أما علمت إني قد تجردت لمعاندتك ولا
حاجة لي في مشاهدتك وها أنا على قدم تجردت لاقامة دعوة سيد الأمم حتى افتح بلاد
الروم والعجم ثم اظهر في وجهها صارم اجتهاده من معنى قوله: {وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 7]
.
قال الواقدي: فاستحسنت هذا الكلام والحقت ما قاله في هذا
الموضع بقول رسول الله ﷺ: "إن من البيان لسحرا" قال وأن عمر سار يريد
العقبة ليصعد منها إلى بيت المقدس فلقيه قوم من المسلمين وعليهم ثياب الديباج مما
أخذوه من اليرموك فأمر عمر أن يحثوا التراب في وجوههم وأن تمزق عليهم ولم يزل على
ذلك حتى أشرف على بيت المقدس فلما نظر إليها قال الله أكبر اللهم افتح لنا فتحا
يسيرا واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا ثم سار واستقبلته العشائر والقبائل وأصحاب
العقود وسار عمر حتى نزل بالموضع الذي كان فيه أبو عبيدة وضربت له خيمة من شعر
وجلس فيها هناك على التراب ثم قام يصلي أربع ركعات.
قال الواقدي: وعلت للمسلمين ضجة عظيمة وصياح مزعج
بالتهليل والتكبير فسمع أهل بيت المقدس الضجة والجلبة فقال لهم البترك: يا ويلكم
ما شأن العرب قد ارتفعت لهم جلبة من غير شيء فاشرفوا عليهم وانظروا ما شأنهم.
قال الواقدي: فأشرف عليهم رجل ممن يعرف العربية فقال: يا
معاشر العرب أخبرونا ما قصتكم قالوا: إن أمير المؤمنين عمر قد قدم علينا من مدينة
نبينا وهذه الضجة من فرح المسلمين به قال فرجع وأعلم البترك فأطرق إلى الأرض ولم
يتكلم فلما كان الغد وصلى عمر بالناس صلاة الفجر قال لابي عبيدة: يا عامر تقدم إلى
القوم وأعلمهم إني قد أتيت قال فخرج أبو عبيدة وصاح بهم وقال: يا أهل هذه البلدة
أن صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم قال فاعلموا البترك فخرج من
كنيسته وعليه المسوح وترجل الرهبان والقسوس والاساقفه معه وقد حمل بين يديه صليب لا
يخرجونه إلا في عيدهم وسار معه البطاليق الوالي عليهم وهو يقول للبترك: يا ابانا أن كنت
تعرفه معرفة حقيقية وإلا فلا تفتح له ودعنا وهؤلاء العرب فاما أن بنيدهم واما أن
يبيدونا قال البترك أنا أفعل ذلك ثم صعدا على الصور ووقف البطاليق إلى جانبه
والصليب أمامهم واشرف على أبي عبيدة وقال: ما تشاء أيها الشيخ الباهي قال أبو
عبيدة: هذا أمير المؤمنين عمر وليس عليه أمير قد أتى فاخرجوا إليه واعقدوا معه
الأمان والذمة واداء الجزية فقال البترك يا ذا الرجل أن كان صاحبك الذي ليس عليه
أمير قد أتى فدعه يدن منا فانا نعرفه بنعته وصفته وأفردوه من بينكم وليقف بازائنا
حتى نراه فإن كان صاحبنا الذي نعته في الإنجيل نزلنا إليه وعقدنا معه الأمان
وأقررنا له بالجزية وأن كان غير الذي نجد نعته في الإنجيل وصفته فما لكم عندنا غير
القتال قال فرجع أبو عبيدة إلى عمر واخبره بما قاله البترك فهم عمر بالقيام فقال
له أصحابه: يا أمير المؤمنين تخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة
وأنا نخشى عليك منهم غدرا أو مكرا فينالون منك فقال عمر: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا
كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:5] ثم أمر ببعيره فقدم إليه فاستوى في ركوبه عليه وعليه
مرقعة ليس عليه غيرها وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه وليس معه غير
أبي عبيدة رضي الله عنه وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور ووقف بازاء السور
والبترك والبطاليق عليه فتكلم أبو عبيدة وقال: يا هؤلاء هذا أمير المؤمنين قد أتى
فمسح البترك عينه ونطر إليه وزعق بأعلى صوته هذا والله الذي نجد صفته ونعته في
كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة ثم إنه قال لأهل بيت المقدس: يا ويحكم
انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة هذا والله صاحب محمد بن عبد الله.
قال الواقدي: فلما سمعت الروم كلام البترك نزلوا مسرعين وكانوا
قد ضاقت أنفسهم من الحصار ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسالونه العهد
والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله
وخر ساجدا على قتب بعيره ثم نزل إليهم وقال ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد
إذ سألتمونا واقررتم بالجزية قال فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع
عمر إلى عسكره فبات فيه ليلة فلما كان الغد قام فدخل إليها وكان دخوله يوم الاثنين
واقام بها إلى يوم الجمعة وخط بها محرابا من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلى
هو وأصحابه صلاة الجمعة فهمت الروم بغدرهم وكان أبو الجعيد الذي احتال على الروم
باليرموك ببيت المقدس هو وأهله وماله فقالوا: ما ترى في غدر هؤلاء العرب إذا هم
اشتغلوا بصلاتهم وليس معهم آلة حرب ولا ما يحترزون به من الضرب والقتل فقال لهم
أبو الجعيد: يا قوم لا تفعلوا ولا تغدروا بهم فإن فعلتم ذلك أخبرتهم بما تريدون أن
تفعلوا بهم فقالوا: وما الذي نصنع فقال أبو الجعيد اظهروا للعرب ما لكم من الزينة
ومتاع الدنيا فإن متاع الدنيا وما فيها لا يصبر صاحبهما عنهما فإن طلبوهما بغدر
فشأنكم وما تريدون قال فأقبل القوم على ما كانوا يقدرون عليه من المال والمتاع
الحسن فاظهروه وصفوه في طريق المسلمين وشوارعهم فجعل المسلمون ينظرون إلى ذلك في
دخولهم وخروجهم وهم يعجبون منهم ولم يمل أحد منهم إليه ولم يلمسه وهم يقولون الحمد
لله الذي أورثنا ديار قوم مثل هذا ولو ساوت الدنيا عند الله جناح بعوضة لما سقي
كافرا منها شربة ماء قال عوف بن سالم فوالله ما من المسلمين من جعل يده على شيء من
متاعهم ولا لمسه فقال لهم أبو الجعيد: هؤلاء القوم الذين وصفهم الله في التوراة والإنجيل
وإنهم لا يزالون على الحق ولا يقر بهم أحد ما داموا على ما هم عليه.
قال الواقدي: واقام عمر في بيت المقدس عشرة ايام قال شهر
بن حوشب سمعت كعب الأحبار يقول: أن عمر بن الخطاب لما صالح أهل بيت المقدس ودخلها
أقام فيها عشرة أيام فاقبلت إليه وكنت في قرية من فلسطين وتقدمت إليه لأسلم عليه
وأسلم على يديه وذلك أن ابي كان أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران وانه
كان لي محبا وعلي مشفقا ولم يكتم علي شيئا إلا أعلمني إياه مما كان يعلم الناس
فلما حضرته الوفاة دعاني إليه وقال لي يا بني إنك تعلم إني ما ادخرت عنك شيئا مما
كنت أعلمه لاني خشيت أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين وتتبعهم وقد جعلت هاتين المورقتين
في هذه الكرة التي ترى فلا تتعرض لهما ولا تنظر فيهما إلى أن تسمع بخبر نبي يبعث
في آخر الزمان اسمه محمد فإن يرد الله بك خيرا فأنت تتبعه ثم مات بعد وصيته اياي
قال كعب فدفنته فما كان شيء أحب الي بعد انقضاء العزاء من النظر في الورقتين
وقراءة ما فيهما ففتحهما فإذا فيهما لا إله إلا الله محمد رسول الله خاتم النبيين لا
نبي بعده مولده بمكة ودار هجرته طيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب أمته الحامدون
الذين يحمدون الله على كل حال ألسنتهم رطبة بالتهليل والتكبير وهم منصورون على كل
من عاداهم من أعدائهم أجمعين يغسلون وجوههم ويسترون اوساطهم أناجيلهم في صدورهم
تراحمهم بينهم تراحم الأنبياء بين الأمم وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من
الأمم قال كعب الأحبار فلما قرأت ذلك.
قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا أعظم من هذا ثم مكثت
بعد وفاة والدي ما شاء الله إلى أن بلغني أن النبي ﷺ الموصوف قد ظهر بمكة وهو يظهر
مرة بعد اخرى فقلت هو والله لا محالة ولم أزل أبحث عن أمره حتى قيل إنه خرج ونزل
بيثرب فجعلت أترقب أمره حتى غزا غزوات ونصر على أعدائه فتجهزت أريد المسير إليه فبلغني
إنه قد قبض ﷺ وانقطع الوحي فقلت في نفسي لعله ليس الذي كنت أنتظره حتى رايت في
منامي كان أبواب السماء قد فتحت والملائكة تنزل زمرة بعد زمرة وقائل يقول: قد قبض
رسول الله ﷺ وانقطع الوحي عن أهل الأرض فرجعت إلى دار قومي وجاءنا الخبر إنه تقدم
امته خليفة اسمه أبو بكر فقلت أقدم عليه فلم البث حتى جاءتنا جنوده إلى الشام ثم
جاءتنا وفاته ثم قيل إنه استخلف عليهم رجل اسمه عمر فقلت لا أدخل هذا الدين حتى
أحققه ولم أزل متوقفا حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس وصالح أهلها
ونظرت إلى وفائهم بعهدهم وما صنع الله بأعدائهم وقلت إنهم أمة النبي الأمي فحدثت
نفسي بالدخول في هذا الدين فوالله إني كنت ذات ليلة على سطحي وإذا أنا برجل من
المسلمين يقول.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا
بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا
عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:4]
.
قال كعب فلما سمعت هذه الآية خفت والله أن لا أصبح حتى
يحول وجهي فما كان شيء أحب الي من الصباح أن يرد فلما أصبحت غدوت من منزلي وسألت
عن عمر فقيل لي إنه ببيت المقدس فقصدت إليه وإذا به قد صلى بأصحابه صلاة الفجر عند
الصخرة فاقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام وقال لي من أنت فقلت له: أنا كعب الأحبار
وانني جئت أريد الإسلام والدخول فيه فاني وجدت صفة محمد ﷺ وأمته في الكتب المنزلة
وأن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام إني ما خلقت خلقا أكرم علي من أمة محمد
ﷺ ولولاه ما خلقت جنة ولا نارا ولا سماء ولا ارضا وأمته خير الأمم ودينه خير
الأديان بعثته آخر الزمان أمته مرحومة وهو نبي الرحمة وهو النبي الأمي التهامي
القرشي الرحيم بالمؤمنين الشديد على الكافرين سريرته مثل علانيته وقوله لا يخالف
فعله القريب والبعيد عنده سواء أصحابه متراحمون متواصلون فقال عمر أحقا ما تقول يا
كعب قال: أي والله والله يسمع ما أقول ويعلم ما تخفي الصدور فقال عمر الحمد لله
الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا برحمته التي وسعت كل شيء وهدانا بمحمد ﷺ فهل لك
يا كعب في الدخول في ديننا فقال كعب يا أمير المؤمنين في كتابكم الذي انزل إليكم
في أمر دينكم ذكر أبراهيم فقال عمر نعم وقرأ: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ*أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا
نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:13] ثم قرأ: {مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً}
[آل عمران: 6] ثم قرأ أفغير دين الله يبغون وله أسلم الآية ثم قرا: {وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 8] الآية
ثم قرأ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 16]
الآية ثم قرأ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 7]
الآية قال كعب فلما سمعت هذه الآيات قلت: يا أمير المؤمنين أن أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمدا رسول الله ففرح عمر باسلام كعب الأحبار ثم قال هل لك أن تسير
معي إلى المدينة فنزور قبر النبي ﷺ وتتمتع بزيارته فقلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا
أفعل ذلك قال: وارتحل عمر بعد أن كتب لاهل بيت المقدس كتابا أي عهدا وأقرهم في
بلدهم على الجزية وسار بمن معه من العساكر إلى الجابية فأقام بها ودون الدواوين
وأخذ الخمس الذي لله مما أفاء الله على المسلمين ثم قسم الشام قسمين فأعطى أبا
عبيدة من حوران إلى حلب وما يليها وأمره بالمسير إلى حلب وأن يقاتلوا أهلها إلى أن
يفتحها الله على يديه وأعطى أرض فلسطين وارض القدس والساحل ليزيد بن ابي سفيان
وجعل أبا عبيدة واليا عليه وأمر يزيد أن يحارب أهل قيسارية إلى أن يفتحها الله على
يديه وكان قد اعطى أكثر الاجناد لابي عبيدة مع خالد وسير عمرو بن العاص إلى مصر
واستعمل على قضاء حمص عمرو بن سعيد الأنصاري ثم سار عمر رضي الله عنه يريد مدينة
الرسول ﷺ وأخذ كعب الأحبار معه وكان أهل المدينة يظنون أن عمر يقيم بالشام لما
يرون من كثرة خيرها وطيب فواكهها ورخص أسعارها ولما يخبرون عنها إنها بلاد
الأنبياء وهي الأرض المقدسة وفيها المحشر فبقى الناس يتطاولون نحوه ويخرجون في كل
يوم ينظرونه حتى قدم عمر رضي الله عنه فارتجت المدينة يوم قدومه واستبشر أصحاب
رسول الله صلى الله عليه برؤيته وسلموا ورحبوا به وهنئوه بما فتح الله على يديه
فأول ما بدأ بالمسجد سلم على قبر رسول الله ﷺ وعلى ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم
صلى ركعتين وعاد بكعب الأحبار وقال حدث المسلمين بما رايت في الوقتين فازداد الناس
إيمانا.
قال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي حدثنا أحمد بن الحسين
بن العباس المعروف بأبي سفيان النحوي قال حدثنا أبو جعفر بن أحمد بن عبيد الناسخ
قال حدثني عبد الله بن أسلم الزهري وعبد الله بن يحيى الزرقي عمن حدثه ممن تقدم
ذكرهم واسماؤهم أول الكتاب وحديث القوم قريب بعضه من بعض والله يعيذنا من الزيادة
والنقصان لأن الصدق أمانة والكذب خيانة والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
والشهادة ما اعتمدت في خبر هذه الفتوح إلا على الصدق وما حدثت حديثه إلا على قاعدة
الحق لاثبت فضل أصحاب رسول الله ﷺ وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين على
أهل السنة إذ لولاهم بمشيئتة الله تعالى لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا
الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 2] .
قال الواقدي: وذلك إنه لما بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة
رجعله أمير الشام وأمره بالمسير إلى حلب وانطاكية والمفرق وما يليهم من الحصون بعث
عمرو بن العاص إلى مصر ويزيد بن أبي سفيان إلى ساحل الشام فنزلوا قيسارية وهي آهلة
بالخلق كثيرة الجند وكان عليها قسطنطين إلى أن نزل يزيد وقسطنطين هذا ابن الملك
هرقل وكان معه ثمانون ألف من الروم والعرب المتنصرة والروسية فلما نظر قسطنطين إلى
نزول يزيد بن أبي سفيان عليه بعث إلى ابيه يستنجده فبعث إليه هرقل بصاحب مرعش
وعشرين ألفا من أبطال الروسية وأنفذ له المراكب بالزاد والعلوفة فلما نظر يزيد إلى
ذلك وأن لا قدرة له على ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: بسم الله
الرحمن الرحيم من يزيد بن أبي سفيان العامل على بعض الشام إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه إني نازلت أهل قيسارية وهي مدينة آهلة بالخلق كثيرة الجند وليس إليها
سبيل وأن قسطنطين قد استنجد بأبيه وقد انجده بصاحب مرعش وعشرين ألفا والمراكب ترد عليه
كل يوم بالعلوفة والزاد واريد النجدة والسلام وبعث الكتاب مع عمرو بن سالم بن حميد
النخعي فلما ورد المدينة وسلم الكتاب إلى عمر بن الخطاب قال عمر من أين هذا الكتاب.
قال من عاملك يزيد بن أبي سفيان فقرأه فلما أتى على آخره
تفكر في أمر يزيد وما وقع له حتى دخل عليه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فأراه
كتاب يزيد من قيسارية الشام يطلب من نجدة فقال علي لا تغتم على المسلمين فإن الله
يفتحها على يديك رغما فأنجد يزيد وانفذ إليه الكتاب.
ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها
قال الواقدي: كان مع ابي عبيدة عشرون ألفا ومع يزيد
وعمرو بن العاص عشرة آلاف.
قال الواقدي: فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى
يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفا وأكثرهم من
اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من
الذهب ومثلها من فضة والف ثوب من اصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما
تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتاب وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة
وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدا فبلغ ذلك أهل حلب من
الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لاب
وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة
بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما:
يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله
وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه
فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم
واجتماع كلمتهم لانه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا
ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص
لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الأمر بعده لولده يوقنا
وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا
يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في
أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه: يوقنا على
ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب
إني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ
المزامير وليس له همة إلا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة
والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين
صلحا وأن العرب نازلون عليها وأن خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل
يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال: يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك
على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال: نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت
لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال: يا أخي إلا ترى
ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من
القتل والنهب وأخذ الأموال وإنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام إلا فتحوها وملكوا
أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد اشرفوا علينا.
قال الواقدي: فقال يوحنا يا اخي إذ قد استشرتني في أمرك
فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة
فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا
يا أخي ما علمتك إلا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى
العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام
ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه
الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رايك ما ولدتك أمك إلا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك
لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل
ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال بصيرة ولا بملاقاة الرجال
خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم إلا الحرب ولا ترى الملوك العجز ويلك
كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال قال فلما سمع
يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال: يا أخي وحق المسيح أن أجلك
قد اقترب لانك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع
الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد ايدهم الله
علينا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له:
قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب وإني لست كمن لا قوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا
أقاس بهم ومع ذلك اعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحا
قبل أن يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وإنما جمعت الأموال من قبل
إلى الآن لادفع بها الأذى عن نفسي وإني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فإن أظفرني
الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على
سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وأن هزمتني العرب طلعت
إلى قلعتي هذه ولزمتها فاني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري
وأكون فيها عزيزا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا ابذل أموالي من غير طلب فلا
تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح وإلا بطشت بك قبلهم.
قال الواقدي: واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له
نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له: كلامك علي حرام أبدا
حتى ترجع إلى رأيي ونعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبا فلما كان من الغد جمع يوقنا
إليه جميع من التجأ إليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه
فمن أراد سلاحا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول: انما هم
قليل ونحن أكثر منهم لأن جموعهم قد تفرقت منها جماعة على قيسارية ومنهم من توجه
إلى مصر.
قال الواقدي: وعزم على قتال ابي عبيدة قبل أن يصل إليه
والى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم إليه ألف فارس ووكله
بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقي جيش ابي عبيدة والمسلمين هو وقومه في
اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الأعلام والصلبان وكان
فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله ألف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالذهب
قال ابن ثعلبة الكندي فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد
أن أتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان
طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على
المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلا مجربا بشدة البأس وكان إذا ثبت
على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت: او كثرت فضم إليه ألف فارس وسيره على
مقدمته وقال: يا كعب لا تقاتل جيشا لا تطيقه واختبر أمر هذا العلج واعرف خبره وأنا
راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونا يأتون
بالأخبار فأتته جواسيسه يخبرونه أن خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله فقال لهم:
في كم أتت العرب قالوا: في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول قال فكمن
يوقنا كمينا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون
خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه
فنادى المسلمون بعضهم بعضا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه
وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره إنه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد
قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب
إلى أصحابه وقال: يا أنصار دين الله إني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف
وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة قالوا: بلى والله واقبل أصحابه يشجع بعضهم
بعضا فقربت الفئة من الفئة وصاح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته
وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى
الجمعان واشتبك الحرب وقاتل الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة
فطلع عليهم الكمين من ورائهم واكبوا عليهم جميعا.
قال مسعود بن عون العجي شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة
طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في
القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت
علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن
لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال
الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه قال مسعود بن عون فلله در كندة
يؤمئذ لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل
منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملا عظيما وكعب بن ضمرة
قلق على المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي يا محمد يا محمد يا نصر الله
انزل معاشر المسلمين اثبتوا انما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع
المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلا من الأعيان
منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم ابن شهاب المقري وسهل بن اشيم
ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين
يدي رسول الله ﷺ وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد قال مسعود بن عون والله لقد
تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة
في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلا لأن الرجل منا ما قتل حتى قتل عددا من المشركين
فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن
ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال: ويلكم ما العرب إلا مثل الذئاب أن صدمت ولت وأن تركت
طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته أغتم لذلك غما شديدا فنزل عن فرسه
ولبس درعا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقبله بين عينيه وكان
قد شهد معه المواطن وجاهد معه بين يدي رسول الله ﷺ وكان قد سماه الهطال فقال: يا
هطال هذا يومك المحمود عاقتبه فاثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف
أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في امره والراية بيده وهو ينتظر من
ابي عبيدة جيشا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرا.
وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه من المسير إليه إلا قدوم أهل
حلب عليه وذلك إنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية
بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية
والصليب ودخلوا في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم فأما الذي فاتلهم
فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونسأله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع
إليه ما أحب من أموالنا فإن ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين
منهم ونقر عينا من بأسهم وأن صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وأن
غلب ورجع سالما لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رايهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلا من
رؤسائهم وسلكوا طريقا غير طريق يوقنا حتى اشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا الغوث
الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير: فمن
سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء
منه فكان العرب يعرفونها فلما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم واوقفوهم بين
يدي أبي عبيدة فقال خالد: يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب
قال أبو عبيدة: أرجو ذلك أن شاء الله تعالى وأن صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه
من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلا والنيران تضرم بين يديه وكان
في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض: بهذه الفعال
ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم فقال
أبو عبيدة: أنا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وأنا رجال لا نريد من الله ورسوله
بدلا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم: من أنتم قالوا:
نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح فقال أبو
عبيدة: فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل
فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك وما لكم عندنا صلح فقالوا: أيها
الأمير أن صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم قال أبو عبيدة: ومتى خرج
قالوا: خرج سحر ونحن من بعده وسلكنا طريقا غير طريقه وأنا نرجوا إنه هالك لا محالة
لانه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو
عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم هلك والله كعب ومن معه أنا لله وأنا إليه راجعون ثم اطرق إلى الأرض فقالوا:
لبعض مشايخ أهل حلب كلم لنا الأمير في الصلح قال فكلمه فقال أبو عبيدة: بضجر لا
صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا: أنا قد اجتمع عندنا من القرى
والرساتيق خلق كثير فإن صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونا على عمارتها
وعشنا في ظلكم ايام عدلكم وأن أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد
وشاع الخبر عنكم إنكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد قال فأعلمه الترجمان بما
قالوا: فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل احمر الوجه وكان من حكماء
الروم فصيحا بلسان عربي فقال: أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي أنزل
الله في الصحف على الأنبياء قال أبو عبيدة: قل: لنسمع فإن كان حقا علمناه وأن كان
غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح فقال: أيها الأمير أن الله سبحانه
وتعالى أنزل على انبيائه يقول: أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب
المؤمنين وإني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت إليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن
عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفا أمنته يوم القيامه وبسطت له في رزقه
وباركت له في عمره وأكترث له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على احسانه فقد
شكرني وأنا قد أتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن إلينا.
قال فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 19] ثم قال اللهم صل على محمد وعلى جميع
الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته
لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم:
الحمد لله على هدايته ثم قال أن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد
رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة
معنا فانهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونا لنا عليه
فقال رجل من المسلمين أصلح الله الأمير أن مدنية القوم بالقرب من القلعة ولا نأمن
أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أنى القوم ليخدعونا إلا ترى إلى
بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا ولا شك إنهم مكروا
بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين فقال أبو عبيدة: أحسن ظنك بالله وثق بالله فإن
الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرا أو صمت وإذا أشرط عليهم
النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم اقبل على القوم وقال إني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما
بذله أهل قنسرين 2 فقالوا: أيها الأمير أن قنسرين اقدم من مدينتنا وأكثر جمعا
ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لانه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى
قلعته وما بقي عندنا إلا الضعفاء ومن لا ماله له وأنا نسألك الترفق بنا والعدل فينا
والأحسان إلينا فقال أبو عبيدة: فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم قالوا: نعطي
نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة: قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا
بصاحبكم اعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرا
تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسا يتجسس علينا وأن رجع إليكم بطريقكم منهزما
تمنعوه أن يصل إلى القلعة فقالوا: أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا
يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة
ولا بمن معه من أعوانه وجندوه قال أبو عبيدة: فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم
عهد الله وميثاقه والإيمان المؤكدة الغليظة أن لا تقولوا: هذا القول وأن توفوا لنا
كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالإيمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن
رجالهم ودوابهم وابنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك فقال أبو
عبيدة: إنكم قد حلفتم وقد قبلنا قولكم وايمانكم فإن أصبنا أحدا قد اخلف أو علم من
البطريق علما ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل واخذ ماله وولده حلال لنا لا
يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكم فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا
ولنا عليكم الجزية في العام المقبل قال سعيد بن عامر التنوفي: فرضي أهل حلب بما
شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى
ديارهم وقال لهم أبو عبيدة: على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد
وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم فقال له الدحداح: أيها الأمير اننا
نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية
ليلته قلقا على كعب بن ضمرة ومن معه.
قال الواقدي:
ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا
فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وسألهم
من أين أقبلتم وما صنعتم فظنوا إنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهم مع أبي عبيدة فتركهم
ومضى وأن القوم استقبلهم أهل حلب فسالوهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك واقبل العلج
حتى اشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله ﷺ وقد أحاط بهم وهو يظن إنه
قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذ أتى عليه العلج فقال له: أيها البطريق إنك غافل عما نزل بك
ودهمك قال له: وما ذاك يا ويلك قال له:
إن أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة
وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن
يملكوها في غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله ﷺ
وكان قد قتل من المسلمين نيف وعن المائتين وكعب قد اجهد نفسه في الحرب وايقنوا
إنهم هالكون لا محالة قال كعب بن ضمرة وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في
الحرب والى الحرب أنهضهم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب
التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجا من الله تعالى واترقب راية أبي عبيدة أن
تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يوما وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني
فأقسم بالله أن كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين
اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الإسلام فما أرى لها أثرا
فرايت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه
فقلت: ما هذا إلا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال كعب بن ضمرة فوعيش رسول الله ﷺ ما قلت:
الكلمة حتى رأيت جيش العدو وقد إنكشف عنا على عقبة فقلت: الحمد لله حمد الشاكرين
وإني أظن أن صائحا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم ار
لهم أثرا قال كعب فهممت أن اتبعهم فصاح المسلمون إلى اين يا كعب أما كفاك ما نحن
فيه انزل بنا إلى الأرض وارض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح
خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم إلا بمشيئته وقدرته قال فنزل كعب وشربوا الماء
واسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة.
قال الواقدي: وابطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى
الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدا وقال: يا أبا
سليمان أن أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غما وانه كان يجب علينا الشكر بما فتح
الله علينا وأن نفسي تحدثني بأن الذين مع كعب ابن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء
الذين يسالون الصلح أن صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرا وأظن إنه صادف
أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد: والله إني ما نمت مثلك من الغم عليهم
فما الذي عزمت أن تصنع قال الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون
حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف
على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد اقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما
أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق راسه فلما رآها الديدبان صاح النفير يا
أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا
صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض هذه والله راية الإسلام والمسلمين فنزل خالد
وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة واقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمدالله وأثنى
عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك
عاد فرحهم ترحا واسترجعوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا لله وأنا
إليه راجعون وسأل كعبا كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم فأخبره كعب بقتال يوقنا
وانه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه
فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة:
فسبحان مسبب الاسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر بدفن
المسلمين بعدما جمعهم زمرا زمرا وصلى عليهم ودفنوهم باسلابهم ودمائهم ثم قال سمعت
رسول الله ﷺ: "يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة
ودماؤهم على أجسادهم اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألا عليهم ويدخلون
الجنة" فلما واروهم في حفرهم قال لخالد أن كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم
وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبا عظيما فألحق بهم فقد وجب علينا أن نذب عنهم لانهم
تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق وجنوده قد أحدقوا
بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم: يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم
عونا لهم علينا قالوا: قد فعلنا ذلك وإنهم قوم منصورون فقال: يا ويلكم أن المسيح لا يرضى بفعلكم
فوحق المسيح لاقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم
من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الأمر حتى أبدا به قال فلم يطيعوه على
ذلك فقال لعبيده ادخلوا عليهم وأئتوني بهم لاقتلنهم فقد اخبرني فلان إنه لقيهم
وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه
يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من
أهل البلد ثلثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فإن المسيح يغضب عليك وقد
نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لاخيه إنهم صالحوا العرب عن
البلد وصاروا لهم عونا علينا فقال يوحنا وحق المسيح لا ابقت عليك العرب أبدا وأن
لهم من يقتص منك.
قال: ومن يقتص مني قال المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب
فقال يوقنا أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه
وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم إنه هالك رفع رأسه
إلى السماء وقال اللهم أشهد على إني مسلم وإني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لأخيه: اصنع ما أنت صانع فإن
كنت قاتلي فاني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من اسلام اخيه مورد عظيم ومن
أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي براس أخيه عن جسده والتفت
إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر
منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر جوانبها وقد أيس أهل حلب
من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد ادركتهم واشرفت عليهم رايات المسلمين
وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد
إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لابي عبيدة: أيها الأمير هلك والله أهل
صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال افرجوا معاشر الأعلاج
عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الأعلاج فلما
نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته قال محصن بن عترة فرج الله عن
أهل البلد بقتل الأعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب
قتلناه قال محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلثمائة وقتلنا نحن من
أصحابه ثلاثة آلاف او يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل
وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون اخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة
جميعها.
قال الواقدي:
فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من
جنده واستعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الاسوار وكثر آلة الحصار وأما
أهل حلب فانهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرا من البطارقة فقال لهم أبو عبيدة:
لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا: لانهم من أصحاب يوقنا هربوا إلينا فلم نر أن نخفيهم منك
لانهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الإسلام فأسلم منهم سبعة وأما
الباقون فابوا فضرب رقابهم وقال لهم: لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار
لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحصن في هذه القلعة فهل تعرفون لها
عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فإن فتحها الله 8 علينا جعلناها لكم غنيمة مع
ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا: أيها الأمير والله ما نعرف
لها عورة وأن يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا
إنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلا لكم فقال أبو عبيدة: وما جرى له فأخبروه بخبره
وحديثه مع أخيه وانه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير اننا
سمعنا طرف كلامه وهو يقول: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك
ومحمدا عبد ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه
فاصنع ما أنت صانع فلما اسلم قتله قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال في أي موضع قتله
ثم وثب وأخذ خالدا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو راس سوق الساعة
فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرا بأصبعه إلى السماء وقد مات
وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام ابراهيم فلما واروه
أتى إلى ابي عبيدة رجل من المسلمين فقال أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فإن
كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم فقال: لا والله ما يفعلون ذلك أبدا
فعندها اقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال: أشيروا علي رحمكم الله فقال له: ذلك
الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلا بصيرا بالشام وجباله ومدنه وجميع
أرضه وعارفا بطريق الشام أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرف من البلد وما عندي من
الرأي.
قال أبو عبيدة: تكلم يا ابن عمرو فأنت عندنا ناصح
للمسلمين فقال أن الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية
الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم
قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه
القلعة وبث الخيل وشن الغارات وفي بقايا البلاد وشاطى الفرات فما لهم زاد يقوم بهم
فتبسم خالد من كلام الغساني وقال هذا والله هو الراي وأنا اشير عليكم بمشورة أخرى
أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فاني أخشى أن طال بنا المقام
أن تعطف علينا جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا قال أبو عبيدة: يا أبا
سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت: فصدقت ثم أمر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت
الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل
وانبثت العشائر وتجابوا بالاشعار وتداعوا بالأنساب قال مسروق بن مالك فوالله ما
رايت في قتال حصون الشام يوما كان أعظم من ذلك اليوم لاننا كنا نشبه دوران الحرب
كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت ابطال اليمن
وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها
فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا
وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضا لا نظن
أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقا كثيرا فقتلت
بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع
الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ
العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن
من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله قال مرزوق بن مالك فلقد كنا
نرى بعد ذلك بسنين خلقا كثيرة عرجا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة
رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس إنكم
قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى
ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم فقال لهم يوقنا: أن العرب لا تدنوا
من القلعة بعد هذا اليوم ابدا وأن حاصرونا فلاكيدنهم ولاهبطن إلى عسكرهم.
قال الواقدي: ولقد حدثني عبد الله بن سليمان الدينوري
وكان ممن نقل أخبار الشام وفتوحه عن ثقات المسلمين قال حدثني عمرو أن يوقنا انتخب
ألفين من خيار بطارقته وابطاله وقال لهم: انزلوا مسرعين وليحذر بعضكم بعضا وميلوا على
طرف عسكر المسلمين إذا خمدت نيرانهم واغتنموا غرتهم وأمر عليهم وزيره فنزلوا ليلا
من القلعة وجعلوا يدورون حول العسكر إلى أن أتوا إلى مكان وقد خمدت نيرانهم وكان
القوم بادية من أهل اليمن مثل مراد وبني كلاب وعبيدهم قال عبد الله بن صفوان البكي
كنا تلك الليلة غادين من عدونا آمنين لكثرتنا وقد غفل حرسنا فلم نشعر إلا وجماعة
الروم قد هجموا علينا وهم ينادون بلغتهم وقد أعلنوا التبهرج بزينتهم فلا نعلم ما
يقولون ووضعوا السيف فينا فكان النجيب منا من استوى على جواده وطلب النجاة وهو لا
يعلم من أين هي ولا كيف يتخلص وقد وقعت الجندلة في أبطال المسلمين وعساكرهم والقوم
ينادون النفير النفير دهينا ورب الكعبة وهم يسرعون إلى خيمة أبي عبيدة وينادون
أيها الأمير كبسنا يوقنا فعندها ركب الأمير في بعض الرجال وجعل يدور حول العسكر فنظر
صاحب الروم إلى العرب وقد لحقته فصاح بأصحابه من كان أخذ شيئا فليتركه ويطلب نجاة
نفسه قال عبد الله بن صفوان أخذوا من رجالنا نحو خمسين رجلا من أخلاط الناس
واكثرهم من ربيعة ومضر ومضوا يجمع بعضهم بعضا ويطلبون القلعة فلما نظر خالد إلى
ذلك حمل في أصحابه واقتطع من الروم زهاء من مائة رجل ووضع فيهم السيف فقتلهم عن
آخرهم فلما وصل أصحاب يوقنا إلى القلعة فتح لهم وأدخلهم فلما أضاء الفجر وطلعت
الشمس دعا يوقنا بالمسلمين الخمسين رجلا وهم موثقون بالحبال فقربهم إلى موضع
ينظرهم المسلمون ويسمعون اصواتهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى
قتلوا عن آخرهم فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك أمر مناديا ينادي في عسكره عزيمة من
الله ورسوله ومن الأمير أبي عبيدة على كل رجل لا يكل حرسه إلى غيره ولكن كل رجل
منكم حارس نفسه ولا يتكلم بعضكم مع بعض قال فأخذ القوم حذرهم وأعدوا حرسهم وأقبل
يوقنا يدبر أمره في مكيدة أخرى ليكيد بها المسلمين إذ علم إنهم محاصرون ومع ذلك جواسيسه
تأتيه بالأخبار في الليل والنهار وكان أعظم جواسيسه من متنصرة العرب لأنهم كانوا
يحسنون لسان الرومية.
قال فبينما يؤقنا ذات يوم جالس في قلعته والبطارقة من
حوله وقد أضر بهم الحصار وأشد ما كان عليهم من أهل المدينة لأنهم لا ينظرون إلى
رجل من أصحابه يعرفونه إلا أخذوه وسلموه للمسلمين وإذا بجاسوس قد اقبل وهو من
عيونه فقال له: أيها السيد أن أردت أن تكيد العرب فهذا وقتك فقال له: يوقنا وكيف
ذلك وما الذي عندك من الخبر قال: أن العلافة منهم قد خرجوا إلى وادي بطنان وقد
صالحوا أهله وعلوفة العرب ميرتهم منه وقد رأيت منهم جمالا وبغالا ومعهم طائفة منهم
وعليهم القمصان الخلقة وبأيديهم الرماح المشبعة وهم يقصدون القرى في طلب الميرة وهم
قليلون وليس هم في كثرة فلما سمع يوقنا ذلك من جاسوسه اختار ألفا من أصحابه وقال
لهم: أصلحوا شأنكم فوحق المسيح لأضيقن على العرب مسالكهم ولاقطعن عليهم طرقاتهم
فلما أقبل الليل فتح لهم الباب وسار الجاسوس أمامهم حتى استقاموا على الجادة
وجعلوا يسيرون تحت جنح الليل فبينما هم كذلك إذ هم براع ومعه سرح من البقر يريد
بها بلده وقد خرج بها من بلد آخر وهو يسير بها سيرا عنيفا فلما نظروا إليه أسرعوا
نحوه وقالوا: احسست بأحد من العرب قد عبر عليك قال: نعم والشمس عند الغروب قد
اصفرت وهم نحو مائة رجل على خيول وهم مسرعون ومعهم جمال وبغال وهم يريدون الميرة
من هذا الوادي من الذين هم في صلحهم ولسنا نخاف منهم فقال له: المقدم عليهم الآن
قد القيت علينامن صلح أهل هذا الوادي ما لم يكن عندنا منه خبر فبحق المسيح أخبرنا بأي
طريق ذهبت العرب فقال من ههنا وأومأ بيده إلى الشرق فصار البطريق بمن معه ولم
يعرفوا أن صاحب البقر منهم حتى إذا قرب الصبح أشرفوا على خيل المسلمين وكان الأمير
عليها يقال له مناوش فلما نظر مناوش إلى خيل الروم قد اقبلت أقبل على أصحابه وقال:
يا بني العرب هذا بطريق من بطارقة الروم قد أقبل إلينا فدونكم إياه والجهاد والصبر
على الشدة تنالوا الجنة ثم حمل وحمل معه أصحابه فحملت عليهم الروم فثبت لهم
المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وقتل مناوش بن الضحاك والغطريف بن ثابت ومنيع بن
ثابت ومنيع بن عاصم وكهلان بن مرة فقتل من المسلمين ثلاثون رجلا كلهم من طيء
وانهزم الباقون وملكت الروم ما كان مع المسلمين من الإبل والبغال وعاد المسلمون
منهزمين فعند ذلك أقبل البطريق على أصحابه وقال ارموا الأحمال عن هذه الدواب
واعقروها وسوقوا بقية الدواب بما عليها فإنها لنا ميرة واطلبوا الجبل واختفوا عن أعين
العرب وإلا ففي هذه الساعة تطلع علينا خيول العرب كالرياح تهزمكم فأكمنوا حتى إذا
جاء الليل طلبنا القلعة واعتصمنا بها ففعلوا ذلك وقتلوا الجمال وساقوا الدواب
والتجؤا في الجبل إلى قرية فأقاموا بقية يومهم يرقبون الليل ليرجعوا إلى القلعة
وأقاموا لهم ديدبانا قال عوف صباح الطائي كنت في الخيل لما قتل عمي مناوش ونحن في
قلة وقد دهمتنا الخيل فلما نظرنا إلى كثرة الروم وشدة بأسهم مع قلتنا أخذنا على
أنفسنا وأتينا المسلمين فبادر إلينا أبو عبيدة وقال لنا ما وراءكم قلنا الحرب
والطعان قتل منا مناوش وقتل معه خلق كثير من فرساننا وأخذ ما كان معنا من الزاد
والدواب.
فقال أبو عبيدة: وما الذي دهاكم وقد حاصر الله الروم ما
يجسر أحد أن يخرج منهم قالوا: لا علم لنا غير أنا رأينا بطريقا عظيما قد أشرف
علينا وهو في عدة حصنة وخيول كثيرة مستعدين للقتال لا نعلم عددهم ولا من اين أتى
مددهم فهجموا علينا ونحن سائرون فاصيب أميرنا وقتل رجالنا وأخذوا ما كان معنا من الدواب
والزاد فلما سمع أبو عبيدة ذلك دعا بخالد بن الوليد إليه وقال: يا أبا سليمان أنت
لها والمعد لمثلها وأنا واثق بالله ثم بك مع إني أستخير الله في أموري سر على بركة
الله تعالى وخذ معك من المسلمين من أردت لعلك أن تقفوا القوم وتعاني موضع أثر
الوقعة وتتبع آثارهم عسى الله أن يوقعنا بهم واطلبهم أينما كانوا وحيث ساروا لعلك
تأخذ بثأر المسلمين وأعلم اننا صالحنا أهل الوادي واننا لا ننقض عهدنا ولا نحول عن
قولنا إلا أن يكون القوم قد مكروا بنا فنجد إلى قتالهم سبيلا فاتق الله فيهم سر
يرحمك الله قال فأسرع خالد إلى خيمته ولبس سلاحه واستوى على متن جواده وهم بالمسير
وحده فقال له أبو عبيدة: إلى أين يا أبا سليمان قال له: اسارع إلى ما أمرتني به
فقال له: خذ من أردت معك من المسلمين فقال خالد: أنا أمضي وحدي وما أريد أحدا فقال له
أبو عبيدة: كيف تمضي وحدك وعدوك في عدد كثير قال خالد: لو كانوا في ألف أو ألفين
القاهم بمعونة الله تعالى فقال له أبو عبيدة: إنك كذلك ولكن خذ معك رجالا قال فاخذ
ضرارا وأمثاله وسار حتى أتى إلى موضع الوقعة فراى القتلى مطروحين ورأى حولهم أهل
الوادي وهم يبكون خوفا من المسلمين على أنفسهم وذراريهم وأن العرب تطالبهم بهم
فلما طلع عليهم خالد ومن معه كأنهم شعلة نار تصارخ القوم في وجهه والقوا أنفسهم
بين يديه فقال لهم خالد: من هؤلاء القوم الذين قتلوا أصحابنا قالوا: أنا نحن
بريئون من دماء أصحابكم ونحن في صلحكم فاستحلفهم خالد إنهم لا يعلمون من قتلهم
فحلفوا له فقال لهم: من الذي أوقع بأصحابي فقالوا: بطريق بعثه يوقنا من القلعة ومعه
ألف فارس من أشد قومه وأن لهم في عسكركم عيونا يخبرونه بما أنتم فيه كل ساعة فقال لهم:
وفي أي طريق قصدوا قالوا: في هذا الطريق فقال خالد: أو ما حلفتم أن ما عندكم علم
بهم قالوا: هذا الذي يخبرك من أهل حلب قد أتى يشتري طعاما ولولا إنك أقبلت في هذه
الساعة ما كنا عرفنا من قتلهم فقال له خالد: أعلى هذا الطريق أخذوا فقال له الرجل:
نعم ورأيتهم يطلبون الجبل فقال خالد لأصحابه: أن القوم علموا إنهم لا بد لهم من خيل
تطلبهم وتتبعهم وقد عدلوا عن طريقنا حتى إذا هجم عليهم الليل رجعوا إلى قلعتهم
فعولوا على المسير في طلبهم ثم إنهم ارخوا الأعنة وخالد يقدمهم وقد أخذ معه رجالا
من المعاهدين يقفون بهم أثر الطريق والقوم فلما حصلوا على الطريق قال خالد لواحد
من المعاهدين: ألهم طريق إلى قلعتهم غير هذا؟.
قال: نعم ولكن كن ههنا فانك تفوز بهم أن شاء الله تعالى
فنزل خالد ومن معه في الوادي وهم يرقبون الطريق فما مضى من الليل إلا قليل إذ سمع
وقع حوافر الخيل والبطريق أمامهم والخيل من ورائه وهو يزجرهم ويحثهم على المسير
فلما توسطوهم صاح خالد صيحة شديدة ووثب خالد كأنه الاسد وخرج عليهم هو وأصحابه فما
كان قصد خالد غير البطريق وظن إنه يوقنا فضربه ضربة رماه نصفين وقد وضعوا السيف
فيهم وجعلوا يطلبونهم وهم في الهرب فلم ينج منهم إلا من أطال الله أجله وحازوا
جميع ما معهم وأتوا برأس البطريق إلى أبي عبيدة على رأس رمح فوجدوه متلهفا على
قدومهم فلما أشرف خالد بمن معه من الاسارى والإسلاب والدواب هللوا وكبروا فأجابهم العسكر
بالتهليل والتكبير قال: وأتى خالد ومن معه بالرأس والإسلاب والاسارى فكانوا أزيد
من ثلثمائة اسير ورؤوس القتلى سبعمائة فعرضوا عليهم الإسلام فابوا وقالوا: نحن
نعطيك الفداء فقال خالد: نضرب رقابهم قبال القلعة لنوهن بذلك عدو الله قال فضربت
رقابهم قبال القلعة فقال خالد: أنا كنا نظن أنا محاصرون القوم وإذا نحن بخلاف ذلك
وهم يرقبون غفلتنا وينتظرون غرتنا وقد قتلوا جمالنا والدواب والصواب أن نجعل عليهم
حرسا في كل طريق يمكننا ولا نمكنهم أن يخرجوا من قلعتهم ونضيق عليهم ما استطعنا
قال أبو عبيدة: جزاك الله خيرا يا أبا سليمان ما ابصرك بالأمور فلما كان من الغد
وصلى أبو عبيدة بالناس صلاة الفجر دعا بعبد الرحمن بن أبي بكر وبضرار بن الأزور
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق ففرقهم حول القلعة ومعهم
من اختاروا وأمرهم أن يمسكوا الطريق والمسالك على يوقنا حتى لو طار طائر منها أو
إليها اقتنصوه وأقام القوم على ذلك مدة فلما طال عليهم ذلك ضجر أبو عبيدة لطول
مقامه فأمر الناس بالرحيل عنهم وعزم أن يتباعد عنهم أي عن القلعة لعل أن يجد منهم
غفلة فينتهزها قال فبعد عن المدينة فنزل بقرية بقرب منها يقال لها النيرب وهو يريد
حيلة يصل بها إلى يوقنا قال: ويوقنا لا ينزل من القلعة ولا يفتح بابها ففكر أبو
عبيدة غاية الفكرة وقال لخالد يا أبا سليمان أن جواسيس عدو الله تكشف أخبارنا
وتوصلها إليه وتخوفه فاني أقسم عليك يا أبا سليمان إلا ما جلت في عسكرنا جولة
واختبرت أمر الناس فلعلك تقع بأحد من جواسيسه قال فركب خالد وأمر الناس أن يدوروا
في عسكرهم وأن يقبضوا على كل من إنكروه قال فبينما خالد في طوافه إذ نظر إلى رجل
من العرب المتنصرة وبين يديه عباءة يقلبها فجعل خالد يرقبه فاستراب الرجل منه فناداه
وقال من أي الناس أنت يا أخا العرب قال أنا رجل من اليمن قال من أيها قال فأراد أن
يقول: وينتمي إلى غير قبيلته فجرى الحق على لسانه فقال أنا من غسان فلما سمع خالد
كلامه قبض عليه وقال له: يا عدو الله أنت عين علينا لعدونا قال: ما أنا متنصر وأنا
مسلم فأتى به إلى أبي عبيدة وقال:
أيها الأمير قد رابني أمر هذا لأنني ما رأيته قط إلا
يومي هذا وقد ذكر إنه من غسان ولا شك إنه من عباد الصليب فقال أبو عبيدة: اختبره
يا أبا سليمان قال: وكيف أختبره قال اختبره بالقرآن والصلاة فإن أجابك وإلا فهو
كافر فقال له خالد: فصل ركعتين واجهر بالقراءة فيهما فلم يدر ما يقول: فقال له
خالد: أنت يا عدو الله عين علينا ثم استخبره عن شأنه فأخبره وأقر إنه عين عليهم فقال
له خالد: أنت وحدك قال: لا ولكنا ثلاثة أنا أحدهم والاثنان قد ذهبا إلى القلعة
ليخبرا يوقنا بخبركم وأنا قد تخلفت لأنظر ما يكون من أمركم.
فقال أبو عبيدة: أخبرني أيما أحب إليك القتل أو الإسلام
فليس بعدهما شيء فقال الغساني أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول
الله ثم رجع أبو عبيدة إلى حلب وما زالت القلعة محاصرة أربعة أشهر وقيل خمسة اشهر
وابطأ خبر أبي عبيدة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى ابي عبيدة
يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله أبي عبيدة سلام عليك فاني
أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ واعلم يا أبا عبيدة أن
بانقطاع كتابك وابطاء خبرك يكثر قلقي ويضني جسدي على إخواني المسلمين وما لي ليل
ولا نهار إلا وقلبي عندكم ومعكم فإذا لم يأت منك خبر ولا رسول فإن عقلي طائر وفكري
حائر وكأنك لا تكتب الي إلا بالفتح أو الغنيمة واعلم يا أبا عبيدة أنني وأن غائبا
عنكم فإن همتي عندكم وإني داعي لكم وقلقي عليكم كقلق الوالدة الشفوقة على ولدها
فإذا قرأت كتابي هذا فكن للاسلام والمسلمين عضدا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعث الكتاب إلى أبي عبيدة فلما ورد عليه وقرأه عليهم قال معاشر المسلمين إذا كان
أمير المؤمنين داعيا لكم وراضيا عنكم في فعالكم فإن الله ينصركم على عدوكم ثم كتب
جواب الكتاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إلى ابي عبد الله أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب من عامله بالشام أبي عبيدة سلام عليك وإني أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه
وبعد يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى له الحمد قد فتح على أيدينا قنسرين وقد شننا
الغارة على العواصم وقد فتح الله علينا مدينة حلب صلحا وقد عصت علينا قلعتها وبها
خلق كثير مع بطريقها يوقنا وقد كادنا مرارا وذكر له ما جرى له مع أخيه يوحنا وأنه
قتل منا رجالا ورزقهم الله الشهادة على يديه ثم إنه ذكر له من قتل والله تعالى من
ورائه بالمرصاد وقد أردنا الحيلة عليه فلم نقدر وأردت الرحيل عنه وعن محاصرته إلى
البلاد التي بين حلب وانطاكية وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وبعث
الكتاب مع عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فسار إلى أن أخذا في طريق هيشت العتيقة
وجدا في السير حتى قطعا أرض الجفار إلى صكاصكة وهي حصن العرب قريبة من تيما فلما
وصلا إليها عارضهما فارس وعليه درع سابغ وعلى رأسه بيضة تلمع وهو معتقل برمح كأنه
قد برز إلى عدوه أو قاصد إلى قتال فلما نظر إليهما قصدهما فقال عبد الله بن قرط
لجعدة ابن جبير يا ويلك أما ترى هذا الفارس وقد عارضنا في مثل هذا المكان على مثل
هذه الحالة فقال له جعدة: وما عسى أن نتخوف من فرسان العرب ورجالها وليس في هذا
الموضع من رفع عمودا أو ضرب وتدا إلا واصبح معنا ودخل تحت طاعتنا وفي شريعتنا فلما
قرب الفارس منا سلم علينا وقال من أين أقبلتما والى اين قاصدان فقالا له نحن
رسولان من الأمير أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن أنت
أيها الرجل قال أنا هلال بن بدر الطائي فقالا له ما لنا نرى عليك آلة الحرب قال
إني خرجت في طوائف من قومي وجماعة من أصحابي نريد الشام للجهاد لكتاب ورد علينا من
عمر بن الخطاب فلما رأيتكما في بطن الوادي قصدتكما لأنظر ما قصتكما ولي أصحاب من
ورائي مقبلون.
ثم سلم عليهما وولى فركضا مطيهما وسارا وإذا بالخيل قد
أشرفت والإبل قد اقبلت تتبع هلال بن بدر ارسالا يتبع بعضها بعضا إلى أن لحقوه
فأخبرهم بقصة صاحبي رسول الله ﷺ ففرحوا بذلك وساروا يريدون الشام وأما عبد الله بن
قرط وجعدة بن جبير فانهما وصلا المدينة ودخلا المسجد وسلما على عمر بن الخطاب وعلى
المسلمين ودفعا له الكتاب فلما قرأه استبشر ورفع كفيه إلى السماء وقال اللهم اكف الناس
شر كل ذي شر ثم أمر مناديا في الناس الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قرا عليهم كتاب
أبي عبيدة فلما قرأه قدم عليه من حضرموت واقاصي اليمن من همدان ومدان وسبا ومارب
يسألونه أن ينفذهم إلى الشام فقال لهم عمر: في كم أنتم بارك الله فيكم قالوا: نحن
زهاء من أربعمائة فارس وثلثمائة مطية مردفين ومعنا أناس يمشون على أقدامهم لا ركاب
لهم فإن كان عند أمير المؤمنين ما يحملهم عليه حتى نصل إلى عدونا فقال لهم عمر:
وكم يبلغ الرجال الذين معكم قالوا: أربعين ومائة رجل فقال لهم: عرب أو موال قالوا:
عرب وموال أذن لهم ساداتهم في الجهاد والمسير إلى الأعداء فعندها دعا عمر بعبد الله
ابنه رضي الله عنه وقال أمض إلى مال الصدقات فأت القوم بسبعين راحلة ليعتقبوا
عليها ويحملوا زادهم وميرتهم على ظهورها فأسرع عبد الله بن عمر وأتى بسبعين بعيرا
وسلمها إليهم وقال لهم: جدوا رحمكم الله إلى اخوانكم المسلمين واسرعوا إلى حرب
عدوكم ثم كتب إلى ابي عبيدة أما بعد فقد ورد علي كتابك مع رسلك فسرني ما سمعت من
الفتح والنصر على اعدائكم ومن قتل من الشهداء وأما ما ذكرته من انصرافك إلى البلاد
التي بين حلب وانطاكية وتترك القلعة ومن فيها فهذا رأي غير صواب تترك رجلا قد دنوت
من دياره وملكت مدينته ثم ترحل فيبلغ إلى جميع النواحي إنك لم تقدر عليه ولم تصل
إليه فيضعف ذكرك ويعلو ذكره ويطمع من يطمع ويجترىء عليك أجناد الروم خاصتهم وعامتهم
وترجع إليه الجواسيس وتكاتب ملوكها في أمرك فإياك أن تبرح عن مجاهدته حتى يقتله
الله او يسلم إليك أن شاء الله تعالى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين وبث الخيل في
السهل والوعر والضيق والسعة وأكناف الجبال والأودية وشن الغارات في حدود المفازات
ومن صالحكم منهم فاقبل صلحه ومن سالمك فسالمه والله خليفتي عليك وعلى المسلمين وقد
انقذت كتابي إليك ومعه عصبة من حضرموت وغيرهم وأهل مشايخ اليمن ممن وهب نفسه لله
تعالى ورغب في الجهاد في سبيل الله وهم عرب وموال فرسان ورجال والمدد يأتيك
متواترا أن شاء الله تعالى والسلام وختم الكتاب وسلمه لعبد الله بن قرط وجعدة وجعل
القوم يجدون في سيرهم ومع ذلك يسألون عبد الله بن قرط وصاحبه عن بلاد الشام وفتح
البلاد وقتل الروم إلى أن سألوهما عن مستقر العسكر فقال لهم عبد الله: أن جميع
المسلمين وأميرهم محاصرون بقلعة حلب وفيها عظيم من عظماء الروم ومعه أعلاج من
أصحابه وقد تحصنوا في رأس قلعته فقالوا له: يا ابن قرط ما لهؤلاء لا يدخلون في
جملة من صالح من أصحابهم فقال لهم: يا معاشر العرب أنا لم نر بعد وقعة اليرموك
رجالا أشجع من هذا فلقد قتل رجالا وجندل أبطالا وأنه ليغير على أطراف العسكر في
وقت صلاتهم فيقتل رجالهم وينهب أموالهم ويرجع إلى قلعته وربما إنه يستتر في سواد
الليل في طلب العلافة فيقع بهم فيأمر بهم ويأخذ دوابهم وجميع.
زادهم وميرتهم ثم يعود إلى قلعته ونحن لا نعلم به وأن
المسلمين له محاصرون ومنه خائفون حذرون.
قال: وكان فيمن سمع كلامه وفهمه مولى من موالي بني طريف من ملوك
كندة ويقال له دامس: ويكنى بأبي الأهوال مشهور باسمه وكنيته وكان اسود كثير السواد
بصاصا كأنه النخلة السحوق إذا ركب الفرس العالي من الخيل تخط رجلاه بالأرض وأن ركب
البعير العالي تقارب ركبتاه رجلي البعير وكان فارسا شجاعا قويا قد شاع ذكره ونما
أمره وعلا قدره في بلاد كندة وأودية حضرموت وجبال مهرة وارض الشحر وقد أخاف
البادية ونهب أموال الحاضرة وكان مع ذلك لا تدركه الخيل العتاة وكان إذا ادركته
العرب في باديتها تعجبت من صولته وشجاعته وبراعته فلما سمع دامس أبو الهول بذكر
يوقنا وما فعل بالمسلمين كاد أن يتمزق غيظا وحنقا وقال لعبد الله ابن قرط أبشر يا
أخا العرب فوالله لأجتهدن في أن يخذله الله على يدي فلما سمع عبد الله كلامه جعل
ينظر إليه شزرا وقال: يا ابن السوداء لقد حدثتك نفسك آمالا لا تبلغها وأشياء لا
تدركها يا ويلك ألم تعلم أن فرسان المسلمين وأبطال الموحدين بأجمعهم له محاصرون
ولأصحابه محاربون ومع ذلك لا يقدر أحد له على شر وقد كاد ملوكا وقهرها فلما سمع
دامس كلام عبد الله بن قرط غضب وقال: والله يا عبد الله لولا ما يلزمني لك من أخوة
الإسلام لبدأت بك قبله فاحذر أن تزدري بالرجال وأن أحببت أن تعرفني فسل عني من حضر
من أهلي وما قد تقدم من فعلي الذي من ذكره تطيش العقول وتضيق الصدور كم من عساكر
قتلتها وجموع فرقتها ومحافل بددتها وغارات شننتها ولا يضام لي جار ولا يلحقني عار
وبحمدالله أنا فارس كرار غير فرار ثم تركه مغضبا وسار أمام الناس وأن قوما من
العرب قالوا: لعبد الله بن قرط يا أخا العرب ارفق بنفسك فانك وايم الله تخاطب رجلا
يقرب إليه البعيد ويهون عليه الصعب الشديد وانه لجليد فريد لا تهوله الرجال ولا
تفزعه الأبطال أن كان في حرب كان في أولها لا يدركه من طلب ولا يفوته من هرب فقال
عبد الله لقد كثر وصفكم وأطنبتكم في ذكركم وأرجو أن يجعل الله فيه خيرا وفرجا
للمسلمين قال ثم أخذ القوم في جد السير حتى قدموا حلب إلى أبي عبيدة وهو منازل أهل
قلعة حلب ومحاصرها وقد أحاط المسلمون بالقلعة من كل جانب فلما أشرف القوم عليهم أخذوا
في زينتهم وجردوا سيوفهم وأشهروا سلاحهم ونشروا راياتهم وكبروا بأجمعهم وصلو على
نبيهم فاجابهم أهل العسكر بالتكبير من كل جانب واستقبلهم أبو عبيدة وسلم عليهم
وسلموا عليه ونزل كل قوم عند بني عمهم وعشيرتهم ويوقنا ما زال في كل ليلة ينشط
إليهم برجاله ويناوشهم وذلك إنه كان لا يقاتلهم إلا قليلا ولا يظهر من القلعة
نهارا ابدا وكان أكثر خروجه في وقت خروج الناس فلما بات المسلمون القادمون في تلك
الليلة ونظرت طيء وسنيس ونبهان وكندة وحضرموت إلى شدة الحرس وعظم حرسهم وحذرهم
اقبل دامس أبو الهول على اهله الذين نزل عليهم من طريف وكندة فقال لهم دامس: والله
ما أنتم محاصرون لا محالة فقالوا له: وكيف لك قال: لان العدو في راس قلعة وانتم قدام
العدو من الأرض لقربكم ولا عسكر بازائكم تخافونه فما هذا الخوف قالوا: يا أبا الهول أن
صاحب هذه القلعة علج ميشوم يرتقب غفلتنا ويغير على أطرافنا ويأتينا من امننا
فبينما دامس يخاطب القوم وإذا بالضجة قد وقعت في طرف عسكر المسلمين ولها جلبة
عظيمة فوقف دامس منتضيا حسامه متنكبا حجفته وطلب الناحية التي سمع منها الصوت حتى
بلغ إليها وإذا بيوقنا في خمسمائة رجل أبطال أنجاد وليوث شداد وقد وجد غرة من
القوم فلما نظر دامس إلى الروم وقع في وسطهم وجعل يقول:
أنا أبو الهول واسمي دامس
...
أكر في جمعهم مداعس
ليث هزبر بطل ممارس
...
مدمر كل عدو ناكس
قال: وجعل يضرب في أعراضهم بسيفه ومعه طائفة من بني طريف من شجعانهم
وفرسانهم فلما نظر يوقنا ما نزل به تقهقر إلى ورائه وقد قتل من رجاله مائتان ودامس
يكر عليهم ويتبعهم إلى رأس درب القلعة وكندة من ورائه فناداهم أبو عبيدة عزيمة مني
عليكم أن لا يتبعهم منكم أحد في ظلمة هذا الليل فقال الناس يا أبا الهول أن الأمير
يعزم علينا وعليك بالرجوع فارجع رحمك الله فرجع دامس إلى رحله وتراجع القوم إلى
رحالهم وقد أبليت كندة بلاء حسنا والناس قد خرجوا فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة
مع أبي عبيدة فلما قضيت الصلاة تفرقوا ولم يبق إلا نفر يسير من أمراء المسلمين
فجعلوا يذكرون ليلتهم فقال خالد: أصلح الله الأمير لقد رأيت كندة وقد ابليت بلاء
حسنا وقد تقدمت رجالها وثبتت ابطالها وما زالت تضرب حتى أزالت عنا حامية الكفر
والعدو فقال أبو عبيدة: صدقت والله يا أبا سليمان والله لقد أسعدت الناس كندة
بثباتها والله لقد سمعتم يقولون أحسن دامس وأجاد أبو الهول فقام إلى ابي عبيدة رجل
من رؤساء كندة يقال له سراقة بن مرداس بن يكرب فقال: أصلح الله الأمير دامس هو أبو
الهول وهو مولى طريف قدم مع هذا الوفد الذي ورد بالأمس وهو رجل يفجر ويهول على
الأبطال ويفضح الشجعان وبذل الأقران لا يهوله جمع ولا يصعب عليه غارة فقال أبو
عبيدة: لخالد أما تسمع كلام سراقة في عبدهم دامس فقال خالد: يوشك أن يكون صادقا في
قوله ولقد سمعت بذكره وحديثه وشجاعته وبراعته ولقد أخبرني رجل يقال له النعمان بن
عشيرة المهري: إن دامسا هذا أغار وحده وهم على ساحل البحر في سبعين رجلا من أهل
مهرة وكان دامس هذا يطلبهم لأجل ثأر كان له عند القوم وكانوا يخافون منه ومن شره
وبأسه فكانوا مع ذلك يفتدون بأموالهم ودوابهم ويهربون إلى أطراف الجبال وسواحل
البحر حذرا منه وكان مع ذلك يسال عن أخبارهم ويطلع على آثارهم فلما اصبح عند
نزولهم على ساحل البحر استصرخ قومه للغزو فتشاغلوا ولم ينفر منهم أحد معه وكان
خبيرا بالبلاد سهلها ووعرها برها وبحرها فلما ايس من قومه دخل إلى خبايته واحتمل رزمة
على عاتقه فأتاه اناس من قومه وقالوا له: إلى اين تريد وما هذا الذي معك فقال: يا
قوم أنا أريد الغارة على بني الشعر وآخذ بالثار واكشف العار فقال له مشايخ الحي:
ما رأينا أعجب من أمرك وأنت تعلم أن بني الشعر سبعون فمن يريد أن يغير عليهم وحده
ويأخذ منهم بالثأر وما سمعنا بهذا ابدا وأنا نرى أن تقصد جواد وكانت جواد هذه امة
لبني حياس من الحضارمة وكانت بقرية من قرى حضرموت يقال لها: أسفل وكان دامس هذا
يهواها وكل ما يأخذه من الأموال والخيل والإبل يدفعه إليها ولا يعظم عليه كثرته
وكان لا يرضى لها بالقليل ولا يشبع لها بالكثير فظن القوم إنه مضى إليها وقصد
نحوها بحملته التي معه من رزمته فقال لهم: وايم الله إني بطل فما تظنون وسوف
تعلمون أن ما أفعله الحق واليقين قال فرجع قومه وتركوه وسار إلى أن أتى إلى مرعى
قومه فأخذ راحلته من ابلهم ورحلها واخذ سيفه وحجفته وجعل الرزمة تحته وسار بقية
يومه وليلته حتى إذ كان آخر الليل عطف بالراحلة إلى بعض الأودية فأبركها وحل رحلها
وعقلها ودورها ترعى معقولة ثم كمن بين حجرين وكان قريبا من القوم ويخاف أن يدوروا
به فلما مضى عليه نهاره واقبل ليله أتى إلى راحلته وأبركها ورحلها واستوى في كورها
وسار حتى اشرف على نار القوم فعدل بناقته حتى اشرف على الحي وكان في ذلك الشرف شجر
من الطلح فأبرك ناقته وزم شدقها لئلا ترغو فيسمع القوم رغاءها ثم عمد إلى رزمته
فحلها واستخرج منها الثياب واتى إلى تلك الشجرة فجعل على كل عود منها مثل عمامة
الرجل ويأتي بالعود ينصبه ويسنده بالحجارة ويطرح عليه الأزار ولم يزل حتى أقام
أربعين عودا على هذه الصفة وجعل عليه حلة حمراء أرجوانية وهبط من ذلك الشرف الذي
عليه الثياب وقصد الحي ودار حول بيوتهم وتفكر في أمره وكيف يحتال وقد مضى أكثر
الليل ثم صبر إلى أن طلع الفجر وسار نحو الساحل فلما قرب منهم صاح فيهم وقال دنا أجلكم
أنا أبو الهول ولقد أصبحتم بالويل وأخذتم من البر والبحر وجعل ينادي يا لثار طريف
يا آل طريف يا آل كندة فلما وقع صوته في أسماعهم ذهلت رجالهم وتصارخت نساؤهم وفزع
القوم بين يديه من البيوت هاربين والى الساحل نحو الجبل طالبين وهو من خلفهم فلما
رأوه وحده شجع بعضهم بعضا ورجعوا إليه يقاتلونه وطمعوا فيه لما رأوه وحده ولم يروا
أحدا من ورائه وأخذوا في طلبه فجعل يكر عليهم ويرجع عنهم ويقتل رجلا بعد رجل فلما
نظروا إلى شدة بأسه وعظم مراسه وهول صولته وشدة حملته أرادوا أن يسبقوه إلى الشرف
ليأتوا إليه من ورائه فلما علم إنهم قد قاربوا الأعواد التي عملها وعليها الثياب
خاف أن ينظروا إليها ويعلموا ما فعله من المكر فسبقهم إلى الشرف وسار أمامهم وأقبل
على الأعواد مخاطبا لها كأنه يخاطب الرجال وهو يقول: يا أهل كندة يا أهل طريف
إياكم والقوم قد أتتكم الرجال فلا تحملوا عليهم وأنا أفديكم بنفسي فإن رأيتم علي
الحيف فاحملوا على القوم فمد القوم ابصارهم إليه فوجدوا عنده الثياب على الأعواد
في انشقاق الفجر فلم يشكو إنهم رجال فانقلبوا راجعين نحو البحر وجعل دامس ينادي
إلا يا قوم أقسمت عليكم أن لا تبرحوا من أماكنكم وأنا أكفيكم مؤنة القوم وحدي
فرجعت بنو مهرة ناكصين على أعقابهم هذا قد أردف زوجته وهذا أولاده وهذا أمته وهذا
أخذ ما قدر عليه من أثاثه ورجع أبو الهول إلى الحي فلم يصادف فيه إلا العبيد
والصبيان والمشايخ والعجائز فأمر العبيد أن يوقروا الجمال فحملوها وكتفهم وساق
الجميع قدامه وعاد وأخذ الثياب من على الأعواد ولحقهم وأتى بهم ديار قومه فعجبوا
منه ومن فعاله فلما سمع أبو عبيدة ذلك من خالد أقبل على سراقة وقال له: ادع لي عبدكم
حتى أنظر إليه واسمع كلامه فأتى به سراقة فقال له أبو عبيدة: أنت دامس قال: نعم
أصلح الله الأمير فقال له: بلغني عنك عجائب وأنت وايم الله أهلها لأنك جزل من
الرجال وأعلم إنك وقومك تقاتلون في بلاد سهلة لا تأتون الجبال ولا القلاع ولقد
اقتحمت البارحة أثر القوم اقتحاما منكرا فارفق بنفسك واحذر من هذا البطريق يوقنا
فقال له دامس: أصلح الله الأمير لقد غزوت مهرة وأخذت أموالها وأن جبالها منيعة
شامخة رفيعة ذات وعر وحجر وما هذه بامنع من تلك الجبال فقال أبو عبيدة: أنا أراك
نجيبا فهل حدثتك نفسك من أمر هذه القلعة بشيء فقال دامس أصلح الله الأمير إني لما
قدمت عليك في هذا الوقت كنت رأيت في نومي رؤيا فقال أبو عبيدة: وما الذي رأيت أراك
الله الخير قال رأيت كأني سائر في وطاة من الأرض وإني مجد أطلب قومي فبينما أنا في
مسيري إذ أشرفت عليهم وهم حائرون لا يتقدمون ولا يتأخرون فناديتهم يا قوم ما شأنكم
وأي شيء عرض لكم في طريقكم فقال لي القوم ما ترى هذا الجبل كيف قد عرض لنا في آخر هذا
الطريق وليس لنا فيه مسلك ولا مطلع فقلت: على رسلكم إلا ترون هذه الفجوة في هذا
الجبل فقالوا: هيهات ليس لنا فيه منقذ ولا مطلع فقلت: ولم ذلك قالوا: لأن فيه
ثعبانا عظيما لا يمر به أحد إلا وأهلكه وقد قتل رجالا وجندل أبطالا فقلت: يا قوم
إلا تهجمون عليه بأجمعكم قالوا: لا نقدر على ذلك لأن النار تخرج من أنفاسه وليس
لنا عليه من سبيل فقلت لهم: فالتمسوا لكم طريقا من وراء ظهره فقالوا: لا نقدر على
ذلك من عظم جثته فتركتهم والتمست لي طريقا فلم أجد إلا طريقا صعبا حرجا فاقتحمته
فما سلكته إلا بعد المشقة وأتيت إلى الثعبان من ورائه فقتلته ثم أشرفت على قومي فاتبعوني
فما وصلوا إلا بعد جهد جهيد وهم آمنون من عدوهم ثم استيقظت فرحا مسرورا.
فقال أبو عبيدة: خير رأيت وخيرا يكون يا دامس أما رؤياك هذه
فإنها للمسلمين بشارة ولعدونا خسارة ثم قال له: اجلس مكانك وأمر أبو عبيدة أن
ينادي المسلمين فحضر رؤساء المسلمين وأعيانهم فلما حضروا قال أبو عبيدة: الله أكبر
فتح الله ونصر وحبانا بالظفر وخذل من كفر ثم قال: يا معاشر المسلمين اسمعوا رؤيا
أخيكم دامس فإنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن افتكر قال فأقبلوا يسمعون له فعندها
قام أبو عبيدة على قدميه وقال الحمد لله وصلى الله على رسوله وسلم ثم قال: يا
معاشر الناس أن الله سبحانه وتعالى له الحمد قد وعدنا في كتابه على لسان نبيه محمد
ﷺ الغلبة على أعدائنا والظفر بمرادنا وما كان الله ليخلف وعده وإني نذرت أن فتح
الله هذه القلعة على يدي أصنع من البر ما استطعت والآن قد هجس في نفسي ووقع في
قلبي أنا ظافرون بهذه القلعة ومن فيها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم لأنه قد دلني على ذلك رؤيا هذا الغلام ثم قبض بكفه على زند أبي الهول
وقال له: رحمك الله حدث اخوانك بما رأيت في منامك فقام دامس قائما وقال اعلموا إني
رأيت في منامي كذا وكذا وجعل يقص على الناس رؤياه من أولها إلى آخرها فلما فرغ
منها أقبل المسلمون على أبي عبيدة وقالوا له: أيها الأمير قد سمعنا قوله وحفظنا شرحه
فما تأويل رؤياه قال أبو عبيدة:
أعلموا رحمكم الله أما الجبل الذي رآه عاليا شامخا شديد
الأمتناع بين الشعاب والقلاع فذلك دين الإسلام بلا شك وسنة محمد ﷺ وأما الثعبان
الذي رآه وقد منع الناس وقد هجم عليه بسيفه فأمر حسن هو أن يفرج الله على يديه على
المسلمين ففرح الناس بتأويل أبي عبيدة وقالوا: أيها الأمير فما الذي تأمرنا به
فقال آمركم بتقوى الله سرا وجهرا ثم المكيدة على الأعداء طوعا وصبرا فارجعوا إلى
رحالكم حفظكم الله واصلحوا شأنكم وآلة حربكم وما تحتاجون إليه فاني أقدمكم غداة غد
إلى أعاديكم إلى أن يحدث لي رأي غير هذا فاني لست أدع الاجتهاد في الرأي والمشاورة
لمن أثق به وبرأيه من المسلمين فقالوا:
بأجمعهم وفق الله رأيك أيها الأمير وظفرك بأعدائك إنه
سميع عليم فعال لما يريد ومضوا إلى رحالهم فجعل هذا يحد سيفه وهذا يصلح آلة حربه
وفرسه وهذا يتفقد درعه وهذا قوسه ونشابه وما زالوا كذلك بقية يومهم فلما اصبحوا
دعا أبو عبيدة بدامس فقال له: أيها الولد المبارك ماذا ترى في أمر هذه القلعة وما
عندك من الحيلة فقال دامس اعلم أيها الأمير إنها قلعة منيعة شامخة حصينة تعجز
اتوافد وتمنع القاصد في أهلها محاصرة ولا تضيق صدورهم من قتال غير إني أفكر في
حيلة احتالها أو بلية اعملها وأرجو من الله أن يتم ذلك عليهم فيكون تبديدهم ونملك
بمشيئة الله ديارهم ونقلع آثارهم فقال أبو عبيدة: يا دامس وما هي فقال أصلح الله
الأمير أنت تعلم ما في اذاعة عة الأسرار من الشر والأضرار ومن كتم سره كانت الخيرة
فيما لديه ويقال أن دامسا هذا أول من تكلم بهذه الكلمة فصارت مثلا فقال أبو عبيدة:
فما الذي تشير إليه وما الذي تعتمد عليه.
قال تزحف بعسكرك وجملة من معك من أصحابك حتى تنزلوا
بازاء القلعة ليظهر لهم منك الحرص والهيبة واعلم أن في ذلك من الحيل ما أرجو من
الله أن يتمها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأمر أبو
عبيدة عسكره بالرحيل فارتحلوا ونزلوا تحت القلعة وهللوا وكبروا وأظهروا سلاحهم
وارهبوا أعداء الله تعالى قال فأشرف عليهم الروم ونظروا إلى جمعهم فهابوهم وألقى
الله الرعب في قلوبهم حتى إنهم اضطربوا في قلعتهم وماجوا وجعل كبراؤهم يستشيرون
فيما بينهم فقال قوم نقاتلهم وقال قوم بل نقعد في قلعتنا فانهم لا يقدرون علينا ثم
اجتمع رأيهم على القتال من فوق القلعة وقعدوا على الأبراج والبنيان وجعلوا يرمون المسلمين
بالحجارة والسهام وقد أقاموا على ذلك ليلا ونهارا ودامس مع ذلك يعمل حيله يصل بهم
إليهم بسوء قال فلما كان بعد السبعة والأربعين يوما أقبل دامس على أبي عبيدة وقال
له: أيها الأمير قد عجزت وأنا أعمل حيلا فما صدر من يدي في حقهم شيء وقد افتكرت في
شيء وأرجو من الله أن يكون به الظفر والظهور على أعداء الله فقال أبو عبيدة: وما
الذي دبرت قال تضيف الي من صناديد الرجال ثلاثين رجلا وتامرهم بالطاعة وترك
المخالفة والأعتراض علي فيما آمرهم به وأفعله وأراه فقال أبو عبيدة: سأفعل ذلك ثم
ضم إليه ثلاثين رجلا من الشجعان حتى إذا اجتمعوا قال لهم أبو عبيدة: معاشر
المسلمين إني قد أمرت دامسا عليكم وأمرتكم بالطاعة والقبول لأمره واعلموا رحمكم
الله إني ما أمرته عليكم لكونه أجل منكم حسبا ونسبا ولا أعظم موكبا ولا أشد بأسا
ولا أكثر مراسا فلا يقل أحدكم إني قد أمرت عليكم عبدا احتقارا بكم وبالله أحلف مجتهدا
لولا ما يلزمني من تدبير هذا العسكر لكنت أول من ينطلق معه في جمعكم وأنا أرجو من
الله أن يفتح على يديكم فأقبلوا عليه بجمعهم وقالوا: أصلح الله الأمير ما نشك في أعظامك لنا
ومعرفتك بسابقتنا ولقد كان كلامك الأول أثر في نفوسنا وها نحن لك وبين يديك ولو
أمرت علينا علجا اغلف لم نخرج لك من أمر ولا رأي إذ علمنا إنك لا تريد إلا نصحا
للدين وحياطة فالسمع والطاعة لله ثم لك ثم لمن وليته علينا من قبلك كائنا من الناس
أجمعين قال ففرح أبو عبيدة بما قالوه ووثق بكلامهم وجزاهم خيرا وقال لهم: اعلموا
رحمكم الله تعالى أن نفسي تحدثني أن الله تعالى يفتح هذه القلعة على يد هذا العبد
المقبل لأنه دقيق الحيلة حسن البصيرة فسيروا معه وثقوا بالله وتوكلوا عليه وقد
تعلمون أن رسول الله ﷺ قد ولى قوادا على سادات العرب من المسلمين والأشراف من
عشيرته ثم اقبل على دامس فقال له: يا دامس ما الذي تحب بعد هذا قال ترحل أنت بجيشك
من وقتك هذا فتكون منا على مسيرة فرسخ فتنزل بالعسكر وتأمرهم بقلة الحركة وأن
يختفوا ما استطاعوا او يكون لك رجال تثق بشدتهم ونصحهم للمسلمين يتجسسون عن
أخبارنا وآثارنا من غير أن يعلم بهم وبنا أحد ويكونون بغير سلاح سوى الخناجر فإذا
عاينوا منا الظهور على أعدائنا والظفر بهم لحقوك وبشروك بذلك فتلحق بنا أن شاء الله
تعالى وليكونوا متفرقين في موضع واحد فإن ذلك اسلم لهم وأبلغ لما يريدون من أمورهم
والله المستعان في جميع الأمور والأحوال.
فعلم أبو عبيدة إنه نصيح من الرجال صاحب رأي وبصيرة ثم
أن دامسا اقبل على رفاقه الذين ولى عليهم وقال لهم: يا فتيان العرب انهضوا بنا بارك
الله فيكم حتى نكمن في بعض هذا الوادي ما دام الناس عازمين على الرحيل لئلا تشرف
الروم فينظروا إلى رحيلنا فلا يتفق لنا أن نطلب لنا مكمنا إذا أشرفوا من أعلى
حصنهم وليكن مع كل رجل منكم سيفه وحجفته وخنجره لا غير ففعلوا ذلك فلما تكاملوا
لبس دامس لامة حربه وجعل خنجره تحت أثوابه واخذ جماعته وخرج بهم حتى إذا فارق
العسكر جعلوا يخفون آثارهم واشخاصهم وهو سائر بهم حتى أتى بهم كهفا في الجبل فأمرهم
بالدخول إليه وجلس على بابه قال: واما أبو عبيدة فإنه أمر الناس بالرحيل بعد ما
رتب الرجال كما وصاه أبو الهول فارتحل العسكر واشرف عليهم أهل القلعة فرأوهم
يرحلون ففرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما وصاروا يصيحون على المسلمين من أعلى القلعة
وقالوا: لبطريقهم أيها السيد افتح لنا الباب حتى نخرج وراء العرب فلعل أن نقتل
أحدا أو ناسره فنهاهم عن ذلك قال: وداموا بقية يومهم إلى العشاء فقال دامس لأصحابه
من فيكم ينهض إلى تحت القلعة ويأتينا بخبر منها إذ يقدر على رجل يأسره فيأتينا به
فنأخذ منه خبرا فلم يجبه أحد فقال أنا أعلم أن ما في هذه الجماعة إلا من هو ضنين
نفسه كاره للموت وأنا لكم الفداء فانظروا كيف تكمنون ثم تركهم دامس ومضى فغاب عنهم
ساعة وإذا به قد أتى ومعه علج وقال لهم: يا فتيان العرب دونكم هذا فاسألوه فسألوه
فلم يفقهوا قوله فقال على رسلكم فغاب غير بعيد وأتى بثلاثة أخر فلم يكن فيهم من
يفهم بلغة العرب فقال دامس لعن الله هؤلاء ما أفظع لغتهم واكثر طمطمتهم ثم أوثقهم
كتافا وغاب إلى أن مضى من الليل نصفه ولم يأت فقلق عليه أصحابه قلقا شديدا واغتموا
عليه وقال بعضهم لبعض أنا أقول أن دامسا قد فطن به فقتل أو أسر وماجوا في ذكره
وهموا أن يرجعوا إلى العسكر فبينما هم في ذلك إذ دخل إليهم دامس وهو يقود رجلا من
الروم فتواثبوا إليه وقبلوه بين عينيه وسألوه عن ابطائه وقالوا له: يا دامس لقد
حدثتنا نفوسنا بالعظائم وصعب علينا ابطاؤك عنا فقال اعلموا رحمكم الله تعالى إني
لما فارقتكم سرت إلى قريب من سور القلعة وكمنت لهم وهم يمرون علي وهم يرطنون
بلغتهم وأنا لا أتعرض للقوم كل ذلك وأنا أطلب من يتعرض للعربية ويتكلم بها فلم أر
أحدا حتى أيست وهممت بالرجوع خائبا إذ سمعت هدة شديدة قد وقعت من أعلى السور فأسرعت
إليها لأنظر إليها ما هي فإذا أنا بهذا الرجل وقد ألقى نفسه من القلعة إلى أسفل
السور فبادرت إليه وأخذته وأتيت به إليكم فانظروا ما هو فدنوا إليه وخاطبوه فلم
يكلمهم إلا بلغته وإذا به قد انفتحت جبهته فقال لهم دامس: اعلموا أن له شأنا وأي
شأن وإني أظنه هاربا من القوم وليس فيكم من يفهم ما يقول: ولكن على رسلكم فأنا
آتيكم بمن يتكلم بلسانه وبالعربية ثم اسرع دامس من عندهم فلم يكن إلا قليل وإذا به
قد عاد ومعه رجل قد نزلت عمامته في رقبته وهو يقوده حتى مثله عندنا فقالوا له: من
المدينة أنت أم من القلعة فقال له دامس: ممن أنت تكون أمن الروم أم من العرب
المتنصرة قال: ولكني مع العرب المتنصرة فقالوا: يا هذا هل لك أن تطلعنا على
عورات القلعة أو عورة من عوراتها ونحن نطلق سبيلك ولا يتعرض إليك أحد بسوء فقال:
يا هؤلاء لست أعرف لهذه القلعة عورة ولا طريقا ولو عرفت لما وسعني في ديني ولا رأيت
أن أدلكم عليها وحق المسيح قال فانغاظ منه دامس وقال له: اسأل هؤلاء الاسارى هل
فيهم أحد من أهل الربض فإن بيننا وبينهم صلحا قال فسألهم فلم يجد فيهم أحدا من أهل
الربض بل كلهم من أهل القلعة وأنا أعرفهم.
فقال له دامس: فاسأل هذا الرجل لم طرح نفسه من السور وما
دعاه إلى ذلك فسأله فقال له: إنه يقول: أن الملك يوقنا غضب على أهل الربض لأجل
صلحهم لكم وبعث يتهددهم فلما انصرفت العرب نزل يوقنا فجمع رؤوسهم واصعدهم إلى
القلعة وأنا في جملتهم وطلب منا من الأموال ما لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه فلما
رأيت ما قد نزل بنا هربت والقيت نفسي من القلعة اطلب الفرج وأنجو من العقوبة فلم أشعر
إلا وأنت قد قبضت علي وأنا من أهل الربض فإن كنتم من العرب فأنا في ذمتكم وأمانكم
فلا تنكثوا ولا تغدروا وأن كنتم من غيرهم فاطلبوا مني ما أردتم من الفداء فاني قد
هربت من العقوبة فقال له دامس: قل له: نحن من العرب ولا بأس عليك ولا خوف ولا
ينالك منا سوء وأراد دامس أن يرى الربض ما يفعل بأعدائه فأخرج الروم والمتنصرة
وضرب رقابهم ولم يدع غير الربض ثم أطلقه واستمروا إلى الليل وعمد دامس إلى مزوده
فاستخرج منه جلد ماعز والقاه على ظهره وأخرج كعكا يابسا وقال لأصحابه: بسم الله
استعينوا بالله وتوكلوا عليه واخفوا نفوسكم وقدموا الحزم في اموركم فاني معول على
فتح هذه القلعة أن شاء الله تعالى فقالوا: سر على بركة الله تعالى فقاموا مسرعين
وتقدم دامس وبعث رجلين من أصحابه يعلمان أبا عبيدى بشأنهم ويقولان له ابعث الخيل عند
طلوع الفجر قال فانطلق الرجلان وصعد دامس ومن معه تحت الظلام ودامس على المقدمة
يمشي على أربعة والجلد على ظهره وكلما أحس بشيء قرض في الكعك كأنه كلب يقرض عظما
وهم من ورائه يقفون أثره وهم يستترون بين الأحجار فلا زالوا كذلك حتى لاصقوا السور
وسمعوا اصوات الحرس وزعقات الرجال من أعلى القلعة والحرس شديد فلم يزل دامس دائرا
بهم حول السور إلى أن أتى إلى مكان لم يجد به حسا وإذا بحرسه قد ناموا وراء المكان
ولم يروا في السور أقرب منه فقال دامس لأصحابه أنتم ترون هذه القلعة وعلوها
وتحصينها وليس فيها حيلة لشدة الحرس ويقظة القوم فما الذي ترون من الرأي أن نصنع
بها وكيف الحيلة في الصعود إليها إلى أن نحصل في وسطها فقالوا: يا دامس أن الأمير
أمرك علينا وأنت أدرى منا وأجرا جنانا ونحن لك بين يديك فمهما رأيت فيه الصلاح للمسلمين
فلا نتأخر عنه ووالله أن قتل نفوسنا وذهاب أرواحنا اسهل علينا من الرجوع بغير
فائدة فمنك الأمر ومنا السمع والطاعة فليس منا من يتأخر عنك ولا نموت إلا تحت ظلال
السيوف وفي طاعة الله ونصرة دين الإسلام فقال دامس شكر الله فضلكم ورزقكم النصر
على اعدائكم فإن كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان قال: وكانوا ثمانية
وعشرين رجلا وأثنان كانوا ارسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح.
فقال لهم دامس: أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة
فقلنا له يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير
سلم فقال على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالاسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك
البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لأحد السبعة: اجلس
على منكبي وارم بحيلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر
آخر أن يفعل ويصعد على منكبي الآخر وأن يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم
يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند
ذلك أمر الأعلى أن يقوم قائما وأن يطرح حيله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم
قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار
ثم قام دامس آخرهم فإذا الأعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور
ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائما وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه
فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم
بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله إليه فإذا هو معه على السور وكان
دامس قد أعطاه حبلا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور واصعدوا من
بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول فقال لهم: مكانكم حتى أقفوا الخبر
واكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة
وأكابرهم وهم جلوس وبين ايديهم بواطى الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من
الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومعصب بعصابة من الجوهر والقوم
يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال أعلموا أن القوم خلق
كثير وأن هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان
وقت السحر هجمنا على يوقنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم
الله لنا وعلى ايدينا فهو الذي نريد وأن كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك
أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا فقالوا: ما نخالف لك امرا
ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا إلا صدق جهادنا والعزم والشدة من
قوتنا فقال لهم: مكانكم فلعل أن يفتح الباب قال: وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون
داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقا وإذا
بالقوم رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه
وقد قرب الفجر فقال لهم: ابشروا فاني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم
والباب فاسبقوهم إليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدا بأسياف المسلمين أن شاء
الله تعالى قال: وأرسل من يستعجل خالدا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون
الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم
إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانا يحميه فعندها جاءت الأبطال وصاحت الروم ويلاه
كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر
المسلمون ونادوا بلسان واحد الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم قال ابن
أوس وقاتلت الروم قتالا شديدا وأما المسلمون فكانوا كالاسد الضارية فما رأيت أقوى
بأسا ولا أشد مراسا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعد ما
انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحا كلها في مقدم بدنه قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن
يحمي بعضنا بعضا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي
من بني حزم وأبو حامد بن سراقة الحميري والفارع بن مسيب التميمي وفزارة بن مراد
العوفي.
قال الواقدي: لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن
حازم وكان ممن صحب دامسا في قلعة حلب قال لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضا ملاعب
بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله ﷺ الحديبية وتبوك ومرارة بن
ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله ﷺ في تبوك وأنزل
الله فيه ما أنزل قال: وبقينا عشرين رجلا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة
آلاف وهم سد من حديد قال: ونحن قد أيسنا من الحياة إذ دخل علينا خالد بن الوليد
ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم
خالد فجفلت الروم عنا قال أوس فلما رأيناهم كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت
قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك
وعلموا إنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا
أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة
ومعه عساكر الإسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم
القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة: قد وفقوا وسددوا فأمر باحضار
رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الإسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم
قال فردج عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر
وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا إلا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة قال
ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عدد فأخرج منه الخمس وقسم
الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله وعجائبه وعالجوا جراحته حتى
برأت قال: وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم أن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين واكابرهم
وشاورهم في أمره وقال أن الله وله الحمد قد فتح هذه القلعة على أيدي المسلمين وما
بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد انطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم
مع هرقل فما ترون من الرأي قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح
وقال: أيها الأمير أن الله تبارك وتعالى قد ايدكم واظفركم بعوكم ونصركم وما ذاك
إلا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا
محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق
والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك
أم لا أيها الأمير فقال أبو عبيدة: نعم هو نبينا ﷺ وإني يا يوقنا قد حرت في أمرك
وانت بالأمس تقاتلنا ومرادك أن تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول
مثل هذا القول وقد بلغني إنك لا تفهم بالعربية شيئا فمن اين لك حفظها فقال: لا إله
إلا الله ومحمد رسول الله وإنك تعجب أيها الأمير من هذا الأمر قال: نعم قال له:
اعلم أيها الأمير إني كنت البارحة مفكرا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم
علينا وانه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصا ابهى من
القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي هذا محمد رسول الله
فكأني اقول أن كان نبيا حقا فليسأل ربه أن يعلمني العربية وكان يشير الي وهو يقول:
يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وأنا لا نبي بعدي وأن أردت فقل لا إله إلا
الله وأبي محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك
الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم إني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت
خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد ﷺ وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة
وأن أبغض الخلق إليه إليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا؟ فقال أبو عبيدة: نعم كانت
إليهود تطلبنا اشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذنا حصونهم وقتلنا أبطالهم قال
يوقنا وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه
وبالمسلمين وبالايتام والمساكين أكان ذلك أم لا قال أبو عبيدة: نعم أما وصيته من
الله على أصحابه فقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:21] وقال في حق اليتيم والمسكين: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ*وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:1] فقال يوقنا كيف قال: {وَوَجَدَكَ
ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:] فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم فقال له معاذ
بن جبل رضي الله عنه: وجدناك ضالا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وايضا سهل
لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالا في بحار
الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك
مائلا عن الأغيار أو تهيم في قيعان الإختيار متمنيا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا
خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا
يوقنا إنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب اوضح من
الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق اشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا
شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة
أخرى من الكبر ولا دواء الين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من
الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة
أحسن من الصحة ولا معيشة أهنا من العفة ولا عبادة افضل من الخشوع ولا زهد خير من
القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام
من معاذ تهلل وجهه وقال هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل
والتوراة ثم خر ساجدا وقبل الأرض شكرا وقال الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين
ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت إنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت اقاتل
في طاعة الشيطان ووالله لأنصرن هذا الدين حتى الحق بأخي يوحنا ثم إنه بكى بكاء شديدا
على ما فرط في أمر أخيه فقال له أبو عبيدة: قال الله في حق اخوة يوسف: {لا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 9] وقال له: إن اخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت
فساعة اسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال: أشهد علي المسلمين إني كلما جاهدت
وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو
ما سلف من الفعال فقال أبو عبيدة: يا عبد الله دلنا أين نسير فقال يوقنا أعلم أيها
الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه
دراس بن جوفناس وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وأن
أنتم تركتموه ومضيتم إلى نحو انطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرا فقال أبو
عبيدة: يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة.
فقال يوقنا عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم الي مائة فارس
من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه
ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا
هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا
نظر إلينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل إلينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته إني أسلمت
زورا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم
الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف
في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع
أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدا ومعاذا في ذلك فقالا يا أمين الأمة رأي
سديد أن لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه فقال أبو عبيدة: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}
فقال يوقنا أنا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور
والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن افضل
الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله ﷺ
الذي رأيته وعاينته في المنام أن كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئا مما
ذكرته لكم فقال أبو عبيدة: يا عبد الله أن أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان
الله لك معينا في كل ما تحاوله فأتبع الصدق تنج به فإن ديننا مبني على الصدق وأتبع
سنن أخوانك المؤمنين وأعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما
وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وامارتك فإن الذي تركته فإن والذي تطلبه باق
لأن نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وابقى واعلم إنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم
أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن أن القبر مضجعه والخلوة مجلسه
والأعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه
والحياء شعاره والجوع ادامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت
غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره وأعلم
يا يوقنا أن المسيح قال عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت
يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه وقد قال نبينا ﷺ من أعطى أربعا أعطي أربعا وتفسير
ذلك في كتاب الله تعالى من أعطى الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول. {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 15] ومن أعطى الدعاء أعطى الإجابة لأن الله تعالى يقول:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 6] ومن اعطى الشكر أعطى الزيادة لأن الله
تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [ابراهيم: 7] ومن اعطى
الاستغفار أعطى المغفرة لأن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 1] .
قال الواقدي: حدثني عامر بن قبيصة اليشكري قال حدثني
يونس ابن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال كنت ممن
شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع ابي عبيدة وكنت كثيرا ما أصحب الروم
الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد أجتهادا ولا أخلص أعتقادا ولا أعظم نية ولا
أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين
وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من
أبناء جنسه من بعد ما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون
ليلا ولا نهارا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.
ذكر فتح عزاز
قال الواقدي: لما وعظ أبو عبيدة يوقنا وفرغ من وعظه ضم إليه
مائة فارس وألبسهم زي الروم قال: وكان كل عشرة من قبيلة قال: وهم من طيء وفهر
وخزاعة وسنيس ونمير والحضارمة وحمير وباهلة وتميم ومراد وجعل على كل عشرة نقيبا
فأما نقيب طيء فخزعل بن عاصم وعلى فهر فهر بن مزاحم وعلى خزاعة سالم بن عدي وعلى
سنيس مسروق ابن سنان وعلى نمير أسد بن حازم وعلى الحضارمة ماجد بن عميرة وعلى حمير
ملكهم ذو الكلاع الحميري وعلى باهلة سيف بن قادح وعلى تميم سعد بن حسن وعلى مراد مالك
بن فياض فلما كملوا قال لهم أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله إني مرسلكم مع هذا الرجل
الذي وهب نفسه لله ورسوله وكل طائفة منكم عليها نقيب وقد وليته عليكم فاسمعوا له
وأطيعوا ما دام مرضاة الله عز وجل قال فلبسوا وركبوا وساروا معه فلما بعدوا بفرسخ
أرسل وراءهم ألف فارس وأمر عليهم مالكا الاشتر النخعي وقال له: سر في أثر القوم
وانظر ما يكون من أمر هذا العبد الصالح فإذا قربت من هذا الحصن فأكمن إلى وقت
السحر ثم تظاهر لاخوانك سر وفقك الله وأرشدك فسار مالك يقدم قومه فساروا بقية
يومهم فلما جن عليهم الليل كمنوا في قرية بالقرب من الحصن وهي خالية من السكان
وأما ما كان من يوقنا فإنه أخذ على غير طريق وسار طالبا عزاز.
قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري حدثني
الشديد بن مازن عن جده خزعل بن عاصم قال كنت في خيل يوقنا لما وجهنا أبو عبيدة معه
قال لما شارفنا عزاز قال لنا يوقنا أعلموا يا فتيان العرب أنا قد شارفنا هذا العدو
فإياكم أن يتكلم أحد منكم فإن لغتكم لا تخفى على الروم وأنا المترجم عنكم وكونوا
على يقظة من أمركم فإذا رأيتموني وقد بطشت بصاحب الحصن فثوروا على اسم الله تعالى
ثم ساروا وليس عنده خبر من تواتر القدر.
قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري قال
حدثني عبد الرحمن المازني وكان ممن يكتب فتوح الشام قال حدثني الأكوع بن عباد المازني
قال كنت مع مالك الاشتر من جملة الألف حين سرنا في أثر يوقنا صاحب حلب حتى إذا كنا
في تلك القرية ونحن ننتظر الصباح وإذا نحن بجيش من ورائنا من غربي القرية فسار
مالك الاشتر وقصد الحصن فغاب عنا غير بعيد وعاد ومعه رجل من العرب المتنصرة وقد
أقبل به فلما صار بيننا قال: يا فتيان اسمعوا ما يقول: هذا الرجل فقلنا وما الذي
يقوله قال أسألوه فإنه يخبركم فسألناه وقلنا من أي الناس أنت قال من غسان من بني عم
جبلة بن الأيهم فقال له مالك: ما اسمك قال أسمي طارق بن شيبان فقال له: يا طارق بحق ذمة
العرب لا تكتمنا أمرا تعرفه من أعدائنا قال: والله لا أكتم أمرا أعرفه ولكن خذوا
على أنفسكم قبل قدوم عدوكم قال مالك وكيف ذلك قال: لانا البارحة ورد علينا جاسوس من عندكم
وهو منا أسمه عصمة بن عرفجة وكان يسمع ما تناجيتم به من الحيلة التي أرادها يوقنا
على صاحب عزاز فلما سمع الجاسوس منكم ذلك كتب رقعة وربطها تحت جناح طير كان معه
وأطلقه إلى صاحب عزاز فلما قرأها أرسلني إلى صاحب الراوندات لوقا بن شاس يستنجده
عليكم فمضيت إليه بالرسالة وهو قادم في خمسمائة فارس وكانكم بهم وقد هجموا فخذوا حذركم.
قال الواقدي: وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه سار حتى وصل
إلى الحصن فوجد صاحبه قد تجهز بنفسه ومعه أصحابه وهو خارج الحصن وكان اللعين يركب
في ثلاثة آلاف فارس من الروم والف من العرب المتنصرة غير من التجأ إليه من السواد
فلما قدم عليه يوقنا لم يوهمه في شيء من أمره بل استقبله وترجل إليه وأقبل كأنه
يقبل ركابه وكان في يده سكين أمضى من القضاء فقطع به حزام فرس يوقنا وجذبه إليه
وإذا به قد وقع على أم رأسه فأطبق الأربعة آلاف على أصحاب رسول الله ﷺ ولم يمهلوهم
حتى أخذوهم قبضا بالكف وشدوهم كتافا وبصق دراس في وجه يوقنا وقال لقد غضب عليك
المسيح والصليب إذ فارقت دينك ودخلت في دين أعدائك وحق المسيح لا بد لي أن أبعثك
إلى الملك الرحيم هرقل يصلبك على باب انطاكية بعدما أضرب رقاب هؤلاء العرب ثم إنه أصعدهم
إلى الحصن.
قال الواقدي: ومن خيرة الله للمسلمين أن الجاسوس لم يكتب
لصاحب عزاز في مكاتبته بسير مالك الاشتر قال: وأن مالكا الاشتر لما سمع كلام
المتنصر أيقظ أصحابه وربط المتنصر عنده واقاموا ينتظرون صاحب الراواندات فلما راق
الليل سمعوا وقع حوافر الخيل فلم يكلمهم مالك حتى توسطوا الكمين وأطبقوا عليهم فكل
اثنين ربطوا واحدا من الروم واخذوهم بالكف ولم ينفلت منهم أحد ولبسوا ثيابهم
ورفعوا رأيتهم وصليبهم كما كانت ثم أن مالكا قال للمتنصر هل لك أن ترجع إلى دين
الله عز وجل ودين نبيه محمد ﷺ فيمحو عنك ما سلف من الكفر بالإيمان وتبقى لنا من
جملة الأخوان فقال أن قلبي ولبي عندكم فلا جزي الله من ألجانا إلى الدخول في هذا
الدين خيرا وأنا والله من الطائفة التي هي أول من اسلم على يد عمر بن الخطاب وقد
سمعنا عن محمد ﷺ إنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" فقال له مالك: لقد صدقت
في قولك ولكن انسخ هذا الحديث بقول لا إله إلا الله فقد قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 7] الآية وقبل رسول الله ﷺ توبة وحشي قاتل
عمه حمزة فأنزل الله فيه الآيات فلما سمع الغساني ذلك فرح وقال أنا أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والآن والله يا مالك قد طاب قلبي وانجبر كسري
أخذ الله بيدك وأنقذك الله يوم القيامة قال ففرح مالك باسلامه وقال له: وفقك الله
وثبت ايمانك ثم قال له: يا عبد الله إني أريد أن تمحو ما سلف منك بما تفعله فقال:
وما تريد أيها الأمير قال تمضي إلى صاحب عزاز وتبشره بقدوم صاحب الراوندات إلى
نصرته فقال أفعل ذلك أن شاء الله تعالى وأن كنت في شك من أمري فأرسل معي من تثق به
حتى يسمع ما أقول فإن الليل قد تنصف والحرس شديد وباب الحصن مقفول وأنا أخاطبهم من
شفير الخندق قال فأرسل معه مالك ابن عم له يقال له راشد بن مقبس: ووصاه أن يكون
مستيقظا فسارا جميعا إلى أن وصلا إلى الحصن فوجدا الحرس شديدا والروم تضرب بوقاتها
والصوت عال في وسط الحصن فقال طارق لابن عم مالك ما هذا وحق ابي الأقتال وضرب وحرب
فانصتا فإذا هو كما قال طارق.
قال الواقدي:
وكان السبب في ذلك أن ابن صاحب عزاز شاب شجاع يقال له:
لاوان كان أبوه دراس في وقت يرسله إلى يوقنا بالهدايا والتحف لما بينهم من القرابة
وكان يقيم عنده أشهرا في أعز مكان وانه حضر عنده في بعض المرات في عيد الصليب في البيعة
التي هي اليوم الجامع وكان يدخل في كل وقت فرأى يوما ابنة يوقنا وهي بين جواريها
وخدمها وحشمها فوقع بقلبه حبها فكتم أمرها وعاد إلى عزاز وشكا حاله إلى أمه وما
كان لأبيه ولد غيره وهي تجد له محبة عظيمة فقالت له: أنا أخاطب أباك في ذلك والزمه
أن يرسل ليخطبها من ابيها ويزوجك بها ونبذل له من المال ما أراده وطلبه واشتغل قلب
الشاب بحب الجارية وفي اثناء ذلك جاءت العرب إلى بلادهم واشتغلت خواطرهم فلما وقع
يوقنا في يد أبيه كان وكان من أمره ما كان وقبض عليه وعلى المائة من المسلمين
وحبسهم جميعا في دار ولده لاوان ووصاه بحفظهم فقال لاوان في نفسه: وحق ديني أن ابن
عمنا يوقنا أعلم من ابي بالأديان ولولا إنه رأى الحق مع هؤلاء العرب ما تبعهم
بعدما قاتلهم أشد القتال وايضا أن جيوش الملك ما ساوتهم وأن الله قد نصرهم على
ضعفهم وأنا قلبي متعلق بابنته وإني أرى من الرأي السديد أن أحل هؤلاء القوم من الوثاق
وارجع إلى دينهم بعد أن أثق من ابن عمي أن يزوجني ابنته فإنه على الحق وأنال ما
أطلب بعدها وأتزوج ابنته فلما حدثته نفسه بذلك اقبل يوقنا وجلس بين يديه وقال له:
يا عم إني عولت على أن أحل وثاقك أنت وأصحابك وقد اخترتك على أهلي وأبي وملكي وأنت
تعلم أن فراق الأهل صعب واخترت الإيمان على الكفر وقد علمت أن دين هؤلاء صحيح ولكن
لي عليك شرط أن تزوجني ابنتك ومهرها عتقك أنت وهؤلاء الناس الذين معك فقال يوقنا
يا بني ما لك إلى زواجها من سبيل إذا كنت تدخل فيه لأجل غرض الدنيا وليكن دخولك
فيه خالصا من قلبك حتى أن الله يأجرك على ما تفعله وأنا أن شاء الله تعالى أبلغك
ما ترومه وتنال عز الدنيا والآخرة فقال: لا وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمد رسول الله ثم حل وثاق يوقنا وأعطاه سلاحه وحل المائة وأعطاهم سلاحهم وقال
لهم: كونوا على أهبة وأنا أمضي إلى أبي وهو ممل بالخمر فأقتله وثورا على بركة الله
تعالى في رضا الله فعندها قال يوقنا للمائة أشهدوا علي إني زوجته أبنتي وجعلت
صداقها عتنقا فقبل منه ومضى إلى دار أبيه فوجد أباه مقطوع الرأس واخوته عنده فقال
لهم: من فعل هذا بأبي قالوا: نحن قال:
ولم ذلك قالوا: أردنا بذلك وجه الله وقد سمعناك وما
تحدثت به مع يوقنا وأصحابه فخفنا عليك أن لا يتم لك هذا الأمر ويتكاثر الجمع على القوم
ويبلغ ابانا خبرك فيقتلك فبطشنا به قبلك قال ففرح لاوان بذلك ورجع إلى يوقنا وأصحابه
وأعلمهم بما جرى فخرجوا من دار لاوان وتوسطوا الحصن ورفعوا أصواتهم بالتهليل
والتكبير والصلاة على البشير النذير والسراج المنير ووضعوا السيف في الروم قال:
ووقع الصائح في الحصن كما وصفنا وتبادرت الروم لقتال المسلمين وفي تلك الساعة قدم
طارق ورفيقه قال فسمعنا الأصوات قال فرجعنا إلى مالك وأعلمناه بما سمعناه فقال
مالك لأصحابه اركضوا لأصحابكم فركضوا خيولهم وخلف منهم مائة يحفظون الأسرى فلما
قربوا من الحصن وكان يوقنا قد قال للاوان أن نجدة من المسلمين تأتينا فأتى لاوان
فراى المسلمين قد أتوا ففتح لهم باب الحصن من باب السر وأدخلهم فلما حصل مالك
الاشتر في حصن عزاز نادى هو ومن معه الله أكبر فتح الله ونصر وخذل من كفر فلما رأى
أهل الحصن ذلك رموا سلاحهم ونادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السلاح وأخذوهم أسارى وشكروا
ليوقنا ومن معه قال فحدث يوقنا مالكا الاشتر بحديث الغلام لاوان فقال مالك إذا
أراد الله أمرا هيأ أسبابه.
قال الواقدي: حدثني قيس عن عقبة عن صفوان عن عمرو بن عبد
الرحمن عن جبير عن أبيه قال سألت أبا لبابة بن المنذر وكان ممن حضر فتوح الشام كيف
كانت فتوح عزاز وقتل دراس فإن نفسي تنكر هذا وأريد صحته فقال لما وضعت الحرب
أوزارها وجمع مالك الاشتر الاسارى والمال والثياب والذهب والفضة والآنية وأمر
باخراج ذلك من الحصن ووكل به قيس بن سعد وكان ممن حضر وأصابه سهم فعوره وكذلك أبو
لبابة بن المنذر وكلاهما حضر بدرا مع رسول الله ﷺ فلم يبق أحد في عزاز ثم قام مالك
فمشى في الحصن وتقعد دراسا فوجده مقتولا فقال من قتل هذا اللعين فقال لاوان: قتله
أخي لوقا وهو أكبر مني سنا فأمر مالك باحضاره وقال لم قتلته وهو أبوك وما سمعنا
ولدا قتل أباه من الروم سواك فقال حملني على ذلك محبة دينكم لأن في بيعة هذا الحصن
قسا من المعمرين وكنأ نقرأ عليه الإنجيل ويعلمنا بعلم الروم وإني كنت في بعض
الايام في البيعة أنا وهو وليس عندنا أحد وكان اسمه أبا المنذر فقلت له: يا أبا
المنذر إلا ترى إلى بلاد الشام كيف استولت عليها العرب وملكوا أكثرها وهزموا جيوش
الملك وما كنا نظن أن العرب تقدر على ذلك لانه ليس في الأمم أضعف منهم وأن الله
تعالى نصرهم على ضعفهم فهل قرأت ذلك في كتب الروم أو ملاحمهم أو ملاحم اليونانيين
فقال: يا بني نعم إني قرأت ذلك ولقد أخبرنا الملك هرقل بذلك قبل وقوع هذا الأمر
وجمع إليه الملوك والاساقفه والبطارقة وغيرهم وأخبرهم أن العرب لا بد أن يملكوا ما
تحت سريري هذا ولقد بلغنا عن نبي القوم إنه قال زويت لي الأرض فرأيت مشارقها
ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها فقلت له: يا أبانا فما تقول في نبي القوم
قال له: يا بني أن في كتبنا أن الله تعالى يبعث نبيا بالحجاز وقد بشر به عيسى
المسيح بن مريم ولا ندري أهو هذا أم لا فعلمت إنه كتم عني امره مخافة أن اذيع سره
فكتمت ما قال لي البارحة فلما رأيت يوقنا وأصحابه اسرى قلت: هذا يوقنا قد قتل أخاه
يوحنا وعاند العرب وقاتلهم ثم إنه رجع إلى دينهم وما ذاك إلا إنه قد علم الحق معهم
فقلت: أنا لنفسي قم أنت واقتل أباك وخلص يوقنا وأصحابه وارجع إلى دين هؤلاء فهو
الدين الحق لا شك فيه فلما نام ابي بعدما شرب الخمر وسكر قتلته وسرت إلى خلاص
يوقنا ومن معه فوجدت أخي لاوان قد سبقني إلى ذلك فقال له مالك: يا غلام لم فعلت
ذلك قال: محبة في دينكم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال له مالك:
قبلك الله ووفقك ثم خرج مالك من الحصن وولاه سعيد بن عمرو الغنوي وترك معه المائة
الذين كانوا مع يوقنا وقدموا إليه صاحب الراوندات ومن معه فعرض عليهم الإسلام
فابوا فضرب رقابهم.
قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه حسان بن
كعب عن عبد الواحد عن عبد الله بن قرط الأزدي أن فتح عزاز كان هكذا والذي ذكر أن
بنات دراس وزوجته قتلنه لم يصح والله اعلم ثم أن مالكا الاشتر أراد أن يرحل فعرض
عليه سبي عزاز فكان ألف رجل من الشباب والبنات ومائتين وخمسة وأربعين رجلا من
الشيوخ والرهبان والفي امرأة من النساء والبنات ومائة وثمانين عجوزا ونظر إلى شيخ
من الرهبان مليح الشبيبة واضح الهيبة فقال أن صدقت الفراسة فهذا القس الذي اخبرني
به لوقا واخوه لاوان فدعا بهما وقال هذا هو القس الذي اخبرني به لوقا فقال: نعم
فقال له: يا شيخ إذا كنت من علماء أهل الكتاب فكيف تكتم الحق عن مستحقيه فقال:
والله ما كتمت الحق عن مستحقيه ولكن خفت من الروم أن يقتلوني لأن الحق ثقيل وقد
قتلوا الأبناء والأخوة وذلك لأجل الحق فكيف أنا فقال له مالك: افتدخل في ديننا.
فقال لست أدخل فيه إلا إذا سألتكم عن مسائل وجدتها في
الإنجيل فقال له مالك: هات ما عندك فلما أراد القس أن يتكلم وقع الصياح في الحصن
فارتاع الناس ووثب مالك لينظر ما خبر الناس وظن أن الروم قد غدرت بهم وإذا بأناس
من المسلمين الذين بالحصن يقولون أيها الأمير خذوا حذركم فانا نرى غبرة على طريق
منبج وبزاعة ولا ندري ما هي فركب مالك ومن معه ووقفوا ينتظرون ما ذاك وإذا قد لاح
من تحتها خيول الإسلام وهم يسوقون السبايا والأموال والرجال وهم مشددون في الحبال
ووراءهم ألف فارس من المسلمين وأميرهم الفضل بن العباس رضي الله عنه وكان قد أرسله
أبو عبيدة حتى غازى منبج والباب وبزاعة فوقع الكثير في الفريقين وسلم بعضهم على بعض
وسأل الفضل مالكا عن قصته فحدثه أن الله قد فتح عزاز وأذل من فيها وحدثه بما كان
من حديث يوقنا وانني ما منعني من الرحيل إلا هذا القس وسؤاله فقال له الفضل: أيها
القس قل: ما أنت قائل فقال القس أخبرني عن أي شيء خلقه الله تعالى قبل خلق السموات
والأرض فقال الفضل أول ما خلق اللوح والقلم ويقال العرش والكرسي ويقال الوقت
والزمان ويقال العدد والحساب ويقال أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها فصارت ماء ثم
خلق العرش ياقوته وكان عرشه على الماء وانه نظر إلى الماء فاضطرب وارتعد وصعد منه
دخان فخلق الله منه السماء ثم خلق الأرض وقيل خلق أولا العقل لأنه أراد أن ينتفع
به الخلق وقيل أول ما خلق الله نورا وظلمة ثم دعاهما إلى الإقرار فانكرت الظلمة
وأقر النور فخلق منه الجنة لرضاه عنه وخلق النار من الظلمة لسخطه عليها وخلق أرواح
السعداء من النور وأرواح الاشقياء من الظلمة فلاجل ذلك كل منهم يرجع إلى مستقره
ويقال أول ما خلق الله نقطة فنظر إليها بالهيبة فتضعضعت وسالت ألفا فجعلها مبدأ
كتابه العزيز فسبحان من ألف كتابه من نقطة وخلق خلقه من نقطة ثم يميتهم بقبضة
ويحييهم بنفخة فلما سمع القس ذلك من كلام الفضل ابن العباس قال: أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله هذا هو العلم الذي استأثر به انبياء الله تعالى
فلما نظر أهل عزاز إلى قسهم وقد أسلم اسلموا عن آخرهم إلا قليلا منهم والله أعلم.
قال الواقدي:
حدثني عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش عن
جده قال لما أسلم أهل عزاز باسلام قسهم الذي كان معتقدهم عول الفضل ومالك على
المسير إلى حلب فقال يوقنا أنا والله ما لي وجه أقابل به المسلمين لأني كنت قلت:
قولا ودبرت أمرا فلم يتم لي وإني سائر إلى انطاكية فلعل الله أن يظفرني بالأعداء وينصرني
عليهم فقال له الفضل: إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ ليس لك من الأمر شيء فلا تحمل
قلبك هما فقال: ودين الإسلام لا أرجع إلا بأمر يبيض الله به وجهي عند اخواني
المسلمين فنظر وقد صحبه مائتان من بني عمه ممن قد رسخ في قلوبهم الإيمان ولهم عيال
وأولاد في حلب فاخذهم يوقنا وسار يريد انطاكية فلما قرب من ارضها أخذ منهم أربعة
وأمر الباقي أن يتعوقوا خلفه أربعة ايام ثم يأتوا كأنهم هاربون من العرب ليتم ما
دبره في خاطره وسار هو والأربعة على طريق حارم والباقي على طريق أرناح وقال لهم:
الميعاد بيننا أنطاكية ففعلوا ذلك وساروا وسار هو إلى أن اشرف على دير سمعان
المشرف على البحر فوجد هناك خيلا ورجالا يحفظن الطرقات فلما رأوا يوقنا والأربعة
معه بادروا إليهم واستخبروهم عن حالهم فقال لهم يوقنا: أنا صاحب حلب وقد هربت من
العرب فوكل بهم صاحب الدرك جماعة وأمرهم أن يسيروا بهم إلى الملك فأخذتهم الخيل وأتوا
بهم إليه فوجدوه في كنيسة الفتيان يصلي فوقفوا حتى فرغ من صلاته فاوقفوا يوقنا بين
يديه وقالوا: أيها الملك أن بطرس صاحب الحرس الذي عند دير سمعان قد وجه بهذا ومن
معه إليك ويزعم إنه صاحب حلب فلما سمع هرقل ذلك قال له: يا يوقنا ما الذي أتى بك
وقد بلغني إنك دخلت في دين العرب فقال:
أيها الملك لقد بلغك الحق وذلك إني ما اسلمت إلا لمكيدة
القوم حتى أتخلص من شرهم ومن كراهة منظرهم ونتن رائحتهم وإني قلت لهم: اسلم إليكم
حصن عزاز واقتل صاحبها واخذت منهم مائة سيد من ساداتهم وسرت بهم وأمرت أن ينفذ
ورائي ألف حتى إذا صاروا داخل الحصن اقبض عليهم وارسلهم إليك فعجل دراس علي ولم يفهم
ما أضمرته ووثق بكلام جاسوسه ولم يثق بكلامي فقبض علينا فأتت العرب ووضعت السيف في
أهلها وذلك أن لوقا قتل أباه رجل من العرب وأنا من جملتهم فلما اشتغلوا بالقتال
والنهب هربت أنا وهؤلاء الأربعة وجئنا إليك ولولا محبتي في ديني ما كنت قتلت أخي
يوحنا وصبرت على قتال العرب وحصارهم سنة كاملة.
قال الواقدي: فاعانته البطارقة والملوك الذين كانوا
حاضرين وقالوا: صدق يوقنا أيها الملك وسيظهر لك فعله وعمله وجهاده فانبش وجه الملك
لذلك وخلع عليه من لباسه الذي هو عليه وسوره ومنطقه وتوجه وقال له: إن كانت حلب
أخذت منك فاني وليتك على انطاكية وأعطاه وظيفة دمستقها وسكندرها يعني واليها.
قال الواقدي: فسمع يوقنا له ودعا له فبينما هو كذلك إذ
أتى إليه الموكل بجسر الحديد واخبر الملك إنه قد قدم عليهم مائتا بطريق من فرسان
حلب وهم يزعمون إنهم من بيت واحد من الرومية من بني عم يوقنا وإنهم قد هربوا من
العرب فلما سمع ذلك قال ليوقنا أيها الدمستق والكندر قم واركب واشرف على هؤلاء
القوم فإن كانوا من بني عمك فأهل بهم وضمهم إليك ليكونا عسكرك وأن كانوا غير ذلك
فات بهم لأرى فيهم ما أرى وإياك أن يكونوا من قبل العرب ممن رجع إلى دينهم من أهل
سيجر وحماة والرستن وجوسية وبعلبك ودمشق وحوران فقال: نعم أيها الملك فركب وركبت
معه الفرسان من الملكية والسريرية وأتوا إلى جسر الحديد وأمر أصحاب الدرك أن يأتوا
بالمائتين فلما رآهم يوقنا رحب بهم ونظروا إليه وهو في ذلك الزي والحشمة وخلعة
الملك عليه فترجلوا وقبلوا ركابه فقال لهم: كيف خلصتم من أيدي العرب فقالوا: أيها السيد
أننا خرجنا منع أمير من امرائهم وأغرنا على منبج وبزاعة فلما رجعنا نريد حلب أخذنا
على عزاز فوجدناهم قد ملكوها فلما كان الليل تركناهم وأتينا.
قال الواقدي: وهذا كله وحجاب الملك يسمعون فلما حضروا أخبروا
الملك بذلك ودخل يوقنا بهم على الملك فخلع عليهم وأنزلهم وأمرهم أن يكونوا في خدمة
يوقنا وأعطاه دارا بازاء قصره فقال يوقنا أيها الملك أنت تعلم أن هذه الدار لا
يدوم نعيمها وأن السيد المسيح شبهها بالجيفة وطلابها بالكلاب يتجاذبونها كما روى
عن المسيح إنه رأى طائرا حسنا مزينا بكل زينة فنزع جلده فرآه أقبح ما يكون منظرا
فقال له: من أنت قال اناالدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح وإنما ضربت لك هذا المثل
أيها الملك لتعلم إنه ما خلا جسد من حسد وإذا أقبلت الدنيا على أحد كثرت حساده
وأنا أخاف من الحساد أن يتكلموا في عند الملك ويرموني بالبهتان وبما لا أفعله فإن
كان الملك ينفر مني فليول هذه الوظائف غيري وأنا ما ابرح على ركابك ثم إنه بكى
فقال له الملك: أيها الدمستق ما وليتك هذا الأمر إلا وقلبي وخاطري وأثق بك من تكلم
فيك بشيء سلمته إليك تفعل به ما تريد فشكره يوقنا وأراد الخروج إلى وظيفته التي
ولاه إياها وإذا بخيل البريد قد أقبلت من مرعش وهم رسل ابنته زيتونة وإنها خائفة
من العرب وهي تريد القدوم عليك حتى ترى ما يئول من الأمر وإنها تسألك أن ترسل لها
جيشا يوصلها إليك فلما سمع الملك ذلك قال ليس لهذا الأمر إلا الدمستق يوقنا.
فقبل الأرض وقال السمع والطاعة لأمرك فضم إليه ألف فارس
ومائتين من أصحابه من المدبجة والقياصرة.
قال الواقدي: فسار بالألفين والمائتي فارس وقد رفع
الصليب فوق رأسه وجنبت الجنائب وعليها الرخوة المذهبة وسار يجد السير إلى أن وسل
إلى مرعش وأخذ زيتونة بنت هرقل وهي الصغرى وكان الملك قد ولاها على تلك البلاد
وزوجها بنوسطير بن حارس وكانوا يسمونه سيف النصرانية لشجاعته وكان قد قتل على اليرموك
من جراحات أصابته.
قال الواقدي: فلما أخذ يوقنا ابنة الملك وعاد يطلب بها
انطاكية أخذ على الجادة العظمى لعله يلقي أحدا من جواسيس المسلمين أو يرى معاهدا
فيرسله ليعلم أبا عبيدة إنه قد تمكن من الملك ومن البلد فلما وصل مرج الديباج وكان
ليلا وإذا بخيله التي على مقدمته قد أتته وهم مذعورون فقال لهم: ما بالكم فقالوا
له: أيها السيد الدمستق أن هناك عسكرا نازلا فقربنا منهم فإذا هم عرب وهم نيام ولا
شك إنهم مسلمون فقال لهم: خذوا أهبتكم وأيقظوا خواطركم وانصحوا لدينكم وجاهدوا
عدوكم وقاتلوا عن أبنة الملك ولا تسلموها إلى اعدائها وكونوا خير جند قاتل عن نعمة
صاحبه وإذا تمكن الحرب بيننا وبينهم فاعتمدوا على الأسر وإياكم والقتل واعلموا أن العرب
وأميرهم لا بد لهم أن يقصدوا الملك ومن معه فإن اسروا منا أحدا يكن عندنا الفداء
فقد وجدت في كتاب حرفناس الحكيم أن من نظر في عواقب زمانه توشح بوشاح أمانه ومن
أهمل أمره خاف حذره ومن أكثر الغدر حل به الأمر سيروا على بركة الله.
قال الواقدي: فشرعوا الأعنة وقوموا الاسنة وقصدوا ذلك
العسكر فلما احسوا بهم بادروا إليهم واستقبلوهم وهم ينادون بعيسى بن مريم والصليب
المفخم من أنتم فقال لهم يوقنا: ومن انتم فقالوا: نحن أصحاب جبلة بن الأيهم فلما
سمع يوقنا ذلك ترجل عن دابته وسلم عليه وسلمت العرب المتنصرة على الروم فقال جبلة
من أين جئتم فقال له مرعش: ومعي ابنة الملك وانتم من أين جئتم فقال جبلة من العمق
وقد أتينا بميرة أهلها فلما رجعت ووصلت إلى مرج دابق لقيت كتيبة من فرسان المسلمين
وهم زيادة عن مائتي وهم لابسون زينا فلما وصلنا إليهم ابتدرونا بعزم شديد وحرب
عتيد وإذا مقدمهم لا يصطلي له بنار فلقد أباد منا رجالا وجندل منا ابطالا ونحن في
ألفي فارس وهم مائتان وكان فينا كالنار المحرقة فما زلنا نقاتلهم حتى أسرناهم
بعدما قتل الفارس منهم الفارس والاثنين والثلاثة منا وبقي أميرهم إلى آخر الناس فقصدنا
جواده بالسهام حتى قتلناه ووقع فهجمنا عليه وأخذناه أسيرا فاذ هو من أصحاب محمد
وهو ضرار بن الأزور ونحن قاصدون بهم إلى الملك هرقل ليرى فيهم رأيه فاظهر لهم
يوقنا الفرح وقال: وحق ديني لقد فزت بالفخر بأسرك لهؤلاء وهذا الغلام فلقد بلغني
عنه ما فعل بأبطال الشام وفرسان الروم ثم سار القوم جميعا يطلبون أنطاكية.
قال الواقدي: حدثني الشريد بن عاصم عن شروان بن مجزل عن
قادم ابن بشر عن زائدة بن معمر قال حدثنا بشار عن عوف عن صالح عن عبد الله عن جده مسروق
قال المؤلف وحدثني هذا الحديث عباد بن عاصم عن عمران بن حصين قال لما فتح المسلمون
حصن عزاز وترك مالك الاشتر عليها سعيد بن عمرو الغنوي والتقى بالفضل بن العباس
ورجعا بالغنائم إلى حلب استبشر أبو عبيدة بسلامة الناس وبفتوح عزاز فسأل مالكا عن
يوقنا فحدثه فيما بينه وبينه سرا وأنه قصد أنطاكية ليدخل على كلب الروم بحيلة ولم
يكن له وجه يعود إليك به فقال أبو عبيدة: الله ينصره ويظفره ويغفر له فلقد ظهر لنا
منه ما لم يكن لنا في حساب ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول
فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من ابي عبيدة عامر بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد ﷺ أما
بعد فإن الله سبحانه له المنة علينا التي يستوجب بها الحمد من جميع المسلمين إذ
فتح علينا مستصعب قلاع الكفر وحصونه وأذل لنا ملوكهم وأورثنا ارضهم وديارهم وأن
سبحانه قد فتح علينا قلعة حلب وأردفها بحصن عزاز وأن البطريق يوقنا صاحب حلب قد
أسلم وحسن اسلامه وقد صار عونا للمسلمين على الكافرين من بعد ما قاسينا منه ما
الله عالم به فالله يجازيه فلقد نصر الله به الدين ونصح للمسلمين وأباد المشركين
وقد دخل انطاكية يدبر حيلة على كلب الروم وقد ألقى بنفسه إلى الهلاك في طاعة الله ورسوله
ولقد كتبت هذا الكتاب ونحن معولون على المسير إلى أنطاكية نقصد طاغية الروم فما
بقي حصن سواه لأعدائنا قريبا منا ونحن طامعون في أخذه وأخذ سريره وكنوزه كما وعدنا
رسول الله ﷺ فزودنا بالدعاء منك فإنه سلاح المؤمنين ودمار الكافرين والسلام عليك
وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم إنه أخرج الخمس وسلمه إلى رباح بن
غانم اليشكري وضم إليه مائتي فارس من المسلمين فيهم قتادة وسلمة بن الأكوع وعبد
الله بن بشار وجابر بن عبد الله ومثل هؤلاء رضي الله عنهم فأخذوا الخمس وساروا ثم
أن أبا عبيدة دعا بضرار بن الأزور وضم إليه مائتي فارس وأمره أن يشن الغارة فركب
ضرار وكان معهم سفينة مولى رسول الله ﷺ ولم يزل ضرار سائرا هو ومن معه ومعهم رجال
من المعاهدين يدلونهم على الطرق حتى وصلوا إلى مرج دابق وكان وقت السحر فقال لهم
المعاهد: ارفقوا على خيولكم فنزلوا وأراحوها بقية يومهم وليلتهم حتى إذا كان وقت
السحر فما شعروا إلا وجبلة كبسهم فلما وقع الصياح ركب ضرار وركب معه نحو مائة فارس
وأما المائة الأخرى فقد دهمتهم خيول المتنصرة فلم يتمكنوا من الركوب فقاتلوا رجالا
فنفرت خيولهم ووصل إليهم عدوهم حتى إنه قتل كل واحد خصمه وتكاثرت عليهم الخيل
فأسروا المائة وأما ضرار فإنه صاح بالمائة الثانية وقال: يا فتيان العرب أن
أعداءكم قد هاجموكم على حين غفلة منكم وهم عرب مثلكم وهذه أفضل الساعات عند الله
فقووا عزمكم ولا تفشلوا فانتم تعلمون أن النبي ﷺ قال: "الجنة تحت ظلال
السيوف" وقد قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 24] قال ميسرة
بن عامر وكان من جملة من حضر معنا في مرج دابق ربيعة بن معمر بن أبي عوف وهو ابن
عمر بن ربيعة الشاعر وكان ربيعة من فصحاء العرب لا يتكلم إلا بالسجع كلامه ينظم
بحسن مقاله وكنا نصغي إليه إذا سجع ونحفظ منه فلما سمع ضرارا وهو يحرضنا قال: يا
فتيان العرب لن تنالوا الجنة إلا بالصبر على المكاره والله لن يدخلها من هو للجهاد
كاره:
ولله في عرض السموات جنة
...
ولكنها محفوفة بالمكاره
وأعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا علم الغيب والشهادة
فهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أسواقه واختفى بنفاقه في انفاقه أما
انتم أصحاب نبي العصر ولم يئستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقووا
العزم بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا غضب الجبار واعلموا أن النصر
والثبات جندان منصوران فمن طلب دار البقا هان عليه الملتقى فصححوا طلبتكم تنالوا
رحمة ربكم وحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا النحور تنالوا الحور وتسكنوا
القصور وقوموا الاسنة تنالوا الجنة واعتمدوا على الصبر تنالوا النصر وإياكم أن
توافقوا الكفار في حالهم واعدلوا عن طريق قولهم قال العالم بحالهم وفعلهم. {وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ} [النور: 5] قال سمرة ابن غانم والله لقد دهشت أنفسنا بقوله وحملنا على
المتنصرة وضرار ينشد.
إلا فاحملوا نحو اللئام الكواذب
...
لترووا سيوفا من دماء الكتائب
وردوا عن الدين المعظم في الورى
...
وأرضوا إله العرش رب المواهب
فمن كان منكم يبتغي عتق ربه
...
من النار في يوم الجزا والمآرب
فيحمل هذا اليوم حملة ضيغم
...
ويرضي رسولا في الورى غير كاذب
قال الواقدي: ثم حمل ضرار ونحن من ورائه وبذلنا نفوسنا
وروينا سيوفنا ورماحنا من المتنصرة وجرى الحرب بما لا يوصف وضرار فيهم كانه النار
في الحطب اليابس وجبلة بن الأيهم يتعجب من حملاته وضرباته فأمر قومه أن يقصدوا
جواده بسهامهم ففعلوا ذلك فانصرع الجواد ووقع ضرار فتكاثروا عليه وأخذوه أسيرا وأخذوا
بقية أصحابه وساروا يريدون أنطاكية فالتقوا بيوقنا وأبنة الملك كما ذكرنا.
قال الواقدي: ولقد حدثني معمر بن رواحة عن القاسم عن
خزامة بن عمرو وعن أبي المنذر أن سفينة مولى رسول الله ﷺ كان في حرب ضرار بن الأزور
اسيرا فلما كان الليل انطلق هاربا يلتمس الوصول إلى ابي عبيدة فإذا هو بأسد عارضه
فقال سفينة يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ﷺ وكان من أمري كيت وكيت فقرب منه وهو
يبصبص بذنبه حتى وقف إلى جانبه واشار إليه برأسه 8 أن سر فسرت وهو إلى جانبي حتى
أتى بي إلى بلد من صلحنا فتركني ومضى.
قال الواقدي: فلما وصل سفينة الجيش حدث الناس باسر ضرار
ومن معه فصعب ذلك على المسلمين وبكى أبو عبيدة وخالد بن الوليد على أسرهم وقالا لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبلغ ذلك أخته خولة فقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون
يا بن أمي ليت شعري في السلاسل أوثقوك أم بالحديد قيدوك أم في البيداء طرحوك أم
بدمائك خضبوك وأنشدت تقول:
إلا مخبر بعد الفراق يخبرنا
...
فمن ذا الذي يا قوم اشغلكم عنا
فلو كنت ادري إنه آخر اللقا
...
لكنا وقفنا للوداع وودعنا
إلا يا غراب البين هل أنت مخبري
...
فهل بقدوم الغائبين تبشرنا
لقد كانت الايام تزهو لقربهم
...
وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا
إلا قاتل النوى ما أمره
...
واقبحه ماذا يريد النوى منا
ذكرت ليالي الجمع كنا سوية
...
فقرقنا ريب الزمان وشتتنا
لئن رجعوا يوما إلى دار عزهم
...
لئمنا خفافا للمطايا وقبلنا
ولم انس إذ قالوا: ضرار مقيد
...
تركناه في دار العدو ويممنا
فما هذه الايام إلا معارة
...
وما نحن إلا مثل لفظ بلا معنى
أرى القلب لا يختار في الناس غيرهم
...
إذ ما ذكرهم ذاكر قلبي المضنى
سلام على الأحباب في كل ساعة
...
وأن بعدوا عنا وأن منعوا منا
قال الواقدي: ولقد بلغني عن وأصل بن عوف إنه قال اجتمعت
النساء من العربيات ممن كان لهم أسير مع ضرار عند خولة ومن جملتهم مزروعة بنت
عملوق الحيرية وكانت من فصحاء زمانها وكان ولدها صابر بن أوس فيمن أسر مع ضرار
فجعلت تندب ولدها وتقول:
أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا
...
وقد أحرقت مني الخدود المدامع
وقد أضرمت نار المصيبة شعلة
...
وقد حميت مني الحشا والأضالع وأسأل عنك الركب كي
يخبرونني
...
بحالك كيما تستكن المدامع
فلم يكن فيهم مخبر عنك صادقا
...
ولا منهم من قال إنك راجع
فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي
...
فقلبي مصدوع وطرفي دامع
وفكري مقسوم وعقلي موله
...
ودمعي مسفوح وداري بلاقع
فإن تك حيا صمت لله حجة
...
وأن تكن الأخرى فما العبد صانع
فقالت لهم سليمى بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانت
من الزاهدات العابدات أبهذا أمركن الله انما امركن بالصبر ووعدكن على ذلك الأجر
أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:15] فاصبرن تؤجرن فسكتن عن
البكاء قال الواقدي: ولما ورد الخمس على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وكتاب أبي عبيدة مع رباح بن غانم اليشكري وقع الصائح في المدينة بقدومه فاجتمع
الناس إلى المسجد ليسمعوا ما تجدد من أمر المسلمين فلما دخل رباح المسجد بدأ
بالسلام على قبر رسول الله ﷺ وعلى قبر أبي بكر وصلى ركعتين وأتى عمر وقبل يده وعرض
عليه الكتاب فقرأه على المسلمين فضجوا بالتهليل والتكبير وصلوا على البشير النذير
واخذ الخمس وكتب إلى ابي عبيدة يأمره بالمسير إلى انطاكية ولا يصده عن ذلك شيء ورد
الجواب مع رباح اليشكري.
قال الواقدي: اخبرني مازن بن عبد ربه عن مالك بن أسيد عن
جده مروان بن الجرير أن الجواب لما ورد على أبي عبيدة سار من يومه يطلب انطاكية
قال: وأما ما كان من أمر يوقنا رحمه الله تعالى وجبلة بن الأيهم لعنه الله فانهم
ساروا إلى انطاكية وسبق البشير إلى الملك هرقل بقدوم ابنته مع يوقنا وقدوم يوقنا
ومعه المائتا أسير من المسلمين فأمر بتزيين البلد والبيع فاظهرت الروم زينتها
ودفعت الصدقات إلى الفقراء وأخرج موكب الروم إلى لقائهم مع ابن اخيه في زينة عظيمة
ودخل القوم وهم في زيهم وحشمهم وكان يوما مشهودا وقد ترجلت الملكية والسريرية بين
يدي ابنة الملك وخرج كل من بانطاكية وقدموا أصحاب رسول الله ﷺ أمامها وهم مشدودون
والروم تشتمهم وتبصق عليهم وقد دارت بهم الرجال والبطارقة ودخلت ابنة الملك إلى
قصر أبيها.
قال الواقدي: ودخل جبلة بن الأيهم يوقنا على الملك فخلع
عليهما وعلى كبار أصحابهما ثم إنهم احضروا الصحابة وأوقفوهم بين يديه وهم في
الحبال فلما وقفوا صاحت بهم الحجاب اسجدوا إلى الأرض تعظيما للملك فلم يلتفتوا إلى
قولهم ولا اعتنوا به فقال لهم الحاجب الكبير: ما منعكم أن تعظموا الملك بالسجود
بين يديه فقال لهم ضرار: لا يحل لنا أن نسجد لمخلوق وقد نهانا نبينا ﷺ عن ذلك.
قال الواقدي: حدثني سهل بن برقان رضي الله عنه عن السائب
بن جازم عن الحكم بن مازن قال لما وقف ضرار والصحابة بين يدي هرقل خاطبهم من غير
ترجمان وأراد الملك أن يسمع بطارقته وحجابه بما كان يحدثهم به حين بعث النبي ﷺ
وذلك إنه جمعهم إليه لما بلغه أن النبي ﷺ قد ظهر وقال هذا هو النبي المبعوث الذي
بشر به عيسى بن مريم وهو صاحب الوقت ولا بد لدينه أن يظهر حتى يملأ المشرق والمغرب
ثم أن هرقل دعاهم لأداء الجزية فأرادوا قتله فأراد ذلك اليوم أن يبين لهم حقيقة قوله
وانه أراد بذلك الإصلاح لهم ولجالهم فقال لضرار ومن معه من يخاطبني منكم عما أسأله
من العلم فأشاروا إلى قيس بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه وكان شيخا معمرا وكان
شاهد جميع أحوال رسول الله ﷺ ومعجزاته وغزواته فلما أشاروا إليه قال للملك قل: ما
أنت قائل أيها الملك قال هرقل: كيف نزل علي نبيكم الوحي أول مبتدأ أمره فقال قيس ابن
عاصم سأل هذا السؤال لنبينا ﷺ رجل من مكة يقال له الحرث بن هشام: فقال لرسول الله
ﷺ كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله ﷺ: "يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو
أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما
يقول" قال قيس: ولقد كان ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وأن
جبينه ليرفض عرقا فأول ما بدىء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث
فيه أي يتعبد الليالي ذوات العدد فلم يزل كذلك حتى جاءه الملك وقال له: اقرأ فقال
لست بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني وقال لي أرسلي اقرأ
فقلت: ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف بهافؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فأخبر خديجة وقال لها: لقد
خشيت على نفسي فقالت له خديجة: كالا لا يخزيك الله أبدا إنك تصل الرحم وتحمل الكل
وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف الضعيف وتعين على نوائب الدهر والحق وذكر الحديث بطوله
قال رسول الله ﷺ بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا أنا
بالملك الذي جاءني بحراء وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا
فرجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ
فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] الاية ثم حمى الوحي وتتابع ولقد كنت معه يوما في
المسجد إذ دخل رجل ومعه بعير له فأناخه بالباب وعقله ودخل وقال السلام عليكم
فرددنا عليه السلام فقال: أيكم محمد فقلنا هذا الأبيض الوجه فقال له الرجل: يا ابن
عبد المطلب قد أتيت أسألك مشددا عليك فلا تجد علي في نفسك فقال له: سل عما بدا لك
فقال بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم كافة قال: اللهم نعم قال انشدك
بالله الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال: أنشدك
بالله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة فقال اللهم نعم فقال أنشدك بالله الله
أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال اللهم نعم فقال
الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد
بن بكر فقال هرقل: بحق دينك ما الذي رأيت من معجزاته قال كنت معه في سفر فأقبل
إليه أعرابي فدنا منه فقال له النبي ﷺ:
"أتشهد أن لا إله إلا الله وإني محمد رسول
الله" قال الأعرابي: ومن يشهد بما تقول فقال النبي ﷺ: "هذه الشجرة"
ثم أن النبي ﷺ دعا الشجرة وهي بشاطىء الوادي فأقبلت إليه وهي تخط الأرض حتى قامت
بين يديه فاستشهدها ثلاث مرات فقالت: أنت محمد رسول الله ثم أمرها فرجعت إلى
منبتها فقال هرقل: أنا نجد في كتابنا أن الرجل من أمته إذا عمل السيئة كتبت عليه
واحدة وأن عمل الحسنة كتبت له عشرا قال قيس بن عاصم هذا في كتابنا قال الله تعالى.
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 16] فقال هرقل: أعلم أن
النبي ﷺ الذي بشر به عيسى المسيح هو الشاهد على الناس يوم القيامة فقال قيس هوة نبينا
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً} الآية أما شهادته في العقبي فهو قول
ربنا في كلامه القديم: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 4] فقال
هرقل: إن الذي وصفته لك هو الذي يأمر العباد أن يمضوا إليه في حياته ويصلوا عليه
في حياته وبعد وفاته فقال قيس هو نبينا صلىالله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه
العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:5] قال هرقل: إن
الذي وصفه المسيح يعرج به إلى السماء ويخاطبه العلي الأعلى فقال قيس هو والله
نبينا ﷺ قال الله تعالى في حقه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: 1] .
قال الواقدي: وكان في ذلك الوقت بترك الروم وهو رأس
دينهم جالسا يستمع هذا الكلام فالتفت هذا البترك إلى الملك وقال له: أيها الملك أن
الذي ذكره عيسى لم يبعث بعده ولا قبله بل هي تآويل كاذبة فقال ضرار بن الأزور كذبت
في وجهك وكذبت هذه اللحية الملعونة المخزية يا كلب الروم أنت من أمثالك من يكذب
عيسى عليه السلام وينكر بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أما تعلم أن عيسى قرأه
في الإنجيل وموسى قرأه في التوراة وقرأه داود في الزبور وأن نبينا المبعوث بخير
الأديان المشهود له بالنبوة والرسالة في كتاب الله العزيز وجميع الكتب المنزلة على
الأنبياء من قبله وهو نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المكي ولكن حجاب الكفر
منعكم عن معرفته فلما أن سمع هرقل من ضرار هذا الكلام قال له: لقد أسأت الأدب في
المجلس إذ خرقت بعمدة دين النصرانية فمن أنت فقال له قيس بن عامر: هذا صاحب رسول
الله ﷺ هذا ضرار بن الأزور لا تتكلم في حقه بكلام قبيح فقال الملك: هذا الذي بلغني
عنه أنه يقاتل مرة راجلا ومرة فارسا ومرة عاريا مرة لابسا؟ قال: نعم فعندها سكت
ولم يتكلم.
قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: ولقد بلغني أن
البترك لما سمع خرق ضرار به أبدى الغضب بعد الابتسام ولحقه غيظ شديد ما عليه من
مزيد وقام من حضرة الملك قال: وغضب البطارقة والحجاب لغضب البترك فلما رأى الملك
غضبهم خاف على نفسه منهم فقال: قطعوه بسيوفكم وامحوا أثره قال فنزلوا عليه بالسيوف
وضربوه ضربات شديدة وكانت عدة تلك الضربات مائة وأربع عشرة ضربة إلا أنها غير
قاتلة لما يريده الله من لطفه الخفي في حياته ونجاته فلما رأى البترك هذه الفعال
سكن غضبه وقال: اقطعوا لسانه فلما أن رأى يوقنا ذلك الأمر وتحقق هذا الكلام منهم
قال في نفسه والله لا أترك هذا اللعين يتمكن من أصحاب رسول الله ﷺ وتقدم إلى الملك
وقبل الأرض ودعا بدوام الملك والنعم وقال: أيها الملك: إن هذا ليس بصواب وإن من
الرأي السديد عندي أن تترك هذا الغلام حتى يصح فإذا عاد إلى صحته أخرجناه إلى باب
المدينة وصليناه لبشفى صدور الروم لأنه قد أثر فيهم كلامه وقد قتل من آبائهم
وإخوانهم وأيضا يبلغ الخبر إلى المسلمين بإهانته وضربه بذلك.
قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: إنما أراد يوقنا
بذلك أن يخلص ضرارا منه وقال في نفسه إذا بات تلك الليلة انكسرت حدة الغيظ من
الملك فيطلقه فقال الملك ليوقنا: خذه واحفظه إلى غد فأخذه يوقنا إلى داره وافتقد
جراحاته فإذا بها كلها سليمة ما قطع له عصب ولا عرق وذلك من لطف الله الخفي ولما
أن رأى يوقنا جراحاته خاطها وداواها وأطعمه وأسقاه ففتح عينيه فرأى يوقنا وولده
ولم يكن عنده علم بأن يوقنا قد أتى إلى هذا المحل ليحتال على الملك فلما أن رآهما
قال لهما: إن كنتما كافرين فقد سخركما الله لي حتى داويتماني وإن كنتما مؤمنين
فمرحبا بكما وهنيئا لكما ولعل الله ببركتكما يجمع شملي بعجوز في الحجاز قد أعلها
البكاء والعويل ليلا ونهارا من أجلي وأجل أختي خولة وهي في العسكر ولقد كانت تحسب
هذا الحساب لأنني بقية من مضى لها من الأحباب ولقد خفي عليها خبري وأمري فإن قدرتما
أن تبلغاها سلامي وتعلماها مقامي وكيف كان للكافرين كلامي فهي ترسل وتعلم أمي
وتكاتبها بأمري فلما استراح في الليل قال بالله عليكما اكتبا عني ما أقول لكما
فكتب عنه ابن يوقنا وهو يملي له ويكتب حرفا بحرف شعرا: ألا أيها الشخصان بالله
بلغا
...
سلامي إلى أهلي بمكة والحجر
بلقيتما ما عشتما ألف نعمة
...
بعز وإقبال يدوم مع النصر
ولا ضاع عند الله ما تصنعانه
...
فقد خف عني ما وجدت من الضر
بصنعكما لي نلت خيرا وراحة
...
كذلك فعل الخير بين الورى يجري
وما بي وأيم الله موتي وإنما
...
تركت عجوزا في المهامة والقفر
ضعيفة حال ما لها من جلادة
...
على نائبات الحادثات التي تجري
تعودها حب القفار مقيمة
...
على الشيح والقيصوم والنبت والزهر
وكنت لها ركنا تعد رحاله
...
وأكرمها جهدي وأن مسني فقري
وأطعمها من صيد كفى أرانبا
...
من الوحش واليربوع والظبي والصقر
من الضب والغزلان والبهت بعد
...
مع البقر والوحش المقيمات في البر
وأحمي حماها أن تضام ولم أزل
...
لها ناصرا في موقف الخير والشر
وإني أردت الله لا شيء غيره
...
وجاهدت في جيش الملاعين بالسمر
وأرضيت خير الخلق أعني محمدا
...
لعلي أنال الفوز في موقف الحشر
فمن خاف يوم الحشر أرضى الهه
...
وقاتل عباد الصليب بني الكفر
كذا جلت يوم الحرب في كل كافر
...
وجندلته بالطعن في الكر والفر
تقول وقد حان الفرات لحينه
...
ألا يا أخي ما لي على البين من صبر
ألا يا أخي هذا الفراق فمن لنا
...
بحسن رجوع قادم منك بالبشر
إذا سافر الانسان عن أرض أهله
...
فاما رجوع أو هلاك مدى الدهر
إلا بلغاها عن أخيها تحية
...
وقولا غريب مات في قبضة الكفر
جريح طريح بالسيوف مشرح
...
على نصرة الإسلام والطاهر الطهر
إلا يا حمامات الأراك تحملي
...
رسالة صب لا يفيق من السكر
حمائم نجد بلغي قول شائق
...
إلى عسكر الإسلام والسادة الغر
وقولي ضرار في القيود مكبل
...
بعيد عن الأوطان في بلد وعر
حمائم نجد اسمعي قول مفرد
...
غريب كئيب وهو في ذلة الأسر
وأن سألت عني الأحبة خبري
...
بأن دموعي كالسحاب وكالقطر
حمائم نجد خبري الأخت انني
...
قتلت بحد المرهفات من البتر
حمائم نجد عددي عند موطني
...
وقولي ضرار قد يحن إلى الوكر وقولي لهم إني أسير مقيد
...
له علة بين الجوانح والصدر
له من عداد العمر عشر وسبعة
...
وواحدة عند الحساب بلا نكر
وفي خده خال محته مدامع
...
على فقد أوطان وكسر بلا جبر
مضى سائرا يبغي الجهاد تطوعا
...
فوافاه أبناء اللئام على غدر
إلا فادفناني بارك الله فيكما
...
إلا واكتبا هذا الغريب على قبري
إلا يا حمامات الحطيم وزمزم
...
إلا خبرا أمي ودلا على أمري
عسى تسمح الايام منا بزورة
...
لقلب غريب لا يرام من الفكر
قال الواقدي: لما كتب ابن يوقنا هذه الأبيات كتب أبوه
يوقنا إلى أبي عبيدة يعلمه بما يريد أن يدبره وسلمه إلى رجل يثق به وبعثه إلى
المسلمين.
قال المؤلف حدثني جابر بن عمران الدوسي ونحن في أرض يقال
لها البلاط: إذ جاء معن بن أوس من آل مخزوم ولقد تركه أبو عبيدة في المقدمة فجاء
برجل من الروم فقال لأبي عبيدة: خذ هذا إليك فهو يزعم إنه رسول فاستخبره أبو عبيدة
في السر فقال أنا رسول إليك بكتاب فقال ممن قال من يوقنا ومن أسير لكم بانطاكية
يقال له: ضرار بن الأزور فأخذ أبو عبيدة الكتاب وقرأه على من يعز عليه فبكوا من
أبيات ضرار وبلغ الخبر أخته فأتت أبو عبيدة وقالت: يا أمين الأمة اسمعني أبيات أخي
فقرأ البعض عليها ولم يتمها فاسترجعت وقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم فوالله لآخذن بثأره أن شاء الله تعالى وحفظ الناس
أبيات ضرار وتداولوها بينهم فكان أشد الناس عليه حزنا خالد بن الوليد.
قال الواقدي: حدثنا عبد الملك بن محمد عن أبيه حسان ابن
كعب عن عبد الواحد بن عون عن موسى بن عمران اليشكري عن عامر بن يحيى عن أسد بن
مسلم عن دارم بن عياش أن أهل حازم فتحوا قلاعا كثيرة وحصونا منها الراوندات وما
سواها من قورص وباسوطا ولم يزل أبو عبيدة سائرا بالمسلمين إلى أن نزل على جسر
الحديد وبلغ الخبر هرقل فتمكن الخوف من قلبه وأمر بطارقته بالتأهب للقتال ونصب
سرادقاته مما يلي جسر الحديد وضربت الملوك خيامها وفتح الملك هرقل خزائن السلاح
وفرقها على رجاله وأبطاله وخلع على يوقنا وقال له: أيها الدمستق قد وليتك على جيشي
هذا كله فكن أنت مدبره وسلم إليه صليبا كان في بيعة القيسان لا يخرجونه إلا في
الايام العظام عندهم وقال له: أيها الدمستق قدم هذا الصليب بين يديك واعتمد على نصرته
فهو ينصرك فأخذه وسلمه إلى ولده وأمره أن يحمله بين يديه فعندها ركب الملك هرقل
إلى كنيسة القيسان ومعه الملوك والحجاب حتى يصلي صلاة النصر فلما وصلوا وصلى الملك
جلس وأمر باحضار المائتين من أصحاب رسول الله ﷺ ليقربهم قربانا فقبل يوقنا يده
وقال له: يا عظيم الروم ما ولاك الله على البلاد والعباد إلا وقد علم أن عقلك يسع
ذلك وقد قال ديسقور الحكيم أن العقل مرقى جليل وصاحبه نبيل لأنه عز الانسان ومصباح
الانام وأعلم أيها الملك أن العرب قد قصدتنا بعددها وعديدها وقد نزلوا على جسر
الحديد ولا بد لنا من القتال والمصاف معهم ولا ندري على من تكون الدائرة فإن قتلت
هؤلاء الأسرى ووقع أحد منا بأيديهم فانهم لا يبقون عليه والصواب تركهم إلى أن نرى ما
يئول من أمرنا فإن أسروا من أصحابنا أحدا أو من أعياننا نفاديه فقال أرباب الدولة
صدق الدمستق في قوله قال البترك أيها الملك أحضرهم إلى هذه الكنيسة فإنها أحسن
كنائس بلدنا وأمر النساء والبنات يتزين ويحضرن هنا فإذا هم نظروا إلى نسائنا
وحسنهن وجمالهن وطيب رائحتهن مالت أنفسهم إليهن فيرجعون إلى ديننا فيكون ذلك وهنا
على المسلمين.
قال فأمر بذلك فلما حضروا رفعت القسوس أصواتهم بقراءة
الإنجيل فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: كذب الجاحدون وضلوا
ضلالا بعيدا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وكان في الأسرى رجل من اليمن
من فضلائهم وعلمائهم ممن علم علم الحميرين وقرأ الكتب السالفة وكان اسمه رفاعة بن
زهير يقول: الشعر وينظم الكلام وانه لما نظر الكنيسة ملآنة بأهل الكفر ورآهم يعظمون الصلبان
ويسجدون للصور قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله كذب العادلون عن الله
أصحاب الشيطان وإلا إله إلا الله الواحد الرحمن الذي ليس له أب محسوب وانه فرد صمد
لا إلى شيء منسوب ليس له ضد ولا ند ولا حد أوجد الموجودات وصور المخلوقات وخلق
الكائنات ودبر الأرض والسموات أول لا افتتاح لوجوده وآخر لا عدم لشهوده لا يموت
ولا يفنى ولا يزول ولا يبلى لا شريك له ولا وزير له ولا صاحب له ولا مشير له ليس
كمثله شيء وهو السميع البصير قال فاضطربت الكنيسة لقوله ومالت القسوس بعكاكيزها
إليه فأشارت الحجاب إليهم أن لا يكموه ويتركوه فتفرقوا عنه فقال له الملك هرقل: ما
اسمك يا أخا العرب قال: أيها الملك وما تريد من اسمي ولست من جنسكم فتستخبروني
فقال البترك صدق أيها الملك ليس هو من جنسنا ولا له علم ولا خبرة فعلام تسأله انما
هو بدوي يعلم بسكنى القفار وصحبة الاشرار والحكمة من بلادنا ظهرت وفي حكمائنا اشتهرت
لأنها نبعت من اليونانيين ووعاها جدودنا السريانيون من أين للعرب حكمة يتوارثونها
وعلوم يتدارسونها والفضائل كلها من علمائنا والعدل في ملوكنا الاسكندر وبطليموس
وموريق ويوسطنيوس وأرمويل وانطاميس وأرجاس وجرجس واسطوس واسطانيس وسارغورس
النوصيدي وهو الذي بنى انطاكية وسفليوس واريسا وكان نبيا ملكا ويلينوس وهو الذي
بنى الرها ومنبج واسطبس وكان كاهنا وهو الذي اخبر ملك زمانه إنه قد ولد مولود
يخاطب الرب ويكون له شأن ونبأ عظيم يهلك على يديه أفلاطون وهو فرعون ومنافسطين
الحكيم ومنا فجر العلوم ومنا منتهو وهو الذي بنى رومية الكبرى وباسمه ومناسطاليوس
وهو الذي وضع الكتاب الأول الذي فيه حوزة الأرض بجبالها وبحارها وبنائها وصوانها
ووصف أمة كل اقليم بألوانها وخواصها ووصف ما في كل اقليم من معدن ذهب أو فضة أو
جوهر وأحصى عيون الأرض جميعها بأسمائها وجبالها وأوديتها وشعابها وغدرانها وعجائبها
ومنا ايردروس القلنسب الرومي وهو الذي يقول: حشرني الله مع الذين يقال لهم: في
الميعاد أدبروا مع ابليس وجنوده إلى النار الم تطهر نفسك أيها المسكين الناظر في
كتابي القاري الآبي من ادناس الدنيا وشهواتها المظلمة للنفوس المعوقة للحس
الروحاني النوراني أن ترقى إلى عالم عليين فانظر في الحكمة فإنها سلم العالم
الروحاني فمن عدمها فقد عدم القرب إلى بارئه ومصوره ومنشئه.
قال الواقدي: انما تكلم البترك بهذا الكلام بين يدي الملك
هرقل وهو يظن إنه يطعن في العرب ليسمع جبلة بن الأيهم حكمته وكان جبلة وولده
حاضرين وكان بين البترك وبينه عداوة سببها أن البترك كان بنى له ديرا عظيما وجعل
له عيدا في السنة تقصده الروم من كل مكان بالنذور والأموال والستور والشموع وكان
ذلك كله برسم البترك قال فاعطى الملك لجبلة تلك الأرض التي فيها الدير فتغلب جبلة
على الدير وبنى حوله مدينة وسماها باسمه وهي جبلة هذه.
حدثنا سليمان بن عامر عن منصور الجوني قال حجاج بن جريج
أخبرني يحيى بن عمارة ابن ابي الحسن قال لما سمع رفاعة بن زهير كلام البترك تبسم
من قوله وقال: أيها البترك لقد مدحت أقواما ليس لهم إلى الفضل سبيل ولا فيهم فاضل
ولا نبيل ولا من وحد الملك الجليل الذي ليس له مثيل ولا عديل وما الفضل إلا لولد
اسمعيل بن ابراهيم الخليل الذي لهم البيت الحرام وزمزم والمقام والمشعر الحرام
ومنهم التبابعة والأقيال والحماة والاشبال الذين ملكوا الأرض في الطول والعرض
ومنهم الملك الصعب الاسكندر الذي ملك قرني الأرض ودخل الظلمات ودخل في طاعته أهل
الأرض وبلغ مطلع الشمس ومغربها وأذل ملوكها وجعل له منهم جندا وأعوانا وسماه الله
ذا القرنين ومنهم سبأ بن يعرب بن قحطان وشداد بن عاد وشديد بن عاد وعمرو ذو الأذقان
وهو ابن سكسك والهدهد بن عاد ولقمان بن عاد وشعبان بن اكسير بن تنوخ وعباد بن رقيم
وهاديل بن عتبان وكان يتكلم بالحكمة ومناجاة موسى بن جلهمة بن سياسة بن عجلان بن
ياقد بن رخ وثمود بن كنعان ومنا سبأ بن يشجب وهو أول متوج منا ثم ولى بعده حمير ثم
منا تبع وهو متوج ومنا وائل بن حمير متوج ومنا عاد بن حمير متوج ومنا بني الله
حنظلة ابن صفوان من أهل الرس ومنا نفيل بن عبد المدان بن خشدم بن عبد ياليل بن
جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام عاش خمسمائة سنة وهو الذي بني المصانع واستخرج
الكنوز وقاد الجيوش وورثه الله علم نبيه حنظله بن صفوان وقد ختم الله شرفنا ورفع
قدرنا إذ جعل محمدا ﷺ منا فنحن السادة وأنتم العبيد.
حدثنا سفيان عن عبد ربه قال أخبرنا رحيم قال حدثنا
الوليد بن زيادة عن حزام ابن حكيم قال بلغني أن هذا الرجل يعني رفاعة بن زهير بن
زياد بن عبيد بن سرية الجرهمي كان عالما بأنساب العرب وأخبارهم وملوكهم وكان طالع
كتب هود وصالح وحنظله عليهم السلام فلما تكلم بحضرة الملك هرقل بهذا الكلام أراد
البترك أن يعجزه بسؤال يلقيه عليه فقال: يا ذا الهمم العلية والقرائح الذكية بم
تصل القلوب إلى نسيم العقل الروحاني وترقى إلى ملكوت اللاهوت والطيور الخفية
الغائبة عن الأبصار بالأقطار وترقى في رياضات الألباب المصفاة من الأدناس والافكار
النورانية بصفو اكدار الأخلاف المحيطة بالافكار من الهياكل الجسمانية فعند الصفو
من مفارقة الكدر تعيش الأرواح عيشة الأبد الذي لا يصل إليه انحلال ولا اضمحلال
فحينئذ يختلط العنصر بالعنصر ويطفو الصفو بالصفو ويرسب الكدر إلى الكدر فقال رفاعة
بن زهير ما اصبت أيها البترك في مقالتك فقال: ولم قال رفاعة كيف تدل القلوب إلى
علام الغيوب وقد حجب عنها صواب المصيب أم كيف يتخلص الصفو من الكدر بغير تهذيب من
الكفر وكيف تحلى الافكار من غوامض الأسرار وهي في حجب الإغترار إذا تناهت الأهوال إلى
مفازلتها وقربت الهمم من مواضعها وعادت الفكر إلى عناصرها وعادت متحركات الفكر إلى
مساكنها وغاليات الأذهان إلى اماكنها فانحازت الاشكال عن الاشكال بلطف تاثير الهوى
فيها وانكبت مشرفة عن هياكلها من اقطار عناصرها قال: أيها البترك هذا كلام العرب
الذي زعمت أن الحكمة ليست من أخلاقهم ولا تباع في اسواقهم ولقد كان ملك من ملوك
اليمن اسمه سيف بن ذي يزن الذي بشر نبينا محمد ﷺ يتكلم بغوامض العلوم الحكمية ووشح
بوشاح شكر النعمة ومن جملة ما قال فصيح من فصحائنا اسمه قيس بن ساعدة هذه الأبيات:
إلا اننا من معشر سبقت لهم
...
اياد من الحسنى فعوفوا من الجهل
ولم ينظروا يوما إلى ذات محرم
...
ولا عرفوا إلا التقية في الفعل
وفينا من التوحيد والفعل شاهد
...
عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل
نعاين ما فوق السماء جميعها
...
معاينة الاشخاص بالجوهر المجلى
ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا
...
وما نحن بالتصوير في عالم الشكل وأنا وأن كنا على مركز
الثرى
...
فارواحنا في عالم النور تستجلي
وما صعدت كي تستريح وإنما
...
حقيقة ممثول وجلت عن المثل
قال الواقدي: قال أبو سعيد حدثنا شيبة بن أبي عبد الله
بن عيسى عن لقية بن هند عن عبد الله بن ربيعة قال قلت لرفاعة بن زهير: لما خلص من
قبضة الروم يا عم كيف كان البترك يفهم ما تقول وتفهم ما يقول فقال: يا بني ما رأيت
أفصح من اللعين بلسان العربية ولقد سألت عن ذلك من عبد الله يوقنا فقال: أما علمت
أن ملوك الروم والبطارقة لا يستقيم ملكهم إلا أن يتعلموا لسان العربية قال: ولما
حدث رفاعة المسلمين بمناظرة البترك كتبها كثير من الناس.
قال الواقدي: وكان لرفاعة بن زهير الجرهمي ولد جاهل قال:
وكان أسر معه قال: وكان قلبه يميل إلى الكفر وكان رفاعة يدعو عليه فلما حضر
الاسارى في كنيسة القيسان واشتغل رفاعة مع البترك بالمناظرة أقبل ولد عامر يحدق
بنظره إلى البيعة وزينتها وصورها وصلبانها ويتأمل نسار الروم وزينتهن فبادر إلى
تقبيل الصلبان والاشراك بالرحمن فلما رآه أبوه رفاعة بكى وقال: يا ويلك أكفرت بعد
الإيمان يا ويلك طردت عن باب الرحمن يا ويلك كفرت بالملك الديان يا طريد القدرة يا
من بعد عن الحضرة فيا ولدي ما بكائي على فراقك وإنما إذا سلكت أنا في طريق وأنت في
طريق إذا مضيت أنت إلى دار الأبالسة وحشرت مع الرهبان والشمامسة وتكون في طبقة
النار السادسة وأنا أمضي مع محمد إلى دار فيها الأرواح مستأنسة يا بني لا تطلب حياة
الدنيا يا بني لا تختر شهوتها على الآخرة واخجلني من فعالك إذا وقفت بين يد العزيز
الجبار يا بني لقد فضحت شيبة ابيك إذ كفرت بعالم السر والنجوى يا بني لقد خاب أملي
فيك والرجاء يا بني كيف طاب قلبك أن تتبرأ من محمد المصطفى يا بني ممن تطلب الشفاعة
غدا يا بني غرتك الحياة فصرت تكفر بالعليم يا بني صرت إلى الشقاء من بعد كونك في
النعيم يا بني أما تخشى العذاب في الجحيم أما تستحي من أحمد يوم القيامة أما تعلم
أن اباك قد غدا من أجل كفرك في هموم اين المفر إذا دعاك الله في اليوم العظيم
ويقول: يا عبدي كفرت بواحد فرد يا بني أنت في عيش ذميم أما ابوك فإنه يبقى بعز
مقيم أسألك يا ولدي بما قد كان في الزمن القديم من حنوي وتعطفي حال الرضاعة
والفطام إلا رجعت إلى الذي غطاك بالستر العميم قال فقيل له أن ولدك قد أغلق الباب
عليه وأرخى الحجاب فأمر به البترك فحل من الوثاق وأمر به إلى جرن ماء المعمودية
فغمسوه فيه ودارت به القسوس والشمامسة وبخروه ووقعت عليه الخلع منن البطارقة
والملوك ووهب له البترك مركبا وجارية ومنزلا وضمه إلى عسكر جبلة بن الأيهم ثم قال
البترك يا هؤلاء ما منعكم أن تدخلوا في ديننا كما فعل صاحبكم قالوا: منعنا من ذلك صحة
ديننا وثبات يقيننا وما نحن من الذين يبدلون أيمانهم بالكفر ولو قتلنا فقال لهم
البترك: طردكم المسيح عن بابه وابعدكم عن جنابه.
فقال له رفاعة: الله يعلم أينا المطرود ومن هو عن رحمة
ربه مبعود فقال هرقل: يا معاشر العرب قد وصل إلينا أن خليفتكم وأميركم يلبس مرقعة
وقد وصل إليه من أموالنا وذخائرنا ما يكل عنه الوصف فما منعه أن يتزيا بزي الملوك
فقال رفاعة يمنعه من ذلك طلب الآخرة والفزع من جبار الجبابرة فقال هرقل: ما صفة دار
أمارته فقال رفاعة مبنية بالطين خالية من الحجاب آنسة بالفقراء والمساكين قال فما
بساطه قال العدل والتمكين قال فما سريره قال العقل واليقين قال فما بدلة ملكه قال
الزهد والدين قال فما خزائنه قال الثقة برب العالمين قال فمن جنده قال أبطال
الموحدين أما علمت أيها الملك أن جماعته قالوا له: يا عمر قد ملكت كنوز القياصرة
وذللت البطارقة والأكاسرة فهلا لبست ثيابا فاخرة قال أنتم تريدون زينة الحياة
الظاهرة وأنا أريد رب الدنيا والآخرة فلما ابدى هذا القول وأضمر أشار إليه منادي
القدرة وبشر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
الْمُنْكَرِ} [الحج: 4] قال ثم أن الملك هرقل أمر بهم إلى السجن الذي هو في كنيسة
القيسان وخرج إلى عسكره ليشرف على الخيام فرأى السرادقات قد ضربت لأن البطارقة
ضربت سرادقاتها عند خيامه ونونيا الملوك قد نصبت بازاء كل نونية كنيسة من الخشب المدهون
بسائر الأصانيع والنواقيس على ابوابها وكان زي الروم ذلك وهذه البيع والخشب كانوا
يتنافسون فيها وفي صنعتها وتكون معهم في أسفارهم وعساكرهم وطاف هرقل على عسكره
جميعه وأراد الدخول إلى انطاكية وإذا بفوارس تركض إليه فقالت لهم: الحجاب وأصحاب
السرير ما وراءكم قالوا: ملك جسر الحديد منا وقد حصلت العرب منا على داخل الجسر
قال فأيقن الملك بزوال ملكه وقال: وكيف ملكت العرب الجسر والبرجين وفيها ثلثمائة
من البطارقة الشداد قالوا: أيها الملك أن المقدم الذي على الأبراج هو الذي سلمهم.
قال الواقدي: ومن حسن لطف الله بالمسلمين أن صاحب الملك
كان في كل يوم يمضي إلى الجسر ويوصي من في البرجين باليقظة والحرس الشديد وانه مضى
في بعض الايام على عادته فوجدهم يشربون الخمر وليس عندهم حفظ ولا حرس فأخذهم وضرب
كبراءهم وهم بقتل مقدمهم ثم إنه أمسك عنه خوف الملك فعمل الحقد في قلوبهم فجاءهم يوقنا
في بعض الايام يتجسس ليدبر فيه حيلة فرآهم حنقين من صاحب الملك فسألهم فانكروا منه
فقال لهم: اطلعوني على خبركم فقالوا له: أتعطينا منك أمانا فأعطاهم فقالوا: نحن
نسلم هذا الجسر للعرب فلما صح عنده ذلك قال لهم: ما مرادكم قالوا: نأخذ أمانا من
المسلمين فقال يوقنا أنا أكتب لكم كتابا إلى أميرهم بأن يعطيكم أمانا وأن دخلتم في
دينهم فهو خير لكم فقالوا له: وكيف أنت دخلت في دينهم ثم رجعت فقال حاش الله وإنما أتيت
أدبرهم على تسليم انطاكية لهم فلما صح عندهم ذلك قالوا: ونحن نسلم إليهم الجسر
فلما وافقهم على ذلك كتموا أمرهم فلما قدم المسلمون مضى إليهم صاحب الجسر من غير
أن يعلم به أحد وأخذ له ولمن معه أمانا وناوله كتاب يوقنا ففرح المسلمون بذلك بأن
يأخذوا جسر الحديد من غير قتال فأعطوا للمقدم أمانا فلما وصل عسكر المسلمين إلى
الباب الذي على الجسر فتح لهم فدخلوا فلما سمع هرقل بذلك أمر الناس أن يتأهبوا
للحرب قال ففعلوا ذلك.
قال الواقدي: حدثنا ياسر بن عبد الرحمن عن منازل بن نزاف
الصيدلاني وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال بلغني إنه لما صار المسلمون بأرض
انطاكية قال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان قد صرنا بأرض انطاكية بلد كلب الروم
والساعة يأتينا عسكره فما ترى من الرأي قال خالد: أن الله قال: {وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 6] الآية فأمر أصحابك أن
يتأهبوا ويظهروا زينة الإسلام وقوة الإيمان وسير كل أمير بجيشه ولتكن الكتائب
والمواكب يتلو بعضها بعضا قال ففعل أبو عبيدة ذلك وأول من سير سعيد بن زيد أحد
العشرة ومعه ثلاثة آلاف فارس فيهم المهاجرون والأنصار وجعله على مقدمة الجيش وسير وراءه
رافع بن عميرة الطائي ومعه ألف فارس وسير وراءه ميسرة بن مسروق العبسي في ثلاثة
آلاف فارس وسار وراءه خالد في جيش الزحف وسار وراءهم أبو عبيدة في بقية العسكر
وكان معه عمرو بن معد يكرب الزبيدي وذو الكلاع الحميري وعبد الرحمن بن أبي بكر
وعبد الله بن عمر وابان بن عثمان ابن عفان والفضل بن العباس وأبو سفيان صخر بن حرب
وراشد بن ضمرة وسعيد بن رافع وزيد ابن عمرو ومثل هؤلاء السادات وراءهم النساء
اللاتي لهن الأسرى وفيهم خولة بنت الأزور وعفيرة ابنة عفان ومروعة ابنة عملوق وأم
ابان بنت عتبة وليس فيهم أشد حزنا من خولة بنت الأزور.
قال الواقدي: ومما بلغني إنها قالت: في أسر أخيها من
المراثي المبكيات:
ابعد أخي يلذ الغمض عيني
...
فكيف ينام مقروح الجفون
سأبكي ما حييت على شقيق
...
أعز علي من عيني اليمين
فلو إني لحقت به قتيلا
...
لهان علي إذ هو غير هون
وكنت إلى السلو أرى طريقا
...
وأعلق منه بالحبل المتين وأنا معشر من مات منا
...
فليس يموت موت المستكين
وإني أن يقال مضى ضرار
...
لباكية بمنسجم هتون
وقالوا: كم بكاؤك قلت مهلا
...
أما أبكى وقد قطعوا وتيني
قال فسار أبو عبيدة في مواكبه كما ذكرنا فبينما الروم في
خيامها وعسكرها إذ وقع فيهم الصائح بقدوم العرب فركزوا خيولهم وصفوا صفوفهم فأول
من أشرف عليهم برايته سعيد بن زيد وبعده المسيب بن نجيبة الفزازي وبعده ميسرة بن مسروق
العبسي وبعده أتى خالد بن الوليد وبعدهم أبو عبيدة في مواكبه فنزل كل أمير بقومه
فلما نظر هرقل إليهم وإنهم قد نزلوا بفنائه وبنائه ترك على حفظ جيشه صاحبه الأكبر
نسطاروس بن روميل وكان من شجعان الروم ودخل إلى كنيسة القيسان وجمع الملوك
والبطارقة والسريرية والحجاب وقام هرقل فيهم خطيبا وقال: يا أهل يدين النصرانية
ويا بني المعمودية قد قرب ما حذرتكم منه من زوال ملككم وذهاب عزكم من أرض سورية
وقد كنت حذرتكم من زوال ملككم ومن هذا المقام فلم تقبلوا مني وأردتم قتلي وهؤلاء
القوم قد دخلوا بدار ملككم ورياح عزكم فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وأنفسكم وإياكم
والفشل لا يلحقكم في الجهاد فقد جاهدت عنكم جهدي وأتلفت أموالي وخزائني ورجالي عن
دينكم وملككم فلم تصادفني مساعدة ولا أدركت من القوم فائدة فإن أنتم فشلتم
وتقاعستم ولم تجردوا لهؤلاء العرب سيوف العزم وإلا كان العار عليكم والذلة تصل
إليكم أين أبناؤكم ومن سلف من آبائكم ماتوا كراما غير لئام وسكنت ديارهم العرب اللئام
وكنائسهم صيروها جوامع وأخربوا البيع والصوامع وأذلوا ملوككم واستعبدوا ابناءكم
ونساءكم وملكوا قلاعكم واستولوا على حصونكم ومدائنكم وقد مضى ما مضى فاستأنفوا
الأمر وقاتلوا فكم هلك من الأمم قبلكم على ممالكهم وعلى الغيرة على حريمهم ولقد
كانت حكمتي أنتجت لكم أن تنسجوا على منوال المصحالة بينكم وبين هؤلاء العرب فأبيتم
ذلك لأن ظلمة جهلكم قد أطفأت نور الحكمة أما علمتم إنه قد وجد لوح من الحجر على
قبر طفيماون تلميذ اقيانوس وفيه مكتوب الحكمة سلم العالم الأعلى من عدمها فقد عدم
القرب إلى بارئة الحكمة حياة القلوب وبغية الأذهان نزهة النفوس ونور العقول من لم
يكن حكيما لم يزل سقيما من تدبر نظر ومن نظر عرف ومن عرف عمل ومن عمل انفتح ذهنه وعقله
ومن انفتح عقله صفت نفسه فقام إليه جبلة بن الأيهم وقال: يا عظيم الروم انما قتال
هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة فلو أنت أرسلت إليه رجلا من آل غسان يقتله
فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم فقال هرقل: هذا شيء لا يصح امله ولا
ينقضي أجله لأن الآجال مقدرة والأنفاس مقررة ولكن هو شيء تطيب النفس عند سماعه
فافعل ما أردت قال فأرسل جبلة من قومه رجلا يقال له واثق بن مسافر الغساني وكان
جريئا مقداما في الحروب فقال له:
انطلق إلى يثرب فلعلك تقتل عمر فإن أنت فعلت ذلك فانا
اعطيك ما أردته من الأموال قال فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلا فلما
كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح ودعا وخرج إلى ظاهر
المدينة يتنسم اخبار المجاهدين بالشام قال فسبقه المتنصر وجلس له بأعلى شجرة من حديقة
بن الدحداح الأنصاري واستتر بأغصانها ثم أن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت
الرمضاء وعاد وهو وحده فقرب من الحدية ودخلها ونام في ظلها فلما نام هم المتنصر
بالنزول من الشجرة وجرد خنجره وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة وطاف حول
عمر وجلس عند قدميه يلحسهما واقام حتى استيقظ فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر قال
له: يا عمر قد عدلت فأمنت بأبي والله من الكائنات تحفظه والسباع تحرسه والملائكة
تصفه والجن تعرفه ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه.
قال الواقدي: وكانت هذه الفعلة قبل نزول المسلمين على
انطاكية.
حدثنا أبو محمد قال أخبرني ابي عن حسان عن السدي عن يحيى
الواقدي عن شهر بن عباس البيروتي أن عمر حدثه عن نزول أبي عبيدة بالمسلمين على
انطاكية قال: وعظ هرقل قومه بكنيسة القيسان واستحلفهم إنهم لا ينهزمون أو يموتوا
عن دم واحد فحلفوا وخرجوا مع الملك إلى عسكره وقد رفعت الصلبان وقرأت القسوس
والرهبان وارتفع الضجيج من أهل الكفر والطغيان واصطفوا للقتال وكان المسلمون قد رتبوا
صفوفهم وأوقفوا كل أمير في مكانه ونشرت الرايات والأعلام وأشار أبو عبيدة إلى
ربيعة بن معمر الشاعر وكان لسنا فصيحا لا يتكلم إلا بالكلام المنظوم فقال له: يا
ربيعة فوق سهام لفظك ووعظك إلى المجاهدين وحرض المسلمين على قتال المشركين قال
فتقدم ربيعة أمام الصفوف وكان جهوري الصوت يسمعه القريب والبعيد فقال: أيها الناس
إلى متى هذه المهلة فتاهبوا للحملة فهذه طيور الأرواح قد عولت على فراق أقفاص
الاشباح وقد ارتاحت إلى باريها وأجابت صوت مناديها وها هي تخاطبنا بلسان اشارتها
عن نطق عبارتها ما هذا الوقوف على بذل أنفسكم وقد اشتراها مؤيدكم افركنتم إلى حب
الحياة الفانية والأنفس الدانية وهذه أوقاتكم بالنصر مؤيدة وهمتكم عن طلب زينة
الدنيا متحيدة والمواعظ الصادقة بكلام الحق مقيدة اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم
في بروج مشيدة وهذه طوالع سعودنا بالأقبال طالعة وشجرة آمالنا بالتأييد يانعة فلله
درهم فلقد ظهرت زهرة نجوم المحبة في أفلاك راياتهم وتبلج فجر العشق في سماء سماتهم
واشرقت شموس المعرفة في مشارق عشقهم فلما هموا بالحملة بأجمعهم واصطفوا وقدموا همم
النفوس في رضا الملك القدوس واستبقوا وزاحموا بعضهم بعضا ولم يرفقوا نودوا من صفاء
اسرارهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب: 2] .
قال الواقدي:
رحمه الله حدثني زيد بن اسماعيل الصائغ عن جعفر بن عون
عن عياش ابن ابان عن جابر بن أوس قال كنت حاضرا في مصاف أبي عبيدة على انطاكية حين
وعظنا بسجعه ربيعة بن معمر فكان أول من خرج من الروم للبراز شجاع الروم نسطاروس بن
روبيل وهو كأنه برج من حديد فلما توسط الميدان طلب البراز فخرج إليه دامس أبو
الهول مولى بني طريف فاتح قلعة حلب وهو يومئذ فارس غطريف فحملا على بعضهما فلما
اشتعلت نار الحرب بينهما عثر جواد دامس فسقط على ظهره فانقض عليه نسطاروس وأخذه
أسيرا وقاده ذليلا ورجع إلى الميدان فخرج عليه الضحاك بن حسان الطائي وكان يشبه
خالدا في حملاته وخفته فلما برز قال قائل من الروم ممن شاهد قتال خالد في المواطن
وعرفه هذا فارس الشام والمسلمين الذي فتح بلادنا فصار كل من في انطاكية ينظر إليه
وهم يظنون إنه خالد فازدحمت خيل المشركين من كثرة النظر إليه فقطعت حبال السرادقات
التي لنسطاروس وغيروا سريره فخاف الغلمان على أنفسهم وسرادقاته على ذلك وإذا رآها
على تلك الحالة قتلهم ولم يجدوا أحدا يعينهم على رفع السرادق لأن كل من في العسكر مشغول
بالفرجة على نسطاروس مع خصمه فاتفق اثنان من الفراشين وكانوا ثلاثة على حل دامس
أبي الهول وقالوا له: نحن نحلك من وثاقك وتعيننا على شيل عمود هذا السرادق ونعيدك
إلى الوثاق فإذا جاء البطريق نشفع فيك فإنه يخلي سبيلك فقال: نعم فحلوه من وثاقه
فعندها قبض على الاثنين كل واحد بيد وضرب واحد بواحد فصرعهما فماتا فهجم على
الثالث فقتله وفتح صندوقا من الصناديق فوجد فيه ثياب نسطاروس فلبسها وركب من
الطوالة جوادا من خيارها وأخذ بيده قنطارية وسيفا ولثم وجهه وقصد عسكر المتنصرة
ووقف إلى جانب حازم بن عبد يغوث وهو ابن عم جبلة وكان قدمه على عسكر المنتصرة
وجبلة وولده وبنو عمه في موكب الملك.
قال الواقدي: ولم يزل القتال بين نسطاروس والضحاك بن حسان
إلى أن كل الجوادان ولم يقدر أحد منهما على صاحبه فافترقا وعاد نسطاروس إلى
سرادقاته ليستريح فوجد السرادق على الأرض والفراشين قتلى ولم ير دامسا فعلم أن
المصيبة من قبله فمضى إلى الملك وأعلمه بذلك فقال: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا
شياطين قال: وهرج العسكر بصنع أبي الهول فقال الملك هو الآن في عسكرنا وما رأيناه
خرج وما هو إلا مختف في عسكر المتنصرة لأنه من جنسهم فلما رأى دامس هرج عسكر الروم
وأن ذلك بسببه انتضى سيفه على حين غفلة وضرب به حازم بن عبد يغوث فرمى رأسه عن
بدنه فبهتت المتنصرة من فعله وأمسك الله عنه ايديهم ودهشوا لذلك وأطلق جواده وطلب
عسكر المسلمين فلما راوه صاحوا بالتهليل والتكبير فأتى إلى ابي عبيدة وأخبره بما
وقع له مع القوم فقال: لا شلت يداك قال: وبلغ الخبر جبلة من قتل ابن عمه حازم فغضب
وأتى إلى هرقل وصقع له وقال: يا عظيم الروم أنا لا أقدر على الصبر ولا بد لنا من
الحملة على هؤلاء الذين قد تعدوا طورهم وجهلوا قدرهم فاراد الملك أن يأمرهم
بالحملة وإذا قد اقبلت عليه خيل تركض فقال لهم: ما وراءكم قالوا: أيها الملك إنه
قد قدم إلى نصرتك فلنطانوس بن سطانيوس بن أرمونيا صاحب المدائن ورومية الكبرى
وباسم جده سميت وكان قدج وضع فيها هيكلا عظيما يسمى أبا سرفيا وكان به صورة من
نحاس مطلية بالذهب الأحمد ولذلك الهيكل سبعة أبواب من الذهب على كل باب هيكل مدور
على رأسه شخص آدمي وبيده عدة الواح من الذهب وفي كل عام يعلق منها لوح على الهيكل
تلقاء الشمس ثم ينظر كاهن ذلك الهيكل في ذلك اللوح فيعلم ما يجري في الإقليم
المختص بذلك اللوح وكان كل لوح مختصا بأقليم من الأقاليم السبعة وكذلك لكل هيكل من
تلك السبعة هياكل فيعلم أهل رومية الكبرى ما يجري في العالم بما وضعه حكماؤهم
الأقدمون وفي وسط تلك السبعة هياكل قبة مثمنة على ثمانية عمد من نحاس اصفر مطلية
بالذهب محوط به سور مرقط ببياض وفيه بابها الأعظم وعلى رأسها صورة من حجر لا يعلم ما
هو بل الحجر أسود فإذا كان استواء الزيتون في مشارق الأرض ومغاربها يسمعون من تلك
الصور صوتا هائلا تكاد القلوب تتفطر منه فإذا كان الغد تأتي من آفاق الأرض
زارزيرها وكل زرزور حامل ثلاث زيتونات واحدة في منقاره واثنتان في رجليه فيلقونها
على رأس تلك الصورة فلا تزال كذلك حتى يمتلىء ذلك المكان العظيم قال فيعصرون منه
زيتهم وما يأكلون من العام إلى العام وكان في داخل الهيكل الأعظم بيت مقفل لم يفتح
منذ بنيت رومية ولما أراد فلنطانوس الملك النهوض إلى نصرة هرقل احتاج إلى مال
يصرفه على عسكره فأتى إلى ذلك البيت المقفل وهم بفتحه فقال له عظماؤه وعطماوس وهو
القيم على أمر الهياكل كلها أيها الملك أن هذا البيت منذ أقفل تاريخه سبعمائة سنة
وذلك من قبل ظهور المسيح بمائة سنة وسبعين وما أحد من أجدادك تعرض إليه ولا أحد ممن
ولى أمر هذه الكنيسة إلا ويوصي على هذا البيت أن لا يفتح فلا تزل حكمة اسسها من
كان قبلك من الحكماء والملوك وقد بنى هذه المدينة وأسس هذا الهيكل وهذا البيت وهو
بيت جدك رسيوي بن قطاوس وبقي في ملكه على ما بلغنا ثلثمائة وسبعين سنة ووصي كوصية
أبيه وتولى عليه أحد أجدادك حتى وصل إليك هذا الملك ولك فيه مائة سنة فلا تزل حكمة
أجدادك اجدادك الذين اسسوها وطلاسم وضعوها قال فأخذه اللجاج في فتحه فلما فتحه لم
يجد فيه شيئا إلا إنه رأى في البيت صورة القدس مدن الشام وصفة ملوكهم وعددهم وفي
آخرهم صورة ليطن وهو هرقل كأنه ينظر في اللوح مكتوب باليونانية يا طالب العلم عليك
بكثرة القراءة فإنه كلما تكرر مرور النكت على مسامع من يتعلمها كان ذلك أشد لثبوته
وأحكم لتصريفه إذ العلوم كلها انما تستخرج بالعقل والقياس وإنما يكون بكثرة الرياضة
والعلم مطية التدبير والتدبير موضع العلم والعلم موضع العقل هذا هو المتمم لاشكال
العلوم وقد رأينا في الحكم والأسرار الخفية أن صاحب الغمامة إذا خيمت على صفحة
الأرض وحلت الضلالة خرج مصباح الهداية من أرض تهامة فيذهب بظلام الجهل المظلم للحس
ويدعو الناس بدينه إلى توحيد الصانع وهو صاحب الجمل الأورق فيذهب بالأديان والملك
يضيق لدعوته السهل والجبل فإذا غلب نوره على كل كثيف انتقل إلى العلم الروحاني
وولى بعده رجل نحيف الصورة قلبه منور بنور الصدق يشيد ملته ويصدق شريعته وويل
للشام مما يحل بها من الرجل الأحور الذاهب بملك قيصر وهو الرجل الكثيف صولته
الربعة صورته العدل صفته والحق منقبته جبته مرقعة وسيفه درته في أيامه تذهب الدول
وتتحول وتضمحل وتزول وأوانه إذا فتح هذا البيت المصور بالحكمة المحفوظ بحفظ النعمة
فطوبى لمن رسخت الحكمة في قلبه وأشرقت مصابيحها في لبه وأتبع الحق وعرفه وجانب
الباطل وخالفه قال فلما قرأ فلنطانوس ما في اللوح أخذه العجب وقال لعطماوس قيم
الهياكل أيها الأب الشفيق ما تقول في هذه الحكمة قال: أيها الملك وما عسى أن أقول
في حكمة وضعتها العظماء وعلمت بها الحكماء وإنما العلوم غامضة يصل إليها الخبر
الجوهري بنور العقل وإنما أرى أن دولة هرقل وهي عز دولتها وانهدت أركان ملكه من
أرض سوريا وانتقل ملك الروم إلى ارض اسطور يعني قسطنطينية وبذلك أخبر مهراييس
الحكيم في كتابه العزيز الذي وضعه وسماه اسلاوس يعني جواهر الحكمة ومن جملته إذا
ظهر نور اليتيمة المصفاة من الأدناس من جبال ثاران تصفت الأذهان بنور حكمته
وانصرفت الظلمة المتكاثفة في سماء الجهل بقوة عزيمته ودعا الناس إلى لطيف دعوته
وقادهم بأزمة لطافته فيعلو على الافلاك فويل لأرض ايليا من صولة صاحبه المتوشح
بوشاح الهيبة المتوج بتاج العقل صاحب فتوح الأرض ومذل ملوكها العدل فسطاطه
والمرقعة لباسه في زمانه ينكسر الصليب وتخرج الهياكل وتندرج المذابح ويذوب ماء المعمودية
فلا نجاة من صولته إلا باتباع شريعته وصاحبه قال فلما سمع ذلك فلنطانوس من القيم
على الهياكل كتم الأمر في نفسه وقال: لا بد لي من النظر إلى العرب والمسير إليهم
والى نصرة الملك هرقل وقد وصل إلى كتاب البترك وندبني إلى نصرة دين المسيح فإن
تأخرت حرمني ثم إنه اختار من جيشه في رومية ثلاثين ألفا وهم الكرجية وولى في موضعه
ولده استفليوس وهو مثلث النعمة واستخرج من بيت الحكمة رايات الاسكندر اليوناني
وكانت منسوجة بالذهب واللؤلؤ التي نشرها يوم فتحت الواحات من أرض باليوس وكانت لا
تنشر إلا في يوم واحد في السنة ببيعة أيا صوفيا وهو يوم عيد الصليب والشعانين قال
فلما رفعت على رأس فلنطانوس سار حتى ورد انطاكية ونزل على باب هاوس ومعناه باب فارس
قال: وركب الملك هرقل في موكبه إلى لقائه وضربت سرادقاته بازاء سرادقات هرقل وفرحت
الروم وتفاءلت بالنصر وضربت النواقيس ووقعت ضجة عظيمة في جيوشهم وارتفعت أصواتهم
وجاءت عيون المسلمين فاخبروهم بقدوم صاحب رومية فرفع أبو عبيدة كفه إلى السماء
وقال اللهم أن أعداءك يستنصرون علينا بكثرة عددهم وتزايد مددهم فشتت كلمتهم ودمر
جيوشهم وزلزل أقدامهم وعسر ايامهم واجعل كلمتنا العليا وكلمتهم السفلى وانصرنا
كنصر نبيك في يوم الأحزاب اللهم رد كيدهم في نحرهم وانصرنا عليهم قال: وأمنت
المسلمون على دعائه.
قال الواقدي: حدثنا ابراهيم بن العلاء عن أبي يوسف
الكندي عن ابي جعفر الدارمي عن الربيع بن أنس عن جعفر بن ميسرة قال قال لي عمي لما
قدم صاحب رومية بجنوده خاف المسلمون ولكن ثبتهم الله وبعث أبو عبيدة معاذ بن جبل
ومعه ثلاثة آلاف وقال له: يا صاحب رسول الله أن الروم قد تجمعت من سواحل البحر لنصرة
دينها فانهض وشن الغارات على بلاد السواحل واحتفظ أن تؤتي المسلمون من قبلك قال
ففعل ذلك معاذ وسار إلى جبلة واللاذقية فاحتوش أموالها وأخذ غنائمها ووجد على باب
جبلة عنان بن جرهم الغساني ابن عم جبلة بن الأيهم ومعه ألف دابة محملة برا وشعيرا
لعسكر الكفر وقد جمعها من طرابلس وعكا وصور وصيدا وقيسارية وقد بعث بها قسطنطين بن
هرقل إلى ابيه فلما وصلت مدينة جبلة سلمها العرب المتنصرة لابن عم جبلة وعادوا
فوقع بها معاذ رضي الله عنه فأخذها ورجع قافلا إلى عسكر المسلمين فلما رأوها رفعوا
اصواتهم بالتهليل والتكبير فسأل هرقل عن ذلك فاخبروه بما وقع فغضب على أخذ الميرة
التي تتقوت بها عسكر أعدائه فقال لبطارقته ما بقي بيننا وبين هؤلاء إلا المصاف
ويعطي الله النصر لمن يشاء ثم إنه أمر عساكره بالأهبة للقتال ثم إنه ركب والى جانبه
فلنطانوس صاحب رومية وصاحب مرعش وصاحب قلعة اسكبادنيس وهي قلعة الروم وصاحب طرطوس
وصاحب مصيصه وصاحب قونية وصاحب ماصر وصاحب اقصرا وصاحب قيسارية الروم الأقصى وصاحب
قوماط وصاحب انطرانه وصاحب طبرزند وجبلة ابن الأيهم.
قال الواقدي: واقبل يوقنا يرتب الصفوف في الحرب فلما وقف
كل ملك بجيشه وكل بطريق بأصحابه أراد فلنطانوس ملك رومية أن يتقرب إلى هرقل بمبارزة
العرب فصقع له على قربوس سرجه وقال: أيها الملك ما تركت ملكي واتيت إلى خدمتك من
مائتي فرسخ إلا حتى ارضي المسيح وأخدمه بين يديك وأن كل عسكرك قد قاتلوا وجاهدوا
وأريد أن ابرز في هذا اليوم إلى هؤلاء المحمديين واشفي فؤادك وفؤادي منهم فاراد
الملك أن يطيب قلبه فقال له: الزم مكانك ولا تخرق بحرمتك وحشمتك حشمة الملوك فأنت
أقدم مني في المملكة فدع غيرك يكون لهذا الأمر فما بلغ من شأن العرب أن تخرج أنت
إليهم بنفسك فقال فلنطانوس أيها الملك وأي حشمة بقيت لنا مع هؤلاء وقد أهملوا عزنا
وأذلوا أعز ديننا والجهاد مفروض على كبيرنا وصغيرنا أما علمت أيها الملك إنه من
نظر إلى الدنيا بعين المحبة جذبته الشهوات إلى الغلو في محبتها والتعلق بزخارفها فإذا
فعل ذلك ركب غيم كثافه الجهل على صفحة صدره فمنعه ذلك عن طلب معاده ومن سارع إلى
طاعة خالقه بترك شهواته ارتقى إلى دار دائرة القدس في محل الانس ولما علم القديم
الأزلي بركون أنفسكم المحجوبة بحجاب الغفلة إلى طلب ما يفني سلط عليكم أضعف أمة قد
أخرجتكم من دياركم وأبعدتكم عن أوطانكم وما ذاك إلا لخلودكم إلى الأهواء الجاذبة
إلى مهاويكم والى ادراك المهالك لأنكم حكمتم بغير الحق واجترأتم على الرعية بطلبكم
منهم ما ليس لكم بحق والجور في أخذ أموالهم وفساد أحوالهم وكثرة الزنا وأتباع
الخنا فلاجل ذلك لم تنصروا ودارت دائرة السوء عليكم قال ثم تكلم صاحب الملك هرقل
الكبير واسمه سروند وصاح عليه وقال له: أيها السيد لا تحمل على قلب الملك من كلامك
ما لا يطيق في مثل هذه الساعة فقد وعظه من هو أكبر منك فلم يسمع قوله قال فغضب فلنطانوس
من صياح الحاجب عليه وكتم أمره إلى الليل فلما مضى من الليل ربعه طلب حجابه وخواصه
وقال لهم: ارضيتم أن يزعق علي حاجب هرقل ويوبخني بين الملوك وأنتم تعلمون أن بيتي
أعظم من بيته ونسبه أدنى من نسبي وملكي أقدم من ملكه ولقد قال قسيس حكيم بلاد
الذكر المشهور بحكمته وهو الذي وضع المنار الأعظم في يوم كبير كان بين بلاد
الجرامقة وبلاد الانجار وهي مسيرة أثني عشر يوما ولا يصل إلى أرضها إلا بعد عناء
كبير فاحتفر لها بئرا ووضع في وسطها عمودا على راس حجر يدور من صنعة حكمتها يسمع
له من حده النداء من حوله ويرشح له بقدر ما يملأ ذلك الجرن العظيم فإنه قال: لا
تسع بقدمك إلى من يراك دونه فتصغر عنده واجعل عز نفسك في مقابلة كبرياء عجبه فإن
عزه النفوس تقابل جاه الملوك ولا تصنع صنيعك لغير مستحقه لانها تجلب عليك السوء من
قبل ذلك فإن ذلك الأحسان لا يزكو إلا عند ذوي الأصول فإنه يندسج عند السفهاء
والأرذال لا تصنع إليهم النصيحة فانك أنت تطلب منفعته وهو يريد هوى نفسه بأذيتك
وقد جئنا من مائة فرسخ واكثر إلى خدمة رجل يرى أننا قد قصدنا داره وتاج عزه واننا
نحن من جملة خدمه وأن نور العقل المجوهر للحس يمنعني من اتباع الجهل المظلم للحواس
وأن نفسي تابى ذلك والعز محل جليل ومقام نبيل والذل وبيل وصاحبه قليل وقد عولت أن
أسير إلى هؤلاء العرب وأختبر ملتهم فإنها هي المله الواضحة بالحق المؤيدة بالصدق
ومن كان عليها أمن في معاده من الهول الأكبر فما أنتم قائلون قالوا: أيها الملك
وكيف تطيب نفسك بترك دينك وملكك وعزك وتتبع هؤلاء وهم لا فضل لهم ولا عندهم حكمة
فقال فلنطانوس أما الحكمة البالغة فعندهم مقرها وفي نفوسهم موطنها لأن نور توحيدهم
صفى أذهانهم ونور ايمانهم ببركة صاحبهم المسمى في علوم الغيوب لأن مغناطيس حكمته
الربانية جذب جوهر عقولهم إلى متابعته والإقتداء بشريعته ومن أراد أن يلقى عالم
عليين فلا يقعد على صفحة أرض الجهل أما علمتم أن النور أنور من الظلمة والموت نهار
الحياة قال فلما سمعوا قوله قالوا: أيها الملك نحن ما نمنعك من عز دائم يخرجنا من
الذل ومهابة الغلبة فإذا كنت تطلب بنا طريقا يؤدي إلى البقاء ويذهب بالشقاء فالحق
اتباع الحق ونفي الباطل فنحن لك وبين يديك قال فخذوا على أنفسكم فإذا كانت ليلة غد
ركبنا كأنا نطوف حول البيت نحرسه ونطلب جيش العرب قال ففعلوا ذلك وأخذ فلنطانوس في
أمره قال ابن وهب وابن صالح عن أبي موسى الاشعري قال لما عزم أن يسير إلى جيش
المسلمين أتى إليه يوقنا برسالة الملك هرقل فلما ادى الرسالة وهم بالقيام قال له فلنطانوس:
من أنت من الحجاب قال أنا يوقنا صاحب حلب قال: وكيف تركت بلدك قال استولت عليها
العرب وحدثه بحديثه فقال فلنطانوس وما الذي ظهر لك من هؤلاء العرب قال: أيها الملك
إني دخلت في دينهم واطلعت على أمرهم وكشف سرهم فرأيت القوم لا يستمعون إلى الباطل
ولا يحيدون عن الحق ولا ينامون الليل من كثرة اجتهادهم ولا يتكلمون بغير ذكر ربهم
ينصفون المظلوم من الظالم ويواسي غنيهم فقيرهم الأمراء منهم في زي المساكين
والعزيز والذليل عندهم سواء فقال له فلنطانوس: فإذا وقفت على سرهم ورأيت فضلهم فما
منعك أن تقيم عندهم وبينهم فقال يوقنا منعني من ذلك صحة ديني وصحبة قومي لاني لم
أر فراقهم.
قال فلنطانوس أن النفوس الزكية الباقية إذا رأت الحق
جذبها جاذب اليقين إلى حضرة طلب الإخلاص من المعيشة الذميمة إلى أن ترقى إلى أعلى
عليين قال فخرج يوقنا وقد رسخ كلام فلنطانوس في قلبه فقال: والله ما تكلم بشيء إلا
وهو منقوش على صفحة صدري وكلامه يشهد بقبول عقله لصحة دين الإسلام وأقام يوقنا على
قلق من ذلك حتى اقبل الليل فأتى إلى فلنطانوس فرآه وهو على نية الركوب إلى ما
ذكرناه فلما وقف بين يديه صقع له فقال له فلنطانوس: باي حجاب حجب الله الظالمين عن
اتباع سبيل المتقين فالحق واضح لمن طلبه والباطل خفي عمن اتبعه فقال يوقنا أيها
الملك ما معنى هذا الكلام الذي اشرت إليه فقال لو إنك رأيت بعين البصيرة لما رجعت
عن ملتهم ولا أردت بدلا غيرهم وإنما أنت طلبت نعيما يئول إلى الزوال إلى النكال
قال فسكت يوقنا وخرج من عنده وجعل يتجسس عليه ومضى ووقف على الطريق الذي يمضي إلى المسلمين
فركب فلنطانوس وخرج من سرادقة فوجد بني عمه قد أخذوا أهبتهم وهم أربعة آلاف فارس
وقدموا عزمهم وساروا يدا واحدة يطلبون جيش الموحدين وقد تركوا عزهم وفارقوا دينهم
فلما قربوا من جيش المسلمين ظهر لهم يوقنا وبنو عمه المائتان فقال يوقنا لفلنطانوس
أيها الملك عولت على أن تكبس المسلمين فقال: لا والقديم الأزلي وإنما أنا قاصد
إليهم وداخل في دينهم وملتهم وأكون من جملتهم فمن نظر إلى الدنيا بعين الفناء عمل
للآخرة فما الذي يمنعك يا يوقنا مما نحن عولنا عليه فقال يوقنا أيها الملك لقد
جذبك جاذب الحق عن طريق الضلال ثم إنه حدثه بحديثه وانه عازم على أن يغدر بالروم
فقبله فلنطانوس وفرح بمقالته وقال له: كيف تقدر على ذلك وما أرى معك إلا نفرا يسيرا
فقال: أيها الملك أن في داخل بيتي مائتين من المسلمين من أكابر أصحاب رسول الله ﷺ
في مقام عشرين ألفا من الروم ولقد رأيت أن تعود أنت وقومك ولا تستعجل ونبعث رجلا
إلى أمير المسلمين يخبره بما نحن معولون عليه فإذا كان غدا تقف أنت وجيشك حول
الملك هرقل وأدخل أنا البلد واطلق المائتي اسير واعطيهم سلاحا ويحمل جيش العرب
وتحمل أنت وعسكرك على مركب هرقل وتقصده بنفسك فتقبض عليه وتكون قد جاهدت وأسير أنا
ومن معي في داخل البلد فنملكها أن شاء الله تعالى وأن أردت أن ترجع إلى دار ملكك
ويكون أمرك مكتوما علينا فحول أمر جيشك لمن تثق به من بني عمك قال فلنطانوس ما
فعلت هذا ولي نية في ملكي ولا في ملك الدنيا بل إذا قضى هذا الأمر ونصر الإسلام
قصدت مكة فأحج وأزور قبر النبي ﷺ ثم أرجع إلى بيت المقدس فأقيم فيه إلى أن أموت
فمن يذهب إلى أمير العرب برسالتي ويخبرهم بما قد عولنا عليه فقال له: يوقنا اعلم
أن لهم عندنا عيونا وجواسيس ممن هو تحت ذمتهم وأنا أعلمهم بما قد وقع قال فبينما
هم في الكلام تحت ستر الليل وإذا بشيخ قصد إليهما فتأمله يوقنا فاذ هو عمرو بن
أمية الضمري ساعي رسول الله ﷺ فسلم على يوقنا وعلى من معه وقال ليوقنا أن الأمير
أبا عبيدة يقول لك: جزاك الله خيرا عن الإسلام وانه راى في المنام رسول الله ﷺ
وأخبره بما كان من أمر صاحب رومية وما تحدثتما به وما وقع له مع قومه وما عزمتم
عليه وبشره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تاخر وقد تفتح انطاكية ويزول
عز الروم عنها وينتزع ملك صاحبها.
قال الواقدي: فتهلل وجه فلنطانوس فرحا وازداد ايمانا
وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام والإيمان.
قال الواقدي: وذلك أن أبا عبيدة رضي الله عنه رأى النبي
ﷺ في النوم وهو يقول: يا أبا عبيدة ابشر برضوان الله ورحمته وغدا تفتح أنطاكية صلحا
وأن صاحب رومية المدائن الكبرى قد جرى من أمره كيت وكيت هو يوقنا صاحب حلب وهما بالقرب
منك فأنفذ إليهما بنجاز الأمر قال فاستيقظ أبو عبيدة وقص رؤياه على خالد وأنفذ
عمرو بن أمية كما ذكرنا قال فلما سمع فلنطانوس ذلك اقشعر جلده وارتعدت فرائصه
وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن هذا الدين هو
الحق اليقين ثم إنهم عادوا وطافوا بجيش الملك كأنما يحرسون فبينما يوقنا قد ذهب
بأصحابه من عند صاحب رومية وقد قوي عزمهم على ما ذكرنا من أمر كبسهم الملك وإذا
بالحاجب قد لقيه والمشاعل بين يديه وقد خرج من انطاكية ومعه ضرار بن الأزور ورفاعة
بن زهير والمائتا اسير وقد عول على قتلهم وأن يرمي غدا برؤوسهم إلى المسلمين فلما
سمع يوقنا ذلك ضاقت الدنيا عليه وقال له: أيها الحاجب الكبير أنت تعلم أن المصاف
غدا واقع بيننا وبينهم فإن أنتم قتلتم هؤلاء ورميت برؤوسهم إلى المسلمين فانهم لا يقعون
بأحد منا فيبقون عليه فاتق الله ولا تعجل بذلك ودعهم عندي وراجع الملك في امرهم
إلى أن نرى ما يئول أمرهم إليه قال فتركهم الحاجب عند يوقنا ومضى إلى الملك وأخبره
بما قال يوقنا فقال له: دعهم عند الدمستق فرجع إليه وقال له الملك: يقول لك: احتفظ
عليهم فأمرهم لك فاخذهم يوقنا وسار بهم إلى خيمته وصعب عليه اخراجهم من انطاكية
لأنه كان قد عول على أن يملك بهم البلد فلما حلوا في خيمته حلهم من الوثاق وسلم
إليهم العدد وأخبرهم بما قد عزم عليه هو وصاحب رومية من القبض على الملك هرقل فقال
ضرار والله لأرضين الرب غدا بجهادنا وكانت قد ختمت جراحاته لأنه كان في الأسر
ثمانية أشهر وفرقتم مع بني عمه.
قال الواقدي: حدثنا أبو محمد عن سعيد بن ابي مريم عن
يحيى بن ايوب عن عبد الله بن مسعود أن الذي أمر باخراج الأسرى لم يكن هرقل وإنما
كان مملوكه الخاص واسمه تاليس بن رينوس وكان قد البسه تاجه ومنطقته وكان اشبه
الخلق به وقال له: كن غدا مكاني فاني أريد أن أكيد العرب وأكمن خلفهم وما ذاك إلا
إنه رأى في نومه كأن شخصا قد نزل من السماء وقلبه عن سريره وكأن تاجه قد طار من
على رأسه وكأن شخصا يقول له: قد قرب ما بعد وقد زال ملكك من سورية وقد ذهبت دولة
الشقاق والنفاق وجاءت دولة الوفاق وكأن ذلك الشخص قد نفخ في عسكره فأوقد نارا
فاستيقظ مرعوبا وفسر منامه على نفسه بزوال ملكه وكان قبل نزول العرب قد عبى خزائنه
وجمع ما يخاف عليه من التحف ووضعها في المراكب من حيث لا يعلم بذلك أحد من دولته
وعبى الزاد والماء ثم إنه ارسل أهل بيته في تلك الليلة بعدما رأى في المنام ولم
يدع من حريمه وأولاده وعياله أحدا وبعده أمر مملوكه تاليس بن رينوس بما أمره أن يفعله
قال فلما ركب تاليس فما كان من أمره إلا أن قال للحاجب اخرج الاسارى واضرب رقابهم
فأخرجهم وأخذهم يوقنا كما وصفنا قال حدثنا ياسر عن سليمان بن عبد الواحد عن صفوان
بن بشر عن عروة بن مذعور عن محمد بن علي عن عدي عن شعبة عن قتادة عن ابي الصديق
الناجي عن ابن سعد قال: ما خرج هرقل من انطاكية إلا وهو مسلم وذلك إنه كتب إلى عمر
بن الخطاب في السر عن قومه أن بي صداعا لا يسكن فانفذ الي بدواء أتداوى به فأرسل
إليه قلنسوة فكان إذا وضعها على راسه سكن صداعه وإذا رفعها عاد إليه فتعجب من ذلك
وأمر بفتحها فإذا فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم فقال هرقل: ما أكرم هذا الاسم
وأعزه حيث شفاني الله به وكانوا قد توارثوا هذه القلنسوة إلى أن وصلت إلى صاحب
عمورية فلما كان يوم المعتصم ونزل عليها عرض للمعتصم صداع فارسل إليه صاحب عمورية
بالقلنسوة فلما وضعها على رأسه سكن ما به فأمر المعتصم بفتحها فإذا فيها الرقعة
ومكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الواقدي: وأما ما كان من أمر تاليس فلما أصبح ركب
ورتب عساكر الروم عن آخرها ودارت المواكب حول تاليس بن رينوس وكان كل من رآه يظن
إنه هرقل ولا يشك فيه ودار بمواكبه عسكر فلنطانوس صاحب رومية وركب يوقنا ومن معه
وهم متنكرون تحت السلاح فكان أول من حمل خالد بن الوليد بجيش الزحف قال: وتبعه سعيد
بن زيد وتبعه قيس بن هبيرة وتبعه ميسرة وبعده عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق وذو
الكلاع الحميري وأمثالهم وأطبق الناس بعضهم على بعض فلما اشتبكت الحرب هجم يوقنا
ومن معه وحمل ضرار فلله دره لقد أعطى السيف حقه وأخذ بثاره من الروم وكلما قتل
واحدا صاح واثارات أسر ضرار بن الأزور وكان قد قصد عسكر المتنصرة هو وأصحابه
ورفاعة بن زهير يشجعهم ويوبخهم ويقول: خذوا بثاركم ممن اسركم واحملوا وإياكم أن
تفشلوا واعلموا أن الجنة قد فتحت أبوابها وزينت حورها وقصورها وأشرق بنيانها ومرح
ولدانها وتجلى ديانها ثم صاح يافتيان العرب أيكم يرغب في زواج الحور فإن يذل
النفوس هي المهور ومن يريد عرسا في الجنان ويقوم في خدمته الولدان من يرغب فيما
قال الملك الديان: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:7] أين
من شهد بدرا وحنين مع سيد الكونين أين من يزيل عن قلبه حجاب الغفلة والرين وافقوا
قوما صارت هممهم إلى دار الأزل فأناخوا بباب من لم يزل محبوبهم فأراد الحق أن يوقفهم
على منازلهم ليزيدوا في حسن أفعالهم فكشف عن سرائرهم فرأوا دارا بناؤها النور
قواعدها من الرحمة حيطانها من الذهب ملاطها المسك ماؤها من الحيوان حصباؤها الدر
والجوهر ترابها الكافور والعنبر سورها المجيد اللطيف ستورها الكرم أشجارها لا إله
إلا الله أغصانها محمد رسول الله ثمارها سبحان الله والحمد لله عرضها السموات
والأرض سقفها عرش الرحمن فلما كشف لهم عن هذه الأسرار اشتاقوا إلى سكنى الدار قيل
لهم لن تصلوا إليها إلا ببذل النفوس في رضا الملك القدوس ثم خلع عليهم خلع الأحسان
وتوجهم بتيجان الرضوان ونشر على رؤوسهم رايات الغفران مرسوم على طرازها بقلم السر
المكنون: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:16] لقد بذلوا النفوس في رضا
القدوس.
قال الواقدي:
فبينما ضرار يحمل في الأعداء ويذيقهم شراب الردى وإذا هو
بفارس يطحطح الكتائب ويفرق المواكب ويصيح واثارات ضرار بن الأزور فتأمله فإذا هو
أخته خولة فناداها دارك يا بنت الأزور أنا والله أخوك فاقبلت لتسلم عليه فقال لها:
إليك عني ما هذا وقت سلام وأن قتال الكفر أفضل من كلامك يا بنت الأزور فاجعلي عنانك
مع عناني وسنانك مع سناني وجاهدي في سبيل الله فإن قتل أحدنا فالملتقى في الحشر
عند حوض سيد البشر فبينما هم في ذلك إذ نظر إلى جيوش الروم وقد تقهقرت وفرسانهم قد
انهزمت وكان السبب في ذلك أن صاحب رومية رحمه الله لما رأى الحرب قد اضرمت نيرانها
وعلا دخانها حمل بأصحابه وقصد تاليس بن رينوس فقبض عليه وهو يظن إنه هرقل فصاح
الصائح أن الملك هرقل قد قبض عليه فلنطانوس ملك رومية وغدر به فولت الروم الأدبار
وقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة لم يقتل مثلها إلا بأجنادين واليرموك وقتل من
العرب المتنصرة زهاء من أثني عشر ألفا وطلب جبلة ولده فلم ير لهم خبرا فقيل إنهم
وأكابر قومهم ركبوا مع الملك هرقل في المراكب وكان جملة من هرب من سادات المتنصرة مع
جبلة وابنه خمسمائة من جملتهم ابن عمه قرظة وعروة بن واثق ومرهف بن واثق وهحام بن
سالم وشيبان بن مرة قال فسكنوا جزائر البحر فمن نسلهم هذه الافرنج قال: وأخذ
المسلمون ما كان من السرادقات والخيام والديباج والمتاع والخزائن واسروا ثلاثين
ألفا وقتلوا من الروم سبعين ألفا وولت العرب المتنصرة منهزمين فمنهم من أخذ نحو
الدروب ومنهم من طلب قيسارية إلى قسطنطين بن هرقل فلما وضعت الحرب أوزارها وخمدت
نارها جمعوا الأموال والأثقال: والأسرى بين يدي ابي عبيدة فلما نظر إلى ذلك سجد
لله شكرا وسلم المسلمون بعضهم على بعض وجاء ضرار وأصحابه ويوقنا وفلنطانوس وأصحابه
وسلموا على المسلمين وفرحوا بهم فلما وصل فلنطانوس قام إليه المسلمون وقال كبار الصحابة
سمعنا نبينا ﷺ يقول: "إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه" قال فنظر فلنطانوس
إلى تواضعهم وحسن سيرتهم وكثرة عبادتهم فقال هؤلاء والله القوم الذين بشر بهم عيسى
عليه السلام قال فأسلم بنو عمه عن آخرهم وجاهدوا في الكفار إلى أن فتحوا جميع
الأمصار وبعدها مضى فلنطانوس إلى مكة فحج وزار قبر النبي ﷺ المختار وسلم على عمر
رضي الله عنه فلما رآه وثب إليه قائما وصافحه هو وجميع المسلمين وعاد إلى بيت
المقدس فجلس يعبد الله فيه حتى أتاه اليقين.
قال الواقدي: ونظر أبو عبيدة إلى جيش أنطاكية وقد تحصنوا
فيها وهم لا يحصون فقال اللهم اجعل لنا إلى فتحها من سبيل وافتح لنا فتحا مبينا
قال: وكان على انطاكية بطريق اسمه صليب بن مرقس وكان جاهلا في رايه فعزم على
القتال من داخل السور فاجتمع أكابر البلد إلى البترك في الليل وقالوا له: اخرج إلى
هؤلاء العرب وصالح بيننا وبينهم على ما تقدر عليه قال فخرج البترك إلى أبي عبيدة
وحدثه في الصلح فأجابه إلى ذلك فكان جملة ما صالح عليه أهل انطاكية ثلثمائة ألف
مثقال من الذهب فلما تقرر الصلح قال له أبو عبيدة: احلف لنا إنكم لا تغدرون بنا
فإن مدينتكم مانعة كثيرة الجبال والوعر فقال خالد: ومن يحلفه فقال أبو عبيدة: يوقنا
قال فوضع يوقنا يده على راس البترك فوق يده وقال قل: والله والله والله أربعين مرة
وإلا قطعت زناري وكسرت صليبي ولعنتني الشمامسة والديرانيون وخلعت دين النصرانية
وذبحت الجمل في جرن ماء المعمودية ونجستها ببول مولود من أولاد إليهود وقتلت كل الشهود
وإلا خرقت شدائد مريم وعصبت رأسي وإلا ذبحت القسوس وصبغت بدمائهم ثوب عروس وإلا
جعلت مريم زانية به وإلا جعلت في المذبح حيضة يهودية وإلا أطفأت قنايل بيعه جرجيس
وجعلت عزيرا في مقام كالوس وإلا تزوجت يهودية طامثة لا تلقي ابدا وإلا غسلت أثوابي
صبيحة يوم الجمعة وهدمت الكنائس والبيع وأحللت الأعياد والجمع وإلا عبدت اللاهوت
وجحدت الناسوت وإلا أكلت لحم الجمل يوم الشعانين وإلا صمت رمضان عاطشا وكنت للحم
الرهبان ناهشا وإلا صليت في ثياب إليهود وقلت: إن عيسى دباغ الجلود اننا لا نغدر
بكم ولا كنا إلا معكم.
قال الواقدي: فعندها قام أبو عبيدة ودخل انطاكية وكان دخوله
لخمسة أيام مضين من شعبان سنة سبع عشرة من الهجرة فدخله وبين يديه اللواء الذي
عقده له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن يمينه خالد بن الوليد وعن يساره ميسرة بن
مسروق ودخلها والقراء بين يديه يقرأون سورة الفتح فلن يزل سائرا حتى وصل إلى باب
الجنان فنزل هناك وخط هناك مسجدا وأمر ببنائه وبه يعرف إلى يومنا هذا قال ميسرة بن
مسروق فنظرنا إلى بلد رطب طيب الهواء كثير الماء والخيرات فاستطابه المسلمون
ووددنا لو أقمنا فيه شهر لنستريح فما تركنا أبو عبيدة فيه غير ثلاثة ايام ثم إنه
كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك وإني أحمد الله إليك الذي لا إله
إلا هو واصلي على نبيه محمد ﷺ وأشكره على ما فتح علينا ورزقنا من الغنيمة والنصر
وأعلمك يا أمير المؤمنين أن الله عز وجل قد فتح على المسلمين كرسي النصرانية مدينة
انطاكية وكسر الله عسكرها ونصرنا الله عليهم وهرب هرقل في البحر وإني لم أقم بها لطيب
هوائها وإني خشيت على المسلمين أن يغلب حب الدنيا على قلوبهم فيقطعهم عن طاعة ربهم
وإني معول على المسير إلى حلب وإني منتظر أمرك فإن أمرتني أن اسير إلى داخل الدروب
فعلت وأن أمرتني بالمقام أقمت واعلم يا أمير المؤمنين أن العرب قد نظرت إلى بنات
الروم فدعتهم أنفسهم إلى التزوج فمنعتهم من ذلك وإني أخشى عليهم الفتنة إلا من
عصمه الله فعجل الي بأمرك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه وقال
معاشر المسلمين من يسير بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين فاسرع بالإجابة زيد بن وهب
مولى عمير بن سعيد مولى عمرو بن عوف فقال أنا أيها الأميرأوصله أن شاء الله تعالى
فقال أبو عبيدة: يا زيد أنت لست مالك نفسك وإنما أنت مملوك فإن أردت المسير فسل
مولاك أن يأذن لك في ذلك فاسرع زيد إلى مولاه عمير فانكب على يديه يقبلهما فمنعه
من ذلك وذلك أن عميرا كان رجلا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ما يملك من الدنيا
سوى سيفه ورمحه وفرسه وبعيره ومزادته وقصعته ومصحفه وكان الذي يصيبه من الغنائم لا
يدخر منه ولا يأخذ إلا ما يقوته وكان يفرق الباقي على قرابته وقومه فإن فاض شيء
يرسله إلى عمر رضي الله عنه يفرقه على فقراء المسلمين المهاجرين والأنصار قال فلما
أراد زيد أن يقبل يد سيده منعه وقال له: ما الذي تريد فقال: يا مولاي تأذن لي أن
أكون رسولا للمسلمين بشيرا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمير بن سعيد تريد
أن تكون بشيرا للمسلمين وأمنعك من ذلك إني إذا لآثم امض فأنت حر لوجه الله تعالى
وأرجو بعتقك أن يجيرني الله من النار.
قال ففرح زيد بذلك وعاد إلى ابي عبيدة فاخبره أن ببركة
كتابه صار حرا فسر أبو عبيدة وسار زيد على نجيب من نجب اليمن دفعه إليه وكان سابقا
قال فجعل زيد يطلب اقرب الطرق حتى قدم المدينة ودخلها وإذا بها ضجة عظيمة ولاهلها
ضجيج وهم يهرعون نحو البقيع وقباء فقلت لنفسي: إن لهم أمرا فتبعتهم لأرى ما شأنهم
وأنا أحسب إنهم يريدون حربا فرأيت رجلا فعرفته فسلمت عليه فعرفني وقال أنت زيد
قلت: نعم قال الله أكبر ما وراءك يا زيد قلت: البشارة والغنيمة والفتح قلت: ما فعل
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال إنه خارج يريد الحج ومعه ازواج النبي ﷺ يحج بهن
والناس يشيعونه قال زيد بن وهب فأنخت بعيري وعقلته وأسرعت مهرولا حتى وقفت بين يدي
عمر رضي الله عنه وهو يمشي راجلا ووراءه مولاه يقود بعيرا وقد رحله بعباءة قطوانية
وزاده وجفنته عليه والهوادج بين يديه سائرة وعن يمينه علي بن ابي طالب وعن يساره
العباس ابن عبد المطلب ومن ورائه المهاجرون والأنصار وهو يوصيهم بالمدينة قال زيد
بن وهب فلما وقفت بين يديه ناديت السلام عليك يا أمير المؤمنين أنا زيد بن وهب
مولى عمير بن سعيد أتيتك بشيرا قال عمر بشرك الله بخير فما بشارتك قلت: هذا كتاب
من عاملك أبي عبيدة يخبرك أن الله قد فتح على يديه أنطاكية قال فلما سمع عمر بذكر أنطاكية
وأن الله فتحها خر لله ساجدا يمرغ خديه على التراب ثم إنه رفع راسه من سجوده وقد
تترب وجهه وشيبته من التراب وهو يقول: اللهم لك الحمد والشكر على نعمك السابغة ثم
قال هات الكتاب رحمك الله فناولته إياه فلما قرأه بكى فقال له علي كرم الله وجهه:
مم بكاؤك قال مما صنع أبو عبيدة بالمسلمين وبما استعقب رأيه في الموحدين ثم قال أن
النفس لامارة بالسوء ودفع الكتاب إلى علي فقرأه على المسلمين إلى آخره قال زيد بن
وهب ثم رأيت عمر قد هدا من بكائه وقد زاد فرحه وأقبل علي وقال: يا زيد إذا عدت
فأمعن النظر في اتيانها وأعنا بها واحمد الله كثيرا فقلت: يا أمير المؤمنين ليس
هذا أوانه قال ثم جلس عمر على الأرض ودعا بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا
يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله بالشام أبي عبيدة عامر
ابن الجراح سلام عليك وإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وأشكره
على ما وهب من النصر للمسلمين وجعل العاقبة للمتقين ولم يزل بنا لطيفا معينا وأما
قولك لم نقم بانطاكية لطيبها فإن الله عز وجل لم يحرم الطيبات على المؤمنين الذين
يعملون الصالحات فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 5]
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الِلَّهِ} [البقرة: 17] الآية فكان يجب
عليك أن تريح المسلمين من تعبهم وتدعهم يرغدون في مطعمهم ويريحون أبدانهم من نصب القتال
مع من كفر بالله وأما قولك إنك منتظر أمري فالذي آمرك به أن تدخل وراء العدو وتفتح
الدروب فإنك الشاهد وأنا الغائب وقد يرى الشاهد ما لا يراه الغائب وأنت بحضرة عدوك
وعيونك تأنيك بالأخبار فإن رأيت أن دخولك إلى الدروب بالمسلمين صواب فابعث إليهم
بالسراية وادخل معهم إلى بلادهم وضيق عليهم المسالك ومن طلب منك الصلح فصالحهم ووف
لهم بما تقدر وأما قولك أن العرب أبصرت نساء الروم فرغبت في التزوج فمن أحب ذلك
فدعه أن لم يكن له أهل بالحجاز ومن أراد أن يشتري الأماء فدعه فإن ذلك أصون
لفروجهم واعف لنفوسهم وما تحتاج أن أوصيك في أمر فلنطانوس صاحب رومية اوسع عليه في
النفقة وعلى من معه فإنه قد فارق أهله وملكه وأمره ونهيه والسلام عليك وعلى جميع المسلمين
وطوى الكتاب ودفعه لزيد بن وهب وقال له: انطلق رحمك الله وأشرك عمر في ثوابك فأخذ
زيد الكتاب وهم أن يسير فأمره أن يقف وقال له: على رسلك حتى يزودك عمر من قوته ثم
أن عمر أناخ راحلته وأخرج له تمرا وأعطاه صاع تمر وصاع سويق وقال: يا زيد اعذر عمر
فهذا ما أمكنه ثم أن عمر قبل راس زيد بن وهب فبكى زيد وقال: يا أمير المؤمنين أو
بلغ من قدري أن تقبل راسي وأنت أمير المؤمنين وصاحب سيد المرسلين وقد ختم الله بك
الأربعين فبكى عمر وقال أرجو أن يغفر الله لعمر بشهادتك قال زيد بن وهب فاستويت
على كور ناقتي وهممت بالمسير فسمعته يقول: اللهم احمله عليها بالسلامة واطو له
البعيد وسهل له القريب إنك على كل شيء قدير قال زيد بن وهب ففرحت بدعوة عمر رضي الله
عنه وعلمت أن الله لا يرد دعوته إذ كان لربه طائعا ولنبيه تابعا فجعلت اسير والأرض
تطوي لي تحت اخفاف مطيتي فكنت والله في اليوم الثالث عند أبي عبيدة وقد رحل عن
انطاكية وقد نزلت على حازم قال زيد فلما وصلت إلى عساكر المسلمين سمعت ضجة وجلبة
وقد ارتفعت الأصوات فسألت رجلا من أهل اليمن ما سبب ذلك قال فرحا بما فتح الله على
المسلمين وهذا خالدج قد أتى وكان قد ضرب على شاطىء الفرات وأغار بخيله وقد صالحه
أهل منبج وبزاعة وبالس وأتى برجالهم وأموالهم وافتتحها صلحا وقد فتح منبج وبزاعة
وبالس وقلعة نجم في العشر الأوسط من المحرم سنة ثماني عشرة من الهجرة وصالحهم بعد
رد أموالهم على مائة ألف وخمسين ألف دينار وأخذها بعد أن نزل صاحبهم جرفناس وسار بأمواله
وعبيده وخيوله إلى بلاد الروم وولى على منبج عباد ابن رافع التيميي وعلى الجسر نجم
بن مفرج وولى على بزاعة اوس بن خالد الرابعي وعلى بالس بادر بن عوف الحميري وبنى
له بها قلعة إلى جانب بالس من الشرق وسماها باسمه وعاد خالد بالأموال والأثقال يوم
قدوم زيد بن وهب قال فأتيت أبا عبيدة وهو جالس وخالد إلى جانبه وقد قدم مال الصلح
فانحت ناقتي وسلمت عليهم ودفعت الكتاب إلى ابي عبيدة ففضه وقراه على المسلمين فلما
سمعت المسلمون ما فيه قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين أن أمير المؤمنين قد جعل أمر
الدخول إلى الدروب الي وقال أنت الشاهد وأنا الغائب وأنا لا أفعل شيئا إلا برأيكم
فما تشيرون علي أن أفعل رحمكم الله فلم يجبه أحد وأعاد القول ثانيا فلم يجبه أحد
والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق